تفسير رسالة غلاطية 6 – أ/ حلمي القمص يعقوب
تفسير غلاطية – الأصحاح السادس
بعد أن ذكر بولس الرسول بعض الملامح عن الأمور الخاصة بحياته واضطهاده للكنيسة وظهور الرب له وعلاقته بكنيسة أورشليم وكرازته من خلال الأصحاحين الأولين من الرسالة (1-2)، ثم تحدَّث عن الجانب اللاهوتي والعقيدي الخاص ببدعة التهود والرد عليها من خلال الأصحاحين الثالث والرابع، ثم دخل للجزء الثالث والأخير من الرسالة وهو الجزء العملي (غل 5: 13 – 6: 18)، فتحدَّث في الإصحاح السابق عن الحرية العملية (غل 5: 13-15)، وعن أعمال الجسد وثمر الروح (غل 5: 16 – 26) والآن يخاطب الغلاطيين بأسلوب هادئ يفيض بالمودة والإخوة، فيبدأ الإصحاح بعبارة: “أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ (غل 6: 1) ويُنهي الإصحاح بذات العبارة “أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ (غل 6: 18)، فهو يخاطبهم بأسلوب المحبة ليجذب قلوبهم إلى أعمال المحبة، وإن كان في نهاية الإصحاح السابق تحدَّث عن السلوك بالروح من النواحي السلبية بأن لا نكن معجبين بأنفسنا ولا نغاضب ولا نحسد، فها هنا يتحدَّث عن السلوك بالروح من الناحية الإيجابية فيدعونا ليس لإصلاح أنفسنا فقط بل إصلاح أخطاء الآخرين بروح الوداعة ناظرين إلى أنفسنا لأننا جميعًا تحت الضعف البشري، ويدعوا بولس الرسول الغلاطيين لتتميم ناموس المسيح، فيترأفوا على الساقطين، وأن يحمل بعضهم أثقال بعض، وأن يمتحن كل إنسان عمله دون أن يقارن نفسه بغيره لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه (غل 6: 1 – 5).
ثم يوصي بولس الرسول بعمل الخير للجميع ولا سيما مع خدام الكلمة الذين كرَّسوا أنفسهم للخدمة، فإن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، فمن يزرع بحسب الروح فأنه يحصد حياة أبدية (غل 6: 6 – 10).
وأخيرًا يأتي إلى ختام الرسالة حيث يمهر الرسالة بخط يده مقدمًا نصيحته للغلاطيّين بتحذيرهم من المتهوّدين، ملفتًا نظرهم لهدف المتهوّدين الخبيث إذ يتفاخرون بأعداد من ينضمون إليهم، ويعلن بولس الرسول افتخاره بصليب الرب يسوع الذي فيه كل الكفاية، ثم يطلب منهم أن لا يتسبب أحد في ألم أكثر له فيكفيه أنه حامل سمات الرب يسوع في جسده مشيرًا للشوكة التي كان يعاني منها، ويختم رسالته بالنعمة (غل 6: 11 – 18).
ويمكن تقسيم هذا الإصحاح إلى:
أولًا: ناموس المسيح (غل 6: 1-5).
ثانيًا: عمل الخير (غل 6: 6 – 10).
ثالثًا: ختام الرسالة (غل 6: 11 – 18).
أولًا: ناموس المسيح (غل 6: 1-5):
“أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا. اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ. وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ“(غل 6: 1 – 5).
في هذه الفقرة يتحدث بولس الرسول عن المسئولية الأخلاقية للذين ينقادون بالروح القدس ويسلكون بحسب الروح تجاه الذين يتعثرون ويسقطون، فيمدون يد العون لهم، وفي هذا إشارة ضمنية للفارق بين المتهوّدين والروحيّين في معاملة مَن يخطئ، فالإنسان الروحي يسعى لإقامة مَن سقط، بينما المتهوّد يحكم عليه بحكم الناموس الذي يدين الخاطئ، ومن خلال هذه الآيات الخمس يطالبنا بالسلوك بحسب المحبة والمودة الأخوية، وأن نحمل بعضنا أثقال بعض، وأن نتمّم ناموس المسيح وأيضًا يُذكّرنا بمسئولية الإنسان تجاه نفسه، فلا يرتئي الإنسان فوق ما ينبغي أن يرتئي، وأن يمتحن الإنسان عمله دون أن يقارن نفسه بغيره، لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه.
وعبارة “بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ التي ذُكرت هنا تكررت نحو اثنتي عشرة مرة في العهد الجديد، فمثلًا قال الرب يسوع: “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (يو 13: 34) وقال بولس الرسول: “وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ“ (رو 12 : 10)، و“اقْبَلُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“(رو 15: 7)، “بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (غل 5: 13)، و“اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقالَ بَعْضٍ“ (غل 6: 2)، و“عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“(1تس 4: 18)، و“وَابْنوا أَحَدُكُمُ الآخَرَ” (1تس 5: 11)، و“وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ“ (يع 5 : 16)، و“كُونُوا مُضِيفِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا“(1بط 4: 9).. إلخ.
“أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا“(غل 6: 1).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. هذه العبارة تمثل نغمة حلوة مريحة تحمل مشاعر الحب والمودة، فعزفها بولس الرسول عدة مرات في هذه السيمفونية الرائعة، فبالرغم من أن بداية الرسالة كانت صارمة وحازمة، حتى ارتفعت نغمة التوبيخ حتى قال لهم: “أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ.. أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ“ (غل 3: 1، 3) إلاَّ أن عبارة المودة “أَيُّهَا الإِخْوَةُ” فأنها تخلَّلت الرسالة عدّة مرات، وبولس الرسول فعلًا يحبهم كإخوة، وبهذا ندرك أنه سواء قسيَ كاروز الأمم على مخدوميه أو عاملهم باللطف الشديد، فإن هذا وذاك من أجل خلاص نفوسهم.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ.. كلمة ” زَلَّةٍ” التي استخدمها بولس الرسول هنا “باربطوما” paraptoma، وهي لا تعني الخطأ الدارج أو المتعمد، بل تعني الخطأ العارض المفاجئ الذي ينزلق فيه الإنسان مثل الذي يسير في طريق ثلجي أو يسلك في مسلك منحدر خطير، ولهذا قال: “أُخِذَ“ أي اقتنصه عدو الخير في غفلة وعلى حين غرة، فالحرب المفاجئة المباغتة لها خطورتها، فعدو الخير لا يكف عن نصب الفخاخ لأولاد اللَّه، أما اليقظة فأنها بنعمة اللَّه تنجّي الإنسان من هذه الفخاخ: “لأَنَّهُ بَاطِلًا تُنْصَبُ الشَّبَكَةُ فِي عَيْنَيْ كُلِّ ذِي جَنَاحٍ“ (أم 1: 17)، والزلّة تعبّر عن الاستثناء وليس القاعدة العامة، فبطرس الرسول أُخذ في زلة عندما أنكر المسيح مع محبته الشديدة له، أما يهوذا فقد أسلم سيده عمدًا.
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “إن أُخذ أحد (أو: رجل) في زلة. نحن أمام عضو في الكنيسة، وقد سقط في خطأ. كيف تتصرفون معه؟.. ويتوجه بولس إلى مراسليه كأشخاص روحيين، لقد نالوا الروح وهم يعيشون كلهم بالروح، فليتصرفوا كروحيين. ماذا يطلب منهم بولس؟ أصلحوه (كاترتيزو) (مت 4: 21، لو 6: 40، 1كو 1: 10)، فحياة المؤمن تلقىَ “مراقبة” وعناية أخويَّة في الكنيسة. هي موضوع تحريض وتنبيه دائم. كيف يتم إصلاحه؟ بروح الوداعة التي تحدث عنها. قد ننبه الآخرين، ولكن قد يأتي وقت ينبهنا الآخرون إلى خطأنا، فكلنا نزلُّ، كلنا نخطأ، وكلنا نحتاج إلى الإصلاح الأخوي”(386).
ويقول “الدكتور غبريال رزق اللَّه“: “أما الكلمة “أُخِذَ” فلعلها تفيد معنى الذهول، كما لو كان بتأثير سحر ذهب بالعقول، فغابت عن رشدها، فلم يدر حتى اصطدم وباغتته سقطة مزعجة لم تكن قط في حسبانه، هذه هي الزلة في لغته. أما “الزلات” في معناها الروحي فهي الهفوات التي تصدر عن العثرات، وفي لغة الكتاب هي الخطايا التي تصدر عن سهو، وقد تبين حكم الكتاب في شأنها، في قول الرب: “وَإِنْ أَخْطَأَتْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ سَهْوًا تُقَرِّبْ.. ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ. فَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ عَنِ النَّفْسِ الَّتِي سَهَتْ عِنْدَمَا أَخْطَأَتْ بِسَهْوٍ أَمَامَ الرَّبِّ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهَا فَيُصْفَحُ عَنْهَا” (عد 15: 27، 28) وعلى هذا الأساس الإلهي يتقدم المرنّم إلى اللَّه مصليًا قائلًا: “اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا. مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي” (مز 19: 12)”(387).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ.. الإنسان الذي يُغلب على أمره فيسقط في زلة فيحزن على حاله، مثل هذا الإنسان يحتاج لروح العطف وليس لروح الإدانة، يحتاج للتوجيه وليس للتوبيخ والتبكيت، وكأن إنسان غرست رجلاه في الوحل، فهو يحتاج لمن يرفعه أولًا، وليس من يقرعه ويوبخه ويزيد من أحماله وأثقاله فيغوص أكثر فأكثر، وكأن إنسان تجتاحه الأمواج ويتعرَّض للغرق فيحتاج لمن ينقذه أولًا وليس لمن يعظه، ولا ننسى أن الرب يسوع قال عن الفريسيين: “فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ“ (مت 23: 4)، كما أوصى الكتاب بقبول الإنسان ضعيف الإيمان وعدم نبذه: “وَمَنْ هُوَ ضَعِيفٌ فِي الإِيمَانِ فَاقْبَلُوهُ لاَ لِمُحَاكَمَةِ الأَفْكَارِ“(رو 14: 1).
فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ.. من هم هؤلاء الروحانيون الذين يخاطبهم بولس الرسول؟.. أنهم الإخوة المباركين الذين عاشوا بالروح وسلكوا بالروح ولم يكملوا شهوة الجسد، وعندما كان هناك تحزبات وانقسامات في كورنثوس قال لهم بولس الرسول: “وَأَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَال فِي الْمَسِيحِ“ (1كو 3: 1)، أما هنا فيخاطب الغلاطيين الذي انساقوا وراء بدعة التهوُّد على أنهم روحانيون.. فكيف نوفق بين هذا وذاك؟.. الحقيقة أن بولس الرسول هنا يشجّع أولاده بعد أن بكتهم ووعظهم وعلمهم صحيح العقيدة، فهو هنا يشجعهم لأنه يفترض فيهم سرعة الاستجابة والعودة لماضيهم ولروحانياتهم، فأوضح لهم أن عليهم الآن إنقاذ كل من يُؤخذ في زلة، وقوله “فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ“ يمثل دعوة ونداء للروحانيين لإعانة أي إنسان ساقط.. كثيرون يحتاجون مد يد العون لهم، فلا يجب أن نبخل عليهم بالجهد أو بالوقت، ومن أجل إقامة العاثرين أعطانا اللَّه سر الكهنوت، فالكاهن أب يسرع بكل تواضع ولطف لمن عثر وسقط وينحني نحوه ليقيمه من سقطة الخطية، والروح القدس الوديع الهادئ من خلال سر الاعتراف له عمله وفاعليته وتأثيره في إصلاح التشوهات التي لحقت بالنفس التي سقطت بين اللصوص، فيضمد جراحاتها العميقة التي خلَّفتها الخطية.
فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ.. عندما أهمل رعاة إسرائيل في رعاية القطيع الناطق تعرَّضوا للتوبيخ، فقال لهم اللَّه على فم حزقيال النبي: “الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ.. هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ هأَنَذَا عَلَى الرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ وَأَكُفُّهُمْ عَنْ رَعْيِ الْغَنَمِ“(حز 34: 4، 10)، بل أن أحيانًا تنتهز الجماعة فرصة سقوط إنسان عنيد فتستبعده وضميرها مستريح بحجة: ” فَاعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ” (1كو 5: 13) وهذا لا يُعد دليلًا على روحانية هذه الجماعة بل يدل على أنه ليس لها قلب يسوع، فقد رأينا مخلصنا الصالح يصلح بروح الوداعة الأخطاء التي ارتكبتها السامرية تارة، والتي ارتكبتها المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل تارة أخرى دون أن يجرح مشاعر هذه أو تلك، فللسامرية يقول: “حَسَنًا قُلْتِ.. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ“ (يو 4: 18)، وللمرأة الخاطئة يقول: “أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ.. ولاَ أَنَا أَدِينُكِ.. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا“ (يو 8: 10، 11).
فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ.. فقد أوصى بولس الرسول من جهة الإنسان المخالف قائلًا: “لاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ. وَلكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ“(2تس 3: 14، 15)، كما أوصى تلميذه تيموثاوس قائلًا له: “مُؤَدِّبًا بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ عَسَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّه تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ. فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ إِبْلِيسَ إِذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ“ (2تي 2: 25، 26)، فهدف التأديب واضح وهو خلاص النفس وليس الانتقام ولا التشفي، وبالمثل هذا الإنسان الذي تعرَّض للانزلاق في زلة فأنه في حاجة لمن يعينه ليقف على قدميه ثانية، وهذا ما عبّر عنه لسان العطر بقوله: “أَصْلِحُوا“ أي أن تجروا عملية إصلاح للموقف وإعادته إلى حالته الأولى، وتعبير “أَصْلِحُوا“ هو نفس التعبير المستخدم في إنجيل متى (مت 4: 21) عن إصلاح الشباك وإعادتها لحالتها الأولى، فعلى الروحيين أن يصلحوا حال من أُخِذ في زلّة بأن يعيدوه إلى وعيه ويردوه إلى رشده بالنصح والتعليم والتهذيب والمحبة والوداعة، والمسئولية تقع بالأكثر على الرعاة والخدام والآباء.
ويقول “وليم باركلي“: “وكلمة “أَصْلِحُوا” التي يستخدمها بولس الرسول تعني إجراء إصلاح، وهي تستخدم أيضًا للتعبير عن العمل الذي يقوم به الجراح لاستئصال ورم من جسم الإنسان، أو جبر أحد الأطراف المكسورة، ولذلك فالجو الذي يحيط بالكلمة ينبر على العلاج وليس على العقاب، ويصوّر التصحيح إصلاحًا وليس تأديبًا، ويقول بولس الرسول أننا عندما نرى إنسانًا وقد سقط في خطأ أو خطية فيحسن بنا أن نقول {كان يمكن أن أكون أنا ذلك الإنسان لولا نعمة اللَّه}”(388).
فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ.. وهنا يشير بولس الرسول بطريق غير مباشر للمتهوّدين المتمسكين بالناموس فيحكمون بقسوة على كل مخطئ، بسبب ضيق أفقهم -بل أنهم يدَّعون أن أي إنسان مهما كان إيمانه بالمسيح إن لم يختتن فأنه لن يخلص- فالناموس يطالب بمعاقبة المخطئ، والمخطئ في ظل حكم الناموس محكوم عليه بالموت والهلاك، بينما الروحيون يعالجون الأمر بروح الوداعة واللطف والمحبة، حتى لو انزلق البعض إلى بدعة التهوُّد فأنهم يصلحون من حاله بعيدًا عن التقريع والتوبيخ والتبكيت وتوجيه أصابع الاتهام بالإدانة، فشتان بين هؤلاء المتهوّدين الذين يسلكون بحسب المذهب الأضيق فيضيفون أحمالًا على من سقط، وبين أولئك الروحانيين الذين يعيشون بالروح ويسلكون بحسب ناموس المسيح فيسرعون لرفع الأحمال عن الساقط وتطيّيب جروحه.
فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ.. دُعيَ المؤمنون روحانيون لأنهم يعيشون بالروح ويسلكون بالروح، والإنسان الروحي المتواضع الذي يشعر بضعفاته وأنه أول الخطاة كيف يقرُّ أنه إنسان روحاني يجب أن يتقدم ويقيم الساقط من عثرته؟
يقول “ماكدونل“: “يطرح هذا العدد السؤال المهم الثاني: إن كان الإنسان روحيًا، فهل تراه يقر بذلك؟ أليس الروحيون أكثر الناس إدراكًا لضعفاتهم؟ من تراه يَقدْم على عمل الإصلاح، إن كان ذلك يُميّزه بأنه إنسان روحي؟ ألا يتنافى هذا مع روح التواضع؟ الجواب هو كالتالي: إن الإنسان الروحي الحقيقي لا يفتخر أبدًا بحالته، بل يمتلك قلبًا رعويًا رقيقًا يجعله راغبًا في إصلاح الأخ المتعدي، وهو لا يُقدِم على العمل بروح الكبرياء والتعالي بل بروح الوداعة، متذكّرًا بأنه هو نفسه معرَّض للتجربة أيضًا”(389).
بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ.. الذي أُخذ في زلة هو إنسان صالح ولكن بسبب حروب عدو الخير المفاجئة أُخذ في زله، فتجده مُحرَجًا مرهف الحس خجولًا: كيف يعود للمجتمع الكنسي بعد ما عرف الآخرون ما بدر منه من زله؟!.. كيف ستكون نظراتهم إليه؟ ولذلك يجب أن الذي يتقدَّم ليقيمه يكون مُلمًا بتلك المشاعر والأحاسيس، يتحلى بروح الحكمة، يذكره بمحبة اللَّه والكنيسة له، واضعًا أمامه أمثلة قوية من التائبين وعلى رأسهم داود النبي وبطرس الرسول، فإن لم يتعامل معه بمحبة ورفق وسعة صدر فربما خسر هذا الأخ الملكوت إلى الأبد.
فإقامة العاثر تستوجب: “التعامل مع الأخ بروح الوداعة واللطف، لكن ما يحدث غالبًا أن تكون روح التعامل مع هذا الأخر هي روح:
– القسوة – النقد – إني أقدس منك – اللا مبالاة
– المراقبة – النبذ والنفي – الخشونة – التوبيخ
– إشاعة – الرفض – التفوق الروحي – الافتراء
ولا شك أن مثل هذه الروح أبعد ما تكون عن إصلاح أخ مخطئ، لأن مثل هذه الروح تنزع بالأكثر إلى الحط من شأنه وإلى تدميره، والمأساة الأكبر أنها تدفع للرجوع أكثر فأكثر إلى العالم، إلى أولئك الذين أكثر فهمًا بضعفه لأنهم ضعفاء مثله.
ولكن روح الرفض ليست هي تلك الروح التي تحثنا كلمة اللَّه أن نتعامل بها معه ونظهرها له. فما يقوله الكتاب المقدَّس، أن نقترب من الأخ بروح الوداعة فنكون حساسين، ونتعامل معه برقة وبدفء المحبة والرعاية والاهتمام. لك أن تناقش خطيته وظروفها، ولكن معه هو وليس مع الآخرين! إذا اقتربت منه بمحبة، قدم له خدمة، مد له يد المعونة، اظهر له الاهتمام والرعاية، وفوق الكل أجلس معه، افتح ذراعيك ورحب به ثانية، أعده إلى شركة الجماعة، ودعه يدرك أنه نال غفران من الجميع، والجميع يرحبون به، بدفء المشاعر والمحبة الصادقة“(390).
نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ.. حسن أن يركز الإنسان نظره نحو نفسه بدلًا من التحديق في خطايا الآخرين: “لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا. أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ“ (مت 7: 3-5)، وبينما أحاول بهدوء إصلاح حال أخي أحذر من روح الشماتة والاستعلاء، ولا سيما لو كان قد سبق لهذا الأخ أن أساء إليَّ، بل أصفح عنه من كل قلبي: “فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ“ (مت 6: 14، 15).
نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا.. من يشمت بسقطة أخيه ربما يتعرَّض لنفس الضغوط وذات السقطة، شكى أحد الرهبان الشباب لأحد شيوخ الرهبان عن حروب الشهوة التي لا تكف عن قتاله ليل نهار، فأشار عليه بترك البرية لأنه لا يصلح لحياة الرهبنة الملائكية ويذهب للعالم ويتزوّج، وفيما كان الراهب الشاب منطلقًا حزينًا كشف اللَّه لأحد الآباء الرهبان القديسين عن الأمر، فأسرع وأعاد هذا الراهب مشجعًا إياه لأن الجميع معرّضون لهذه الحروب، وطلب هذا القديس من اللَّه أن يسمح بمثل هذه الحرب للراهب الشيخ، فما كان منه إلاَّ أنه ترك قلايته وكان مزمعًا أن يذهب إلى العالم، فالتقاه الراهب القديس وأقنعه بالعودة إلى قلايته وأن يشجّع صغار النفوس ولا يستهين بتجربة أحد ثانية.. لذلك يجب أن تكون نظرتنا لمن سقط ثلاثة الأبعاد:
أولًا: ننظر إلى أنفسنا لأننا معرضين للزلة والسقوط.
ثانيًا: ننظر لمن عثر بروح الوداعة ونسعى لإقامته من عثرته.
ثالثًا: ننظر للرب الإله القادر أن يحفظنا بلا عثرة: “الْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ“ (يه 24).
نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا.. فلا ينبغي أن ننظر لمن سقط نظرة دونية، ونظن في أنفسنا أننا أفضل منه، لأننا جميعًا تحت الضعف، وربما أخي الذي سقط اليوم قد يتوب اليوم أو غدًا، وأُخطئ أنا ولا أتوب، وهنا يوجّه بولس الرسول نظر كل واحد منا على حدى، ولهذا انتقل من صيغة الجمع “فَأَصْلِحُوا“ إلى صيغة المفرد “نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ“ ثم يعود بنا ثانية لصيغة الجمع “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ“، فليس أحد معصوم من الخطأ ولهذا أوصى الكتاب قائلًا: “إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ“ (1كو 10: 12).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: ” يقول الرسول “انْسَبَقَ” وليس “ارتكب” وكأنه قد حُمِل على هذا الفعل.. كذلك يقول “أَصْلِحُوا” وليس “حاكموا” ليحثهم على اللطف الكامل أثناء معالجة الآخرين، وقوله “بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ” وليس مجرد “الوداعة” يعلن أن مثل هذه المهام تحتاج إلى عطية خاصة من الروح القدس، ثم يحذر المعالج من الإحساس بالفضيلة والغرور بقوله: “نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا“.. ونلاحظ أن الرسول يلتمس أعذارًا للمخطئ بقوله “انْسَبَقَ فَأُخِذَ” وأيضًا بتعبيره عن الخطية أنها “زَلَّةٍ” ثم أخيرًا بقوله: “لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا” ليقطع خط الرجعة على خداع الشيطان الذي يأخذ صورة الغيرة المقدَّسة“(391).
ويقول “متى هنري“: “نتعلّم من العدد الأول المعاملة الرقيقة لمن سبق لهم أن أُخذوا في زلة ما.. أي أنه أتى الخطية بفعل مفاجأة التجربة له. وهذا أمر يختلف تمامًا عمن يتشبث بخطية ما ويفعلها عن عمد وبعد إمعان فيها، فالذي قد أُخذ في زلة بسبب مفاجأة التجربة، علينا أن نعامله بلين ورقة..
(1) الواجب الذي نُوجَه إليه هو: “أَصْلِحُوا مِثْلَ هذَا“، والكلمة “أَصْلِحُوا” بحسب الأصل تعني إعادة تركيب المفصل، وكما يفعل للعظمة التي انتقلت من مكانها، أو خُلعت من مفصلها، فتُعاد مرة أخرى وتُركَّب في مفصلها، هكذا يجب علينا أن نبذل كل الجهد لإعادة هؤلاء إلى المفصل مرة أخرى مقدمين لهم العزاء والنعمة الغافرة مظهرين محبتنا لهم.
(2) الأسلوب الذي يجب أن يُتبَع “بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ.. “، وليس في حالة غضبٍ وانفعالٍ كمن يشعرون بالانتصار عند سقوط الأخ. كم من توبيخات كثيرة تفقد فاعليتها عندما تتم في حالة غضب حتى وإن كانت ضرورية في وقتها، أما إذا تمت “بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ” والاهتمام المُخلص لمنفعة الذين توجه إليهم، فإنها ستأتي بنتائجها المرجوة والمطلوبة.
(3) سبب عظيم جدًا، أنه يجب أن يجرى ذلك بروح الوداعة، وهو “نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا“. يجب علينا معاملة من أُخذوا في زلة بمنتهى الرقة والسبب هو ربما نكون نحن مثلهم وفي مكانهم في وقت ما، لهذا يحتم علينا أن نعامل الآخرين بما نحب أن نُعامل نحن به أيضًا” (392).
“اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ“ (غل 6: 2).
اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ.. الأقوياء يتحملون برضى أضعاف الضعفاء: “فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا“(رو 15: 1)، كما أوصانا الكتاب أيضًا: “شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ“ (1تس 5: 14)، ونحن في حاجة دائمة أن نحمل أثقال بعضنا بعضًا لأننا جميعًا معرَّضون للسقوط، ولذلك أكد الكتاب على مشاركة الجميع مشاعرهم: “فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ. مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا“(رو 12: 15، 16)، ومن المعروف أن الأفراح عندما نقتسمها تزيد وتَعُم، والأحزان عندما نقتسمها تقل وتتضاءل.
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “من الاستحالة ألا يكون للإنسان سقطات، لذا يحثهم ألا يفحصوا أخطاء الغير بعنف، بل بالحري يحتملون سقطاتهم حتى يحتملنا الآخرون. وذلك كما في بناء بيت ما، لا تكون كل الحجارة في وضع واحد، إنما يصلح حجرًا أن يكون في زاوية وليس في الأساس، وآخَر يصلح للأساسات وليس للزاوية، هكذا بالنسبة لجسد الكنيسة”(393).
اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ.. كلمة “أَثْقَالَ“ تشير للأحمال الثقيلة، ولا تشير لعقوبة الخطية لأنه لا يستطيع أحد غير الفادي القدوس أن يحمل عقاب خطايانا، فالإنسان يطرح ثقل الخطايا عن كاهله والمسيح يحمله نيابة عنه: “لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا“ (عب 12: 1)، إنما كلمة “أَثْقَالَ“ الواردة هنا فهي تعبّر عن المعاناة والآلام التي يتعرَّض لها المؤمنون مثل المعاناة الناتجة عن الفقر والاحتياج والمشاكل والضيقات والكوارث، وهذه هي التي نحملها مع بعضنا البعض، والحقيقة أنه يوجد نوعان من الأثقال:
النوع الأول: الأثقال التي يتعين على الإنسان أن يحملها بنفسه مثل ضرورة العمل وتحمُّل المسئولية، وعلينا أن نشجع مثل هذا الشخص على تحمل أثقال نفسه، ولا يصح بدافع المحبة والتدليل أن نحمل معه هذه الأثقال لئلا نفسده.
النوع الثاني: الأثقال التي تأتي على الإنسان من نوائب الزمن وتقلبات الحياة، مثل مرض خطير، أو السقوط في زلة، أو التعرُّض لتجربة صعبة أو كارثة، وهنا يتعين علينا أن يمد كل من يحركه قلبه لرفع هذه الأثقال عن هذا الأخ لئلا تسحقه، والحقيقة أن الرب يسوع عندما يرى إنسانًا محبًا باذلًا يرفع أثقال إنسان متألم، فسريعًا ما يتقدم ويحمل أثقال الأثنين معًا ويعطي راحة لكل منهما.
ويقول “الأب متى المسكين“: “لذلك نقول: ما أثقل أحمال آبائنا الأحباء الكهنة خدام المسيح والكلمة والنفوس حينما يحملون خطايا وعار الرعية بصبر، ولكن سرعان ما تتحوَّل هذه الأحمال الثقيلة جدًا إلى أحمال هينة خفيفة مفرحة مملوءة معونة، هو يحمل بيد والملائكة معه بألف يد بل والمسيح نفسه يضع يده فوق يد الكاهن فيحمل الكاهن ويحمل حمله وتصبح حياة الكهنة التي كانت أثقل مما يحتمل ويتصوَّر فإذ بها تصير بنعمة المسيح راحة لنفوسهم لا يرضون عنها بديلًا بل مزيدًا: إنها سر الخدمة أو هي سر الصليب أو مجد الوصية في قلب المختار. صلُّوا يا إخوة وصلُّوا كثيرًا من أجل كهنة المسيح خدام الأثقال التي لا يقوى على حملها جبابرة مقتدرون، ليُعطيهم المسيح سر حمل صليبه. ويعطيهم حسب وعده راحة لنفوسهم”(394).
وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ.. ناموس المسيح في الخدمة: “لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ“(مر 10: 45)، أنه وهو السيد والمعلّم يغسل أرجل تلاميذه: “فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا“(يو 13: 14، 15)، وأيضًا ناموس المسيح في المحبة: ” وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (يو 13: 34).. “هذِهِ هي وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ“(يو 15: 12).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “وهكذا تمّموا ناموس المسيح ولم يقل “نفذوا” بل “أكملوا “، أي ليتكامل عملكم معًا بحملكم أثقال بعضكم البعض، فعلى الغضوب أن يحتمل الكسول، فلا يخطئ أيهما بل يتكاملان معًا كذلك كمّلوا الناموس بأن تمدوا يدكم للمخطئ حتى لا يسقط للهلاك، أما إن سعى كل منكم لكشف أخطاء أخيه فلن تقوموا بعمل بناء”(395).
وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ.. أراد الغلاطيون أن يحملوا نير عبودية الناموس، وكأن المتهوّدون بقلبهم الفريسي: “يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ“(مت 23: 4)، فأنقذهم بولس الرسول من هذا النير، ثم طلب منهم أن يخضعوا بالأولى لناموس المسيح الذي قال: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ.. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ“(مت 11: 29، 30) بأن يحملوا بعضهم أثقال بعض، كقول الكتاب: “اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي الْجَسَدِ” (عب 13: 3)، وعندما نحمل أثقال الآخرين فإننا على الفور نطرحها تحت أقدام الصليب: “أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ“(مز 55: 22) و” مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ” (1بط 5: 7).
“لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ. وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ“(غل 6: 3 – 5).
في الآيتين السابقتين (غل 6: 1، 2) كان محور الحديث عن المحبة الأخويَّة التي تحمل أثقال الآخرين، وفي هذه الآيات الثلاث (غل 6: 3-5)، يدور محور الحديث حول مسئولية الإنسان تجاه أخيه.
لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ.. جيد للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يظن في نفسه أنه لا نظير له، فيسقط في الكبرياء، فعلى الإنسان الحكيم: “أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ“ (رو 12: 3)، فمثلًا لو ظن الإنسان أنه علامة عصره فيجب أن يوقن أنه ما زال يحبو على شاطئ بحر المعرفة: “فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا بَعْدُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ” (1كو 8: 2).. ولو ظن الإنسان أنه بار فعليه أن يدرك أن البار الوحيد هو الرب يسوع الذي يبرّرنا بدمه، أما الإنسان الحكيم عندما يصل إلى درجة بولس الرسول فأنه بالكاد يقول: “الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا“(1تي 1: 15).. وأي إنسان بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض؟!..
ولو ظن الإنسان في نفسه أنه شيء يكفي أن يتذكر:
1 أنه تراب ورماد لئلا ينتفخ ويسقط في مدح الذات وتمجيد النفس.
2 أن كل ما يتمتع به من مواهب وفضائل، فالفضل فيها يرجع إلى روح اللَّه القدوس، أما هو فمجرد آنية فخارية ضعيفة.
ويقول “الأب متى المسكين“: “صلُّوا يا إخوة وصلُّوا من أجل كل كاهن وخادم حمل النير الثقيل الحلو، وجرى في فمه كلمة الإنجيل والحياة أن لا يظن في نفسه أنه يخدم ويتكلّم من معارفه أو معرفته وإنما يتكلَّم من فم الذي يعرف ماذا يُقال في وقته وحينه الحسن”(396).
لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ.. أي لو تخيل أو توهم أحد أنه الأفضل والأحكم والأعظم فهذا قريب جدًا من السقوط، فسطانئيل عندما ظن أنه شيء وتكبَّر وقال أجعل كرسي فوق كرسي العلي سقط وكان سقوطه مروعًا، وعندما ظن الفريسي أنه شيء وأنه أفضل من العشار الخاطئ الذي لم يشأ أن يرفع عينيه إلى السماء لم ينل التبرير مثلما ناله العشار، وعندما ظن أسقف لاودكية أنه غني وقد استغنى سمع صوت ابن اللَّه: “لأَنَّكَ تَقُولُ إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ“(رؤ 3: 17).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “ما أكثر الذين يظنون في أنفسهم أنهم شيء! وما أوفر الظنون التي تدور في خواطرهم من هذا القبيل! وما أخطر التخيلات التي تنتاب عقولهم وتتعمّق في قلوبهم فتعلو بتفكيرهم عن أنفسهم إلى مراقي الكبرياء والعظمة والانتفاخ الباطل، فينطوي كل من هؤلاء على نفسه، منتفخًا على غيره، فيصبح في حالة تحول بينه وبين الآخَرين، وتمنعه منعًا باتًا عن الشركة المباركة مع الغير، وتخرجه بصورة بارزة عن الاهتمام بأمر زلاتهم وعن التعاون معهم في أثقالهم، وبذلك يصير بلا نفع في خدمة إخوته”(397).
وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا.. مَن يظن في نفسه أنه شيء بدون المسيح فهو إنسان متكبّر، وكل إنسان متكبّر هو في الحقيقة لا شيء، فالذي تعصف به الظنون فيظن أنه بعد أن حمل أثقال الآخرين أنه صار شيئًا له قدرته وعظمته فهو في نظر اللَّه ليس شيئًا: “لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ“ (2كو 10: 18). وعبارة “وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا” تعد وصفًا دقيقًا للإنسان المتكبّر، أما الإنسان المتضع فكل اعتماده ليس على نفسه ولا يظن في نفسه أنه شيء، بل اعتماده بالكلية على اللَّه، ويكفينا إبراهيم أب الآباء كمَثَل واضح للإنسان الذي يدرك حقيقة نفسه، فبالرغم من مدح الرب له بل أن اللَّه قد نسب نفسه له قائلًا: “أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ“(تك 28: 13) لكنه يقول للرب وهو يشفع في سدوم: “إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ“(تك 18: 27)، ومَثَل آخَر هو بولس الرسول المفرز من بطن أمه والمختار من الثالوث القدوس ورسول الأمم ولسان العطر وفيلسوف المسيحية، ومع هذا يقول: “لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئًا كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ اللَّه” (2كو 3: 5)، بل وقال عن نفسه صراحة: “وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا“(2كو 12: 11)، بل وقال أيضًا: “الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا“(1تي 1: 15).
فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ.. مثل هذا الإنسان الذي ظن أنه شيء فهو غاش ومغشوش في آن واحد، فهو غاش لأنه غش وخدع نفسه، وهو مغشوش لأن نفسه قد خدعته وغشته، وقد نسى كلام السيد المسيح له المجد: “بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا“(يو 15: 5)، وعندما ظن بطرس أنه أفضل من الآخرين حتى أنه قال: “وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا” (مت 26: 33) سقط في الخوف حتى أنه أنكر سيده ثلاث مرات، ونحن لسنا أفضل حالًا من معلمنا بطرس الرسول، لذلك نحتاج أن نكون صادقين مع أنفسنا ولا نغش أنفسنا.
وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ.. طلب بولس الرسول أن نمتحن أنفسنا قبل التناول من الأسرار المقدَّسة لئلا نتقدم إليها بدون استحقاق فنصير مجرمين في حق الجسد والدم: “وَلكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ“(1كو 11: 28) وتارة أخرى يقول لنا: “جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ. امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ“(2كو 13: 5)، وعندما يمتحن الإنسان نفسه يضع ضعفاته أمام عينيه (2كو 12: 5) ويعلم أن ما فيه من أمور حسنة ليست منه بل من عمل روح اللَّه القدوس معه، ومَن يمتحن نفسه ينجو من فخين أحدهما فخ الكبرياء، والآخَر فخ إدانة الآخرين.
ويقول “متى هنري“: “نحن نُنصَح أن يمتح-ن كل واحد عمله (ع 4)، ونعني بالعمل هنا بأنه السلوك وهو ما ينصحنا الرسول بأن نمتحنه، وبكلمات أخرى أن نفحص أعمالنا بجدية قياسًا على كلمة اللَّه، وذلك حتى نزداد ميلًا لفحص وامتحان طرقنا، بدلًا من إدانتنا للآخَرين. فمسئوليتنا تقع في بيوتنا أولًا لا في خارجها، وبنفوسنا أكثر من الآخَرين، وأفضل طريق لحفظ نفوسنا من الكبرياء هو أن نمتحنها. وبقدر ما نعرف حقيقة قلوبنا وطرقنا، بقدر ما يقل تعرُّضنا لأن نلوم الآخرين ونحتقرهم، كذلك بقدر ما يزيد أيضًا ترفقنا بهم وميلنا إلى مساعدتهم”(398).
وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ.. جيد أن يمتحن الإنسان نفسه ويحكم على نفسه قبل أن يُحكم عليه، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، وينبغي أن يركز كل واحد منا على أعماله وتصرفاته وليس على أعمال وتصرفات الآخَرين، وأن يفحص قلبه لا قلوب الآخرين، عالمًا أن: “اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ“(مت 12: 35)، ولنحذر لئلا نُظهر الآخرين بصورة سيئة حتى تبدو صورتنا طيبة وأكثر إشراقًا، ولا سيما أننا نتمتع بمهارات عالية في الحكم على الآخرين وتفنيد أخطائهم وتضخيمها، كما أننا في غاية المهارة في تبرير أنفسنا، ولكن عندما يكون الأمر أمام فاحص القلوب والكُلى وكاشف الأفكار فأنه سيختلف تمامًا، لأن الإنسان أمامه يظهر عريانًا محكومًا عليه من أعماله: “لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا“ (2كو 5: 10).
وَلكِنْ لِيَمْتَحِنْ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ.. كيف يمتحن الإنسان عمله؟.. أن يراجع أعماله وسلوكياته بدقة في ضوء كلمة اللَّه، ويبحث ويفتش عن الدوافع الداخلية لأعماله حتى لو كانت حسنة، فكم من الأعمال الحسنة ورائها دوافع ليست حسنة، فربما كانت هذه الأعمال الحسنة لتجميل صورة الإنسان وسط المجتمع الكنيسي، أو إرضاءً لغرور النفس وكبريائها أو لدوافع أخرى شريرة، والذي يكشف هذا اللَّه: “الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ“ (1كو 4: 5)، فمهما بلغ خداع القلب فهو عريان ومكشوف أمام اللَّه: “اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ. أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ“ (إر 17: 9، 10)، ولذلك تجد الإنسان دائمًا في حاجة لهذه المعونة الإلهيَّة: “اخْتَبِرْنِي يَا اللَّه وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا“(مز 139: 23، 24).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “يجب أن ننقد أنفسنا وندينها بدقة، فإن عملنا عملًا ما نفحص هل كان من قبيل حب المديح.. أو دافع شرير أو رياء أو أية دوافع بشرية أخرى. فكما أن الذهب يبدو جميلًا قبل أن يوضع في النار، ولكن النار تمتحنه وتُظهِر ما فيه من شوائب ثم تنقيه منها، كذلك نحن أيضًا حين نمتحن أعمالنا”(399).
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ.. بعد أن أمتحن أعمالي، بل أعماق قلبي، فإذا اكتشفت فعلًا أنني إنسان روحاني لا أحتمل أن أرى أخي ساقطًا، بل أسرع وأسكب نفسي تحت قدميه حتى أقيمه، ولسان حالي: “مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ. مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ“(2كو 11: 29)، فعندئذٍ أشكر اللَّه الذي أعانني على هذه الأعمال الحسنة، ويحق لي أن أفتخر، ولكن كيف أفتخر؟.. إنني لا أفتخر على الإطلاق بنفسي، بل ينبغي أن أنكر نفسي عملًا بوصية سيدي: “إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي” (مت 16: 24).. إذًا كيف أفتخر؟.. أفتخر بالرب الذي قواني: “هكَذَا قَالَ الرَّبُّ. لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلًا“(إر 9: 23، 24)، إذًا “مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ“(1كو 1: 31)، والرب هو الذي يزكيني ويكافئني: ” لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ” (2كو 10: 18).
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.. عندما يقارن الإنسان نفسه بالآخرين فإما يشعر أنهم أقل منهم فيدينهم ويستصغرهم في عينيه وبهذا يسقط في الكبرياء: “اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ“ (لو 18: 11). وإما يشعر أنهم أعلى منه روحانية فيُصاب بصغر النفس، ولذلك لا ينبغي أن يقارن الإنسان نفسه بغيره، بل لينظر إلى النموذج الكامل للبشرية الرب يسوع ملتمسًا منه العون والقوة.
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْفَخْرُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ فَقَطْ لاَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.. الفخر خطأ، ولكن الرسول يقصد أنه إذا ما افتخرت فلا تفتخر على رفيقك كما فعل الفريسي، فإن نفذت هذا لن تفتخر أبدًا، وكأن الرسول يوافق على جزء من الفضيلة حتى يصير لنا الكل. فالذي لا يعتبر نفسه أفضل من الآخرين ويرضى عن أعماله، إذ يمتحنها في نور اللَّه، لن يفتخر بل حتى سيمتنع عن هذا الرضى“(400).
لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ.. بعد أن طالب بولس الرسول أولاده بأن يحملوا بعضهم أثقال بعض، كيف يطالب كل واحد بأن يحمل حمل نفسه؟.. لا تعارض بين الموقفين فهناك أثقال تحل بالإنسان من جرّاء تعرُّضه لضيقة أو مشكلة أو تجربة أو ظروف طارئة، فيسرع الروحانيون بمساعدته في حمل هذه الأثقال: ” فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ” (يع 4: 17). أما هنا فيتحدث عن الثقل الشخصي لكل إنسان، فكل واحد مسئول عن نتيجة أعماله وتصرفاته: “الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ.. فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللَّه سَرَائِرَ النَّاسِ“ (رو 2: 6، 16)، وأيضًا كل إنسان سيكافئ بحسب عمله: “وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ“(1كو 3: 8).
والأصل اليوناني لكلمة “أَثْقَالَ“ في الآية: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ“ حملت معنى الحِمْل الثقيل المُرهِق والكئيب، أما الأصل اليوناني لكلمة “حمل” في الآية “لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ“، فإنها تحمل معنى الحِمْل العادي الذي إعتاد الجندي أن يحمله بمفرده في الميدان (صرة الجندي) دون الاحتياج لمساعدة أحد، فهذا حِمْل شخصي يحمله الإنسان كما يحمل الجندي صرّته الخاصة به.
لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَحْمِلُ حِمْلَ نَفْسِهِ.. من الملاحظات تسلسل الأفكار في الآيتين (3، 4) كالتالي:
1 أن الإنسان بدون المسيح هو في الحقيقة كلا شيء.
2 عندما يكتشف الإنسان ضعفه يلتجئ إلى اللَّه ليجد عونًا في حينه.
3 يمتحن الإنسان نفسه لكي يتحقق أنه يعيش ويسلك بحسب الروح وليس بحسب الجسد.
4 عندما يطمئن الإنسان أنه يسلك في مخافة اللَّه ووصاياه يكون له الفخر من جهة نفسه فقط شاكرًا اللَّه الذي وهبه هذه النعَم الجزيلة.
5- في النهاية عندما يقف هذا الإنسان أمام منبر المسيح العادل ينال المديح والمكافأة من فم الديان العادل: “نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ“(مت 25: 21).
وما دام الإنسان سيحمل حمل نفسه فينبغي أن يعيش في حياة التوبة، وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “احرص على توبتك اليومية قبل أن تنام، فهي تنقيك من كل خطاياك وتجعلك متضعًا أمام اللَّه فتنال مراحمه، ومتضعًا مع الناس فتكسبهم”(401).
ثانيًا: عمل الخير (غل 6: 6-10).
“وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ. لاَ تَضِلُّوا. اللَّه لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً. فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ“(غل 6: 6 – 10).
في الآية الثانية أوصى بولس الرسول قائلًا: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ“، وفي الآية السادسة يعطي التطبيق العملي عندما يشارك المتعلم معلمه في احتياجاته، مع إدراك أن مشاركتنا لخدام الكلمة لا يعني أن اللَّه لا يستطيع إيفاء احتياجاتهم، إنما اللَّه يشركنا معه في عمل الخير هذا لنأخذ بركته، وإن كانت عبارة “بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ مفتاح الفقرة السابقة، فإن مفتاح هذه الفقرة كلمة “شركة” والتي جاءت في الآية السادسة: “لِيُشَارِكِ“، والأصل اليوناني للكلمة “كونونيا” وتعني المشاركة في الخيرات المادية، وكانت “الشركة” من سمات الكنيسة الأولى، فالإنسان المسيحي الروحاني لا يحتمل أن تكون لديه خيرات كثيرة بينما يعاني الآخرون من الفاقة والحرمان: “وَجَمِيعُ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا مَعًا وَكَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا. وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ احْتِيَاجٌ” (أع 2: 44، 45)، فهذه هي تصرفات من شعروا أنهم أعضاء في جسد المسيح الواحد، ولهم الخلاص المشترك الواحد: “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ إِذْ كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ الْجَهْدِ لأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنِ الْخَلاَصِ الْمُشْتَرَكِ“(يه 3).
وخلال هذه الآيات الخمس يشجع بولس الرسول أولاده على العطاء وفعل الخير كواجب مسيحي يسرُّون به، واضعًا أمام أعينهم القانون الخالد بأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، سواء كانت بذار شر أو بذار خير، سواء لحساب الجسد أو لحساب الروح، ويحرّض بولس الرسول أولاده حتى لا يكلُّوا ويخوروا ويفشلوا في عمل الخير، بل يكونوا نهَّازين للفرص لعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان.
” وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ” (غل 6: 6).
في الآية السابقة أوضح بولس الرسول أن كل واحد سيحمل حمل نفسه، أما في هذه الآية فيتكلم عن المشاركة.. معلم الكلمة يشارك المتعلم الخبرات الروحية، والذي يتعلم الكلمة يشارك المُعلم في الاحتياجات المادية، والدافع وراء هذا المحبة، فالمحبة هي التي تجعلنا أن نحاول إصلاح من أُخذ في زلة، والمحبة هي التي تجعلنا أن نحمل بعضنا أثقال بعض، والمحبة هي التي تجعلنا نهتم بخدام الكلمة.
وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.. شجع بولس الرسول أولاده لعمل الخير وسد احتياجات الكارزين، فأوصاهم بأن يشارك المخدوم الخادم الذي كرَّس حياته لخدمة الكلمة وخدمة شعبه، فأعطى حياته للَّه، ويبذل نفسه من أجل شعبه، فمن الواجب أن المخدومين يوفروا له ولأسرته احتياجاته المادية، وتعبير مشاركة “لِيُشَارِكِ“ تعبير مسيحي مُهذَّب عوضًا عن تعبير التبرع أو المساعدة، فبولس الرسول يتناول الموضوع على أساس أنه مشاركة أو شركة تعكس الحياة المشتركة في المسيح.
ويقول “الأب متى المسكين“: “هنا أدخل ق. بولس للكنيسة ثلاث كلمات ذات قيمة عظمى في تقليد الكنيسة وتراثها العظيم. الشركة كينونيا، المتعلّم كاتيخومينوس، المعلّم كاتيخون، ومنها التعليم كاتشزم. فالكاتشزم في الكنيسة الآن هو تعليم الرسل. والشركة في الكنيسة الآن هي في سر الإفخارستيا وفي الأغابي ولو أنها ضعفت، وفي أعمال المحبة عمومًا.
وهذه صياغة جميلة وبارعة للقديس بولس لترجمة قانون العشور من العهد القديم لقانون الشركة الحر في العهد الجديد. فلكي يضمن الرب خدمة مقدساته في الهيكل ويضمن سد إعواز خدام بيته واسمه، وضع قانون العشور بصورة محدَّدة قاطعة صارمة كوصية وفريضة مُلزِمة. ولكن العهد الجديد دخل في محيط الحرية الشاملة وتوقفت صناعة الفرائض كلًا وجزءًا“(402).
وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.. قال بولس الرسول: “لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الأُمَمُ قَدِ اشْتَرَكُوا فِي رُوحِيَّاتِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدِمُوهُمْ فِي الْجَسَدِيَّاتِ أَيْضًا“(رو 15: 27)، أي إن كان الخدام قدموا لهذه الشعوب الأمور الروحية فليس كثيرًا على تلك الشعوب أن تقدم لهؤلاء الخدام الاحتياجات الجسدية: “إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّاتِ.. هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ“(1كو 9: 11، 14)، وأوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس الأسقف لكيما يهتم الشعب بالقسوس الذي يتعبون في الكرازة بالكلمة والتعليم قائلًا: “أَمَّا الشُّيُوخُ (القسوس) الْمُدَبِّرُونَ حَسَنًا فَلْيُحْسَبُوا أَهْلًا لِكَرَامَةٍ مُضَاعَفَةٍ وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ فِي الْكَلِمَةِ وَالتَّعْلِيمِ. لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا. وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ” (1تي 5: 17، 18)، وهذا ما سبق وقاله الرب يسوع لتلاميذه الاثني عشر: “لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق طَعَامَهُ“(مت 10 : 9، 10). فإن الذين يعطينا الخيرات الأبدية ليس أقل من أن نُشرِكه في الخيرات الأرضية، وعندما نعطي ينبغي أن نعطي بفرح وليس بتذمر لأن المعطي المسرور يحبه الرب.
وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.. منذ لحظات قال لهم: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ“، ومن هؤلاء “البعض” المعلمين الكارزين المنهمكين في كرازتهم وتعليمهم وليس لديهم وقتًا للعمل المادي، لذلك يجب الاهتمام باحتياجاتهم، وإن كان الذي يتعلَّم الكلمة هو التلميذ فإن جميع المسيحيين هم تلاميذ كنبوَّة إشعياء النبي: “وَكُلَّ بَنِيكِ تَلاَمِيذَ الرَّبِّ وَسَلاَمَ بَنِيكِ كَثِيرا“ (أش 54: 13)، وكان المسيحيون يُدعَون من قبل تلاميذ: “وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ مَسِيحِيِّينَ فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلًا“(أع 11: 26)، لذلك فإن ما قاله بولس الرسول هنا يخص جميع المسيحيين أن يشاركوا الاكليروس والخدام المكرسين احتياجاتهم.
وقوله: “الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ” و“الْكَلِمَةَ“ هنا تعني:
1 أقنوم الكلمة كقول الإنجيل: “الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ“ (لو 1: 2)، كما قال يوحنا الحبيب: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّه وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّه“ (يو 1: 1) وقد رآه في رؤياه: “وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللَّه“(رؤ 19: 13).
2 الكلمة أي كلمة الإيمان التي قال عنها موسى النبي: “الْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدًّا فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا“ (تث 30: 14)، وقال بولس الرسول: “اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا.. إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللَّه“ (رو 10: 8، 17).
ويقول “صموئيل مايكوكسكي“: “والكلمة التي ترد هنا مرتين (يتعلّم، المعلّم) مُترجمة عن أصل يوناني يشير إلى “تعليم إقرار الإيمان”، كما نمارسه في عائلاتنا ومجتمعاتنا المسيحية. وهذا يرينا كيف كان للتعليم الشفاهى للحق المسيحي مقامه الأول في الكنيسة الأولى”(403).
وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.. “فالمتعلم عليه مسئولية تجاه المعلم، والمعلم مُلتزم بمسئولية تجاه المتعلم. تُرى ما هي تلك المسئولية؟ أن يشارك المعلم في جميع الأمور الصالحة، وأن يشارك في خدمة المُعلّم، وتكون مشاركة المتعلم في خدمة المعلم بأن يكون:
- حاضرًا تعليم المعلم.
- يقظًا ومنتبهًا إلى ما يعمله المعلم.
- مشاركًا في مناقشة تعليم المعلم.
- بالالتزام بتعليم المعلم.
- بمشاركة الآخرين بما يعلمه المعلم.
- بدعم المعلم ماديًا.
- بتشجيع آخرين ليأتوا ويتعلّموا من المعلم.
وواضح بالطبع أن المقصود “بالكلمة” أي كلمة اللَّه، فالمعلم ينبغي أن يلتزم دائمًا بتعليم كلمة اللَّه، كما على المتعلّم أن يتأكد تمامًا أنه يجلس عند قدمي معلّم يقدم أو يعلم كلمة اللَّه“(404).
فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.. المقصود الخيرات المادية الزمنية، وبالرغم من أن بولس الرسول كان يعمل في صناعة الخيام وقال احتياجاتي واحتياجات الذين معي خدمتهما هاتان اليدان، إلاَّ أنه أشفق على بقية الكارزين وعدد كبير منهم لم تكن لديه مهارة العمل اليدوي مثلما كان له، ولذلك قال: “مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ وَمَنْ يَغْرِسُ كَرْمًا وَمِنْ ثَمَرِهِ لاَ يَأْكُلُ أَوْ مَنْ يَرْعَى رَعِيَّةً وَمِنْ لَبَنِ الرَّعِيَّةِ لاَ يَأْكُلُ“ (1كو 9: 7).
” لاَ تَضِلُّوا اللَّه لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً” (غل 6: 7، 8).
في هاتين الآيتين نلتقي بثنائية ثلاثية، ثنائية من البذار هما الأنانية التي تتمركز حول الذات أو الإيثار حيث يفضل الإنسان غيره على نفسه، وثنائية من التربة هما الجسد والروح، وثنائية من الحصاد هما الفساد والحياة الأبدية.
لاَ تَضِلُّوا.. أي لا تسلكوا طريقًا آخَر غير طريق الحق، ومن يضل عن طريق الحق لا بد أن يرجع إليه، وطريق الحق واضح، وفي موضع آخَر يقول: “لاَ تَضِلُّوا لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللَّه” (1كو 6: 9، 10)، وفي موضع ثالث يقول: “لاَ تَضِلُّوا فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ“(1كو 15: 33)، فلا تنخدعوا بصوت الباطل مهما كان مرتفعًا، فلا يصح إلاَّ الصحيح والحق يجب أن يُتَّبع، ومن يتبع الباطل فأنه يسير في طريق الضلال الذي نهايته الهلاك الأبدي.
اللَّه لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ.. فعل “شَمَخَ” من الشموخ أي الارتفاع والتعالي، فالجبال الشامخة هي الجبال العالية الارتفاع، والشموخ رمز للكبرياء، ونهاية الكبرياء الكسر: “قَبْلَ الْكَسْرِ يَتَكَبَّرُ قَلْبُ الإِنْسَانِ وَقَبْلَ الْكَرَامَةِ التَّوَاضُعُ“ (أم 18: 12).. تكبَّر سطانئيل فسقط من مرتبته، وتكبَّر نبوخذنصر مفتخرًا بمدينته قائلًا: أليست هذه بابل التي صنعتها بقوتي واقتداري، فتغير عقله وصار كحيوان الحقل لمدة سبع سنوات، وعندما رجع إليه عقله بارك اللَّه قائلًا: “كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ“(دا 4: 37)، فقول الكتاب “اللَّه لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ“ أي لا يتكبَّر عليه أحد، ولا ينتفخ عليه أحد، ولا يسخر منه أو يزدري به أحد، ولا يخدعه أو يخاتله أحد: “أَمْ تُخَاتِلُونَهُ كَمَا يُخَاتَلُ الإِنْسَانُ“ (أي 13: 9)، والأصل اليوناني لتعبير “يُشْمَخُ عَلَيْهِ“ يحمل معنى التعبير العامي “الضحك على الذقن”، فبولس الرسول يؤكد أن الإنسان مهما اتخذ صورة التقوى واتقن ذلك، بينما هو بعيد عن حياة التقوى وأعماقها، فأنه لن يستطيع أن يخدع اللَّه.
فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.. كانت الفلسفات والثقافات والديانات اليونانية تؤكد على هذا المبدأ، فالمخطئ لا بد أن ينال عقابه، فكانوا يعتقدون أن إله الانتقام “نميس” يُحاكم على الفور كل من يخطئ، ويقتصَ منه، ويقول المؤرخ “ج. أ. فروّد” J. A. Fraud: “هناك درس واحد فقط يكرّره التاريخ بشكل واضح، وهو أن العالم مبني بشكل أو بآخر على قواعد أخلاقية، حتى أن الصالح يلقي الصلاح في نهاية المطاف البعيد والشرير يلقي الشر في نهاية المطاف أيضًا”(405).
ورأي الكتاب واضح تمامًا في هذه القضية، ففي مَثَل لعازر والغني: “فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ” (لو 16: 25).. “الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ“ (رو 2: 6) والإنسان يجني ثمر ما يزرعه، فهذا هو الناموس الطبيعي الذي أودعه اللَّه للطبيعة: “لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلًا يُبْزِرُ بِزْرًا وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ. وَكَانَ كَذلِكَ“ (تك 1: 11)، ولهذا قال مخلصنا الصالح: “مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا“(مت 7: 16)، وهناك خمس ملاحظات من جهة الزرع والحصاد:
1 الحصاد من نفس نوع الزرع.
2 الحصاد يفوق البذار أضعاف مضاعفة من جهة الحجم وليس من جهة النوع.
3 ” مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ” (2كو 9: 6).
4 مَن يزرع لجسده يحصد فسادًا ومن يزرع للروح يحصد حياة أبدية.
5 هناك أوان للزرع، فكل محصول له الوقت الذي يُزرع فيه، أي أن هناك فرصة مناسبة للزرع لو مرت وفاتت لا يصلح الزرع بعدها، وفي الوقت المناسب أيضًا نجني الحصاد، وليس قبله: ” لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ ” (غل 6 : 9).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “هناك فرق بين الطموح الأرضي والطموح السماوي ونحن نحصد نفس البذرة التي نزرعها، فالذي يزرع للجسد خطايا وشهوات وسكر سيحصد عقابًا وعارًا وخرابًا، أمّا مَن يزرع الصدقة مثلًا فسيحصد كنزًا سماويًا ومجدًا أبديًا، وإن زرع الوداعة يحصد شركة الملائكة مع إكليل من الديان العادل”(406).
لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا.. من يزرع لجسده فهو مولود من الجسد فقط كقول مخلصنا الصالح: “اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ“ (يو 3: 6)، ومثل هؤلاء قال عنهم بولس الرسول أنهم: “مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ مُحِبِّينَ لِلْمَالِ.. مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللَّهِ. لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا“(2تي 3: 1-5)، ومن يزرع لجسده فأنه يسعى نحو المقتنيات بينما يكون شحيحًا في العطاء، فيضن على المعلمين الروحيين بما يساعدهم على شظف العيش، فقصارى همه في تكويم الأموال وحيازته كل شيء ومبدأه: هل من مزيد؟ لا يعترف بقول الكتاب: “فَرَّقَ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. قَرْنُهُ يَنْتَصِبُ بِالْمَجْد“(مز 112: 9).. أليس من المؤسف أن نجد الملايين من الجنيهات تُصرف على الملذات الجسدية، بينما قليل جدًا ما يُصرَف على حقل الكرازة والتعليم؟!.. فمن فكّر في تقديم الدعم المادي للإكليريكيات؟! ومن فكّر في تولّي الصرف على خريج إكليريكية مُتميّز يسعى لاستكمال دراساته اللاهوتية بالخارج؟!
لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا.. من يزرع شرورًا يحصد شقاوة وبلية، فقديمًا قال أليفاز التيماني “كَمَا قَدْ رَأَيْتَ أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا“ (أي 4: 8)، وقال سليمان الحكيم: “الزَّارِعُ إِثْمًا يَحْصُدُ بَلِيَّةً وَعَصَا سَخَطِهِ تَفْنَى“(أم 22: 8)، وقال اللَّه عن شعبه الذي سعى لزرع الجسديات: “إِنَّهُمْ يَزْرَعُونَ الرِّيحَ وَيَحْصُدُونَ الزَّوْبَعَةَ. زَرْعٌ لَيْسَ لَهُ غَلَّةٌ لاَ يَصْنَعُ دَقِيقًا. وَإِنْ صَنَعَ، فَالْغُرَبَاءُ تَبْتَلِعُهُ“(هو 8: 7)، أي أن أرضهم لن تنتج، ولو أنتجت فالغرباء يستولون على الحصاد.. “قَدْ حَرَثْتُمُ النِّفَاقَ حَصَدْتُمُ الإِثْمَ أَكَلْتُمْ ثَمَرَ الْكَذِبِ. لأَنَّكَ وَثَقْتَ بِطَرِيقِكَ، بِكَثْرَةِ أَبْطَالِكَ“(هو 10: 13)، ووضع بولس الرسول المعادلة النهائية وهيَ: أعمال الجسد = الموت، فقال: “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ.. لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ“ (رو 8: 6، 13).
لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً.. مَن يزرع لجسده أي من يعمل أعمال الجسد التي ذكرها من قبل، وهيَ: “زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ. عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ وَأَمْثَالُ هذِهِ” (غل 5: 19-21)، فالذي يزرع للجسد هو الشخص الأناني الشهواني المتمركز حول ذاته، يعيش حياته كطفل مدلَّل لا يبحث إلاَّ عن إرضاء أهوائه، وماذا يحصد مثل هذا الإنسان سوى الفساد؟! فكل ما يبذله من مال وجهد لتحقيق شهوات الجسد لن يعود عليه إلاَّ بالفساد الأخلاقي والدينونة الأبدية. فمآل الجسد الفساد كقول الرب لآدم بعد السقوط: “لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ“(تك 3: 19) وإن كان في الظاهر مآل الروحاني مثل الجسداني إلى التراب، ولكن شتان بين موت هذا وموت ذاك وبين قيامة هذا وقيامة ذاك، ولهذا أكثر الكتاب من تحذيراته لنا:
- “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ” (رو 8: 6).
- “لاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَات” (رو 13: 14).
- “لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ” (رو 8: 13).
- “لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ هكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًالِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ.. لأَنَّ نِهَايَةَ تِلْكَ الأُمُورِ هي الْمَوْتُ. وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ وَصِرْتُمْ عَبِيدًا ِللَّهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ” (رو 6: 19-22).
- “وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّه فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ” (1يو 2: 17).
ويقول “الأب متى المسكين” عمن يزرع للروح: ” فزارع البذرة الأرضية يُلقي البذرة من يده في مكانها الصحيح على الأرض لتنمو وتُعطي ثمارها. أما زارع زرع اللَّه فيخرج الكلمة من قلبه مجلية بنار النعمة حتى إذا ألقاها في القلوب تحرق مكانها وتطهره وتسكن كالنار لتحرق كل ما هو ليس زرع اللَّه لتنمو وليس شوك يخنقها ولا حسك يغشاها. فإن لم يكن في قلب الزارع مؤونة من النار كيف يزرع كلمات اللَّه، ومن أين يأتي الخادم بمؤونة النار إن لم يدخل محنة الصليب ويُختبَر أولًا بالنار. هذا هو الزارع بالروح للروح حسب الروح، هذا هو التلميذ الأمين الحكيم الذي حمل الصليب حسنًا وذاق محنته بالنار واشتعلت حياته وتطهرَّت من عيب الجسد وبالتالي الفساد وعيب المال وعيب كرامات العالم.. فالزارع بالروح حسب الروح ليس خريج مدرسة تعلَّم الكلمة على يد معلم، بل هو خارج من رحم الإنجيل وارثًا شكله ورائحته وطعمه وقوته، يسلّمه لقلوب الناس كإنجيل حي فعَّال يحمل الحق وفيه المسيح“(407).
مَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً.. يمكن أن يؤخذ معنى “الروح“ هنا بمعنى الروح القدس، فمن يزرع بحسب مشيئته الروح القدس لا بد أنه سيحصد حياة أبدية، وعن مثل هؤلاء قال مخلصنا الصالح: “الْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ“ (يو 3: 6)، ويمكن أن يُؤخذ تعبير “الرُّوحِ” بمعنى من يزرع زرعًا روحيًا، وهذا لا بد أن يكون له ثمر الروح (غل 5: 22، 23)، وكان بولس الرسول من الذين زرعوا زرعًا روحيًا، ولهذا قال: “إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّاتِ” (1كو 9: 11)، ويقول بولس الرسول لكل من يزرع للروح: “وَأَمَّا أَنْتَ يَا إِنْسَانَ اللَّه فَاهْرُبْ مِنْ هذَا وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالصَّبْرَ وَالْوَدَاعَةَ“(1تي 6: 11)، ومَن يزرع للروح فلا بد أن يحصد حياة أبدية: “اَلشِّرِّيرُ يَكْسَبُ أُجْرَةَ غِشٍّ وَالزَّارِعُ الْبِرَّ أُجْرَةَ أَمَانَةٍ“ (أم 11: 18)، ومن يزرع للروح يزرع في هدوء وسلام بعيد عن المجادلات والمخاصمات: “وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ“ (يع 3: 18).
