تفسير رسالة رومية اصحاح 1 للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير رسالة رومية – الإصحاح الأول

العظة الثانية:رو1: 1-7

بولس عبد ليسوع المسيح المدعو رسولا المفرز لإنجيل الله، الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة ” (١:١-٢).

1. بينما كتب موسى النبي خمس أسفار، إلا أننا لا نجد ما يشير إلى أنه هو كاتب أي من هذه الأسفار الخمسة، وهذا أيضا ما فعله الكتاب الذين أتوا بعده وكتبوا الأسفار اللاحقة. أيضا لا متى ولا مرقس ولا لوقا أو يوحنا أشاروا إلى أسماءهم على أنهم هم الذين كتبوا هذه الأناجيل، لكننا نجد المطوب بولس يضع اسمه في مقدمة رسائله، إذا ما هو السبب؟ السبب أن هؤلاء كتبوا إلى أناس عاشوا بينهم، واعتبروا أن كتابة أسمائهم يعد أمرا زائدا لا مبرر له. لكن الرسول بولس قد أرسل كتاباته من أماكن بعيدة ومتفرقة علي شكل رسائل، ولهذا كان من الضروري إضافة اسمه في هذه الرسائل.

غير أنه لم يكتب اسمه في الرسالة إلى العبرانيين، والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يقاومونه، فلكي يتجنب معارضتهم ومقاومتهم اذا ما وجدوا اسمه في مقدمة الرسالة، فقد لجأ إلى عدم كتابة اسمه حتى يسمح لكلمته أن تنتشر وتجد لها صدى لدى المستمعين إليها من العبرانيين، ولو أن بعض الأنبياء وسليمان كانوا قد وضعوا أسماءهم على كتاباتهم، فهذا أمر أتركه لكم لكي تفحصوه وتبحثوا لأي سبب وضع بعض الأنبياء أسماءهم ولم يضع البعض الأخر أسماءهم. لأنه لا ينبغي أن أخبركم بكل شيء بل يجب أن تتعبوا وتبحثوا من أجل المعرفة.

“بولس عبد ليسوع المسيح ” دعنا نعرف السبب الذي لأجله غير الله اسم شاول ودعاه بولس، السبب أن الله أراد لبولس ألا ينقصه شيئا عن باقي الرسل حتى في الاسم، لكي ينال ما حظي به أحد التلاميذ المختارين وأكبرهم، وبذلك يكون لديه دافع لمحبة أكبر. أمر آخر نلاحظه وهو أن بولس لم يدع نفسه ” عبد ليسوع المسيح ” هكذا مصادفة، لأنه في الحقيقة توجد طرق كثيرة للعبودية، منها على سبيل المثال، أننا كائنات مخلوقة ” لأن الكل عبيدك وأيضا يقول إرميا النبي ” هاأنذا أرسل فأخذ كل عشائر الشمال يقول الرب وإلى نبوخذ نصر عبدي ملك بابل ملك بابل “، لأن المخلوق هو عبد لخالقه. هناك طريقة أخرى للعبودية تأتي من الإيمان والتي بحسبها يقـول ” فشكرا لله أنكم كنتم عبيدا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي سمعتموها، واذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا لله” وعندما يقول الرب ” موسى عبدى قد مات” فهذه العبودية كانت بسبب فرادة موسى، لأنه وإن كان كل اليهود عبيدا، لكن موسى على وجه الخصوص هو الذي تميز عنهم بنشأته وتربيته.

وفقا لكل هذه المعاني كان الرسول بولس عبدا، وبدلاً من أن يعطى لنفسه أعظم الرتب قال “بولس عبد ليسوع المسيح ” ثم أخذ يستعرض الأسماء الخاصة بالتدبير الإلهي، صاعدا من أسفل إلى أعلى لأن اسم يسوع قد أحضره الملاك من السموات عندما بشر العذراء. وسمي بالمسيح من المسح، والذي كان يحصل للجسد أيضا . وقد يتساءل المرء وبأي زيت مسيح؟ إنه لم يمسح بالزيت لكنه مسح بالروح. وأين دعوا هؤلاء الذين لم يمسحوا بالزيت مسحاء، عندما قال “لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي ” لأن وقتها أيضا لم يكن إجراء المسح يتم بالزيت؟ 

” المدعو رسولا ” في كل موضع يصف القديس بولس نفسه “بالمدعو” مظهرا شكره وامتنانه للمسيح، لأنه لم يسع ولم يبحث عن المسيح، بل إن المسيح نفسه هو الذي دعاه، أما بولس فقد أطاعه لأن الدعوة هي من الله. بل إن المؤمنين أيضا يدعوهم القديس بولس هكذا ” مدعوين قديسين”، غير أن دعوة هؤلاء هي أن يصيروا مؤمنين، أما هو فقد استأمنه المسيح على عمل آخر، أي على العمل الرسولي المليء بالخيرات السمائية غير المحدودة وبكل المواهب وبالسمو اللائق. وما هو الإحتياج لأن أتكلم أكثر؟ سأشير فقط لما تكلم به المسيح عندما أتى، وعندما سلم الرسل عمل الخدمة وتركهم قائلاً لهم: “اذهبوا إلى العالم أجمع اكرزوا بالإنجيل إلى الخليقة كلها “، وكان عليهم أن يتمموا خدمتهم. هذا هو أيضا ما يعلنه الرسول بولس، مرفعا رتبة الرسل قائلا: “إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله ؛يعظ بنا.

” المفرز لإنجيل الله” ومثلما يحدث داخل البيت الواحد ، أن لكل شخص عمل معين يقوم به، هكذا داخل الكنيسة توجد خدمات متنوعة، لكن يبدو لي هنا أن الرسول بولس لا يشير فقط لاختياره ضمن خدامه لأجل عمل الخدمة، بل لاختياره الإلهي منذ البداية لهذا العمل الكرازي. هذا بالضبط ما جاء بإرميا النبي ” وقبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيا للشعوب”

والرسول بولس عندما يكتب “المفرز لإنجيل الله ” هو يعلن أنه يكتب إلى أهل رومية الذين يتباهون ويتفاخرون بأنفسهم، مما دفعه لأن يبين للجميع أن تعيينه للخدمة أتى من الله نفسه. لأن الله هو الذي دعاه والله هو الذي أفرزه. وهو يشير إلى هذا لكي يجعل رسالته أكثر قبولاً وتصديقا لديهم.

“لإنجيل الله” فكما أن متى ومرقس ليسا فقط من الإنجيليين، بل هما أيضا من الرسل، هكذا فإن بولس ليس رسولاً فقط بل هو إنجيلي أيضا، إذ هو مفرز “لإنجيل الله”. ولذلك يصف عمله وخدمته بأنها بشارة مفرحة أي ” إنجيل”. ليس فقط لأجل الخيرات التي أستعلنت، بل أيضا لأجل الخيرات التي ستستعلن في الدهر الآتي. لكن كيف يقول إنه يبشر بالله عندما يقول “المفرز”، “لإنجيل الله”؟ ذلك لأن (الله) كان ظاهرا قبل أن يبشر به، ومع أنه كان ظاهرا لليهود، لكنه لم يكن ظاهرا للأمم. وحتى في ظهوره لليهود لم يكن ظاهرا كما ينبغي، لأنهم لم يعرفوا أنه هو الآب، وتخيلوا أمور لا تليق به. لهذا أشار المسيح إلى أن الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، وأن “الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له”. وفي ملء الزمان عرف الآب مع ابنه في كل المسكونة، لأن هذا ما شهد به المسيح ” أن يعرفوك أنت الاله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” ولذلك وصف الرسول بولس كرازته بأنها “إنجيل الله”، وذلك لكي يبعث الفرح في نفوس المستمعين منذ البداية. لأنه لم يأت لكي يبشر بظلال كما صنع الأنبياء، أو ليتحدث عن مآسي أو عن مراثي، بل لكي يعلن أخبارا مفرحة عن الله ، وعن عطايا لا تحصي وخيرات أكيدة لا تنتهي، تلك التي وعد الله بها أنبياءه في الكتب المقدسة. لأنه يقول “الرب يعطي كلمة المبشرات بها جند كثير”. وأيضا ” ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير” 

2. أرأيت كيف يشير العهد القديم بشكل صريح ومحدد للدعوة الخاصة بهذه البشارة والطريقة التي ستتم بها؟ وهكذا يؤكد الرسول بولس أيضا على أن الكرازة بالإنجيل لم تكن بالكلام فقط، لكن بالأعمال أيضا ، فالعمل هو عمل إلهي ومعجزي ويفوق كل قدرات البشر. ولأن البعض يدعون أن “البشارة” بالإنجيل هو أمر مستحدث نقول لهم إن “البشارة” بشخص المسيح هي أقدم من عبادات الوثنيين، وكيف أن الأنبياء قد تكلموا عن “البشارة” في أسفارهم . لكن لو أن الإنجيل أي البشارة المفرحة بشخص المسيح لم تعط منذ البداية، فهذا راجع إلى ردود أفعال أولئك الذين لم يريدوا قبوله، لكن الذين قبلوه رأوا وسمعوا. هكذا يقول رب المجد “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح”” وإلا فكيف يقول: “إن أنبياء وأبرارا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا ” وأنت يجب عليك أن تنتبه، منذ متى قيل هذا الكلام؟ لأنه حقا عندما يريد الله أن يعد لأمر عظيم، فإنه يتحدث عنه قبل ذلك بسنوات عديدة، لكي يهيئ السامعين لقبوله.

” الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة ” (2:1).

فالأنبياء لم يتكلموا فقط، لكن سجلوا هذا الذي تكلموا به، ولم يكتبوا فقط، بل أعلنوه بأعمالهم، مثلما فعل إبراهيم، عندما قاد اسحق للذبح، ومثلما رفع موسى الحية في البرية ورفع يديه في مقابل عماليق، وذبح خروف الفصح.

” عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد ” (3:1).

ماذا تفعل يا بولس؟ لقد ارتفعت بنفوسنا إلى أعلى وجعلتنا نتطلع لأمور عظيمة فائقة، وتحدثت ليس فقط عن الإنجيل، بل إنجيل الله، وقدمت لنا أعمال الأنبياء، وكيف أن جميعهم كرزوا منذ سنوات بعيدة بهذا الذي سوف يحدث في أجيال لاحقة، إلا أنك تهبط بنا مرة أخرى إلى داود . أخبرني عن أي إنسان أنت تتحدث وكيف تتساوى هذه الأمور في القيمة مع كل ما قيل؟ نعم تتساوى وبشكل كامل، لأنه يقول إن الكلمة المتجسد ليس هو إنسان عادي ولهذا فقد أضاف “من جهة الجسد”، مشيرا إلى أن هناك ميلاد أزلى له. لكن لأي سبب بدأ بعبارة “من جهة الجسد” وليس من الميلاد الروحي؟ ولماذا لم يبدأ من أعلى وبدأ من أسفل؟ لأن متى ومرقس ولوقا أيضا بدأوا من ميلاده الجسدي، حيث أن هذا الميلاد الجسدي هو الذي يقود إلى السماء، فقد كان هناك احتياج وضرورة أن يقود الجميع من أسفل إلى أعلى. فالبشر رأوا المسيح في البداية كإنسان على الأرض، لكنهم عرفوه كإله. كما أعلن هو عن ذاته. هكذا أيضا فإن التلميذ (بولس) قد تبع نفس الطريق الذي يقود إلى أعلى. لذلك فهو يتحدث عن الميلاد الجسدي، لا لأنه كان أولاً، بل لأن الميلاد الجسدي لكلمة الله يقودنا لمعرفة ميلاده (الأزلى).

” وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسوع المسيح ربنا ” (4:1).

بعدما قال ” من نسل داود من جهة الجسد” يقول ” وتعين ابن الله” هذا الامر أضحى غير واضح بسبب تداخل الكلمات، ولذلك فالضرورة تفرض علينا أن نحلل ونشرح هذا الأمر. كونه آتي من نسل داود من جهة الجسد هو أمر واضح، لكن من أين يظهر أن هذا الذي صار إنسائا ، هو ابن الله ؟
أولاً: من الأنبياء، ولهذا قال ” الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب
المقدسة” وهذا الدليل يسمى بالدليل العادي البسيط.
ثانيا : من خلال طريقة الميلاد ذاتها ، لأن ميلاده فاق قوانين الطبيعة.
ثالثا : من خلال المعجزات التي صنعها ، وهذا ما يعنيه بكلمة (تعين بقوة).
رابعا : من خلال الروح الذي أعطاه لأولئك الذين آمنوا به، لأن من خلاله صاروا قديسين. ولهذا يقول ” من جهة روح ا القداسة” ة” فالله وحده هو القادر أن
يمنح هذه العطية.
خامسا : من خلال قيامة السيد لأنه هو فقط أول من قام. فهو الذي قال ” انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه””” وأيضا ” متى رفعتم الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو”” وقال لهم ” جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له إلا آية يونان النبي””. إذا فماذا تعني كلمة ” تعيّن”؟ تعني ذاك الذي أستعلن، الذي اعترف به الجميع، وتنبأ عنه الأنبياء، وولد بشكل معجزي كإنسان، وتأيد بقوة صنع المعجزات، وأعطى الروح القدس الذي بواسطته منح القداسة لآخرين، وأخيرا أستعلن من خلال قيامته التي بها أبطل سلطان الموت. 

يسوع المسيح ربنا الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم ” (5:1).

انتبه إلى امتنان العبد (بولس) الذي لا يريد أن ينسب لنفسه أي شيء، بل هو يؤكد على أن كل الأشياء هي من الله. خاصة وأن الروح القدس هو عطية الله. ولهذا يقول السيد له المجد ” إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع فيتكلم به ويخبركم بأمور آتية “.

وأيضا ” قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل” وفي رسالة الرسول بولس إلى أهل كورنثوس يقول ” فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد ” وأن ” هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء” ويقول لقسوس أفسس ” احترزوا اذا لأنفسكم ولجميع الرعية التي اقامكم الروح القدس فيها أساقفة.

هل لاحظت أن الرسول ينسيب للابن ما ينسب للروح، وما ينسب للروح ينسب للابن، ويقول: ” قبلنا نعمة ورسالة ” أي أننا لم نصير رسلاً بواسطة إمكانياتنا، ولم تصير رسلاً لأننا عانينا كثيرا وتعبنا، ولكن لأننا أخذنا نعمة، وهذه الإمكانيات هي نتيجة العطية الإلهية التي تهدف ” لإطاعة الإيمان”.