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “مَن يزرع في الجسد عهارة سكرًا وشهوة بلا ضابط، يحصد ثمار هذه الأمور. ما هي ثمارها؟ عقوبة وجزاء وخزي وهزء وتحطيم.. أما ثمار الروح فهي مضادة لذلك تمامًا. تأمل هل بذرت صدقات؟ كنوز السماء ومجد أبدي تنتظرك! هل بذرت الاعتدال؟ تنتظرك الكرامة والمكافأة وتهليل الملائكة وإكليل من قِبَل الديان“(408).
ويقول “متى هنري“: “نحن الآن في وقت الزرع، أما في العالم الآخَر فهناك حصاد عظيم، وسوف نحصد ما قد زرعناه الآن، بل يخبرنا الرسول بما هو أكثر من ذلك (ع 8) بأنه يوجد نوعان من الزرع، وعلى هذا الأساس سيكون الحساب هناك، فإن كنا نزرع مسرة الجسد فمن الجسد نحصد فسادًا، فبإشباع حقير متدني قصير الأجل هنا ينتج خرابًا وشقاءً هناك في النهاية. لكن من جهة أخرى، فالذين يزرعون ليسرُّوا الروح فبكل يقين سيحصدون حياة أبدية، سيجدون هنا التعزية الحقيقية وحياة أبدية وسعادة في النهاية، ذلك لأن اللَّه الذي نعمل معه هنا الآن سوف يتعامل هو معنا هناك. ليس بحسب اعترافنا، بل بحسب ما قد فعلناه“(409).
“فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ. فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ“(غل 6: 9، 10).
فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ.. من يسعى لعمل الخير كثيرًا ما تقف العقبات والعراقيل في وجهه فيواجه الإنسان الفشل إذ يؤثر الانسحاب من الساحة، مستسلمًا للظروف المحيطة، متوقفًا عن عمل الخير، لذلك يجب على كل من وضع في نفسه عمل الخير أن يكون صَلْب الرقبة تجاه هذه المعطلات واضعًا نُصب عينيه قول الكتاب: “لأَنَّ اللَّه لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ“ (2تي 1: 7) وهذه الوصية التي أسداها لسان العطر لتلميذه أسداها أيضًا لأولاده في تسالونيكي الذين عانوا من اضطهادات شديدة قائلًا لهم: “أَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلاَ تَفْشَلُوا فِي عَمَلِ الْخَيْرِ“ (2تس 3: 13)، وهوذا رسول الأمم يشعر بمعاناة الغلاطيين لذلك يشجّعهم حتى يستمروا في عمل الخير، والخير هنا بمفهومه الواسع فيشمل النعمة والطيبة والجمال، ولك يا صديقي أن تلاحظ كيف يوازن معلمنا بولس بين الأمور، فهو يحذّر من التكبُّر والتشامخ على اللَّه بسبب عمل الخير وحمل بعضنا أثقال بعض هذا من جانب، ومن جانب آخَر لا يريدنا أن نكف عن عمل الخير.
ويقول “صموئيل مايكوكسكي” أن قوله “فَلاَ نَفْشَلْ“: “تحمل في طياتها الإحساس بالتعب الذي يؤدي إلى الاهمال أو التوقف عن العمل، فالحصاد النهائي لا بد وأن يأتي في أوانه، لذلك ينبغي علينا أن نجتهد في عمل الخير، حسبما لنا الفرصة، متوقعين يوم الحصاد“(410).
لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ.. فعل “نَكِلُّ“ يشير للإرهاق والتعب، فأحيانًا نفعل الخير ولا نجد استحسان ولا كلمة شكر، بل كثيرًا ما نواجَه بالجحود من قِبَل من أحسنا إليهم، وهذا أمر متوقع بعد أن جال ابن اللَّه يصنع خيرًا وإذ بالذين شفاهم أو شفى مرضاهم وأطعمهم ورفع عنهم أثقالهم وإذ بهم يصرخون: اصلبه اصلبه، لهذا يجب أن نفهم ونعي أن من يزرع الخير، مهما كانت الظروف المحيطة والتابعة، لا بد أن يحصد في وقته، أي في الوقت المناسب، وقد يكون هذا الوقت المناسب زمن هذه الحياة عندما نبصر بأعيننا ثمر تعبنا وجهادنا في الخدمة، فنفرح بثمر خدمتنا ونبارك اللَّه، وقد يطول الوقت حتى يأتي الوقت المناسب بعد أن نغادر هذه الحياة، وربما في الحياة الأبدية، فيكون هذا العمر للزرع فقط وعمل الخير، والعمر الآتي للحصاد والمكافأة، وحقًا قال الجامعة: “لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَوَاتِ وَقْتٌ“(جا 3: 1)، ولهذا أوصانا قائلًا: “اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ“(جا 11: 1)، كما أوصانا الكتاب: “وَلكِنْ لاَ تَنْسَوْا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هذِهِ يُسَرُّ اللَّه“(عب 13: 16).
لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ.. المهم جدًا أن لا نكل ناظرين إلى قول معلمنا يعقوب: “هُوَذَا الْفَّلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ“(يع 5: 7) فعلينا أن نصبر في عمل الخير. إلى متى؟.. إلى المنتهى: “الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ“(مت 24: 13)، وقد عاتب الرب يسوع ملاك كنيسة أفسس الذي تعب وكلَّ فترك محبته الأولى (رؤ 2: 4، 5)، وقال لسان العطر: “لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللَّه تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ“(عب 10: 36)، وعندما نثبّت أعيننا نحو الصليب نستطيع أن نستمد الصبر من ذاك الذي صبر على موت الصليب: “فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ“(عب 12: 3)، ونستطيع أن نصبر عندما نضع الوعد الإلهي أمام أعيننا: “كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ“(رؤ 2: 10).
وربما فعل “كلَّ” يفيد عكس فعل “تمنطق“، فالإنسان كان يتمنطق أي يشد حزامه حول وسطه تأهبًا للعمل، وعندما كان يتعب ويكلُّ ويتوقَّف عن العمل كان يرخي حزامه علامة على أنه قد كفَّ عن العمل، فيليق بنا أن نكون متمنطقين دائمًا متأهبين لكل عمل صالح: “لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً. وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجعُ مِنَ الْعُرْسِ” (لو 12: 35)، وعندما يأتي العريس يأتي وقت الفرح والمكافأة.
فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ.. يجب أن نكون نهَّازين الفرص لعمل الخير، لأنه سيأتي وقت لن نجد فيه فرصة لعمل الخير كما حدث مع العذارى الجاهلات التي ضاعت منهن فرص جمع الزيت فكان مصيرهن خارج الباب، وقد حذّرنا مخلصنا الصالح لئلا نتوقّف عن عمل الخير: “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ“ (يو 12: 35)، والإنسان الروحي يقظ دائمًا، وهو صياد ماهر يقتنص أي فرصة لعمل الخير، بينما الإنسان الجسداني الدائم التركيز نحو نفسه تضيع منه الفرصة تلو الأخرى دون أن ينتبه إليها، وما أجمل قول الحكيم: “كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ“ (جا 9: 10)، وقال الكتاب: “يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلًا فِي الرَّبِّ“ (1كو 15: 58)، ويجب أن نلتفت إلى حقيقة في منتهى الأهمية وهي أن فترة الزرع قصيرة جدًا جدًا فهي على قدر عمر الإنسان، أما فترة الحصاد والفرح فتمتد إلى ما لانهاية، وإن كان كل رقم مهما عَظم بجوار اللانهاية هو صفر. إذًا نحن نتعب لمدة صفر لنفرح إلى ما لانهاية.. ما أعجب محبتك يا إلهي؟
فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ.. ذكر بولس الرسول عمل الخير في هاتين الآيتين مرتين للتأكيد على ضرورة عمل الخير، وكما أن اللَّه يُشرق شمسه على الأبرار والأشرار، فينبغي أن أبناء النور يشرقون على الجميع بعمل الخير، ولا ينبغي أن نكتفي بالجهاد السلبي وهو الامتناع عن فعل الشر، لأن الحياة الروحية لا تُقاس بمقدار ما امتنعنا عنه عن الشر بل بمقدار ما فعلناه من خير، وينبغي أن نفعل الخير مع الجميع بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة أو اللغة: “بَلْ كُلَّ حِينٍ اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ“ (1تس 5: 15)، وأوصى بولس الرسول تلميذه أن يُوصي الأغنياء: “أَنْ يَصْنَعُوا صَلاَحًا، وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَال صَالِحَةٍ وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ“ (1تي 6: 18)، كما أوصى تلميذه تيطس: “صَادِقَةٌ هي الْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هذِهِ الأُمُورَ لِكَيْ يَهْتَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّه أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً. فَإِنَّ هذِهِ الأُمُورَ هي الْحَسَنَةُ وَالنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ” (تي 3: 8).
فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ.. على الإنسان الروحي أن يلتفت إلى:
1 احتياجات خدام الكلمة والكنائس لكي تستمر الخدمة والكرازة.
2 احتياجات الأقرباء: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ“ (1تي 5 : 8).
3 عمل الخير مع الجميع ولا سيما أهل الإيمان، لأنه: ” مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجًا وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللَّه فِيهِ” (1يو 3: 17).
ومن أعمال الخير تحمُّل الإساءات والضيقات ومغالبة الشر بالخير: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ. لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّموَاتِ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ“(مت 5: 44، 45)، وأيضًا من أعمال الخير مساندة المتعثرين في طريق الملكوت، وكذلك تقديم كلمة اللَّه للمحرومين منها.. إلخ.
وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ.. لماذا ميَّز أهل الإيمان أكثر من غيرهم؟.. هذا ليس نوعًا من التمييز، ولكن أهل الإيمان غالبًا ما يقعون تحت الاضطهادات فهم أحوج للمساعدة، وأحيانًا يكونون محل أطماع الآخَرين، فيغرونهم بالمال لكيما ينكروا إيمانهم، وأيضًا خشى بولس الرسول أن المؤمنين من أصل أممي يكفُّون عن عمل الخير مع المؤمنين من أصل يهودي نظرًا لما عانوه من المتهوّدين، ولذلك يوصي بولس الرسول الغلاطيين ومعظمهم من أصل أممي لكي يفعلوا الخير ولا سيما مع المؤمنين مهما كان أصلهم، وعمل الخير له بركته الخاصة.
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “أن عمل الخير بمساعدة الآخرين بركة لك قبل أن تكون للآخر، فلا ترد من يطلب منك شيئًا خاصة لو كنت متأكدًا من احتياجه، بل ليتك تسعى لتوفير احتياجات الآخَرين، واهتم بالقريبين منك أي أهل بيتك وأقاربك وكل من تعاشرهم لأنك مسئول عنهم أمام اللَّه ليس فقط في الماديات بل بالأحرى في الروحيات أي خلاص نفوسهم وارتباطهم بالكنيسة”(411).
وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ.. ولا يجب أن يقتصر فعل الخير على مجموعة خاصة من أهل الإيمان، بل يشمل جميع المسيحيين: “فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللَّه“(أف 2: 19).. تقسيم الخدمات الاجتماعية بما فيها “خدمة إخوة الرب” بحسب التوزيع الجغرافي للكنائس أمر حسن، ولكن ليس معنى هذا أنه عندما يلجأ أحد الأعضاء إلى كنيسة في منطقة أخرى، لأن كنيسته لا تسد احتياجاته الضرورية أو أزماته أو أمراضه، أن يُرفَض ويُصَد، بل على الأقل تُدرس حالته وتتعاون الكنيستان في إراحة هذا العضو المتألم، ولا ننسى أن كنيسة أورشليم عندما عانت في المجاعة والاحتياج في الفترة ما بين خمسينات وستينات القرن الأول الميلادي أن بقيّة الكنائس لم تتركها، بل جمعت ما أمكن جمعه وأرسلته إلى أورشليم، وكان هذا موضع اهتمام بولس الرسول شخصيًا، وحسن جدًا ما فعله “قداسة البابا تواضروس الثاني” إذ خصَّص 30% من دخل الكنائس لخدمة إخوة الرب.
ثالثًا: ختام الرسالة ( غل 6: 11-18):
“اُنْظُرُوا مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي. جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ. لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللَّه. فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ” (غل 6: 11 – 18).
بعد أن تحدَّث بولس الرسول عن الاختيارات المطروحة أمام الغلاطيين، جاء في هذه الفقرة الاختيار الأخير، وهو الافتخار بمديح الناس، أو الافتخار بصليب المسيح (غل 6: 14 – 16) أما الاختيارات السابقة فهيَ:
1 الاختيار بين عبودية الناموس والحرية (غل 5: 1 – 13).
2 الاختيار بين أعمال الجسد وثمر الروح (غل 5: 16 – 26).
3- الاختيار بين الأنانية وحياة الذات، وبين حياة الإيثار من أجل الآخَرين (غل 6: 1 – 10).
وفي هذه الفقرة يتحدَّث بولس الرسول عن:
1 صفات المتهوّدين من تفاخر وتباهي، وقدرة على الإقناع، ورياء (غل 6: 12، 13).
2 الرب يسوع المسيح والافتخار بصليبه (غل 6: 14 – 16).
3- بولس الرسول يحمل سمات الرب يسوع والختام (غل 6: 17، 18).
وغالبًا ما سطّر بولس الرسول هذه الفقرة بالكامل بيده، ولذلك قال في بدايتها: “مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي“(غل 6: 11)، وهنا يفضح بولس الرسول أفكار المتهوّدين ويكشف عن قصدهم الخفي، إذ هم يريدون أن يفتخروا بأتباعهم ويتباهوا بأنهم استطاعوا أن يخضعونهم لعملية الختان، بينما وقف في مواجهتهم بولس الرسول يفتخر بصليب المسيا، الذي حقَّق لنا الخلاص والتبرّير، فهو وسيلة النصرة التي بها يموت الإنسان عن العالم، ويموت العالم بالنسبة له، ففي المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة التي حصل عليها الإنسان بالمعمودية، ثم يلتمس بولس الرسول منهم أن يكفُّوا عن الإزعاج ولا يجلبون عليه أتعابًا أكثر، لأنه حامل في جسده سمات الرب يسوع، وأخيرًا يمنحهم البركة الرسولية من خلال نعمة الرب يسوع، ويأتي الختام بكلمة “آمِينَ“ أي استجب يارب.
و”تتناول هذه الفقرة خاتمة رسالة بولس إلى الغلاطيين، وكم كان قلبه ملتهبًا غيرة واهتمامًا بمؤمني غلاطية وكنائسهم، لقد سمحوا بدخول المعلمين الكذبة إلى صفوفهم، حتى بدأ كثيرون من المؤمنين في الإصغاء إلى هؤلاء المعلمين الكذبة وإتباع تعاليمهم، فكانت الكنائس على شفا التحول عن اللَّه والقضاء على شهادتهم للمسيح وإرساليتهم للعالم. وحسب عادة بولس، كان يُملي رسائله على كاتب. وبينما كان يفعل ذلك، تعوَّد أن يختتم الرسالة ببركة موجزة وبتوقيعه. أما هنا وهو يُنهي رسالته إلى الغلاطيين ويختتمها، تناول القلم وختم الرسالة بتحذير خطير من المعلمين الكذبة، مع تقديم دفاع عن خدمته وعن الإنجيل. وأعلن ذلك في تعبيرات حاسمة: أنه على الخدام المؤمنين والعلمانيين بالمثل إلاَّ يفتخروا بشيء إلاَّ بصليب المسيح:
1 قسم هام يكتبه بولس بنفسه (ع 11) (والاحتمال الأكثر أنه كتب الفقرة بالكامل).
2- الخدام الكذبة الذين يريدون أن يظهروا في الجسد بمظهر حسن يسعون إلى الشعبية (ع 12 – 13).
3 الخدام الحقيقيون يفتخرون بصليب المسيح (ع 14 – 17).
4- الخاتمة: بركة النعمة (ع 18)“(412).
” اُنْظُرُوا مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي” (غل 6: 11).
اُنْظُرُوا.. أراد بولس الرسول أن يجذب أنظارهم لذلك ق-ال لهم “اُنْظُرُوا“، والنظر من أهم الحواس الخمس، فما ينظره الإنسان إذا ما تفاعل معه يتخلَّل أعماقه ويملك قلبه وعقله ويُحرِّك مشاعره ويستميل إرادته، ولهذا حذّرنا الرب يسوع قائلًا: “إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ“ (مت 5: 28).
اُنْظُرُوا مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي.. اعتاد بولس الرسول أن يملئ رسائله لمن يكتبها، كما أملى ترتيوس الرسالة إلى رومية (رو 16: 22)، فكان يكتفي بالتوقيع عليها علامة على أنها رسالة صحيحة وقانونية وليست مزيفة، فكان يمهرها بخط يده:
- “اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ ” (1كو 16: 21).
- “اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ. اُذْكُرُوا وُثُقِي. اَلنِّعْمَةُ مَعَكُمْ. آمِينَ” (كو 4: 18).
- “اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ الَّذِي هُوَ عَلاَمَةٌ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ. هكَذَا أَنَا أَكْتُبُ. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ” (2تس 3: 17، 18).
أما في هذه الرسالة نظرًا لخطورتها لم يختمها بالصورة التقليدية التي اعتدنا عليها إنما أمسك بولس بالقلم وسطَّر أطول شهادة بخط يده بحروف كبيرة، ليؤكد على أهمية الرسالة ومضمونها في التبرير بالإيمان.. لقد سطَّر هذه الفقرة بالكامل، بل أن القديس يوحنا ذهبي الفم يرى أن بولس الرسول سطَّر الرسالة كلها بخط يده بحروف كبيرة، ولكن من المؤكد أنه كتب على الأقل هذه الفقرة.
اُنْظُرُوا مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي.. ولماذا كتب بحروف كبيرة؟.. هناك احتمالان:
الأول: أن بولس الرسول كتب هذه الفقرة بخط كبير نظرًا لأهميتها، إذ يحذّر أولاده من خطورة المتهوّدين، ويفضح افتخارهم بعلامة الختان، بينما هو يفتخر بصليب ربنا يسوع، ويؤكد تارة أخرى بأن الختان لا ينفع شيئًا، ويجمّل القول: “فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ“(غل 6: 16)، وهذا يشبه ما نفعله في الكتب التي نصدرها إذ نضع بعض العبارات بخط ثقيل وبُنط أكبر.
الثاني: قد تكون الشوكة التي عانى منها بولس الرسول: “أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ” (2كو 12: 7) كانت خاصة بضعف شديد في الإبصار، ولذلك كان مضطرًا أن يكتب بحروف كبيرة..
وقال البعض أن يدي بولس اللتان اعتادا العمل الشاق في صناعة الخيام ليل نهار جعلته غير قادر على الكتابة، وهذا الأمر بعيد لأن خشونة اليدين لا يمنع استخدامهما في كل مناحي الحياة من أكل وشرب وكتابة، وقال آخرون أن بولس لا يجيد الكتابة، وهذا تجني على من تعلَّم الناموس تحت رجلي غمالائيل، وصار فيلسوف المسيحية.
“جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ” (غل 6: 12).
سعى المتهوُّدون لختان الغلاطيين بهدف:
1 أن يعملوا منظرًا حسنًا في الجسد.
2 أن يتجنب المسيحيون اضطهاد اليهود.
3 الافتخار بأجساد الغلاطيين أمام المتهوّدين في أورشليم.
جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ.. كان المتهوّدون والمعلمين الكذبة يدعون للختان كعملية تجميلية في الجسد، فكان اهتمامهم مُنصب على المظهر الخارجي وتعللوا بأن الخلاص لا يكمُل إلاَّ بالختان الجسدي: “وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا“ (أع 15: 1)، فهؤلاء يرغبون في مديح الناس، وبذلك جعلوا العبادة عبادة جسدية مرتبطة بعلامة في الجسد، ساعين نحو تجميع أكبر عدد لصفهم، فانطبق عليهم قول بولس الرسول: ” لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا“ (غل 6: 8).
هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا.. “هؤُلاَءِ” أي المتهوّدون والمعلمون الكذبة الذين ادَّعوا أنهم مسيحيون، وهم يسعون للعودة لليهودية، فيُلزِمون الغلاطيين بالختان، وهذا الإلزام ليس بالقوة والإجبار إنما بكثرة الإلحاح والإقناع بأنه لا خلاص بدون الختان، بينما لم يستخدم بولس الرسول لغو الكلام والحكمة البشرية والإلحاح في الكرازة، فهو لم يكن سياسيًا محنكًا، إنما كان سفيرًا للمسيح: “وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ.. وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ“(1كو 2: 1، 4)، وكان ثابتًا على المبدأ حتى لو اضطر إلى توبيخ رسول عظيم كبطرس الرسول ومعه برنابا وآخرون: “لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا” (غل 2: 14).
لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا.. قال البعض بينما شنت الدولة الرومانية على المسيحية والمسيحيين اضطهادًا شديدًا، فإنها كانت تعترف باليهودية كديانة لها أتباعها، ومن المعروف أن ما يميز اليهود عملية الختان، ولذلك فالإنسان المُختَتن ينجو من هذا الاضطهاد الروماني على أنه إنسان يهودي، كما أن الختان يحميه من كراهية اليهود وحقدهم، ولكن الجميع يعرفون مدى شجاعة المسيحيين، فقبل أن يُسألوا عن معتقدهم كانوا يعترفون بشجاعة عجيبة أنهم مسيحيون وهم يدركون تمامًا أن شهادتهم هذه إنما تقودهم إلى الاستشهاد، وكثير من الوثنيين غير المختتنين عندما كانوا يبصرون صبر الشهداء على العذابات ومحبتهم الصادقة لجلاديهم وفرحهم بالآلام، كانوا يعلنون إيمانهم بالمسيح على الفور وينالون أكليل الشهادة، ولذلك فأغلب الظن أنه لم تكن هناك علاقة بين الاختتان والاضطهاد الروماني، ولكن ربما كان الختان يهدئ من ثورة اليهود على المتنصرين.
لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا.. لئلا يُضطهدوا من اليهود كقول بولس الرسول: “وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ“(غل 5: 11)، فأراد هؤلاء المتهوّدون أن يمسكون العصا من المنتصف، فهم يُظهِرون للغلاطيين أنهم مسيحيون بل هم أشد تدينًا وتمسكًا بناموس اللَّه، ويُظهِرون لليهود أنهم ما زالوا يهودًا بدليل تمسكهم بالختان، أما بولس الرسول فيفضح هنا نواياهم هذه.
لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ.. شعر اليهود أن المسيحية قد سحبت البساط من تحت أقدامهم، واعتنق كثير من اليهود وكهنتهم الديانة الجديدة، فثاروا ضد المسيحيين، أما الغلاطيون فارتضوا أن يختتنوا لئلا يُضطهدوا سواء من الدولة الرومانية بحسب رأي البعض، أو من اليهود والمتهوّدين، ولم يريدوا أن يدفعوا تكلفة حمل الصليب، بل رأوا في الصليب عثرة، بل أن البعض صار عدوًا للصليب: “لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ“ (في 3: 18).
ويقول “الأب متى المسكين“: ” لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ.. كان كل ما يخافه هؤلاء اليهود المتنصرين شكلًا هو أن يُقال عنهم من اليهود المحاربين للمسيحية أنهم خضعوا لصليب المسيح وتقرَّبوا من المسيحيين، فكانوا يصنعون الختانة رعبًا من اضطهاد يهود أورشليم.. فالختانة التي أرادها هؤلاء المزعجون لمسيحيي غلاطية هي خوفًا من اضطهاد اليهود فقط”(413).
“كان هدف المعلمين الكذبة كسب تأييد أندادهم وأيضًا الهروب من الاضطهاد، سعوا وراء استحسان الناس وتأييدهم أكثر من تأييد اللَّه ومصادقته. رأى كثيرون.. في يسوع المسيح مخلص العالم، ولكنهم قبلوه فقط كإضافة للناموس.. (وقالوا) علينا الاقتراب من اللَّه بواسطة كل من الناموس ويسوع المسيح. وعليه، فلم يكن مستحبًا في ذلك اليوم إعلان أن يسوع المسيح وحده هو الطريق إلى اللَّه. أما الخدام الذين نادوا وأعلنوا أن المسيح وحده هو الطريق الوحيد إلى اللَّه، فقد اُضطهدوا سواء بالسخرية منهم، أو الاستهزاء بهم، والإساءة إليهم ورفضهم، والخادم الذي بشّر بالخلاص بصليب المسيح وحده، كان يُعتَقد أنه يعمل على تدمير الناموس والديانة الأساسية، وهكذا اُضطهد خدام الديانة، خدام الصليب، فكان الأمر يحتاج إلى شجاعة حقيقية للتصدي لهم وإعلان الحق. اختارت الغالبية الطريق السهل وذهبوا وراء المعلمين الكذبة ليتجنبوا الاضطهاد“(414).
“لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ” (غل 6: 13).
لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ.. من المفروض أن المختتنين يحفظون الناموس ولكنهم فشلوا فشلًا زريعًا في حفظ الناموس بكافة أحكامه وفرائضه، فشعروا بالإحباط، وعوضًا عن يسعوا لحفظ الناموس أرادوا أن يرضوا أنفسهم، فسعوا بكل جهدهم لختان الآخَرين لكي يكون لهم الفخر في أنهم اكتسبوا دخلاء جدد، فصاروا كمبشرين باليهودية، لأن الختان هو المدخل للعبادة اليهودية، وبذلك سقطوا في خطية الرياء: “لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ“ (مت 23: 3)، وصاروا مثل أولئك الذين صبَّ الرب يسوع عليهم الويلات: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا“(مت 23: 15).. لقد فشل المتهوّدون في حفظ الناموس، ومع ذلك ظلوا يجرون الآخرون لهذا الفشل، وبالطبع لم يقصد بولس الرسول أن يحفزهم لحفظ الناموس، لأنه لا يوجد إنسان يستطيع أن يحفظ الناموس في جميع أوجهه، إنما قصد أن يدينهم بسبب عدم أمانتهم، وكان الأولى بهم أن يتنبهوا إلى أنفسهم بدلًا من الافتخار على حساب الآخَرين.
ويقول “دكتور وليم آدي“: “معنى هذه الآية أن المعلمين المتهوّدين لم يلزموهم بالختان عن إخلاص بل للتخلص من الاضطهاد والحصول على المدح لكسبهم دخلاء كثيرين تمثلًا بفريسي أورشليم الذين كانوا “تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا” (مت 23: 15)، لأنهم بختنهم متنصري الأمم جعلوهم دخلاء اليهود وهذا كافٍ ليصرف عنهم غضب اليهود“(415).
بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ.. الذين يسعون للختان غالبًا ما يكون هدفهم الأول هو الافتخار، فهم يريدون أن يظهروا كمعلمين لهم تلاميذ وأتباع كثيرين، ويكفيهم فخرًا أنهم اقتنصوا عددًا لا بأس به من أتباع بولس الرسول، ويقول “بويس” Boice: “كان سعيهم محاولة لربح الآخَرين إلى نظام أُعلن إفلاسه لأنه لم يكن حتى ذوو الختان قادرين على حفظ الناموس”(416).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: ” لقد اتهم اليهود بني جنسهم من المسيحيين بإهمال عوائد الآباء، فهؤلاء إذ يجبرونكم على الختان يجدون فرصة الدفاع عن أنفسهم بواسطة جسدكم، ويصدون التهمة الموجهة إليهم. هؤلاء يرفضون اللَّه ليرضوا البشر، ويتصرفون بدوافع بشرية ليظهروا كمعلمين لهم تلاميذ“(417).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “من هم المختونون التي تتحدّث عنهم (آية 13) ضحية هؤلاء المبلبلين؟ بل هؤلاء المبلبلون المتمسكون بالختان. يتحدّثون عن الشريعة ولكنهم لا يعملون بها. هم لا يهتمون بأن يطيعوا اللَّه ويمجدونه بهذه الطاعة، بل يطلبون مجدهم الخاص حين يقنعونكم بالختان (يفتخرون بلحمكم الذي قَبِل الختان)، وفي غيرتهم على الشريعة، لا يطلبون رضى اللَّه بل رضى اليهود. هم يفتخرون بالجسد، أما بولس فكل فكره في يسوع ويسوع المصلوب“(418).
“وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ“(غل 6: 14).
وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. “وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي“، فهوذا بولس الرسول يُعبّر عن مشاعره الخاصة ليس من قبيل التفاخر والعظمة، ولكن لإعلان الحق، وهذا ما اعتدناه منه، مثل قوله: “الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي“ (غل 2: 20).. لقد كان لشاول الطرسوسي أمور كثيرة يفتخر بها، ولكن بعد إيمانه بالمسيح حسب كل هذه الأمور نفاية: “لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ“ (في 3: 7، 8). لقد تفاخر المتهوّدون بالختان وتحاشوا حمل الصليب والافتخار به لأنهم لم يكن لهم عشرة حقيقية وشركة مباركة مع المصلوب، فعمدوا إلى إخفاء الصليب لئلا يُضطهدوا من اليهود والرومان. أما بولس الرسول فسرَّ أن يرفع راية الصليب عالية خفاقة لأنه أختبر قوة الصليب الذي يُعبّر عن أشد وأقصى حالات الضعف والعار واللعنة، وأيضًا يُعبّر عن قوة اللَّه.. لقد صنع المسيح بالضعف، ضعف الصليب، ما هو أعظم من القوة، فبالصليب سُمّر الصك الذي علينا: “إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ“ (كو 2: 15).
الصليب بالنسبة لبولس الرسول هو الحرية من الذات: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ“ (غل 2: 20).
الصليب بالنسبة لبولس الرسول هو الحرية من الجسد: “الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ“(غل 5: 24).
الصليب بالنسبة لبولس الرسول هو الحرية من العالم: “الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غل 6: 14).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “هم (المتهوّدون) لهم فخرهم، وبولس له فخره: صليب ربنا يسوع المسيح (آية 14). معاذ اللَّه أن يجعل ثقته وفرحه إلاَّ في صليب المسيح. بهذه الكلمات يوجز بولس كل ما يفصله عن الشريعانيين. عالمان يتواجهان ولا يتفقان أبدًا: عالم الإنسان وافتخاره البشري، وعالم اللَّه الذي فيه يخضع الإنسان لمتطلبات الصليب. كان الصليب أداة شجب للعالم لما فيه من أنانية. هذا العالم الذي صُلب وما زال مصلوبًا في نظر بولس.. كانت الشهرة (والمجد) تحتل مكانًا جوهريًا في حياة الإنسان، ولقد ندد الرسول بافتخار الإنسان (أكان فريسيًا أم رواقيًا) بنفسه.. ولكن هناك افتخارًا شرعيًا يستند إلى اللَّه: “مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ” (1كو 1: 31، راجع إر 9: 24). والصليب الذي اعتبره الوثنيون أذلَّ الآلام، واعتبره اليهود لعنة، هذا الصليب صار مجد بولس“(419).
وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. لماذا يفتخر بولس الرسول بخشبة الصليب؟.. لأن السيد المسيح صُلِب على هذه الخشبة، فصار الصليب رمزًا للمصلوب عليه، ومن أجل هذا نحن نُكرّم خشبة الصليب التي صُلِب عليها ربنا يسوع، وكنائس عديدة في شتى أرجاء العالم تحتفظ كل منها بجزء صغير جدًا جدًا من هذه الخشبة بركة للأجيال، وتعتبر أنها تقتني كنزًا عظيمًا، والصليب هو عَلَمْ المسيحية الذي نرفعه أعلى كنائسنا ونُعلقه على صدورنا ونوشمه على أيدينا، وقد فعلت أمهاتنا قديمًا هذا إذ خشين الاستشهاد وترك أطفالهن للوثنيين فيشبون مثلهم، ولذلك كنَّ يضعن وشم الصليب على أيديهم، وأيضًا إذا مات الإنسان في ظروف غامضة يعرفونه من علامة الصليب، فيذهبون به للكنيسة للصلاة عليه، ودفنه في مدافن المسيحيين.. وفي نفس الوقت لنحذر من حفظ المظهر دون الجوهر، فأولئك الذين يظنون أن الصليب سواء من ذهب أو فضة هو قطعة ديكور أو علامة للزينة يخطئون، بل هو علامة الخلاص والنصرة والبركة، وهذا ما أدركه بولس الرسول بعمق فصار يفتخر بالصليب في الوقت الذي كان فيه الصليب رمز الذل والعار وتعبير عن أشد وأخطر حالات الإعدام، حتى أن المواطن الروماني كان يتحاشى النطق بكلمة “الصليب” لأنها تؤذي المشاعر، أما هو فقد أدرك أن الصليب حوَّل الخجل والخزي إلى فخار، واللعنة إلى بركة.