3. وعليه فليس الرسل هم الذين تمكنوا من نشر الرسالة، ولكن النعمة هي التي مهدت الطريق. لأن عملهم كان أن يجولوا وأن يكرزوا وأن يقنعوا ، لكن نعمة الله هي التي عملت معهم، كما يقول القديس لوقا ” ففتح ذهنهم وفي موضع آخر يقول “لكم قد أعطى أن تعرفوا أسرار ملكوت الله ” وهذه المعرفة هي “لإطاعة الإيمان” ولم يقل للبحث وأداء العمل، ولكن “لإطاعة” لأنه لم يرسلنا لكي نجمع مجموعة من الناس، بل لكي ينتشر عمل الله الذي استؤمنا عليه. وعندما يقول الرب شيئا، ينبغى على أولئك الذين يسمعون أن يقبلوه ببساطة، بدون أن يفحصوا ويبحثوا في هذا القول بارتياب، وكذلك لا يضيفوا شيئا من أنفسهم. فالرسل قد أرسلوا لأجل هذا، أي لكي ينقلوا ما سمعوه، ثم بعد ذلك لكي نؤمن نحن. وأتساءل بأي شيء نؤمن؟ وأقول نؤمن باسمه، ولا ننشغل بأمور تفوق العقل، بل نؤمن باسمه فقط، لأن باسم يسوع المسيح صارت المعجزات ” باسم يسوع المسيح الناصري قم وأمش” هذه الأمور تحتاج إلى إيمان، فلا يوجد شيء من هذه الأمور كلها يمكن أن نفهمها بالمنطق فقط.

ويضيف قائلا: لإطاعة الإيمان في جميع الأمم”. هل كرز الرسول بولس لكل الأمم؟ لقد جال من أورشليم حتى خليج إلليريكون، ومن هناك وصل حتى أقاصي الأرض، وهذا الأمر واضح من خلال ما كتبه إلى أهل رومية بقوله “لإطاعة الإيمان في جميع الأمم” فهو لا يتكلم عن نفسه فقط، ولكن عن الاثنى عشر رسولاً، وكل من بشر بكلمة الإنجيل من بعدهم. كما يلاحظ أنه يسمو بهذه العطية (أن الإيمان وصل إلى جميع الأمم)، ويظهرها أنها عطية عظيمة وأسمى بكثير من العطية القديمة السابقة، فلو كانت العطايا القديمة قد صارت لأمة واحدة، فإن هذه النعمة الجديدة تمثل دعوة لكل المسكونة.

ولاحظ من فضلك أن للقديس بولس نفسا نقية لا تعرف التملق أو المداهنة. فعلى الرغم من أنه يكتب لأهل رومية تلك المدينة التي تمثل المركز الحضاري لكل المسكونة في ذلك الوقت، فإنه لم يفضلهم عن باقي المسكونة، ولم يقل أنهم متميزون عن غيرهم في الروحيات، أو أنهم يسودون لأنهم يمتلكون القوة، لكنه يقول، كما نكرز بالإيمان لجميع الأمم، هكذا نكرز لكم. فهو يتحدث إليهم كما يتحدث إلى السكيثيين وإلى أهل ثراكي، معتبرا إياهم مثل غيرهم من الأمم من جهة الدعوة والإيمان، ولهذا نجده يخاطبهم قائلاً:

” الذين بينهم أنتم أيضا مدعوو يسوع المسيح ” (6:1).

أي أن مع هؤلاء الذي دعاهم من بين الأمم، هم أيضا (أهل رومية) مدعوین لهذا. لم يقل إنه دعي الآخرين (الأمم) معهم. حتى لا يشعروا بتميزهم على الآخرين وبقوله ” أنتم أيضا مدعوو يسوع المسيح” وقد أراد أن يوضح بذلك أنه لا يوجد عبد ولا حر، الجميع في المسيح واحد، فبالأولى كثيرا لا يوجد فرق بين ملك ومواطن عادي، لهذا فأنتم وهؤلاء قد دعيتم ولم تأتوا من تلقاء أنفسكم.

” إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح ” (7:1).

لاحظ كيف أنه باستمرار يستخدم عبارة ” المدعو”، فيقول ” المدعو رسولا”، وأيضا “الذين بينهم أنتم أيضا مدعوون”، ثم “إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين” وهو لا يفعل هذا بدون هدف يخدم كرازته، لكنه يريد أن يذكرهم بالدعوة الموجهة للجميع، لأنه كان طبيعيا أن يوجد بين المؤمنين قوم في رتب عسكرية، ونبلاء، وفقراء، ومواطنين بسطاء، وقد فعل ذلك لكي ينزع جذور التمييز بين الرتب والمناصب ، فهو يكتب في رسالته تحية واحدة موجهة للجميع . فإن كان في الأمور الأكثر أهمية، أي في الأمور الروحية، كل شيء مشترك بين العبيد والأحرار، مثل محبة الله، الدعوة، البشارة المفرحة، والتبني، والنعمة، والسلام، والقداسة، وكل الأمور الأخرى، فكيف لا يكون التمييز بين الناس على أساس الأمور الأرضية دليلاً على الحماقة الشديدة، خصوصا إن كان الله قد وحدهم وجعلهم متساوين في منحهم العطايا الأكثر سموا؟ لذلك نجد أن المطوب بولس ـ منذ البداية – يبعد هذا المرض المخيف ويقود الجميع نحو الاتضاع الذي هو أساس كل صلاح. فهذه المساواة في الأمور الروحية قد جعلت العبيد يشعرون بالإرتياح والرضا، لأنهم أدركوا أنهم لن يتضرروا من كونهم عبيدا، طالما قد امتلكوا الحرية الحقيقية. وأيضا جعلت السادة الأحرار معتدلين، لأنهم أدركوا أن أعمال الإيمان لابد وأن تسبق الحرية، وإلا فإنهم لن يحققوا أية فائدة من وراء تلك الحرية، وهو يعرف كيف يختار أقواله بشكل واضح ومحدد. ولذلك فإنه لم يوجه رسالته إلى جميع الذين في روما ، لكن بالتحديد إلى “أحباء الله”، وهذا هو أفضل تحديد، إذ يظهر أيضا من أين تأتي القداسة.

4. حسنا فمن أين تأتي القداسة؟ تأتي من المحبة، لهذا قال “أحباء الله” وحينئذ أضاف ” مدعوين قديسين ” موضحا أن من خلال المحبة نقتني كل الخيرات وكل صلاح. وهو يدعو كل المؤمنين قديسين ” مدعوين قديسين نعمة لكم وسلام” هذه هي المحبة التي تحمل خيرات غير محدودة، وهذه هي التحية التي طلب المسيح من الرسل أن يقولوها عندما يدخلوا البيوت، ولهذا فإن الرسول بولس كان على الدوام يبدأ بهذه التحية، أي بالنعمة والسلام. لأن المسيح لم يبطل حربا صغيرة، لكن حربا طويلة الأمد متعددة الأشكال والأساليب وأتى لنا بالسلام، ولذلك فإن هذا السلام لا يأتي بجهادنا نحن، لكن من خلال نعمته.

إذن فما دامت المحبة قد منحت النعمة، والنعمة منحت السلام، فقد تمني لهم أن يقيموا فيها دوما وبثبات، لكي لا تنشب الحرب مرة أخرى. ثم يترجى من ذاك الذي أعطى النعمة والسلام أن يحفظهما على الدوام بقوله: ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح”. وهنا هو يطلب من الآب وابنه يسوع المسيح معا. لأنه لم يقل لتكن لكم النعمة والسلام من الله الآب من خلال ربنا يسوع المسيح، لكن قال من الله الآب والرب يسوع المسيح . عجيبة هي محبة الله القوية. فالأعداء، والفجار صاروا قديسين وأبناء. وعندما يدعو المسيح قائلاً إن الله ابيه، فإن هذا يمثل إعلانا عن بنوته لله، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن تعبير “أبناء” يكشف عن عمق غنى صلاح الله.

إذن فلنتبع السلوك الحسن بالنعمة ولنحفظ السلام والقداسة. لأن الرتب والمناصب الأخرى هي وقتية وستختفي مع الحياة الحاضرة، بل وتشترى بالمال. وعليه فإن كيان الشخص الحقيقي لن يأتي بتقلد المناصب، لأن الرتب والمناصب لها فقط قوة في الزي، وفي تملق الحراس، بينما النعمة والسلام، لأنهما قد أعطيا من الله، فلن يستطيع ولا حتى الموت أن يوقفهما. النعمة والسلام يجعلاننا في حالة بهاء هنا في هذه الحياة، وترافقانا في الدهر الآتي أيضا . لأن الذي يحافظ على عطية التبني والقداسة بكل تدقيق، هو حقا مشرق وأكثر سعادة من ذاك الذي يرتدي التيجان وله الرداء الملوكي . بل إنه في هذه الحياة الحاضرة أيضا يتمتع بهدوء عظيم، متمسكا بالرجاء الصالح، دون أن يتملك عليه القلق والاضطراب، كما أنه ينعم بالفرح والشكر على الدوام. لأن المسرة والفرح لا تجلبهما – عادةً – السلطة الكبيرة، ولا الأموال الكثيرة، ولا حجم الملك، ولا قوة الجسد، ولا المأكولات الشهية والملابس المزينة، أو أي شيء من هذه الأمور العالمية الأرضية، بل فقط النمو الروحي والضمير الصالح هما اللذان يمنحان هذا الفرح وهذه المسرة. كما أن ذاك الذي يحمل ضميرا نقيا، حتى وإن كان يرتدي ملابس رثة ويتضور جوعا، فهو أكثر سعادة من أولئك الذين يحيون ي غنى فاحش، وبالعكس فمن يحمل ضميرا شريرا، حتى ولو إمتلك كل الأموال فهذا يكون الأكثر تعاسة من الجميع.

ولهذا فإن القديس بولس على الرغم من أنه عاش زاهدا، وفي عوز مستمر وتجرد، وكان يعاني من الآلام بشكل يومي، إلا أنه كان فرحا أكثر من ملوك عاشوا في عصور سابقة، وأعني آخاب على سبيل المثال. فعلى الرغم من أنه كان ملك وعاش في غنى كثير ووافر، لكن لأنه صنع الشر، فقد أصيب بالاكتئاب والضيق، وكان وجهه حزينا قبل وبعد الخطية. إذا فلو أردنا أن نتمتع بالفرح، فيجب علينا ـ قبل كل شيء – أن نتجنب الشر وأن نسعى نحو الفضيلة. فبدون هذا لن نستطيع أن نشترك في هذا الفرح الروحي. ولهذا فان الرسول بولس يقول في موضع آخر إن ” ثمر الروح هو محبة فرح سلام”. هذا الثمر يجب أن نبتغيه ونغذي به أنفسنا حتى نتمتع بفرح هذه الحياة، ونقتني الملكوت الآتي بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

فاصل

العظة الثالثة:رو1: 8-17

” أولا أشكر إلهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم ” (8:1).

1. يبدأ الرسول حديثه بشكر لله قبل أي حديث آخر، وهذه البداية تليق بتلك النفس الطوباوية التي للرسول بولس، وهو قادر أن يعلم الجميع أن يقدموا أعمالهم الصالحة، وأقوالهم وباكوراتهم لله، وأن لا يفرحوا فقط لأجل ما حققوه لأنفسهم، بل أيضا لأجل الغرباء، لأن هذا الأمر ينقي النفس من الفساد والكلام البذيء، ويجلب عطف الله على أولئك الذين يشكرونه. ولهذا فإنه يقول في موضع آخر ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية”^. والشكر لله ليس واجب على الأغنياء فقط، الفقراء أيضا، وليس على الأصحاء فقط، بل المرضى أيضا، وليس فقط المتيسرين، بل المعوزين أيضا. فالأمر ليس بمستغرب عندما يشكر المرء وهو في حالة متيسرة، بل الشكر واجب أيضا حين تواجه القارب أمواج عاتية ويكون معرض للغرق، وقتها يظهر البرهان الكبير على الصبر والامتنان. ولهذا فإن أيوب بسبب هذا الصبر ثوج إذ سد فم الشيطان، وبرهن بكل وضوح على أنه لم يشكر الله عندما كان غنيا وذا أموال كثيرة، بل كان يشكره دوما بسبب محبته الكبيرة لله.

لاحظ ما هي الأسباب التي لأجلها يشكر الرسول بولس، الأمور الأرضية الفانية، ولا لأجل السلطة والملك والمجد. لأن لا شيء من كل هذا يستحق الإهتمام . لاحظ أيضا كيف يشكر. لأنه لم يقل “أشكر الله” لكن “أشكر إلهي” وهو أمر قد فعله الأنبياء، جعلوا الله خاصتهم أو لاحظ ما الله؟ لا لأجل إلههم. وهل يعد أمرا غريبا لو فعل الأنبياء هذا، لأن الله ذاته كان يدعو نفسه إله إبراهيم واسحق ويعقوب؟ “

إن إيمانكم ينادى به في كل العالم” ماذا إذا؟ هل كل العالم كان قد سمع بإيمان أهل رومية؟ نعم لقد سمع الجميع عن إيمان أهل رومية من الرسول بولس، وهذا يعد أمرا منطقيا. لأن مدينة روما كانت مشهورة ومعروفة جدا، ومكانتها كانت تبدو من جميع الجوانب كما لو كانت فوق قمة عالية. وأرجو أن تُلاحظ قوة الكرازة وقوة الكلمة، وكيف أنه في مدة زمنية بسيطة ساد العشارون والصيادون على هذه المدينة التي هي قمة المدن، وكيف صار رجال سوريون معلمين ومرشدين لأهل رومية”.. إذا فقد حقق أهل رومية إنجازين:
1ـ أنهم آمنوا.

٢. وأن إيمانهم قد أستعلن مجاهرة وبلا خوف، حتى أن شهرتهم امتدت إلى كل الأرض لأنه يقول: ” لأن إيمانكم ينادي به في كل العالم“.

إن الإيمان هو الذي ينادي به، وليست المعارك الكلامية، ولا المناقشات ، ولا الأفكار. لقد ساد الإيمان على الرغم من أن معوقات الكرازة كانت كثيرة، لأن أهل رومية كانوا قد سادوا المسكونة قبل ذلك بقليل، أي قبل إيمانهم، مفتخرين، عائشين في الغنى والمتع . ثم قام صيادون يهود من أمة منبوذة، بتبشيرهم بالمسيح، ودعوهم أن يسجدوا للمصلوب الذي عاش في اليهودية، ومن خلال الإيمان بدأ المعلمون يعظون الناس ويحثونهم على حياة الزهد، وهم الذين تعودوا أن يعيشوا في رفاهية، ويشتهون الخيرات الأرضية بشكل كبير، مع أن هؤلاء الذين بشروا أهل رومية، كانوا أناسا فقراء وبسطاء ومجهولين، ومن آباء مجهولين، لكن لا شيء من كل هذا أعاق طريق الكرازة . بل إن قوة المصلوب كانت عظيمة جدا، حتى أنها نقلت البشارة إلى كل مكان، ثم قال إن إيمانهم “ينادي به في كل الأمم” ولم يقل إنه “ظهر”، لكن “ينادي” كما لو كان إيمانهم على كل الألسنة. هذا ما أكده أيضا لأهل تسالونيكي عندما كتب يقول: ” لأن من قبلكم قد أذيعت كلمة الرب ليس في مكدونية وأخائية فقط بل في كل مكان أيضا قد ذاع إيمانكم بالله حتى ليست لنا حاجة أن نتكلم شيئا “[1تس1: 8] لأن التلاميذ أخذوا مكانة المعلمين، معلمين الجميع بكل مجاهرة، وجاذبين الكل إليهم، لأن البشارة لم تتوقف في مكان ما، لقد كانت أقوى من النار، ووصلت إلى كل المسكونة. وحسنا قال عن الإيمان إنه “ينادي به” فظهر أنه لا يجب أن يضيف أو ينزع شيئا مما أعلنته الكرازة. لأن عمل المبشر هو نقل الرسالة فقط، ولهذا فإن الراعي يسمى مبشرا، لأنه لا يعلن عن نفسه أو تعاليمه هو، ولكنه يعلن عن من يرسله. 

فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه، شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم متضرعا في صلواتي ” (9:1).

2ـ هذا الكلام خارج من أحشاء الرسول المملوءة رأفة، ويكشف عن روح تتمتع بالرعاية والأبوة. لكن ما معنى هذا الذي قاله ولأي سبب يدعو الله شاهدا؟ لقد أراد أن يعبر لهم عما بداخله، ولأنه لم يكن قد رآهم حتى ذلك الوقت، فإنه لم يدع أي إنسان لكي يكون شاهدا ، ولكن دعى ذاك الذي يفحص القلوب، شاهد.

إذن بعدما قال إنهم محبوبون، أراد أن يدلل على هذا ، لذا قال إنه يصلي لہم بلا انقطاع، وأنه يأمل أن يأتي إليهم، ولما كانت هذه الدلائل غير معلنة ، فإنه لجأ إلى شهادة أمينة. وهنا يمكن أن نتساءل هل يستطيع أحد منكم أن يزعم بأنه يتذكر كل ملء الكنيسة عندما يصلي في بيته؟ لا أعتقد، لكن القديس بولس يصلي إلى الله، لا لأجل مدينة واحدة، بل لكل المسكونة ، وهذا حدث لا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات، لكن بلا انقطاع. ولن يحدث أن يتذكر المرء إنسانا معينا، إلا اذا كانت هناك محبة كبيرة تربطه به، ولهذا يذكره دوما في صلواته. أرأيت إن صلواته هذه هي دليل واضح على محبته الكبيرة تجاه الجميع.

وعندما يقول إن الله هو “الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه” يوضح لنا تواضعه تحت نعمة الله، لأن نعمة الله سمحت له بأمر عظيم جدا، وهو أن يبشر، ويظهر هذا التواضع بوضوح، لأنه ينسب كل شيء لمعونة الروح، لا لإمكانياته الخاصة. واستخدامه تعبير ” إنجيل ابنه” قصد به إظهار نوع الخدمة. وبالحقيقة إن طرق الخدمة كثيرة ومتنوعة، تماما مثل طرق العبادة. تماما كما في حالة الممالك، فالجميع خاضعون لواحد فقط هو الذي يملك، ولا يقدمون جميعهم نفس الخدمات، لكن واحد يهتم بخدمة وإدارة الجيوش، وواحد يدبر المؤن، وآخر يحفظ أموال الخزانة، هكذا أيضا في الأمور الروحية؛ واحد يعبد الله بأن يخدم ويدبر حياته حسنا، وآخر يتعهد خدمة الغرباء، وآخر يقوم برعاية من لهم احتياج. ومثل هذا الأمر نجده في حالة الرسل أنفسهم، هؤلاء الذين كانوا مع استفانوس ويخدمون الله، البعض في رعاية الأرامل، وآخرون في التعليم. ومن بين الرسل أيضا كان الرسول بولس يخدم الله بواسطة كلمة الإنجيل، وهذا كان أسلوب خدمته ولهذه الخدمة أرسل.

ولذلك فإنه لا يدعو الله شاهدا فقط، لكنه يتكلم عن خدمته التي تعهد بها، موضحا أن قيامه بهذه الخدمة العظيمة، لا يجعله يدعو ذاك الذي استأمنه على هذه الخدمة شاهدا، إن لم يكن لديه هذا اليقين وهذه الثقة. بل أراد ، أن يوضح أن محبته ورعايته لهم هو أمر ضروري. ولكي لا يقولوا له من أنت ومن أين أتيت، وكيف تقول أنك تعتني بمدينة كبيرة، ولها مكانة قيادية بين المدن، نجد أنه أوضح أن قيامه بمثل هذه الرعاية وهذا الإهتمام هو أمر ملح بالنسبة له. إذ كانت الضرورة موضوعة عليه، لكي يكرز هناك بالإنجيل. وكان يشعر باحتياج أن يذكر هؤلاء الذين كرز لهم بلا انقطاع.

الله الذي أعبده بروحي” هذه العبادة هي أسمى بكثير من العبادة الوثنية والعبادة اليهودية. لأن العبادة الوثنية هي عبادة كاذبة وجسدية، بينما العبادة اليهودية هي عبادة حقيقية، لكنها هي أيضا جسدية، لكن العبادة الكنسية هي عكس العبادة الوثنية، وأسمى بكثير من العبادة اليهودية. لأن عبادتنا ليست بذبائح وعجول ودخان ورائحة شواء، لكن هي عبادة روحية. هذا ما أعلنه لنا المسيح قائلا: “الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا “[يو4: 24]

 ثم يقول: ” في إنجيل ابنه ” لقد قال سابقا “المفرز لإنجيل الله (الآب)”، هنا يقول “إنجيل ابنه” أي أن هذا الإنجيل هو إنجيل الابن، لأنه تعلم من السيد له المجد أن كل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للآب. لأن المسيح يقول “كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي.

كيف بلا انقطاع أذكركم متضرعا في صلواتي “: هذا دليل محبة حقيقية. وما يقوم به الرسول بولس هو أمر واحد له عدة جوانب: “أنه يذكرهم” وهو يذكرهم “بلا انقطاع”، وهذا التذكر هو محور “صلاته” وأخيرا هو يفعل هذا، لأجل أمور عظيمة.

” متضرعا دائما في صلواتي عسى الآن أن يتيسر لي بمشيئة الله أن آتي إليكم. لأني مشتاق أن أراكم ” (10:1).

وهو هكذا نري أنه يشتاق لرؤيتهم ولا يريد أن يحدث هذا بدون مشيئة الله، بل أن تكون هذه الرغبة مقترنة بمخافة الله. لقد أحبهم وكان متعجلاً للذهاب إليهم، لكنه لم يرد أن يراهم بدون أن يتأكد أن هذه هي مشيئة الله، في هذا مدفوع بمحبته لهم، هذه هي المحبة الحقيقية، وليست كالمحبة التي يكون الأنا فيها، هو مركزها، أقصد أن هناك مسارين للسلوك فيما يختص بأسلوب محبتنا:
1. فإما أن لا نحب أحدا ،
٢ـ أو عندما نحب فإننا نحب بطريقة مضادة لمشيئة الله.
والحالتين هما ضد الناموس الإلهي. لكن لو كان مجرد الكلام عن المحبة يثيري نفس المستمع ضيقا، فهذا يعني أن ممارسة هذه المحبة ستسبب له ضيقا أكثر.

3. ويمكن للمرء أن يتساءل كيف نحب ويكون هذا بعكس مشيئة الله؟ يحدث ذلك، عندما نغض البصر عن المسيح الذي يتضور جوعا، بينما نعطي لأولادنا ولأصدقائنا ولأقاربنا أكثر مما يحتاجونه. هنا الأمر يتطلب أن نسترسل في حديثنا أكثر من ذلك، لأنه لو فحص كل واحد منا ضميره جيدا، لوجد أن هذا الأمر واردا في أمور كثيرة، لكن المطوب بولس لم يكن هكذا، لكنه عرف وتعلم كيف يحب، وأن تكون محبته كما ينبغي، وكما يليق، لاحظ إذا أن مخافة الله والاشتياق لرؤية أهل رومية ، موجودين بشكل كبير في قلب القديس بولس، لأن صلاته لهم بلا انقطاع، ودون توقف، هي دليل محبته الكبيرة، كما أن استمرار خضوعه لمشيئة الله في محبته لهم، هو دليل على تقواه العظيمة . تلك التقوى التي اتضحت في موضع آخر عندما تضرع إلى الرب ثلاث مرات لكي تفارقه شوكة الجسد ، ومع هذا لم يستجب له، وبالرغم من ذلك، فقد شكر الله كثيرا لأنه لم يسمع له. وهكذا نجده في كل الأمور كان ينظر نحو الله ويخضع لمشيئته. لكن هنا نجد أن الله قد سمع له، ليس عندما طلب، ولكن الإستجابة آتت فيما بعد. وهذا يوضح أن عدم إستجابة الله لطلبه في الحال لم يسبب  له أي ضيق.

هذه الأمور أقولها، لكي لا نتضايق عندما لا تستجاب صلواتنا في الحال. لأننا لسنا أفضل من الرسول بولس الذي يشكر في الحالتين، وهو إذ يصنع هذا يفعل حسنا جدا. لأنه وضع نفسه في يد ضابط الكل، وتحت سلطانه بخضوع كامل، مثل الطينة اللينة في يد صانعها، مسلما قيادة حياته لله وبعدما قال إنه يصلي لكي يراهم، يوضح سبب هذا الاشتياق لرؤيتهم. وما هو هذا السبب؟ السبب كما يقول:

” لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم ” (11:1)

فالقديس بولس لم يقم برحلات بلا هدف أو بلا معنى، كما يصنع الكثيرون الآن، لكن لضرورات ولأجل موضوعات ملحة جدا. وهو لم يرد أن يوضح سبب رحلته، لأنه لم يقل لكي أعلمكم أو أعظكم أو أكمل ما نقص، لكن قال “لكي أمنحكم هبة روحية” موضحا أنه لا يعطيهم شيئا مما له، لكنه يهبهم ما قد أخذه من الله. وقد فعل هذا من أجل ثباتهم. فثباتهم وعدم إهتزازهم هو من عمل النعمة. وعندما تسمع عن عمل النعمة، فلا تظن أن أجر تعب الخدمة قد ضاع، بسبب ذكر عمل النعمة، إذ أنه أراد فقط أن يقضى على الإفتخار بتعب الخدمة والتباهي به. فالحديث عن النعمة، لا يعني احتقار جهد الرغبة في الخدمة، وما أراده فقط، هو أن يقضي على الافتخار والزهو غير المقبول. إذا يجب ألا تعتمد على قوتك، لأن الرسول بولس دعى هذا التعب في الخدمة بالموهبة أو العطية. لأنه يعترف وبتواضع أن تعب الخدمة لا يرجع إلى إمكانياته الشخصية، بل إلى الموهبة المعطاة له، لأن هذه المواهب تحتاج إلى دعم وسند من الله، غير أنه بقوله “لثباتكم” أراد أن يوضح بشكل غير معلن أنهم محتاجون إلى تقويم. فما أراد أن يقوله هو: إننى كنت أصلي ومشتاق أن أراكم، لا لسبب آخر، إلا لأن أسندكم وأقويكم وأثبتكم في مخافة الله باستمرار، لكي لا تتزعزعوا. وبالتأكيد هو لم يتكلم هكذا لكي يجرح مشاعرهم، لكنه بأسلوب آخر يشير إلى هذا المعنى بدون تشديد أو تأكيد على هذا، إذ أنه عندما يقول “لثباتكم” فإنه يقصد هذا المعنى المشار إليه.

ثم بعد ذلك ـ لأن قوله كان ثقيلا على نفوسهم ـ لاحظ كيف يجعل قوله مقبولا ، وحتى لا يقولوا ماذا إذا؟ هل نحن مهتزين، ألسنا ثابتين، هل نحن في حاجة إلى كلامك لكي نثبت؟ لذا نجده يضيف قائلاً ” لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني” وبهذه الإضافة فإنه يزيل أي ارتياب يعتريهم. كما لو كان يقول لهم لا ترتابوا، فأنا أتكلم لا لكي أتهمكم، فكلامي لا يحمل هذا المعنى. لكن ما أريد أن أقوله هو إنكم عانيتم كثيرا من المضايقات والاضطهادات والعذابات من قبل الحكام والولاة، لذلك أردت أن أراكم لكي أعزيكم، بل من الأفضل أن أقول، لا لكي أعزيكم فقط، لكن لكي أتعزى أنا أيضا معكم.

4. أرأيت حكمة المعلم؟ قال أولاً ” لثباتكم” ولأنه يعرف أن هذا ثقيل ويضايق تلاميذه، فإنه أضاف ” لنتعزى”، ولم يكتف بهذا فقط، لكنه يقدم علاجا أكبر قائلاً:

” لنتعزى بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني ” (١٢:١).

يا لعظمة الإتضاع. لأن الرسول بولس بقوله هذا، يوضح أنه هو نفسه في احتياج لهم، وليس هم الذين كانوا في احتياج إليه. إنه قد وضع التلاميذ في موضع المعلم، دون أن يحتفظ لنفسه بأي امتياز، بل إنه أكد أيضا على المساواة الكاملة بينه وبينهم، لأن الربح سيكون مشترك، وذلك بقوله: إنه محتاج إلى تعزيتهم كما أنهم محتاجون إلى تعزيته.

وبأي وسيلة يتم هذا “بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني ” فكما أنه من الممكن أن يجمع المرء أكثر من شعلة لكي يوقدها ليحصل على نار أشد، هكذا أيضا بالنسبة للمؤمنين. فكما أنه عندما نوجد متفرقين في أماكن مختلفة، فإننا نكون حزاني أو متضايقين، لكن حينما يرى الواحد منا الآخر ونتعانق، فإننا نتعزى تعزية كبيرة. ولذلك يجب ألا تقارن ما يحدث الآن بما كان يحدث فيما قبل، فالآن توجد شركة بين المؤمنين في كل مدينة وقرية، بل وفي الصحراء حيث انتشرت التقوى وتلاشي غضب الله. لكن تأمل في ذاك العصر عندما كان يرى المعلم تلاميذه، وأيضا الأخوة يرون أخوة لهم آتين من مدن أخرى بعيدة، كم كانت فرحة اللقاء عظيمة.