ويقول “الأب متى المسكين“: “وصعب جدًا على تصورنا أن يكون الصليب في أيام ق. بولس مصدر افتخار، عندما كان ذكر “كلمة” الصليب يصيب السامع بالفزع والرعبة والتشاؤم والإحساس بالفضيحة والهلاك، حتى أن ذكر الصليب كان مرفوضًا نهائيًا في الحديث والكتابة عند اليهود والأدب الروماني. والقديس بولس نفسه عبَّر عن وقع كلمة الصليب على الأسماع، عثرة عند اليهود وجهالة عند الأمم! ثم معنى الصليب في حقيقة المسيحية لا يزيد عن ذلك، فهو يعني الموت ظلمًا وعلى مستوى اللعنة والعار. فقول ق. بولس بعد ذلك بالافتخار بالصليب يكون أكبر مضادة حادثة بين الفخر والفضيحة“(420).
وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. ونحن الآن بعد مرور نحو ألفي عام على حادثة صلب ربنا يسوع، قد شهدنا على مدار التاريخ قوة وعظمة وبركة الصليب، والذين أنقذتهم والذين تنقذهم منظمة “الصليب الأحمر “ليدركوا أن هذه المنظمة تأخذ فلسفتها وشريعتها وقوتها من صليب ربنا يسوع المسيح، ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “يظن البعض أن الصليب علامة عار، ولكنه أمجد ما في الأرض وما في السماء، وكما نفتخر بفقرنا هكذا نفتخر بصليبنا. إن كلمة “فَحَاشَا” توضح منتهى فخر الرسول بالصليب أي فخر؟ إن المسيح أخذ عليه هيئة عبد، وتألم لأجلي أنا العبد والعدو، وأسلم نفسه للعنة عني. فلا نخجل إذًا في الحديث عن حب المسيح لأنه لم يخجل عن الصليب لأجلنا“(421).
ويقول “العلاّمة أوريجانوس“: “إن كان أحد يخجل من صليب المسيح، إنما يخجل من التدبير الذي به تُغلَب هذه القوات(كو 2: 15)”(422).
بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ.. قوله “رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ“ تأكيد على ألوهية السيد المسيح، فهو ربنا وإلهنا ومخلصنا ابن اللَّه الحي، وصليبه هو طريق الخلاص الوحيد، وقد ورد اسم “يَسُوعَ الْمَسِيحِ“ في هذه الرسالة القصيرة نحو 45 مرة أي ما يقرب من ثلث آيات الرسالة حملت ذلك الاسم الحسن المبارك، ويقول “دكتور وليم آدي“: ” إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. أي إلاَّ بموت المسيح على الصليب تكفيرًا لخطايانا بالنظر إلى كون ذلك أساس إيمانه ورجائه ومصالحته للَّه وكونه موضوع وعظة وغاية أتعابه وذكر مع اسم المسيح ألقابه تعظيمًا لشأنهِ. به أي بالصليب لكونه آلة صلبه وكان أولًا آية العار لأنه من أدوات قتل الأشرار لكنه بعدما عُلّق المسيح عليه كان أعظم آيات الافتخار لأنه كان يشير إلى الكفارة التي تمت عليه فداءً للعالم“(423).
الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ.. قوله “الَّذِي بِهِ“ تعود إما على الصليب أو على يسوع المسيح، وقد سبق بولس الرسول وقال منذ قليل في ذات الرسالة: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ“ (غل 2: 20)، وقال في موضع آخَر: “عَالِمِينَ هذَا أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ” (رو 6: 6)، فبالصليب يموت الإنسان عن الانشغال الزائد بأمور العالم الاجتماعية والسياسية التي تستهلك وقتنا وجهدنا، وبالصليب تصبح مباهج الحياة وملاذها كلا شيء، فقد صرت كمصلوب ميت، كل هذه الملذات والمسرات والشهوات لا تؤثر على عاطفتي ولا تشغل فكري، وهذا هو معنى “صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ“، فإنني مستعد في كل لحظة لتسمير كل هذه الأمور على خشبة الصليب، بل أنني مستعد لاحتمال الآلام والموت من أجل المسيح، فتعبير “قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ“ تعبير في منتهى القوة، يعبر عن موت العالم بالنسبة للإنسان المسيحي الأمين، فهو عالم مصلوب مقهور مغلوب وميت، كما يعبِّر عن موت الإنسان المسيحي بالنسبة للعالم لأن الإنسان صار مصلوبًا في حكم الميت عن هذا العالم، فلم يعد العالم بكل ما فيه يغريه ولا يستهويه، فأولئك الذين ماتوا عن العالم، صار العالم بالنسبة لهم عالم ميت: “لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ.. الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللَّه فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ“(1يو 2: 15، 17)، وجعلت الكنيسة هذه العبارة ختام لرسائل الكاثوليكون ليسمعها الشعب في كل مرة يحضر القداس الإلهي.
ويقول “متى هنري“: “كان الرسول ميتًا للعالم، إذ أنه في المسيح قد صُلِب العالم له وهو للعالم، الأمر الذي جعله يرتفع ويسمو فوق مسراته وأحزانه ومتاعبه، إذ أنه لم يبالِ به، لأنه كان ميتًا له ونحن نعلم أننا كلما ازداد تأملنا في آلام فادينا العزيز تضاءلت محبتنا للعالم”(424).
” الصليب يصلب العالم للناس: والناس للعالم. ما معنى هذا؟
أ – يصلب الصليب العالم للناس. فالعالم له كل أنواع الجاذبية التي تفتن الناس، والناس يشتهون ما يجذبهم، وما أكثر ما يشدهم ويغريهم، مثل:
* المكانة * القوة * القبول * التقدير * المال
* الجنس * الملذات * الشرف * الطعام * الممتلكات وتستمر هذه القائمة لتشمل كل ما يغري الإنسان ويفتنه على الأرض، ولكن ما هي نهايتها جميعًا؟ الفساد، الانحلال، الموت، والدينونة. وحتى الإنسان نفسه يشيخ ويموت، ويتحلَّل، فلا شيء على الأرض يدوم ويحيا إلى الأبد..
أرسل اللَّه ابنه إلى العالم، ليموت عن الناس وليحرّرهم من العالم. عندما مات يسوع المسيح على الصليب، حمل عقاب تعدياتنا. أخذ دينونة الناموس أي الموت الذي كان علينا أجرة تعدياتنا، وحمل هو الدينونة عنا، ولهذا فأي شخص يؤمن بموت يسوع المسيح عنه، فأنه يتخلص من عالم الموت هذا، إذ يعلن اللَّه أنه سيحسب هذا الشخص وكأنه قد صُلِب مع المسيح..
ب – ثانيًا: الصليب يصلب الناس (المؤمنين) للعالم. ما معنى هذا؟ عندما يموت المؤمن بالنسبة للعالم، فأنه يتخلى عن مفاتن العالم ومسراته وملذاته، ولذا يصير المؤمن غير منجذب للعالم، يرفض أسلوب حياة العالم ومباهجه، وكنتيجة لذلك، لا يستطيع أناس العالم أن يفعلوا شيئًا مع المؤمن، يريدونه بعيدًا عن طريقهم، يرغبون في عدم وجوده، بل وينظرون إليه وكأنه ليس موجودًا، كما لو كان شخصًا ميتًا بالنسبة لهم.. “(425).
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم: “ما يدعوه هنا العالم لا يعني السماء ولا الأرض، وإنما يعني شئون الحياة ومديح الناس والمجد والغنى وكل هذه الأمور التي تبدو للإنسان سامية. أما بالنسبة لي فكل هذه الأمور ميتة.. وأنا ميت عنها، لا تأسرني ولا تغلبني، لأنها ماتت مرة بالنسبة لي وإلى النهاية، إنني لا أشتهيها، لأني أنا ميت عنها. ليس شيء يمكن أن يكون مطوَّبًا أكثر من هذا الموت (عن هذه الأمور)، فإن هذا هو أساس الحياة المطوَّبة”(426).
ويقول “ماكدونل“: ” إن افتخار بولس غير مبني على الجسد البشري، لكن على صليب ربنا يسوع المسيح. فعلى ذلك الصليب مات العالم لبولس ومات بولس للعالم. وعندما يخلص الإنسان فإن العالم يودعه وهو بدوره يودع العالم. فلقد تلف بالنسبة للعالم لأنه لم يعد يهتم بملذاته الزائلة، إذ لم يعد العالم ليجذبه لأنه وجد الشخص الكريم الذي يشبعه بالتمام. يقول “فندلَي” Findlay : “لا يستطيع المؤمن أن يثق بالعالم ولا أن يفتخر به، ولا أن يحترمه فيما بعد. فقد خسر العالم مجده وفقد قدرته على إغراء المؤمن والتحكُّم به”، وهكذا فإن الصليب هو الحاجز العظيم أو خط الفصل الذي يتوسَّط بين العالم والمؤمن“(427).
ويقول “دكتور وليم آدي“: “صُلِبَ الْعَالَمُ لِي : قال هذا لأنه بالصليب زالت سلطة العالم عليه. كان قبلًا متمسكًا بالعالم ولكنه لما آمن بالمسيح مصلوبًا اتحد به واشترك في كل ما أصابه حتى صار العالم كمصلوب له وميت عنه منفصلًا عن اللَّه بالنظر إلى كونه مركز الأباطيل والشهوات المحرَّمة. ولا ريب في أنه أطلق العالم على كل الأمور الخارجية المحسوسة التي هي تجارب تقود إلى الخطيئة وكذلك كل رسوم الديانة من الختان وأشكاله.. ونظر بولس إلى آلام المسيح على الصليب باعتبار كونها آية محبته وواسطة فدائه..
إن الإنسان الطبيعي يميل إلى الافتخار بكل ما سوى الصليب من صيت ونجاح دنيوي وغنى ومقام، فلا يريد أن يصلب العالم له، لأنه شهد إعلان عظمته ومصدر لذاته.
وأنا للعالم: أي وأنا صُلِبتُ للعالم.. فالعالم في عيني المسيحي بلا رونق ولا جاذبية والمسيحي فَقَدَ كل شوق إلى العالم ولذّة به فإذا مات كل منهما عن الآخر فالأشياء العتيقة قد مضت والمسيح صار الكل وفي الكل، والمسيحي ربح بالصليب أكثر مما خسره بتركه العالم، فكان ذلك عوضًا عن احتقار العالم له وبغضه إياه، وفي هذه الآية ثلاثة أنواع من الصلب:
الأول: صَلبْ الرب يسوع المسيح القربان العظيم الذي بدونه لا قيمة لإنكار الذات ولا إمكان له، ولذلك قال الرسول “حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِه.”
الثاني: صَلبْ العالم المجرّب المحتال الذي يجتهد أن ينزع من النفس كل طهارة وإيمان، وقدرته على الخداع والأضرار تبرهنت بإهلاك ألوف وربوات كثيرة من الناس وقوة أباطيله وشهواته الجاذبة أُبطلت بالصليب كأنه عُلّق عليه ومات، وهذا ما دلَّ عليه قوله: “بِهِ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي“.
الثالث: صَلبْ الرسول للعالم، بدليل قوله: “وأنا للعالم” إشارة إلى كونه قد انقطع عن الاكتراث بالمدح البشري واللذة الدنيوية والمكاسب المحرَّمة وعن كَنز الكنوز في الأرض. وفي كل ما قاله في افتخاره بالصليب وحده أظهر رغبته في أن يقتدي به متنصِّرو غلاطية فيجعلوا الصليب موضوع افتخارهم“(428).
“لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ” (غل 6: 15).
لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ.. وهذا تكرار لما ذكره من قبل: “هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا.. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“ (غل 5: 2، 6)، وقد كرَّر نفس المعنى في رسائل أخرى: “لَيْسَ الْخِتَانُ شَيْئًا وَلَيْسَتِ الْغُرْلَةُ شَيْئًا بَلْ حِفْظُ وَصَايَا اللَّه“(1كو 7: 19).. “حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ عَبْدٌ حُرٌّ بَلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ“(كو 3: 11).
ومن هنا يتضح جليًا قصد معلمنا بولس في ترسيخ مبدأ هام وخطير، وهو أنه من المستحيل أن ينال الإنسان الخلاص عن طريق الختان ولا عن طريق الغرلة، بل طريق الخلاص الوحيد والتبرير هو الإيمان بالمسيح يسوع الذي وحَّد بين اليهود (الختان) والأمم (الغرلة) إذ صار الجميع واحد في المسيح يسوع: “رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللَّه” (أف 2: 19).
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “يعلن بولس أن الخلاص لا يحصل عليه ذوو الغرلة أي الأمم، ولا المختونين أي اليهود، بل الخليقة الجديدة أي المولودين ثانية في جرن المعمودية، فينالون الطبيعة الجديدة التي يحيون بها أمام اللَّه“(429).
ويقول
“دكتور وليم آدي“: “لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا وَلاَ الْغُرْلَةُ: أتى الرسول بهذه العبارة ثلاث مرات: مرة في (غل 5: 6)، ومرة هنا، ومرة في (1كو 7: 19)، وكمَّلها في الأولى بقوله: “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“، وفي الثانية بقوله: “بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ“، وفي الثالثة بقوله: “حِفْظُ وَصَايَا اللَّه“، فبدَّل أمرين ليسا بشيء في الدين بثلاثة أشياء جوهرية فيه:
الأول: “الإِيمَانُ” لكونه الآلة التي بها نتمسك بالمسيح.
الثاني: “الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ” التي هي نتيجة التمسُّك بالمسيح بالإيمان.
الثالث: “حِفْظُ وَصَايَا اللَّه” الذي هو علامة ظاهرة تدل على الإيمان والتجديد“(430).
لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئًا.. لقد ركز اليهود والمتهوّدون على الحرف وتركوا الروح، فجعلوا جلَّ اهتمامهم في الختان الجسدي، بينما تكلَّم الكتاب كثيرًا عن المعاني الروحية للختان:
- قال موسى لشعبه قديمًا:“فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ” (تث 10: 16).
- قال الرب على لسان إرميا:“اِخْتَتِنُوا لِلرَّبِّ وَانْزِعُوا غُرَلَ قُلُوبِكُمْ يَا رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ“ (إر 4: 4).
- قال الرب عن شعبه:“هَا إِنَّ أُذْنَهُمْ غَلْفَاءُ فَلاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَصْغَوْا“ (إر 6: 10).
- قال الشهيد إستفانوس:“يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ“(أع 7: 51).
وتحدّث بولس الرسول عن الختان المقبول قائلًا: “وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللَّه“(رو 2: 29)، وذكر الختان غير المصنوع بيد: “وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ بِخِتَانِ الْمَسِيحِ“ (كو 2: 11).. لقد رفع بولس الرسول الحياة “فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ على جميع أحكام الناموس وفرائضه وتدبيرات العهد القديم.
بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ.. إن كان آدم هو رأس الخليقة القديمة وقد أورثها الموت، فإن رأس الخليقة الجديدة هو الرب يسوع الذي أطلقها من قبر الموت إلى الحياة والنور والحرية، فالسيد المسيح هو “بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللَّه“(رؤ 3: 14) أي رأس خليقة اللَّه، فلا توجد خليقة جديدة بعيدًا عنه، فهو الذي جدَّد طبيعتنا، وصارت عبارة “الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ“ عبارة محبَّبة لدى كاروز الأمم، فقال: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا“(2 كو 5: 17)، كما قال: “الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ“(2كو 3: 6)، وأيضًا طلب من أولاده أن يخلعوا الإنسان العتيق ويتجدَّدوا: “وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللَّه فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ“ (أف 4: 24)، ونحن قد حصلنا على الخليقة الجديدة إذ تجدَّدت طبيعتنا في المعمودية، فقط علينا أن نحفظ هذه الخليقة بلا دنس لنستحق سكنى الملكوت: “لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ. وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا” (رؤ 21: 4، 5).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “وفي نظر بولس، لا يحتاج الوثنيون وحدهم إلى أن يُخلقوا من جديد، بل جميع البشر، سواء كانوا يهودًا أم يونانيّين (غل 2: 14، 15). فالفداء ليس عملية “تلزيق”: نزيد رقعة جديدة على ثوب بالٍ. الفداء هو استعادة للإنسان من الأعماق. وهذا ما عبَّر عنه بولس في (2كو 5: 17 – 18) “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ“. زال القديم (العالم القديم) وها هو الجديد (الواقع الجديد)، وهذا كله من اللَّه الذي صالحنا مع نفسه بالمسيح وعهد إلينا خدمة المصالحة..
هناك إثبات سلبي وهجومي. بدأ الرسول فرذل كل تعليم يجعل من الختان أو القلف (عدم الختان) واقعًا حاسمًا في الحياة المسيحية، ويأتي الإثبات الإيجابي، الوجود المسيحي هو الخليقة الجديدة. حين يخضع الإنسان خضوع الإيمان والحب لكلمة اللَّه الجديدة والخلاَّقة“(431).
“فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللَّه“ (غل 6: 16).
فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ.. كل الذين يسلكون، سواء يهود مختونين أو أمم غير مختونين، بحسب هذا القانون عليهم رحمة وسلام.. وما هو هذا القانون؟.. هذا القانون هو قانون التبرير بالإيمان وحده، وليس بختان الجسد، وبهذا نستطيع أن نفتخر بصليب المسيح الذي بدمه نلنا التبرير والخلاص، واستطعنا أن نخلع جسم الخطايا البشرية، ونقتني الطبيعة الجديدة بالمعمودية، فقد صرنا نعيش حياة جديدة بقانون جديد، هو قانون “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ“، وصرنا نعيش وصية جديدة هي وصية المحبة للجميع: “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا“ (يو 13: 34)، فالحياة بالإيمان العامل بالمحبة، وحفظ وصية المحبة، لا يمكن أن تنبع من الطبيعة القديمة بل من الخليقة الجديدة، وقال معلمنا بولس: “وَأَمَّا مَا قَدْ أَدْرَكْنَاهُ فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذلِكَ الْقَانُونِ عَيْنِهِ وَنَفْتَكِرْ ذلِكَ عَيْنَهُ“(في 3: 6).
عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ.. السلام هو التركة الثمينة التي تركها لنا الرب يسوع، وحيثما حلَّ سلام اللَّه فهناك الملكوت: “لأَنْ مَلَكُوتُ اللَّه بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ“ (رو 14: 17)، وقد سبق لنا الحديث عن السلام كثمرة من ثمار الروح القدس. أما الرحمة فهي رأفة اللَّه بنا ومحبته العظيمة لنا عبر الأجيال المتتالية، فهوذا العذراء مريم تسبح اللَّه قائلة: “وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ” (لو 1: 50)، وبحسب تعبير زكريا الكاهن: “بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ“ (لو 1: 78)، وقال اللَّه للكنيسة على لسان إرميا النبي: “مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ. سَأَبْنِيكِ بَعْدُ فَتُبْنَيْنَ يَا عَذْرَاءَ إِسْرَائِيلَ” (إر 31: 3، 4)، كما قال بلسان إشعياء النبي: “لُحَيْظَةً تَرَكْتُكِ وَبِمَرَاحِمَ عَظِيمَةٍ سَأَجْمَعُكِ. بِفَيَضَانِ الْغَضَبِ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ لَحْظَةً وَبِإِحْسَانٍ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ قَالَ وَلِيُّكِ الرَّبُّ. فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ“(إش 54: 7 – 10).
وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللَّه.. صارع يعقوب الرب حتى مطلع الفجر متشبثًا به ولم يتركه حتى نال منه البركة إذ غيَّر اسمه من يعقوب إلى إسرائيل، ومعنى اسم “إِسْرَائِيلِ“ أي “يجاهد مع اللَّه” أو “اللَّه يصارع”، فإسرائيل هو اسم البركة الذي نالها يعقوب من اللَّه بعد صراع طويل من خلال صلاة نارية بلجاجة لا تهدأ، وعبارة “وَعَلَى إِسْرَائِيلِ“ هنا لا تعني يعقوب ونسله بالجسد فقط، بل تعني كل من هو على إيمان يعقوب وإسحق وإبراهيم، ولذلك قال معلمنا بولس: “لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ.. إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ الْبِرِّ أَدْرَكُوا الْبِرَّ الْبِرَّ الَّذِي بِالإِيمَانِ“ (رو 9: 7، 30). إذًا لتستقر بركة اللَّه على إسرائيل الحقيقي، ليس شعب بني إسرائيل فقط بل كل الذين يؤمنون بابن اللَّه الوحيد هم شعب إسرائيل الجديد، سواء كانوا من اليهود أو الأمم، حتى صارت عبارة “إِسْرَائِيلِ اللَّه“ كناية عن كنيسة العهد الجديد التي تمَّم فيها اللَّه دعواه، وقديمًا قال المرنم: “أَمَّا الْعَادِلُونَ إِلَى طُرُق مُعْوَجَّةٍ فَيُذْهِبُهُمُ الرَّبُّ مَعَ فَعَلَةِ الإِثْمِ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ“(مز 125: 5).
“فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ“ (غل 6: 17).
فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا.. كانت عبارة “يَجْلِبُ أَتْعَابًا“ عبارة شائعة في اليونانية العامية وتعني “كفى إزعاجًا”، وهي نفس الكلمة التي استخدمها السيد المسيح تبارك اسمه وتُرجمت إلى إزعاج عندما قال عن المرأة التي طيَّبت جسده: “لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ“ (مت 26: 11)، وهذا التعب الناتج عن البدع والهرطقات التي تُولّد المشاحنات والانقسامات والانشقاقات، والتشكيك في رسوليته وإرساليته يحمل معنى سلبي، ويختلف تمامًا عن التعب المبارك في أعمال الكرازة والرعاية، وهو ما قال عنه بولس الرسول: “أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا“ (غل 4: 11).
وهذه العبارة “لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا“ تعكس مدى التعب والمعاناة والجهد الذي بذله رسول الأمم في مقاومة بدعة التهوُّد، وهو يتصدى لها كأسد لا يلين، وقد أشار لهذه الأتعاب عندما قال: ” وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ“ (غل 5: 11)، فكثيرًا ما أُضطهد من هؤلاء المتهوّدين والمعلمين الكذبة الذي تسلَّلوا إلى حقول الخدمة كثعالب صغيرة تفسد كل شيء: “لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ“ (2كو 11: 13)، هؤلاء افتخروا بأنهم يحملون في جسدهم علامة الختان، أما بولس الرسول فيفتخر بصليب المسيح وأنه حامل في جسده سمات الرب يسوع.
لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ.. مفرد “سِمَاتِ“ سمة وهو الوسم أو الوشم الذي يحمله الإنسان في جسده، وتوضع علامة الوسم على جسد الإنسان بواسطة الكي بالحديد المحمي بالنار، أو بوخز الإبر كما يحدث الآن في وشم الصليب على الرصغ اليمنى أو الذراع الأيمن، وكان قديمًا الوثنيون يوُشمون أنفسهم بعلامة الإله الذي يعبدونه لكيما يتفاخروا بهذا، وكنوع من الدعاية لهذا الإله، وأيضًا كان السادة يوسمون عبيدهم بعلامة ما Stigma تُوضّح ملكيتهم لهم، أو خدمتهم في معبد معين من معابد الأوثان، وربما هذا يشبه ما كان يحدث للعبد العبراني الذي يحب سيده ولا يريد أن يفارقه في السنة السابعة من خدمته أو سنة اليوبيل أيهما أقرب، فماذا كان يحدث؟.. “يُقَدِّمُهُ سَيِّدُهُ إِلَى اللَّه وَيُقَرِّبُهُ إِلَى الْبَابِ أَوْ إِلَى الْقَائِمَةِ وَيَثْقُبُ سَيِّدُهُ أُذْنَهُ بِالْمِثْقَبِ فَيَخْدِمُهُ إِلَى الأَبَدِ“ (خر 21: 6)، فهكذا أحب بولس الرسول سيده ووضع في نفسه أن لا يفارقه أبدًا بل يخدمه طوال حياته، ومن أجله حمل سماته.. وما هي هذه السمات؟ إنها آثار المسامير والحربة بعد مشوار الصليب الرهيب، وقد احتفظ بها السيد المسيح في جسده الممجد بعد قيامته من بين الأموات، وكيف حمل بولس عبد يسوع هذه السمات؟.. لقد حملها من خلال آثار الجلدات والضربات والميتات التي جاز فيها.. ألم يرجمه اليهود في لسترة إحدى مدن غلاطية“فَرَجَمُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ظَانِّينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ“(أع 14: 19)؟!.. لقد تركت كل هذه العذابات خطوطًا عريضة في جسده، فصار كاروز الأمم يفتخر بها كأوسمة ونياشين: “لأَعْرِفَهُ وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ“ (في 3: 10)، فسمات الرب يسوع التي يحملها هي شركة آلام المسيح كأقواله: “لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا“ (2كو 1: 5).. “حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ“ (2كو 4: 10).. ” الَّذِي الآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي” (كو 1: 24).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “ونتساءل: ما هي هذه “السمات” (ستغماتا) التي يحملها الرسول في جسده؟ تعني الكلمة في الأصل علامات من أي نوع كانت (حروف، وشم، طباعة بالحديد المحمي) تُذكّر العبد بانتمائه إلى سيد، والمبتدئ بارتباطه بعبادة من العبادات. فمن أساء إلى عبد أو إلى مبتدئ تلقى انتقام سيد العبد أو إله المبتدئ. يقول الرسول أنه يخص يسوع المسيح، لهذا يجب أن يُحتَرم هو وتُحتَرم سلطته“(432).
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “أنني أدافع عن نفسي بهذه الجراحات التي هي أقوى من أية براهين وأسمى من أية لغة، إذ تنطق كما بصوت أعلى من صوت بوق تجاه المقاومين، وضد القائلين أنني مرائي في تعليمي وأنني أتكلّم بما يرضي الناس. فإنه لا يرى إنسانًا ما جنديًا راجعًا من المعركة وقد غاص في الدم وبه آلاف الجراحات، ثم يجرؤ فيتهمه بالجُبن والخداع، متطلعًا إلى أن الجندي يحمل في جسده علامات بسالته، هكذا أنتم أيضًا إذ تحكمون عليَّ (مع أنني أحمل هذه العلامات)”(433).
ويقول “وليم باركلي“: “قال المدافع عن الحق في قصة سياحة المسيحي {إني أحمل معي علامات وآثار جراحي، لتكون شاهدي أمام ذاك الذي سيصبح الآن مكافئًا لي“(434).
” نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ” (غل 6: 18).
نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. بدأت الرسالة بالنعمة وها هي تنتهي بالنعمة، فهكذا ختم بولس الرسول الكثير من رسائله (رو 16: 20، 1كو 16: 23، كو 4: 18، 1تس 5: 28، 1تي 6: 22، 2تي 4: 22، فل 25)، فالنعمة تعتبر محور أساسي في تعاليم بولس الرسول، والنعمة هي هبة إلهيَّة يهبها للإنسان الذي لا يستحقها.
ويقول “الأب متى المسكين“: “والنعمة هي مركز عطاء اللَّه النابض، فهي قوة اللَّه التي يهبها مجانًا دون استحقاق من أحد بسبب شدة وجودها في طبيعته السخية والغنية، فهي التي تعبّر عن محبته المتأججة نحو الإنسان.. وهي أعظم ما نال ق. بولس فصارت أعظم ما يدعو به للكنائس. فهي طاقة إلهيَّة ديناميكية أي ذاتية الحركة الدائمة المنبثقة من طبيعة اللَّه تلهب قلب الإنسان بحب اللَّه ليبادله حبًّا بحب.. وبالتالي فهي قوة التجديد الدائم التي بها يتغير الإنسان بتجديد ذهنه بالإنجيل..
والإنسان الحائز على النعمة يجذب الروح ويبهج القلب، لأنه يسلّم العطية التي فيه دون أن يدري.. “وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ” (لو 4: 22)”(435).
نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ.. لم يقل بولس الرسول أن نعمة ربنا يسوع تكون معكم، إنما قال “مَعَ رُوحِكُمْ“ لأنه قصد أن يذكّرهم بما أوصاهم به من قبل، وهو السلوك بحسب الروح وليس بحسب رغبات الجسد وأهواءه، ويؤكد بولس الرسول على أخويتهم له “أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ فجاءت هذه العبارة الرائعة في نهاية الرسالة تُخفّف من حدتها، لأنها حوت في طياتها عتابًا شديدًا وتوبيخًا قاسيًا، ولا ننسى سواء أظهر معلمنا بولس حدة وقسوة في تعاليمه أو أظهر محبة ورأفة وترفُّقًا، فليس أمامه سوى هدف واحد وهو خلاص نفوس أولاده، وإن كنا لا نعرف كيف استقبل الغلاطيون هذه الرسالة وكيف كانت انفعالاتهم، لكن من المؤكد أن صرخات الكاروز الأمين لم تذهب أدراج الرياح ولم تضع سدى، فلا بد أنها أفاقت الكثيرين من غفوتهم، وقد ختم الكاروز رسالته بصلاة قصيرة يدعو فيها الرب للاستجابة، وهذه الصلاة هي كلمة “آمِينَ“ أي استجب، كما صلى سليمان قديمًا: “وَمُبَارَكٌ اسْمُ مَجْدِهِ إِلَى الدَّهْرِ وَلْتَمْتَلِئِ الأَرْضُ كُلُّهَا مِنْ مَجْدِهِ. آمِينَ ثُمَّ آمِينَ” (مز 72: 19).
ويقول “متى هنري“: “يختتم الرسول رسالته بالبركة الرسولية (ع 18) وقد دعاهم فيها إخوة، كما أنه يعبر عن تركه وبُعده عنهم بهذه الصلاة المؤثرة: “نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ“. لقد كانت هذه كلمات الوداع التي إعتاد الرسول استخدامها إذ كان يطلب لهم في صلاته بأن يتمتعوا بنعمة المسيح التي هم في أشد الحاجة إليها لتثبتهم في الطريق المسيحي، ولتشجعهم وتعزيهم في كل تجارب الحياة، وحتى في توقعهم وانتظارهم للموت نفسه. ورغم أن تلك الكنائس قد فعلت الكثير لتفقد تلك النعمة، إلاَّ أنه لاهتمامه العظيم بهم ورغبته الصادقة تجاههم فقد طلب أن تكون تلك النعمة مع أرواحهم حتى يختبروا باستمرار تأثيرها على نفوسهم. ونحن لا نحتاج لأن نشتهي ما يجعلنا سعداء أكثر من نعمة ربنا يسوع المسيح، ولتشجيعنا وتشجيعهم يضيف هنا كلمة “آمِينَ“(436).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “وهكذا بعد أن شرح الرسول موقفه بارك تلاميذه من كنز إلهي لا ينتهي، وهو يطلب البركة لأرواحهم ليجنبهم الجسديات ويربطهم بالإلهيات.. وفقد خاطبهم كإخوة داعيًا لهم أن يستمروا في النعمة مُحصنًا إياهم بضمانتين: الصلاة والتعليم. الأولى تمنحهم النعمة وتحثهم على الثبات فيها، والثانية تذكرهم بالبركات التي حصلوا عليها وهكذا نفض الرسول عنهم كل التعاليم الغريبة كترابٍ. والمجد للَّه دائمًا أبديًا آمين”(437).
الإسكندرية في
21 أكتوبر 2015م – 10 بابه 1732 ش
استشهاد القديس سرجيوس رفيق واخس
تفسير غلاطية 5 | تفسير رسالة غلاطية |
مراجع | |
أ/ حلمي القمص يعقوب | |||
تفاسير رسالة غلاطية | تفاسير العهد الجديد |