ولكي أجعل ما أقوله أكثر وضوحا، سأتكلم بمثال، فلو حدث أن ذهبنا إلى بلاد الفرس أو إلى السيكيثيين أو بلاد البربر، وتوزعنا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة في هذه البلاد، ثم بعد انقضاء فترة من الزمن، رأينا فجأة شخص قد أتى من هناك، تخيل كم تكون التعزية التي سنحصل عليها، ألا ترون كيف أن المسجونين عندما يرون أحد أقاربهم، يمتلئون حيوية وفرح؟ فلو أننا شبهنا الظروف التي عاش فيها أهل رومية بالسجن والآسر، فيجب عليك ألا تندهش، لأنهم عانوا أمورا أكثر مرارة وقسوة مما يحدث في هذا السجن وهذا والآسر. لقد عانوا التشرد والاضطهاد، عانوا الجوع والحروب، وتعرضوا للموت كل يوم، والشك فيهم من قبل أصدقاء، ومعارف وأقارب، وعاشوا كغرباء في بلادهم. ولهذا قال “لثباتكم، لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا “. كما أنه قال هذا الكلام، لا لأنه يحتاج إلى مساعدتهم، فهذا الأمر كان مستبعد تماما. لأنه كيف يحتاج من هو عمود الكنيسة ، ومن كان في إيمانه أقوى من الحديد والصخر، ومن كان روحيا أصلد من الماس، ومن كان يملك قوة لحكم وإدارة مدن كثيرة؟ ولكن قال إنه هو أيضا محتاجا لتعزيتهم، كي لا يجعل كلمته قاسية وشديدة . ولو تساءل أحدكم قائلاً: طالما أن الرسول بولس مشتاق لرؤية أهل رومية، وأنه يصلي ويتضرع إلى الله أجل ذلك، وأنه سيتعزى هو نفسه وسيعزيهم، فما هو العائق الذي يمنعه أن يذهب إلى هناك؟ وهل أراد أن يرد على هذا التساؤل بما من أضافه قائلا:

” ثم لست أريد أن تجهلوا أيها الأخوة أنني مرارا كثيرة قصدت أن آتي إليكم ومنعت حتى الآن” (۱۳:۱).

أرأيت مثل هذا الخضوع الكبير ودليل الامتنان العظيم. يقول أنه منع، لكن لأي سبب منع؟ هو لا يجيب، وذلك لأنه لا يفحص أمر الرب، لكنه يخضع له فقط، وإن كان من الطبيعي أن نتساءل بدهشة كيف يمنعه الله عن الذهاب إلى مدينة مثل رومية تتمتع بحظ وافر من سبل الراحة والرفاهية ، وعظيمة جدا، كما أن نظر كل المسكونة كان يتجه إليها. أقول لقد منعه الله من الذهاب، حتى لا تتمتع هذه المدينة المتشامخة بمثل هذا المعلم العظيم. وهو لم يهتم بأى شيء، بل سلم نفسه لعناية الله غير المحدودة، مظهرا بذلك تقوى وحكمة، ومعلما إيانا ألا تحمل الله مسئولية ما يحدث حولنا ، حتى وإن كان ما يحدث يبدو أنه يسبب ضيق للكثيرين.

لأن عمل الله هو أن يعطي وصايا، وعمل العبيد هو الطاعة ولهذا فهو يقول لا تسألني عن قرار أو فكر الله “بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله. ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا[رو9: 20]  إذن لأي سبب تطلب أن تعرف؟ ألا تعرف أن الله يعتني بكل شيء وأنه كلى الحكمة، وأن عمله دائما بتدبير وليس بلا سبب، أو بدون هدف؟ وأنه يحبك محبة فائقة الوصف، وهذه المحبة تتجاوز رعاية الأب، وحنان الأم بكثير. يجب عليك الآن ألا تطلب أكثر من ذلك، لأن هذا الأمر يكفي للعزاء، لأنه حتى مطلب أهل رومية آنذاك كان قد تم تدبيره بحكمة كبيرة.

فعدم معرفة طرق الله في تعامله مع أبنائه، لا يدعو للتذمر، بل إن ذلك يبعث على الإيمان، بمعنى أن يقبل المرء الكلام عن تدبير الله، على الرغم من أنه غير مدرك لطريقة التدبير. 

5. وقد تمكن الرسول بولس من توضيح قصده، بمعنى أنه منع، على الرغم من رغبته في رؤيتهم والإشتياق الشديد إليهم، ولم تكن هذه مجرد رغبة عابرة، فقد أكد لهم على أن إشتياقه لرؤيتهم يفوق بكثير إشتياقهم لرؤيته. وقد بين محبته لهم من خلال أمور أخرى كثيرة، فلم يتوقف عن محاولته الذهاب إليهم على الرغم من أنه منع، وكان دوما يحاول الذهاب إليهم، ومع ذلك كان يمنع، لكنه لم يتوقف أبدا عن المحاولة، وهو في هذا لم يقاوم إرادة الله، فقد كان يحمل لهم محبة كبيرة على الدوام . وهو بهذه النية أيضا في محاولاته المستمرة الذهاب إليهم، قد أظهر محبته نحوهم، كما أنه أظهر محبة كاملة لله عندما أعيق عن الذهاب، ولم يقاوم إرادة الله .

ليكون لي ثمر فيكم” وعلى الرغم من أنه كان قد أعلن سبب اشتياقه إليهم كما سبق الاشارة، لكنه هنا يركز على إيضاح هذا السبب، لكي يزيل أي شكوك في نفوسهم. لأن مدينتهم كانت ذات شهرة ومتميزة في كل المسكونة، فكان الكثيرون يتكالبون على زيارة هذه المدينة فقط.

ولكي يزيل أي ظن في نفوسهم أو أي شك من نحوه، وأن زيارته لهم لم تكن بسبب شهرة المدينة وتميزها، بل بسبب اشتياقه لهم وارتياحه لمسيرتهم الإيمانية، فكان دائما يذكرهم بسبب اشتياقه لهم.

وكما سبق وقال لهم “لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم” هنا أيضا يقول لهم بكل وضوح ” ليكون لي ثمر فيكم كما في سائر الأمم” بمعنى أن الثمر هو للجميع. فبرغم كل الإنتصارات العظيمة والغنائم الكثيرة، ورغم الرتب والمناصب التي كانت للنبلاء، فإنه لا يفرق بين الرؤساء وبين المواطنين البسطاء، وهو محق في هذا لأن عطية الإيمان عندما توهب، لا يكون هناك فرق بين يوناني وبربري، ولا بين مواطن وأجنبي، الكل متساوون وفي نفس المرتبة السامية. لاحظ كيف يتكلم الرسول بولس باعتدال، لأنه لم يقل لكي أعلمكم أو لكي أعظكم، لكن “ليكون لي ثمر فيكم”، وهو لم يقل فقط ثمر بل “ثمر فيكم”. هنا لم يعظم من شأنه، وأيضا لم يعظم من شأن أهل رومية. لأنه يقول ” كما في سائر الأمم” أي لا لأنهم أغنياء أو لأنهم على ثراء أكثر من الآخرين، يبدي لهم اهتماما أكثر من الآخرين، لأنه لا يطلب منهم غنى، بل يطلب إيمانا فقط. ولعلنا نتساءل أين تأثير فلاسفة اليونان الآن، الذين كان لهم لحي كثيفة، ويرتدون ملابس ثمينة، ويفتخرون كثيرا بأنفسهم؟ إن كل بلاد اليونان وكل بلاد البربر قد قادها الخيام (بولس) إلى حظيرة الإيمان. بل إن أفلاطون الذي نال شهرة واسعة وحاز ثناء الكثيرين، عندما أتى إلى صقلية ليس لمرة أو مرتين بل لثلاث مرات، وكان الجميع متلهفين لسماع كلماته، لم يستطع أن يؤثر في أي حاكم مستبد، بل رحل عنهم وهو يجر أذيال الخيبة والمهانة”. وعلى العكس نجد أن الخيام (بولس) قام بالتبشير ليس فقط في صقلية وإيطاليا، بل وفي بلاد كثيرة . والجدير بالذكر أنه عندما كرز، لم يتوقف عن عمله، بل إنه استمر في نشاطه كصانع للخيام. وعمله هذا لم يقف حجر عثرة أمامه في كرازته للنبلاء، فلا الحرف ولا المهن المختلفة هي التي تقلل من شأن المعلمين، لكن الذي يجعلهم بلا قيمة هو الكذب والتعاليم المضلة.

وبينما يلتف أهل أثينا حول هؤلاء المعلمين الكذبة، نجد أن الرسول بولس يذهب إلى البربر والغير متعلمين والبسطاء، لأن الكرازة هي للجميع. وهو لم ينظر إلى الرتب المختلفة، ولا لأجناس متميزة ولا شيء من كل هذا، بل هو يحتاج فقط إلى إيمان، لا إلى الأفكار الفلسفية.

ولذلك فإن كرازته تستحق كل الإعجاب، ليس فقط لأنها أتت بثمر وقادت إلى الخلاص، بل لأنها بسيطة وسهلة ويفهمها الجميع، هذه الكرازة هي ثمر عناية الله الذي يغدق على الجميع بلا حدود. وهذه العناية نجدها في خلق القمر والأرض والبحر والأشياء الأخرى، فعطايا الله ليست للأغنياء فقط، بل للفقراء أيضا، فالجميع يتمتعون بخليقة الله بنفس القدر. هكذا أيضا دبر الله الكرازة للجميع. إذ أن الكرازة هي أكثر أهمية من هذه الأمور.

ولهذا نجد المطوب بولس يقول باستمرار ” في سائر الأمم”. ثم بعد ذلك يوضح لهم، كيف أنه لم يقدم لهم أي شيء من عنده، لكنه ينفذ وصية الرب فقط ويشكر الله من جهة جميعهم ويقول:

” إني مديون لليونانيين والبرابرة والحكماء والجهلاء ” (14:1).

وما يكتبه هنا إلى أهل رومية قد كتبه أيضا إلى أهل كورنثوس. وفي كل الحالات يعترف بهذا الدين لله.

” فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضا” .(15:1)

6. كم هي عظيمة خدمة القديس بولس، إذ أنه وضع على عاتقه عمل ضخم مليء بأخطار كثيرة، أخطار بحار، تجارب متنوعة، هجوم، ومواجهات عنيفة. وكان من الطبيعي أن يعبر على هذه التجارب الكثيرة، ما دام قد عقد النية على الكرازة في هذه المدينة الكبيرة التي إفتقرت إلى التقوى. هذا وقد انتهت حياته في هذه المدينة واستشهد بقطع رأسه على يد الإمبراطور نيرون”.

وعلى الرغم من أنه عانى ولاقى عذابات كثيرة، إلا أنه لم يحاول تجنب هذه الآلام مطلقاً. ومع كل هذه الآلام لم تخر عزيمته، ولم يتوان عن كرازته، بل كان دائما مستعدا للبشارة. ولهذا يقول: “ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية ” 

” لأني لست استحي بإنجيل المسيح ” (16:1).

 ماذا تقول يا بولس؟ لأنه كان ينبغي أن تقول “إني افتخر وأزهو ” لكنه قال: ” لست استحي” إذا لأي سبب تكلم هكذا وما معنى ذلك؟ ومع أنه كان يفرح لأجل الإنجيل، فقد كتب إلى أهل غلاطية قائلا “أما من جهتي فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح “”. إذا فلأي سبب هنا يقول “لست استحي” ولا يقول إني افتخر؟ السبب أن أهل رومية كانوا محصورين في أمور هذا العالم الحاضر، بسبب الغني الذي كانوا يتمتعون به، وبسبب السلطة والانتصارات الكثيرة، هذا بالإضافة إلى أنهم اعتبروا ملوكهم مساوين للإلهة، ولهذا أيضا بنوا لهم هياكل ومذابح، وقدموا لهم الذبائح. ولأنهم كانوا يفتخرون بوضعهم هذا، ولأن الرسول بولس كان ينوي أن يبشر بيسوع الذي اعتقدوا أنه ابن النجار الذي تربى في اليهودية في منزل بسيط، بلا حراس حوله ولا تبدو عليه علامات الثراء، بل إنه مات وأدين مع لصوص، وصبر على أمور كثيرة مهينة. من أجل هذا كله كان من الطبيعي أن يشعروا نحوه بالخجل، طالما أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد أي شيء عن الأمور السامية التي لم تستعلن لهم بعد. ولهذا قال ” لست أستحى” معلما إياهم، خطوة خطوة، ألا يستحوا ، لأنه يدرك أنه إذا تحقق هذا ، فإنهم سوف يتقدمون سريعا وسيصلون إلى مرحلة الإفتخار.

وأنت أيضا إن سمعت أحد يقول لك، هل تسجد للمصلوب؟ لا تخجل ولا تنظر إلى أسفل، بل يجب أن تفتخر وتزهو وتعترف بإيمانك برأس مرفوعة ولا تستحى. ولو قالوا لك هل تسجد للمصلوب؟ أجبهم إننى لا أسجد لشخص زانی، ولا قاتل لأبيه، ولا قاتل لأبنائه، لأن هذه الأمور تصنعها آلهتهم. لكن المسيح أسكت الشياطين وأعوانهم بصليبه، وقضى على أعمالهم المضللة. لأن الصليب بالنسبة لنا عمل محبة الله نحو البشر، تلك المحبة التي لا يعبر عنه. فالصليب هو رمز العناية الغير محدودة بنا. ولأن أهل رومية افتخروا بصناعة الكلام جدا، وانتفخوا بالحكمة العالمية، أتى الرسول بولس يبشرهم بالصليب وهو لا يخجل من ذلك.

لأن الإنجيل هو ” قوة الله للخلاص ” كما أنه هو الله قوة للدينونة. لأن الله عندما عاقب المصريين قال “جيشي العظيم الذي أرسلته عليكم”. وأيضا يقول: “خافوا بالحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم”. ولهذا يقول لهم الرسول بولس، بأنني لم آت لأبشركم بالأمور الخاصة بالدينونة، لكن لأبشركم بالأمور المختصة بالخلاص. ماذا إذا؟ ألم يبشر الإنجيل بهذه الأمور الخاصة بالدينونة؟ بلا، فالإنجيل يخبرنا أيضا عن الدينونة. وإن كانت هناك دينونة، فكيف يقول إذا إن الإنجيل هو ” قوة الله للخلاص”. اسمع ما يقوله فيما بعد “لكل من يؤمن لليهودي أولا ثم لليوناني”. إذا فالإنجيل ليس للجميع بشكل عام، ولكن لكل من يقبله، لأنه لو أنك يوناني، ولو فعلت كل شر، أو أنك سكيثي، أو بربري، ولو أنك ملىء بكل جهالة، محمل بخطايا كثيرة، فعندما تقبل البشارة بالصليب والمعمودية، فإن كل هذه الأمور سوف تختفي.

لكن لماذا قال هنا ” لليهودي أولا ثم بعد ذلك لليوناني؟” ماذا يريد بهذا الترتيب؟ فعلى الرغم من أنه في مواضع كثيرة قال: “لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة” فكيف يميز هنا، واضعا اليهودي أولاً ثم بعد ذلك اليوناني؟ وماذا يعني هذا؟ الترتيب هنا هو ترتيب شريف فقط، فهذا لا يعني أن اليهودي حاصل على نعمة أكثر لأنه أولاً، لأن نفس العطية أعطيت لليهودي واليوناني. كما في حالة المعمدين، فإن الجميع يذهبون للمعمودية، لكن ليس في الوقت نفسه، بل إن واحدا يذهب أولاً والآخر بعده. لكن الأول لا يأخذ نعمة أكثر من الثاني، بل الجميع يتمتعون بنفس النعمة. إذن فكلمة (الأول) هنا هي كلمة شرفية، وليس المقصود بها نعمة أكثر.

بعد ذلك، عندما قال “إنه قوة الله للخلاص” فإنه يعني أن العطية تتزايد ، مظهرا أنه لا يتحدث عن الأمور الحاضرة، لكنه فقط يشير إلى أمور الدهرالآتى. لأن هذا قد أوضحه قائلا:

“لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان. كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا” (١٧:١).
فهذا الذي صار بارا بالإيمان، سيحيا ليس فقط في هذا الدهر، ولكن في الدهر الآتي أيضا. كما أنه يشير إلى شيء آخر، وهو أن هذه الحياة هى حياة مشرقة وممجدة. لأنه من الممكن أن ينقذ المرء وهو غير مستحق، مثلما ينقذ الكثيرون ولا يتعرضون لعقاب بسبب إحسان الملك لهم، ولكي لا يتشكك أحد في هذا عندما يسمع عن الخلاص، يضيف كلمة “البر” والبر ليس برا ذاتيا، لكنه البر الذي من الله، مشيرا إلى أن هذا البر يمنح بإغداق. وبكل تأكيد، فإن المرء يحصل على هذا البر لا بجهد وتعب، بل كمنحة من الله. وهذه المنحة التي يقدمها الله هى عطية الإيمان.

وعندما يتحدث عن الزناة، ومضاجعى الذكور، ونابشي القبور، والمخادعين، بأنهم سينجون من العقاب، وليس هذا فقط، بل أنهم سيصيرون أبرارا وفي أعلى درجات البر، فإن حديثه هذا يبدو صعب التصديق. ولهذا فإنه يؤكد كلامه باستخدام شواهد من العهد القديم بقوله: ” كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا ونراه هنا يحيل المستمع لتدبير الله الذي اتضح في العهد القديم، ثم يشرحه بكل حكمة، عندما يكتب أيضا إلى العبرانيين، موضحا كيف أن الأبرار والخطاة، آنذاك قد تبرروا. ولهذا أشار إلى راحاب وإبراهيم. وهو لم يشر إلى ذلك فقط، لكنه أكد كلماته أيضا من أقوال الأنبياء، لأنه أشار إلى حبقوق في حديثه الذي نادى وقال ” والبار ايمانه
يحيا”. إذا لأن هذه الأمور التي يمنحها الله تتجاوز كل منطق، فإننا في احتياج إلى إيمان.
فليسمع الهراطقة هذا الصوت الروحاني. لأن طبيعة أفكارهم تشبه طرقات مظلمة، كما أن أقواليم معقدة، ولا يوجد فيها ما يبني، فهى تبدأ بالتعالي والزهو، لأنهم يشعرون كما لو أن قبول الإيمان يجلب الخجل،
ويعتقدون أنهم لا يعرفون شيئاً عن الأمور السمائية، وهم في ذلك يلقون بأنفسهم في سحابة كثيفة من غبار الأفكار الزائفة. أيها التعس والبائس، المستحق البكاء عليك لو سألك أحد ، كيف صارت السماء؟ وكيف جاءت الأرض؟ ولماذا أتكلم عن السماء والأرض؟ كيف ولدت أنت نفسك؟ وكيف تربيت وكبرت، ألا تخجل لجهلك؟ وإذا جاء حديث عن الابن الوحيد الجنس، فإنه بسبب خجلك من قبول الإيمان بالمسيح، فإنك تلقي بنفسك إلى حافة الهلاك، وهل تظن أن عدم معرفتك بكل الأشياء، هو أمر لا يستحق منك الاهتمام؟ لكن ما لا يستحق الاهتمام، هو الرغبة في المشاجرة والانشغال بموضوعات عديدة وغريبة في وقت غير مناسب.

ولماذا أتحدث عن الأمور الإيمانية؟ لأننا لن نتخلص من شرور هذه الحياة الحاضرة إلا بالإيمان. ولهذا فقد تميز كل من عاش بالإيمان، إبراهيم واسحق ويعقوب، وهكذا أنقذت راحاب الزانية، وهؤلاء الذين وردت أسماءهم في العهد القديم، وأيضاً الذين وردت أسماؤهم في العهد الجديد. لأنه يقول: “بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاه إذ قبلت الجاسوسين بسلام””. ولم تفكر في نفسها، كيف سيستطيع هؤلاء الأسرى والمنفيون والمهاجرون الذين يعيشون حياة ترحال “حياة البدو”، أن ينتصروا علينا نحن الذين نملك مدينة وأسوار وأبراج؟ لأنها لو قالت هذا، لدمرت نفسها وهؤلاء معا، الأمر الذي كابده أجداد هؤلاء عندما أنقذوا آنذاك. لأن الجواسيس ـ في القديم – بسبب عدم الإيمان، عندما رأوا أناس طوال القامة وعمالقة، انهزموا بدون حرب، لأنهم قالوا “لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا. فأشاعوا مذمة الأرض التي تجسسوها في بني إسرائيل قائلين الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها هي أرض تأكل مكانها. وجميع الشعب الذي رأيناه في هذه الأرض هم أناس طوال القامة فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم””. أرأيت كيف أن هوة عدم الإيمان، هي سحيقة بهذا القدر، وكيف أن سور الإيمان هو عظيم للغاية؟ لأن عدم الإيمان أهلك آلاف، بينما الإيمان لم ينقذ راحاب فقط، بل جعلها أيضا حامية لكثيرين. ولأنكم تعرفون هذه الأمور بل وأكثر منها، فلا ينبغي لنا أن نطلب من الله مسئوليته عن هذه الأمور التي تحدث، بل يجب أن نقبل ما يأمر به، لا أن تحلله ونفحصه كثيرا، حتى لو كان الأمر يبدو كأنه غير معقول بالنسبة للفكر البشرى . لأنه هل يوجد أمر يبدو غير معقول أكثر من أن يذبح الأب ابنه الوحيد؟ لكن إبراهيم البار عندما أُمر، لم يفحص هذا كثيرا، لكنه قبل وأطاع، وعندما أمر شخص آخر أن يضرب أحد الأنبياء في وجهه، ولم يخضع، فقد عوقب بالموت، لأنه فحص هذا الأمر ورأى أن هذا المطلب هو أمر غير معقول، بينما الآخر الذي أطاع وضربه شعر بالفرح. وعندما أنقذ شاول أناس بغير إرادة الله، خسر مملكته وعاني من أمراض غير قابلة للشفاء.

 وأمثلة أخرى كثيرة يستطيع المرء أن يجدها. ولذلك ـ من خلال كل ما تعلمناه ـ علينا ألا نطلب سبب أو دافع لتنفيذ أوامر الله، بل يجب أن نسمع ونخضع فقط. كما أنه من الخطورة أن نحلل الأوامر التي يأمر بها، إذ أن أولئك الذين يدققون كثيرا في أوامر الله، سيتعرضون لعقاب أشد. وبالحرى أولئك الذين يفحصون أمورا تفوق قدرات العقل البشري، أي كيف تم ميلاد الابن وبأي طريقة وما هو جوهره، أي دفاع سيقدمون عن أنفسهم وقتها؟ ولأننا نعلم هذه الأمور، فلنقبل الإيمان الذي هو تاج كل الفضائل، بكل امتنان وشكر، حتى أننا كمثل من يبحر في ميناء هادئ، نحفظ الإيمان المستقيم، ونقود حياتنا في أمان، وننال الخيرات الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة والكرامة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

فاصل

العظة الرابعة:رو1: 18-25

 

” لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم ” (18:1).

 ۱. لاحظ الطريقة التي يتكلم بها الرسول بولس، فبعدما نصح هؤلاء بممارسة الأمور الأكثر نفعا، تحول بحديثه إلى الأمور المخيفة. لأنه بعدما قال إن البشارة هي سبب الخلاص والحياة، كما أنها إعلان لقوة، الله وأنها تقود إلى الخلاص وإلى البر، نجده يتكلم عن الأمور التي من الممكن أن تسبب خوفا لأولئك الذين لا يحترسون . لأن العديد من الناس في كثير من الأحيان لا ينجذبون إلى حياة الفضيلة عن طريق الوعد بالخيرات الآتية ولا عن طريق الترهيب من الأمور المخيفة والمحزنة، بل إن ما يجذبهم فقط هو كلا الأمرين معا . وبهذا فإن الله لم يعد البشر بالملكوت فقط، بل حذر بالعقاب في جهنم . وهكذا تكلم الأنبياء إلى اليهود مشيرين إلى الأمرين معا، فدائما ما كانوا يذكرون الخيرات والدينونة. ولذلك ليس مصادفة أن يغير الرسول بولس أسلوب حديثه، وقد فعل ذلك بترتيب ولياقة، لأنه يذكر أولا الأمور النافعة، ثم بعد ذلك يتحدث عن الأمور المحزنة، موضحا أن الأمور النافعة تأتي من الله. بينما الأمور المحزنة تأتي من المتهاونين المتغافلين، هكذا أيضا نجد أن إشعياء النبي يشير أولاً إلى الخيرات ثم بعد ذلك إلى الأمور المحزنة قائلا: ” إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم”. وهو ما أشار إليه القديس بولس أيضا (عندما تحدث أولا عن الخيرات ثم تبع ذلك بالحديث عن الدينونة). لاحظ أن المسيح أتى لكي يهب الغفران والبر والحياة، لا بالكلام، بل بصليبه. إذن فالأمر العظيم والذي يدعو إلى الإعجاب، ليس أنه قدم كل هذه العطايا، بل لأنه عاني آلام الصليب.

فلو إنكم ازدريتم بهذه العطايا، فإنكم ستُدانون. وانتبه كيف يواصل حديثه إذ يقول “لأن غضب الله معلن من السماء”. فغضب الله يمكن أن يستعلن مرات كثيرة هنا في الحياة الحاضرة، مثلما يحدث في المجاعات، والأمراض، والحروب، حيث يعاقب الجميع، بشكل فردى وجماعى أيضا. وهل في هذا ما يدعو للدهشة؟ إن العقاب فيما بعد سيكون أكبر وأشمل، فما يحدث الآن يهدف إلى التصحيح والتقويم، لكن فيما بعد يكون العقاب، الأمر الذي عرضه الرسول بولس قائلاً:” ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان”. وإن كان بعض الناس الآن يعتقدون أن أمورا كثيرة محزنة تحدث في الحياة، بسبب سلوك الناس السيئ، وليس بسبب غضب الله. لكن في الدينونة الأخيرة سيكون عقاب الله علني، عندما يأمر الديان المخوف الجالس علي عرشه، بطرح البعض في البحيرة المتقدة بالنار، والبعض إلى الظلمة الخارجية، وآخرين لعقوبات أخرى أشد وأصعب.

ولماذا لم يتكلم القديس بولس بوضوح ويقول إن ابن الله سيأتي مع ملائكة كثيرين، ويجازي كل أحد بحسب أعماله؟ بل قال: “لأن غضب الله معلن”. لأن المستمعين إليه كانوا من المعمدين الجدد. ولهذا فإنه يوجههم أولا من خلال الأمور التي آمنوا بها وقبلوها. وأيضا يبدو لي أنه يتوجه بكلامه كذلك إلى الوثنيين، ولذلك فمن هنا يبدأ كلامه عن (غضب الله المعلن). بينما فيما بعد يوجه كلامه إلى موضوع الدينونة فيقول ” على جميع فجور الناس واثمهم الذين يحجزون الحق بالاثم ” هنا يوضح أن طرق الاثم كثيرة، بينما طريق الحقيقة واحد، لأن الخداع متنوع ومتعدد الأشكال وغير واضح، بينما الحقيقة هي واحدة.

ولما كان قد تكلم عن الأمور الخاصة بالإيمان، نجده الآن يتكلم عن أمور هذا العالم، مشيرا لفجور الناس وظلمهم. لأن الظلم أيضا كان كثير ومتنوع. بعضه متعلق بالمال، مثلما يحدث عندما يظلم أحد قريبه ويسلب هذا المال، والبعض الآخر يتعلق بالنساء، حينما يترك الرجل امرأته ويقوض زواج الآخر، بأن يطمع في زوجته. وهذا يسميه الرسول بولس طمع قائلاً: “أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر لأن الرب منتقم لهذه كلها ” والبعض الآخر يتعلق بالنساء والمال معا، وهم بهذا يدمرون حياة القريب. وهذا يعد ظلما، لأنه بالحقيقة “الصيت أفضل من الغنى العظيم والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب”. لكن البعض يقول إن هذا أيضا (أي الحديث عن الظلم الذي يقع على الناس)، قد تكلم عنه الرسول بولس من جهة الأمور الإيمانية، لكن لا يوجد ما يمنعه أن يتكلم عن هذا من جهة الأمور الإيمانية والعملية. ومعنى قوله “يحجزون الحق بالإثم” توضحه الآية اللاحقة ” لأن معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم” لكن هذا المجد (الخاص بمعرفة الله باطنيا) نسبوه إلى الخشب والحجارة.

۲۔ مثل ذاك الذي استؤمن على أموال الملك، ولديه أوامر أن ينفقها لأجل مجد الملك، فلو أنه أنفقها على لصوص، ونساء ساقطات، وأناس مخادعين وجعلهم في مظهر مبهر بهذه الأموال الملك، فإنه يعاقب لأنه بسلوكه الشائن هذا، يكون قد ظلم الملك جدا. هكذا هؤلاء أيضا قد اقتنوا معرفة الله ومجده، ثم بعد ذلك نسبوها إلى الأوثان، وبالظلم يحجزون الحق، فهؤلاء قد صنعوا الظلم، لأنهم لم يستخدموا المعرفة في الأمور التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها فيها. إذا ما معنى كل هذا؟ يعني أن معرفة الله قد وضعها الله في البشر منذ البداية، لكن هذه المعرفة نسبها عبدة الأوثان لخشب وحجارة، وهكذا حجزوا الحق، لأن الحقيقة تظل ثابتة، لأن مجدها أيضا ثابت غير متغير. فمن أين عرفت يا بولس أن الله قد وضع معرفته فيهم؟ لأنه يقول:

” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم ” (رو1: 19)

غير أن هذا لا يعتبر دليل، بقدر ما يمثل دينونة عليهم. لكن بين لي كيف أن معرفة الله كانت ظاهرة فيهم، وأنهم بإرادتهم قد احتقروها، فمن أين يتضح أنها كانت ظاهرة؟ هل نادي إليهم من السموات؟ لم يحدث هذا ، لكن الله الذي استطاع أن يجذب هؤلاء بواسطة أقواله، قد وضع أمامهم الكون، حتى أن الحكيم والجاهل، السكيثي والبربري، يستطيع أن يرى بعيونه ويفهم جمال الأشياء المرئية. وهذا كله يقوده إلى معرفة الله ولهذا قال:

” لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات بمجد قدرته السرمدية ولاهوته ” (۲۰:۱).

إن كان النبي قد نطق قائلاً: “السموات تحدث بمجد ا الله والفلك يخبر بعمل يديه . فماذا سيقول إذا عبدة الأوثان يوم الدينونة الأخيرة؟ هل سيقولون إننا لم نكن نعرفك؟ أو إننا لم تصغ لصوت السماء حينما تحدثت الله؟ إنه صوت النظام الكوني المتناسق، الذي ينادى بقوة أعظم من صوت النفير. ألم تروا قوانين الليل والنهار، فهي باقية في ثبات وبشكل مستمر، ونظام الشتاء والربيع والصيف والخريف الذي هو ثابت وغير متحرك؟ ألا يسبحه البحر بكل هذه الأمواج؟ إن كل شيء يتم في نظام، وبجمال وعظمة لتمجيد الخالق . كل هذا وأكثر منه، يلخصه الرسول بولس قائلاً: ” لأن أموره غير المنظورة ثرى منذ خلق العالم، مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر”. وعلى الرغم من أن الله لم يخلق الكون لهذا الهدف (أي لكي يعلن عن وجوده)، إلا أن هذا الهدف قد تحقق، أيضا لم يمنحهم المعرفة الكثيرة لكى يحرمهم من كل عذر، بل الهدف هو أن يعرفوه جيدا . ثم بعد ذلك يوضح كيف أنهم (أي عبدة الأوثان) فقدوا كل عذر فيقول لهم:

 

“وأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم” (٢١:١).

إنها أول مخالفة، حيث أن عبدة الأوثان لم يمجدوا الله وهذا إثم عظيم، والثانية أنهم سجدوا للأوثان، والتي بسببها اتهمهم إرميا قائلاً: “هذا الشعب عمل شرين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا مشققة لا تضبط ماء. ثم بعد ذلك يقدم دليلاً على أنهم عرفوا الله، لكنهم لم يستخدموا هذه المعرفة كما ينبغي. ولذلك فإنه يقدم الدليل على أنهم عرفوا آلهة أخرى. ومن أجل هذا أضاف “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه”.

ويشير إلى السبب في ذلك، أي السبب الذي لأجله سقطوا في الحماقة. وما هي هذه الحماقة؟ هي إنهم أخضعوا كل شيء لأفكارهم. ثم بعد ذلك، وجه لہم ضربة قوية، لأنه قال:

” حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي “.

وكما يحدث في ليلة غير مقمرة لو شرع شخص في السير في طريق غير معروف، أو في أن يصارع أمواجا، فإنه لن يصل إلى هدفه بل بالحري يضيع تماما. هؤلاء أيضا بعدما شرعوا في السير في الطريق الذي يقود إلى السماء، أطفأوا النور بأنفسهم، وتخلوا عن الله، ووثقوا في أنفسهم، أي أنه بدلاً من الثقة في الله خضعوا لأفكارهم غير المستقيمة، لأنهم حاولوا أن يحصروا الغير جسدي في أشكال وتماثيل، والغير محدد في شكل معين، وضعوا له أشكال محددة. ولذلك سقطوا في هوة سحيقة. وبالإضافة إلى كل ما ذكره، يشرح سبب آخر لرؤيتهم الخاطئة قائلاً:

” وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء ” (۲۲:۱).

لأنهم تخيلوا أنفسهم في وضع عظيم، ولم يقبلوا أن يسيروا في الطريق الذي حدده الله لهم، واستسلموا لأفكارهم الغبية. ثم بعد ذلك يشرح ويصف الأنواء والاضطرابات، كيف أنها مخيفة، وأن المتسببين فيها سيحرمون من الغفران قائلاً:

” وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات ” (۲۳:۱).

3ـ أول مخالفة أنهم لم يعرفوا الله،
والثانية أنهم لم يعرفوه رغم أن الشواهد على وجوده كثيرة وواضحة ،
والثالثة أنهم لم يعرفوه على الرغم من أنهم وصفوا أنفسهم بأنهم حكماء،
والرابعة أنهم لم يكتفوا بعدم معرفته، بل أنزلوه إلى مستوى التماثيل
والخشب والحجارة .

وهنا نجد أن الرسول بولس قد قضى على افتخارهم ـ كما في الرسالة إلى أهل كورنثوس ـ وإن لم يكن بنفس الأسلوب لأنه في تلك الرسالة قال: ” لأن جهالة الله أحكم من الناس” أما هنا فبدون أي مقارنات، يسخر من حكمتهم هذه، مظهرا أنها تافهة وسخيفة وتدل على تكبرهم وافتخارهم. ولكي تعلم أنه على الرغم من أن معرفة الله ظاهرة فيهم، إلا أنهم خانوا هذه المعرفة، إذ يقول “أبدلوا”، وهذا يعني أنه كان لديهم شيئا أرادوا إبداله بشيء آخر، فهم إذا قد أرادوا أن يحصلوا على شيء أكثر، ولم يقبلوا النواميس التي أعطيت لهم، ولهذا خسروا هذه النواميس، لأنهم ارتأوا أمورًا أخرى بعيدة عن الحق الإلهي.

إن مثل هذه الأفعال، منتشرة بين الفلاسفة اليونانيين، فقد كانوا مقاومين بعضهم لبعض، فأرسطو وقف في وجه أفلاطون، والرواقيون غضبوا من أفلاطون، والواحد صار عدوا لغيره، وبناء عليه لا ينبغي أن تعجب بهم من أجل ما ينادون به من حكمة بشرية، بل ينبغي أن تدير لهم ظهورنا . لأن أولئك الذين وثقوا في منطق هؤلاء الفلاسفة وأفكارهم وحكمتهم، صاروا حمقى وعانوا كل هذه المعاناة ، إذ أن الذين يبدلون “مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والدواب والزحافات” هؤلاء يستحقون السخرية. فبأي شيء أبدلوا مجد الله، ولمن نسبوا هذا المجد؟ لقد تخيلوا أن المادة إله وأنها ضابط الكل، وخالقهم، وهي تهتم بهم وترعاهم. أرأيت لمن نسبوا هذا المجد؟ ليس للبشر، بل لتماثيل بشبه صورة الإنسان الذي يفنى، ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلوا إلى مستوى الحيوانات المتوحشة أو بمعنى أفضل إلى صور هذه الحيوانات . لكن انتبه من فضلك إلى حكمة الرسول بولس، حيث أشار إلى الطرفين المتباعدين تماما، ونعني حديثه عن الله غير الموصوف الذي لا يعبر عنه، وحديثه عن الزحافات، لكى يبين إلى أي حد وصل جنونهم وحماقتهم. لأن المعرفة التي كان ينبغي عليهم اقتناؤها عن ذاك الذي لا يقارن بأي شيء في الوجود ، قد نسبوها للمخلوقات الدنيئة.

وقد يتساءل المرء ما هي علاقة هذه الأمور بالفلاسفة؟ العلاقة واضحة حيث أن كل الأمور التي ذكرناها، مرجعها نظريات الفلاسفة . لأن هؤلاء الفلاسفة اتخذوا المصريين الذين علموا بعبادة الأوثان معلمين لهم. حتى أفلاطون الذي يبدو أنه الأفضل، كان مولعا بهذه الأمور، وكان معلمه[1] متأثرا بهذه الأوثان. لأنه هو الذي نصح بأن تقدم ذبيحة من الطيور في معبد الأسكليبيوس[2] 

إن المرء يستطيع أن يرى في هذا المعبد أيقونات لحيوانات متوحشة وزحافات، بل إنهم كانوا يقدمون العبادة لكل من أبوللو، وديونيسيوس مع هذه الزواحف، كما أن بعض الفلاسفة رفعوا من مكانة الثيران والعقارب وحيوانات أسطورية أخرى إلى مستوى الآلهة . وهكذا نجد في كل مكان أن الشيطان يهتم بأن يسقط البشر في عبادة تماثيل وصور الزحافات، بل وأن يخضعهم لهذه الحيوانات غير العاقلة، مع أن هؤلاء البشر، هم الذين أراد الله أن يرفعهم أعلى من السموات، وليس هنا فقط، بل في مواضع أخرى، سترى أن هذا الفيلسوف (أفلاطون) ـ الذي يعد الأفضل بين الفلاسفة ـ هو مسئول عن هذه الأمور التي ذكرت . وهو (أي أفلاطون) عندما يستشهد بأقوال الشعراء، وينادي بضرورة أن يؤمن الإنسان بأفكارهم عن الله، لأن لديهم معرفة كبيرة وجيدة ـ حسب رأيه ـ فهو لا يقدم شيئا آخر سوى حماقة هؤلاء الشعراء. وهذه الأمور المضحكة، يطالبنا بأن نعتبرها أمورا حقيقية.

” لذلك أسلمهم الله أيضا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم ” (رو1: 24)

ما يذكره الرسول بولس هنا، يظهر أن الإفتقار إلى التقوى، قد صار سببا للإنحراف ولمخالفة قوانين الطبيعة. وكلمة “أسلمهم” هنا تعني تركهم. فكما أن قائد الجيش إذا ترك جنوده في الساحة التي يشتد فيها وطيس المعركة، فإنه بهذا يسلمهم إلى الأعداء، لا لأنه هو الذي دفعهم بين أياديهم، بل لكونه قد حرمهم من مساعدته. هكذا أولئك الذين لا يقبلوا كل ما لله، فإنه يحرمهم من عطاياه . فهو قد منحهم عقلاً وفكرا وفهما، يستطيعون من خلاله إدراك الصواب، غير أنهم لم يستخدموا شيئا من كل هذا لأجل خلاص نفوسهم، بل استخدموا هذه المنح في أمور غير لائقة بالمرة. إذن هل كان هناك شيء ينبغى على الله أن يفعله، ولم يفعله؟ هل كان من المفروض أن يجذبهم إليه بعنف وقوة؟ هذا لا يفعله ولا حتى البشر الأتقياء . لكنه تركهم، وهو الأمر الذي حدث بالفعل حتى يتجنبوا على الأقل هذه الحماقة، كي يتعلموا من خبراتهم الشهوانية السيئة . فلو قرر ابن للملك أن يعيش مع قطاع طرق، وقتلة، ونابشي قبور، مهيئا بهذا أباه ومفضلاً غنائمهم عن خيرات بيت أبيه، فإن أباه سيتركه حتى يستطيع ـ من خلال هذه الخبرة – السيئة ـ أن يدرك حجم ما اقترف من حماقة.

4. ولكن لماذا لم يشر الرسول بولس إلى خطية أخرى مثل القتل، والشراهة، وباقي الخطايا المشابهة، لكنه أشار فقط إلى النجاسة بقوله: “وأسلمهم الله أيضا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم “.  يبدو لي أنه يقصد المتلقين للرسالة والمستمعين إليها في ذلك الوقت  ثم يقول ” لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” لاحظ كيف يهاجم بقوة أموراً أخرى، إذ أنهم اشتهوا النجاسات التي سلمها لهم الأعداء، هذه فعلوها لإهانة ذواتهم. ثم بعد ذلك يفحص السبب ويقول: “الذين استبدلوا حق الله بالكذب وعبدوا المخلوق دون الخالق.

لاحظ أن الأمور التي تثير السخرية يصنفها بحسب نوعها، بينما تلك التي يعتبرها أكثر وقار من تلك الأمور، يشير إليها بشكل شامل، وفي كل هذا يظهر أن الإنسان الذي يعبد ” المخلوق دون الخالق” هو متأثر بالأعراف اليونانية . انتبه لطريقة عرضه، لأنه لم يقل فقط “عبدوا المخلوق” لكنه أضاف ” دون الخالق” مشددا في كل موضع على خطيتهم هذه، ويستبعدهم بهذه العبارة من نوال الصفح.

” الذي هو مبارك إلى الأبد آمين ” (رو1: 25)

هنا يقول إن الله لا يناله أي أذى، ولا يطاله شيء مما يفعله البشر، لأنه مبارك في كل الدهور، الله لا يدافع عن نفسه، فحتى لو أنهم تصرفوا وسلكوا بشكل مهين، فإن الله لا يهان، ولا يفقد شيء من مجده، بل يظل مباركا على الدوام.

فإن كان الإنسان الذي يسلك بحكمة لا يصاب بأي أذى من قبل الذي يهين، فبالأولى لا يمكن تصور أن الخالق يهان من أمور مثل هذه . فمجد الله ثابت غير متغير ودائم، والبشر الحكماء يصيرون مشابهين لله في هذا الشأن، إذ هم أيضا لا يعانون شيئا عندما يساء إليهم، ولا تلحق بهم الإهانة عندما يشتمون، ولا يصابوا بأي أذى من الهجوم عليهم، ولا يصيرون محتقرين عندما يحتقرهم الآخرون.

وقد يتساءل المرء كيف يحدث هذا؟ بالطبع يحدث هذا وأكثر منه عندما لا نتضايق أو نحزن من هذه الإهانات، وكيف يمكن ألا يتضايق الإنسان؟ أخبرني هل تعتبر تجاوز ابنك في حقك إهانة؟ أبدا، وهكذا ينبغي أن نسلك بمحبة تجاه القريب، وعندما نسلك هكذا فلن يصيبنا أي ضرر أو ضيق . لأن المسيئين هم حمقى، ولا ينبغي أيضا أن نطالبهم بالكف عن إهانتنا، وعند احتمالنا لهذه الإهانات نكتسب فخرا وكرامة واكليلا يتوج هاماتنا. ألا ترى أن الماس لا يخدش عند احتكاكه بشيء صلب؟ فهذه هي طبيعته وخاصيته، وأنت تستطيع أن تصير مثل هذا الماس بإختيارك وبكامل إرادتك الحرة . ألم تر الفتية الثلاثة في أتون النار وهم لا يحترقون؟ ودانيال الذي لم يصب بأي أذى في جب الأسود؟ فبالأولي جدا أن يحدث أمر مثل هذا الآن. فإنه يوجد بالقرب منا أسود مخيفة، أي الغضب والشهوة، ولها أسنائا قوية تفتك بذاك الذي يسقط فريسة لها . فلتكن مثل دانيال، ولا تسمح للشهوات أن تخدش نفسك الثمينة . لكن قد يقول قائل إن دانيال كانت ترافقه نعمة الله، هذا صحيح، لكن رغبته وإرادته النقية كانت قد سبقت هذه النعمة. وبناء عليه لو أردنا أن نصير مثل دانيال، فإن النعمة ستكون حاضرة الآن أيضا، حتى ولو كانت الوحوش جائعة فلن تقترب منا. فإذا كانوا قد احترموا جسد العبد (دانيال)، فبالحرى لن تقترب منا، لأننا صرنا أعضاء جسد المسيح، لكن لو حدث وهاجمتنا الأسود، فهذا يرجع إلى إرتكاب الآثام، لأن هناك أناس ارتبطوا بنساء ساقطات وقوضوا زيجات، ومن أجل هذا لاقوا انتقام الأعداء، لكن هذا لم يحدث لدانيال، ولن يحدث لنا إن أردنا، فالأسود لم تصب دانيال بأذى، ونحن أيضا لو كنا نحيا في الروح، فإن إهانة أولئك الذين يضمرون لنا الشر وظلمهم سيعود بالفائدة علينا.

وهكذا صار الرسول بولس أكثر شهرة من أولئك الذين أرادوا أن يصيبوه بضرر وأضمروا له الأذى، وأيوب أيضا تجاوز التجارب الكثيرة التي ألمت به، وإرميا جاز الجب المملوء قذارة، ونوح أنقذ من الطوفان، وهابيل صار معروفا من خلال المكيدة التي دبرت له وأدت إلى قتله، وموسى النبي أيضا تحمل تذمر وعصيان اليهود، كما أن إليشع وكل هؤلاء الأنبياء العظام لم يلبسوا الأكاليل المشرقة كنتيجة للراحة والتمتع، لكنهم جازوا ضيقات وتجارب كثيرة. ولهذا قال السيد المسيح لتلاميذه ” في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم “٤”. فيجب علينا إذا أن تصارع مع التجارب حتى المنتهى، والله قادر أن يسند الجميع ويمد يده لخلاص الكل، ولنتمتع بإشراقة المنتصرين، لننال الأكاليل الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة ، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

فاصل

العظة الخامسة:رو1: 26-27

” ولذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان, لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة. وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور” (٢٦:١-٢٧).

1. إن كل الشهوات الفاسدة هي بالتأكيد أمور مستهجنة، وبشكل خاص “الولع بالرجال”. لأن النفس الخاطئة تعاني كثيرا وتشعر بخجل وإرهاق أكثر مما تعانيه من أمراض الجسد. انظر كيف أنه هنا أيضا يقرر بأن هذه الأمور لا يصفح عنها، تماما مثلما حدث في الأمور الإيمانية (عندما عبدوا المخلوق دون الخالق)، فقد أشار إلى أن هذه الخطايا تُحرم مرتكبيها من الصفح. هكذا أيضا فإن النساء: “استبدلن الإستعمال الطبيعي ” ولا يمكن للمرء أن يقول كيف وصلوا إلى هذا الحد، ولا كيف انتهوا إلى هذا الداء الغريب، لأن هؤلاء الشواذ لم يتمموا رغباتهم بشكل طبيعي، فالذي يمارس الشذوذ، يصبح هذا التصرف شيمة له. هذا ما قاله الرسول من جهة الأمور الخاصة بالإيمان أيضا “الذين استبدلوا حق الله بالكذب”. وللرجال أيضا يقول نفس الشيء: ” تاركين الإستعمال الطبيعي للأنثى” ومثل النساء، كذلك الرجال أيضا قد حرموا من كل تبرير أو دفاع عن هذا السلوك الشائن، متهما إياهم ليس فقط من جهة الشهوة، بل أيضا لأنهم أهانوا الإستعمال الطبيعي للأنثى، وسعوا وراء الشذوذ.

فالسلوك الشاذ هو أكثر صعوبة وأكثر تعاسة، حتى أن المرء لا يستطيع أن يقول إن لديهم لذة. لأن اللذة الحقيقية هي اللذة التي وضعها الله في الإنسان. فعندما يتركنا الله، تصير كل الأمور في اضطراب وعدم انتظام . ولهذا لم تكن مبادئهم هي فقط التي من الشيطان، بل إن حياتهم أيضا كانت منقادة بواسطة الشيطان.

 فعندما تكلم الرسول بولس عن الأمور الخاصة بالإيمان أشار إلى الكون بكل ما فيه وإلى عقل الإنسان، حتى أنه لم يجد لهم عذرا. لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. ويقول إنه من خلال العقل الذي وهبه الله للإنسان كان من الممكن أن يعرفوا الخالق من خلال تلك الأمور التي ينظرونها ، لكن لأنهم لم يريدوا أن يفعلوا ذلك فقد صاروا خارج نطاق الصفح.

والملاحظ هنا أنه بدلاً من أن يتكلم عن العالم المرئي، فإنه يتحدث عن الشهوة التي وضعها الله في الإنسان، التي كان يمكن أن يتمتعوا بها بحرية أكثر، واستمتاع أكبر، وكان من الممكن أيضا أن يتخلصوا من كل خجل، لكنهم لم يريدوا. ولذلك فلن يصفح عنهم، طالما أنهم قد أهانوا الطبيعة نفسها أي طبيعتهم، والأمر الأكثر إهانة من هذا، هو إقدام النساء على ممارسة العلاقات الجسدية الشاذة فيما بينهن، وكان ينبغي عليهن الخجل منها أكثر من الرجال . وهنا ينبغي أن تعجب بالأسلوب الذي تناول به القديس بولس هذا الأمر، فهو بحسب الظاهر وقع بين أمرين متناقضين، إلا أنه قد نجح في عرض الأمرين بمنتهى الدقة وذلك عندما أراد أن يتكلم بوقار، وفي الوقت نفسه يستفذ المستمع إليه . هذان الأمران لا يجتمعان معا ، فإن أردت أن تتكلم بوقار، فلن تستطيع أن تستفذ المستمع إليك، ولو أردت أن تستفذه، فلابد أن يكون هذا الإستفذاذ بتعبيرات تتسم بالحكمة. ولهذا فإن الرسول بولس بكل حكمة وتعقل، استطاع أن يطرح الأمرين معا بدقة متناهية، من خلال الاشارة إلى الطبيعة البشرية، ووجوب السلوك بوقار وتقوى نحوها . وبعد التحدث عن مخالفات النساء يأتي إلى الحديث عن الرجال قائلا: “وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الانثى الطبيعي”. إن هذا الشذوذ يعد دليلا على السلوك المشين، وهو يوضح أن هذا التصرف بعيدا عن كل القيم الأخلاقية. فالرجل الذي تعين أن يكون رأسا للمرأة، وهذه المرأة التي أمرت أن تصير معينا للرجل، نجدهما يصنعا أمورا غير لائقة.

انظر كيف يستخدم الرسول الكلمات بتدقيق، لأنه لم يقل إن الواحد يحب الآخر، أو أن الواحد يشتهي الآخر فقط، بل “اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض”. أرأيت أن الشهوة تأتي من الشراهة. لأن هذه الشهوة لم تحتمل أن تبقى داخل حدودها الطبيعية. لأن كل شيء يتجاوز القوانين التي وضعها الله، يقود إلى أمور شاذة وغريبة، لكن لو تساءلت، ما الذي يجعل هذه الشهوة تسيطر؟ أقول الإبتعاد عن الله. والإبتعاد عن الله من أين يأتي؟ يأتي من الخطايا التي يرتكبها أولئك الذين ابتعدوا عنه وهم ” فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور”.

2. وعندما تسمع، أنهم “اشتعلوا” بشهوتهم فلا تظن أن هذا يعود إلى الشهوة فقط، لأن الجزء الأكبر من هذه الشهوة يعود إلى عدم مبالاتهم التي أشعلت هذه الشهوة . ولهذا لم يقل إنهم انجذبوا أو أنهم كانوا محصورين بالشهوة، الأمر الذي قاله في موضع آخر، لكنه قال ” فاعلين” واعتبر الخطية عمل، وليس فقط عمل عادي، بل هو عمل مدروس. ولم يقل شهوة بل قال “الفحشاء” بالمعنى الحصرى. لأنهم بالحقيقة أخجلوا الطبيعة وداسوا على القوانين. ولاحظ أن هذا السلوك الشاذ لم يمارس بين الرجال فقط، بل بين النساء أيضا، فقد صارت الأمور على غير طبيعتها فيما بينهم، وصاروا أعداء لأنفسهم ودخلوا في حرب مخيفة تجاوزت حتى الحروب الأهلية، حرب كثيرة الأشكال ومتعددة الأساليب، لأنهم قسموا هذه المعركة إلى أربعة أنواع تتسم بالحماقة والمخالفة. لأن هذه الحرب لم تكن معركتين أو ثلاث بل هي أربع معارك كما سنوضح فيما يلي.

لأنه من الطبيعي أن الرجل والمرأة هما واحد، إذ يقول الكتاب “ويكونان جسدا واحدا “. الله جمع الجنسين فيما بينهما، غير أن الشيطان دمر هذه الوحدة، وغيرها إلى أسلوب آخر، لقد فصل الجنسين فيما بينهما، وجعل الواحد يصير اثنين، بعكس القانون الالهي. لأنه يقول: “ويكونان جسدا واحدا [تك2: 24] بينما نجد أن الشيطان قسم الواحد إلى اثنين. هذه هي الحرب الأولي وأيضا هذان الاثنان (الرجل والمرأة) قد جرهم إلى حرب ضد أنفسهم وحرب فيما بينهما. لأن النساء أهانوا بعضهن البعض، وليس فقط الرجال، والرجال أهانوا بعضهم البعض وأيضا أساءوا إلى جنس النساء، تماما كما لو كانت معركة في ظلام الليل، في كل هذه الحروب التي أوردناها ، نجد أنهم قد خالفوا الطبيعة نفسها. إذن عندما رأى الشيطان إن إرادة الله تجمع الاثنين في واحد، اهتم أن يدمر هذه الوحدة. ويقطع هذه الرابطة، حتى يقضي على الجنس الإنساني، ليس فقط بألا يتكاثر الناس بشكل قانوني، بل من خلال جذبهم إلى حرب فيما بينهم.

” نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق” .

لاحظ كيف أنه يعود مرة أخرى إلى ذكر مصدر الشر، الضلال الذي يأتي من السلوك المنحرف، قائلا إن هذا الجزاء يأتي كنتيجة لهذا السلوك . ولأنه يتحدث عن جهنم وعن الجحيم، فقد صار هذا السلوك مثارا للسخرية لهؤلاء المضلين الذين فضلوا أن يعيشوا بهذه الطريقة الشهوانية ، لذلك فهو يبين كيف أن الجحيم هو في هذه الشهوة، وفي هذه اللذة المنحرفة. وتتحير وتندهش عندما تراهم يبتهجون بما يفعلون، لأنهم فاقدوا الحس . فأولئك الذين يتملكهم ولع الشهوة، وأولئك الذين يعانون من هوس عقلي، الذين يظلمون أنفسهم ويصنعون تصرفات شائنة، والتي لأجلها يحزن البعض، إلا أنهم يبتهجون ويستمتعون بهذه الأشياء المخجلة. ولذلك نقول ـ إنه لهذا السبب تحديدا ـ ينالون عقابا شديدا لأنهم لا يميزون الحالة التي يحيون فيها. إذن يجب علينا أن نتوجه إلى الأصحاء لا إلى المرضى لكي نقرر ماذا نفعل. هذه العلاقات الشائنة والشاذة كانت تبدو في عصور قديمة على أنها أمرا قانونيا، وقد حدد أحد مشرعيهم بأنه لا يجوز للعبيد أن يمارسوا التدريبات الرياضية، ولا أن يصيروا مضاجعي ذكور، فهذه الممارسات كانت مقصور فقط على المواطنين الأحرار[3]. والواقع أنها ليست إلا حماقة. لكنهم لم يعتبروا أن هذه الحياة الشاذة هي حماقة، لأنهم قد فتنوا بها كأمر حسن لا يستحقه العبيد، ولذلك فقد سمحوا بها للمواطنين الأحرار

فقط.

هذا الأمر قد صنعه فلاسفة أثينا، والعظيم بينهم سولونوس، ويستطيع المرء أن يجد كتب أخرى للفلاسفة مليئة بهذه الأفكار المريضة . ومع ذلك فإننا لا نقول إن هذا السلوك هو أمر قانوني، بل نؤكد على أن كل من سلك هكذا هو من التعساء الذين لا يستحقون إلا الرثاء على أحوالهم . لأن ما أصاب النساء الساقطات، يعاني منه أيضا الرجال أو من الأفضل أن نقول إنهم يعانون أكثر منهم. لأن – بالنسبة للنساء الساقطات ـ لو كانت العلاقة الجسدية بالرجل هي علاقة غير قانونية إن تمت خارج الزواج، إلا أنها في نهاية الأمر هي علاقة بين رجل وامرأة . لكن العلاقة الشاذة هي علاقة مخالفة وتأتي ضد الطبيعة. فإن لم يكن هناك عذاب في جهنم أو تهديد بالعقاب، لكان هذا السلوك في حد ذاته هو أسوأ عقوبة. فلو إنني رأيت شخصا يجري وجسده قذرا ، ثم بعد ذلك يرفض ارتداء ملابسه، بل ويفتخر بهذا التصرف، فإنني سأشمئز من تصرفاته، بل بالأكثر سأرثي لحاله لأنه لا يشعر بقبح فعله . إن أولئك الذين يصنعون هذه الأمور هم أسوأ من القتلة ، فالقاتل يفصل النفس عن الجسد، بينما من يسلك بطريقة غير مشروعة فإنه يدمر النفس مع الجسد. وإذا تحدثت عن أي خطية أخرى فلن تجد هناك خطية أكثر مخالفة وسوء من هذه الخطية. ولو أن هؤلاء الذين يصنعون هذه الأمور، يشعرون بمدي خطورتها علي حياتهم، لكانوا قد قبلوا حكم الموت مرات عديدة، حتى لا يجوزوا في هذه المعاناة.

٣. هكذا فإنه لا توجد حماقة ولا شيء يثير الفزع أكثر من هذه المهانة فإن كان القديس بولس قد تكلم عن الزنا قائلاً: “اهربوا من الزنا. كل خطية يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد، لكن الذي يزني يخطئ إلى جسده[1كو6: 18]، فماذا نقول نحن عن هذا الهوس، الذي يعد أسوأ بكثير من الزنا. لأنني لا أقول فقط إنك صرت مثل المرأة، بل أيضا فقدت خاصية الرجولة ، فلا أنت اكتسبت طبيعة النساء، ولا احتفظت بخاصية الرجوله التي فقدتها، بل إنك وجدت خائنا للطبيعتين ومستحق أن تدان وأن تُرجم من الرجال ومن النساء، لأنك ظلمت الجنسين معا، ولكي تعلم كيف أن هذا السلوك هو أمر شائن جدا، أقول لك لو أتى إنسان ووعدك أن يحولك من إنسان إلى حيوان ألا تتجنبه كمجرم؟ لقد ارتكبت ما هو أكثر مهانة من التحول إلى حيوان، لأن الحيوان له استخدام مناسب لطبيعته، لكن ذاك الذي هو مشابه للزانية، لا نافعا لأي شيء. أخبرني لو أن شخصا ما هدد بأن يجعل الرجال يلدون بدلاً من النساء وأن يصلوا إلى حالة النفاث، ألا يصير نغضب منه ونثور عليه؟

والآن ها هم البعض يفعلون أمورا مخيفة ضد أنفسهم، أولئك الذين يرغبون في ممارسات شاذة ومخالفة للطبيعة بهوس شديد . لأنه هناك فرق بين أن يغير الرجل جنسه ويصير امرأة، وبين أن يفعل وهو رجل ما تفعله النساء الساقطات . فإنه من الإنصاف أن نقول إنه ليس رجلا وليس امرأة. ولو أردت أن تعرف مقدار هول هذا الشر، فلنسأل لأي سبب عاقب المشرعون أولئك الذين يجعلون من البعض خصيان، وستعرف أنه لا لأي شيء إلا لأنهم يقطعون جزء طبيعي. على الرغم من أنهم لم يفعلوا ظلما كبيرا، لأن الخصيان في كثير من الأحيان لهم نفع حتى بعد خصيهم، ولا يوجد شيء بلا نفع أكثر من الإنسان الشاذ، لأنه ليس النفس فقط هي التي تعاني، بل الجسد أيضا يعاني من تلك الأمور الشائنة. أي جحيم سيستوعب هؤلاء، لكن لو أنك تسخر عندما تسمع عن الجحيم ولا تؤمن، فلنتذكر النار التي أحرقت أهل سدوم”. لأننا رأينا بالحقيقة في هذه الحياة الحاضرة صورة للجحيم . ولأن الأمر يتعلق بكثيرين لا يؤمنون بما سيحدث بعد القيامة، أي عندما يسمعون عن النار التي لا تطفأ، فإن الله يعاقبهم في الحياة الحاضرة . هذا العقاب، هو ما حدث بالفعل لأهل سدوم، وقد شاهد أولئك الذين كانوا حاضرين ورأوا عقاب الله المرسل على المدينة وكيف أمطرت السماء نارا وكبريتاً.

تأمل كم كانت خطية أهل سدوم وعمورة عظيمة، حتى أنهم رأوا وكأن الجحيم قد أستعلن قبل وقته. ولأن الكثيرين ازدروا بالكلام”، وكنتيجة لأفعالهم وتزايد شرورهم، فإن الله أظهر الجحيم بطريقة جديدة . لأن هذا المطر الذي نزل على المدينة كان غريبا، لأن العلاقات الجسدية بين الناس كانت غريبة. وهذا المطر ملأ الأرض، لأن الشهوة المنحرفة ملأت نفوسهم . ولهذا كان المطر بعكس المطر المعتاد. وقد جعل الأرض ليست فقط غير صالحة لإنتاج الثمار، بل أيضا غير صالحة لاستقبال البذور. هذه الخطية كانت العلاقات الجسدية الشاذة بين الرجال في منطقة سدوم، وهل هناك ما هو أكثر بشاعة وأكثر حماقة من الرجل الزاني الشاذ؟ أعتقد أنه لا يوجد. ولهذا نقول كم أنتم أغبياء وأقل عقلاً حتى من الحيوانات غير العاقلة، لأنه لا توجد علاقات على هذا المستوى بين الحيوانات، بل إن الطبيعة تعرف جيدا قوانينها، لكنكم بسلوككم المهين هذا تجعلون الإنسان أكثر مهانة من الحيوانات. إذن من أين نشأت هذه الشرور؟ نشأت من حب اللذة ومن عدم معرفة الله، لأنه عندما يتجاهل البعض خوف الله، فإنهم يرتكبون كل الشرور.

4. ولكي لا يحدث هذا ينبغي أن نضع خوف الله أمام أعيننا، لأنه لا يوجد شيء يدمر الإنسان أكثر من فقدانه لمعونة الله، ولا شيء يقود لخلاصه سوى الالتزام بالتقوى والعيش في مخافة الله باستمرار . فإن كنا نتردد كثيرا في فعل خطية ما أمام الناس، وفي كثير من الأحيان نذوب خجلاً أمام الآخرين فلا نفعل شيئا مخالفا، فبالحرى يجب أن نفكر في مقدار السلام الذي سنتمتع به، عندما نضع الله أمام أعيننا.

لأنه عندما نسلك هكذا لن يقوى الشيطان على مهاجمتنا، وتعبه سيكون بلا هدف . لكن إذا رآنا مطروحين إلى خارج سالكين بلا ضابط، سيكون في مقدوره أن يخدعنا وينتصر علينا. وكما يحدث في السوق عندما يجني البسطاء من العبيد نتيجة أعمالهم، وينالون عقابا من أسيادهم، وذلك عندما يتركون الخدمات الضرورية التي أرسلهم سادتهم من أجلها، ويكرسون جهودهم في أفعال لا طائل من ورائها، وبلا معنى وينشغلوا بالعابرين بالسوق، وينفقون أوقاتهم في هذه الأمور، هكذا نجني نحن أيضا نفس النتيجة، عندما نبتعد عن وصايا الله. وعندما ننبهر بجمال الجسد وغناه، وكل الأمور الأخرى التي ليست لها أي علاقة بنا، أكرر أننا سنكون تماما مثل أولئك العبيد الذين يتركون أعمالهم ويلاحظون المتسولين المحترفين الذين لا يريدون أن يعملوا، وعندما يصلوا متأخرين إلى منازلهم فإنهم ينالون أسوأ العقوبات من سادتهم. وهذا هو حال الكثيرين الذين ابتعدوا عن طريق الله وسلكوا طرقا أخرى وصنعوا أمورا شائنة كثيرة . لأنه حقا إن أردت أن تشغل نفسك، فهناك الوصايا الإلهية التي ينبغي أن تفتخر بها وتكرس لها كل وقتك. وتكريس الوقت لتنفيذ وصايا الله لا يستحق السخرية، لكن يستحق منا الثناء والمديح الكثير، وما يستحق الانتقاد هو الابتعاد عن وصايا الله . ولكي لا نعاني مثلما عانى أولئك الذين ابتعدوا عن وصايا الله، لذا ينبغي علينا التمسك بها.

ولماذا تقف أمام الغني منبهرا وفاقدا للعقل؟ أي مناظر مبهرة تقدر أن تجذب نظرك؟ هل الخيول المزينة والعبيد من البربر والخصيان، هل هي الملابس غالية الثمن أم هي النفس التي صارت متزعزعة بهذه الأمور؟ أم أن تعبيرات الوجه العابس، والإنحرافات، والضجيج الكثير، ومثل هذه الأمور، هي التي تثير هذا الإنبهار؟ وما هي الأمور التي تستحق الإعجاب في كل هذا؟ وفي أي شيء يختلف هؤلاء عن المتسولين الذين يرقصون ويتسكعون في الأسواق؟ فهؤلاء لأنهم يفتقرون للفضيلة فإنهم يرقصون بصورة مثيرة للضحك، وهم يذهبون هنا وهناك متجولين تارة حول موائد عامرة بالأطعمة الشهية، وتارة في بيوت نساء ساقطات، وتارة بالنفاق يعيشون عالة على الآخرين. وحتى لو أنهم لبسوا ملابس مذهبة، فإنه لهذا السبب تحديدا هم تعساء، لأن تلك المظاهر تعد بالنسبة لهم مطلب هام وأمرا مرغوب فيه.

من أجل هذا أرجو ألا تنظر إلى هذه الملابس المذهبة، بل انظر إلى نفوسهم العارية، ولاحظ أنها ربما تكون مليئة بجروح كثيرة، وفي حقيقتها خاوية ولا تستر أصحابها. إذن ما هو المكسب الذي يناله الوثنيون من هذا الهوس؟ فمن الأفضل حقا أن يعيش المرء فقيرا ويحيا بالفضيلة، على أن يعيش ملكا ويحيا في الرذيلة. لأن الفقير ربما يتمتع في داخله بكل الصحة النفسية، ولا يشعر مطلقاً مطلقا بفقره الخارجي، وذلك بسبب غناه الداخلي، بينما من يملك المال مع أنه يتمتع بكل الغنى الخارجي، فإنه ينسى الاهتمام بنفسه التي هي أثمن من كل شيء، متجاهلاً أنه سيقف في يوم الدينونة العظيمة أمام الله، وسيدان مثله مثل الفقراء، ولأننا نعرف كل هذا فلنخلع الملابس المذهبة ولنلبس الفضيلة، ونقتني الفرح الذي نناله بسببها. وهكذا فإننا ـ سواء في هذه الحياة الحاضرة أم في حياة الدهر الآتي – سنتمتع بشكل فائق بالخيرات الكثيرة التي وعدنا الله بها، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

فاصل

العظة السادسة:رو1: 28-32

” وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق ” (۲۸:۱).

1. ولكي لا يظهر أنه يشير إلى ما يفعله هؤلاء فقط، مركزا حديثه على العلاقات الشاذة فيما بينهم، فإنه يأتي فيما بعد على ذكر أنواع أخرى من الخطايا. يفعلها قوم آخرون. ولأن الرسول بولس قد تعود دائما أن يحدث المؤمنين عن الخطايا، وأنه ينبغي عليهم تجنبها، فإنه يشير إلى الأمم كمثال، إذ يقول “لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله. وأيضا “لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم “”””. وهنا يشير لخطايا هؤلاء الأمم، ولأجل ذلك يرى أن هؤلاء قد حرموا أنفسهم من كل صفح. ويقول إن هذه الخطايا، ليست نتيجة جهل، لكنهم يصرون على فعلها. ولهذا تحديدا لم يقل، لأنهم لم يعرفوا الله لكن “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم ” مؤكدا كيف أن هذه الخطية تأتي من رؤية فاسدة، مظهرا أن هذه الخطايا لا تأتي من الأعضاء الجسدية كما يدعي بعض الهراطقة ، لكن من الذهن ومن الرغبة الخبيثة، وأن مصدر الشرور هو الذهن. وحيث أن الذهن قد صار فاسدا بلا نفع، فقد بطل كل شيء، طالما أن مصدر التوجيه (الذهن) قد فسد وصار بلا قيمة.

 

” مملؤين من كل اثم وزنا وشر وطمع ” (۲۹:۱).

لاحظ كيف يشدد على كل ما يقوله. لأنه يقول كيف أنهم “مملؤين من كل” وبعدما تكلم عن الشر بشكل عام، أتى إلى تفاصيله قائلاً: ” مشحونين حسدا وقتلا” لأن القتل يأتي من الحسد، كما ظهر في حالة هابيل وقصة يوسف. ثم بعد ذلك يقول ” مملؤين خصاما ومكرا وسؤا “. ثم يضع هذه الخطايا في ترتيب، تلك التي تبدو للبعض بلا أهمية، ثم يتصاعد بالإدانة حتى وصل إلى تحديد أقصى درجات الشرور قائلا: “ثالبين متعظمينلأنه من بين الخطايا الأكثر رعبا أن يكون المزء متعظما وهو مخطئ. ولهذا أدان أهل كورنثوس قائلاً: ” أفأنتم منتفخون””. إذن فإن كان الشخص الذي يفتخر بإنجازاته، يفقد كل شيء عند موته، فكم سيكون عقاب ذلك الذي يفتخر بالخطية، شديدا؟ لأن هذا الإنسان لن يستطيع أن يقدم توبة فيما بعد.

ثم يقول:

” نمامين مفترين مبغضين لله ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شرورا” (۳۰:۱).

هنا يظهر أنهم لم يكتفوا بالخطايا التي يقترفونها، بل إنهم ابتدعوا خطايا أخرى. إن هذا الأمر يكشف أيضا عن أن هؤلاء الناس يعرفون ماذا يفعلون، وليسوا مجرد أناس قد تأثروا بالآخرين وانجذبوا إلى الخطية وبعدما استعرض الخطايا والشرور التي إرتكبوها ـ عندما أظهر كيف ثاروا ضد الوضع الطبيعي في إطاعة الوالدين – حين قال ” غير طائعين للوالدين” ، نجده بعد ذلك يتقدم نحو بيان جذور هذه البلايا الكثيرة، داعيا هؤلاء أنهم “بلا عهد ولا حنو”، أي ليس لديهم محبة حانية . وهذه الخطية قد قال عنها المسيح له المجد بأنها سبب للشر بقوله: ” ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” . هذا بالضبط ما أعلنه الرسول بولس هنا ، داعيا هؤلاء بإنهم :

” بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة ” (۳۱:۱)

مظهرا أنهم بهذا قد خانوا هذه العطية التي وهبت للطبيعة الإنسانية . لأننا نملك عاطفة حسب طبيعتنا، حتى الحيوانات المتوحشة فيما بينها ، وهي أيضا تملكها فيقول: “كل حيوان يحب شبيهه وكل إنسان يحب قريبه”. لكن هؤلاء قد صاروا بما فعلوا أكثر وحشية من الحيوانات.

لقد عرض لنا القديس بولس من خلال كل هذه الأمور، المرض الذي تفشى في المسكونة نتيجة الإنحرافات الشنيعة، وأظهر بكل وضوح بأن كل مرض هو ناتج عن ما يبديه البشر من اللامبالاة والتهاون . ثم بعد ذلك يظهر كيف أن هؤلاء قد حرموا من المسامحة، ولهذا قال:

” الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط بل أيضا يسرون بالذين يعملون ” (۳۲:۱).

 ومع أن القديس بولس يشير هنا إلى أمرين متباينين، إلا أنه قد نقض هذا التباين في الحال، إذ يطرح التساؤل الآتى: هل تجهل ما ينبغي عليك أن تفعله؟ وحتى لو أنك لا تعرف، فأنت نفسك السبب، لأنك ابتعدت عن الله، الذي هو مصدر معرفتك بكل هذه الأمور. لكن الآن قد ظهر ببراهين كثيرة أنك تعرف (حكم الله بشأن من يفعل الخطية)، وأنك تخطئ بكامل إرادتك، بل وتنجذب من الشهوة، لأنك تفعل هذا مع آخرين وتسر بهم أيضا، لأنه يقول ‘ لا يفعلونها فقط بل أيضا يسرون بالذين يعملون”. إذن فقد ذكر القديس بولس الخطية البشعة ـ لأن ذاك الذي يسر بالخطية هو أكثر بشاعة من ذاك الذي يخطئ ـ والتي لا يصفح عنها، بهدف أن يمتنع الناس عن فعلها. –

فاصل

  1. معلم أفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف سقراط الذي ولد سنة 469 قبل الميلاد. ويعد سقراط هو مؤسس “علم الأخلاق” كما يقول أرسطوتاليس، وأول من وضع عدة تساؤلات حول “ماهية الفضيلة” و”من أي شئ يتألف الصلاح”. وقد تعلم أفلاطون في مدرسة سقراط لمدة تسعة سنوات كاملة. * θρησκευτική και ηθική εγκυκλοπαίδεια ” Αθήνα 1963, τομος 11,σελ 618-621.
  2.  أسكليبيوس  هو إله الطب عند اليونان. وكان طبيب بارع ومتميز في عمله. وقد أقيم لهذا الإله العديد من المعابد في كل أنحاء اليونان وخارجها أيضا، حيث كانت توجد في آسيا الصغرى في مدينتى سميرنا، وبرغامس، وفي إيطاليا أيضا وخاصة في مدينتى تارندا وروما. وكانت الاحتفالات تقام في هذه المعابد بتقديم الذبائح تكريما لهذا الإله. بالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب فيها، والأرجح أن هذه الممارسة كانت تتم في غرف ملحقة بالمعبد، كان يقيم فيها المرضى طوال فترة علاجهم. 
  3. انظر بلوتارخوس في كتابه حياة سولونا، الفصل الأول.

 

مقدمة تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 2
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى