تفسير رسالة رومية اصحاح 11 للأب متى المسكين

الأصحاح الحادي عشر
سر الخلاص في مقاصد الله

 

إن كان الأصحـاحـان التاسع والعاشر قد انتهيا بقول الله : « طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم » :

10-1:11 فهل معنى هذا أن الله رفض إسرائيل ؟ ليس كلياً ولا نهائياً. فالله أبقى لهم منهم بقية تشهد له. هؤلاء هم المختارون حقاً الذين آمنوا بالمسيح ومنهم القديس بولس !

والأغلبية قسى الله قلوبهم؛ لأنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم فعثروا وزلوا ورفضوه ثم صلبوه وقتلوه ، فتسببوا دون أن يدروا في تكميل الفداء !

11:11 -24 فصـارت عثرتهم وزلتهم ـ بالإغاظة له – سبب خلاص للأمم . أولئك خرجوا وهؤلاء دخلوا !! وذلك إلى أن يدخل ملء الأمم :

11: 25-32 حينئذ يرحمون ! وتخلص بقية إسرائيل !!

36-33:11 يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ! 

 

[ 11: 1 -10] هل رفض الله شعبه إسرائيل ؟

1:11 «فأقول ألعل الله رفض شعبه ـ حاشا ـ لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين» .

القديس بولس يعقب على الأصحاحين التاسع والعاشر اللذين لخصهما في آخر آية في الأصحاح العاشر.

 وحـيـنـمـا يـسـأل ق. بولس ألعل الله رفض شعبه هكذا بعد أن اصطدموا بحجر صهيون وعثرة الصليب ؟ وقد نوه بسؤال مثل هذا في الأصحاح التاسع : « ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت » ، فما هي كلمة الله هذه ؟ وبأية جرأة يقول ق. بولس « حاشا » على سؤال : « هل رفض الله شعبه» ؟ هذه الجرأة يستمدها من قول الله في مزمور لداود الذي يقطع أن الله لا يرفض شعبه ! «لأن الرب لا يرفض شعبه ولا يـتـرك مـيـراثـه ؛ لأنه إلى العدل يرجع القضاء وعلى أثره كل مستقيمي القلوب» (مز94 : 14و15). ثم ما هو برهان ق . بولس على هذا القول ؟ أي أن الله لا يرفض شعبه ولكن بالعدل يحاكمهم ؟ ق. بولس أعطى نفسه وكل اليهود الذين آمنوا بالمسيح عينة من شعب الـذيـن نـجـوا بـعـدل قضاء الله ، إذ حسبوا مستقيمي القلوب حينما أطاعوا الكلمة وخضعوا لصوت الله وآمنوا وتبعوا المسيح .

ولـكـن الذي نرجع به على الشارحين من العلماء لهذه الآية ، ونراجعهم في انفلات نظرتهم نحو ق. بولس ، هو قولهم أنه يتكلم هنا بدافع وطنيته وانحيازه لليهود، ويتمادى العلماء في القول بأن ق. بولس يذكر سبطه بافتخار وكبرياء! وفاتهم خطورة موقف ق . بولس وهو يتكلم هنا بروح الله عن قضاء عدل الله ، فهو لا يتكلم من وجهة نظره ولا من فلسفته في أمور الدين كيهودي . هذه نظرة خاطئة أشد الخطأ وتودي بكل لاهوت ق. بولس . هنا القديس بولس يكشف ويستعلن بر الله و بر الله وحده ـ إذ أسقط حساب الناموس كلية، و بالتالي كل علمه ومعرفته ووطنه وبلده وأرضه ، فالذي يسقط الناموس يسقط كل مؤهلات اليهودي، لأنه في الحقيقة يسقط ـ لو جاز القول ـ كل منهج موسى، الذي عرفه أنه «زيد بسبب التعديات » (غل19:3)!

وحـيـنـمـا يـعطي ق. بولس نفسه مثالاً للذين نجاهم الله فنجوا ودعاهم فلبوا واستعلن لهم ذاته فآمنوا وتـبـعـوا، فهو لا يفتخر ولا يفاخر قط ، لأنه سبق فأساء إلى الإيمان واسم المسيح وأفرط في إتلاف الكنيسة، وبهذا يزيد ثقل الدفاع عن الله وعدل الله أن الله ـ في بولس ـ أبقى لنفسه بقية هذا الشعب نفسه ، تشهد له ولحكمته التي عامل بها شعبه ! وق. بولس في ذلك يرى في أمر نفسه وكأنها «نبوة»، لأنه وهو قد عثر في المسيح والصليب وأهان اسم المسيح وأتلف الكنيسة، إلا أن الله لم يحسب له هذا خـطـيـة !! بل دعـاه ونجاه وقبله وأحبه وضمه إلى نفسه و برره وكرمه ومـجـده. أفليست هذه «نبؤة» عما سيفعله الله في كل إسرائيل ليخلص بعد زمان ولو بعيد ؟ وهل صنعت إسرائيل في المسيح أشنع مما صنع بولس ؟

فإن كنا نحن الأمم نحسب ق . بولس نبياً لنا خاصاً حمل إنجيله لأهل الغرلة، فهو هو نفسه بالضرورة نبي لإسرائيل الجديد الذي يبشر إسرائيل بخلاص معد لهم، على مثال ما صنعه له ه له المسيح حينما دعاه وهـو سـائـر ـ كما هم الآن ـ في طريق الجهالة والتشرد، يتعالى بيهوديته ويفاخر بفريسيته يلعن الصليب والمصلوب ، وينكل بكل من تطاله يداه من أتباع ذلك الناصري المرفوض . فالقديس بولس هنا لا يفاخر بيهوديته ـ يا سادة ـ ولكن يفتخر بنعمة الله التي غطت جهالته وتجاوزت حمـاقـتـه وصـفـحـت عـن سـوء سيرته ، ويرى في هذه النعمة أنها أيضاً مع إسرائيل، كل إسرائيل، على ميعاد، لخلاص عتيد أن يعلن ـ وشيكاً ـ فيهز السماء والأرض ليهتف الكل برحمة الله ونعمته : «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه » !

ق. بولس يجيب : 

۲:۱۱و۳ «لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه. أم لستم تعلمون ماذا يقول الكتاب في إيليا كيـف يـتـوسـل إلى الله ضـد إسـرائـيل قائلاً يا رب قتلوا أنبياءك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي »

«سبق فعرفه » : 

هنا يعرض ق. بولس لمبـدأ جريء وخطير، إذ يجعل سبق معرفة الله لشعبه الذي كان هو الأساس الذي عليه اختاره ، يقف حائلا دون الرفض !! فالذي سبق واختاره الله كيف يرفضه ؟ وهذا المبدأ الإلهي يقف بموازاة المبدأ القائل : إن عدم أمانة إسرائيل لا يمكن أن يبطل أمانة الله !!! + «فلأنهـم اسـتؤمنوا على أقوال الله . فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء ؟ أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله ؟ حاشا!!» (رو3: 2-4)

ولحل هذا التداخل بين الاختيار والرفض ، يخرج ق. بولس بالمبدأ الجديد أن الرب لكي يظل صادقاً «بل ليكن الله صادقاً»، وليكن الإنسان دائماً هو الذي يكذب في سلوكه أمام الله الذي اخـتـاره «وكل إنسان كاذباً»، ولكي يتبرر الله دائماً في كل ما يقول : « لكي تتبرر في أقوالك » ، وأن يغلب في كل شكوى أو إدعاء يرفعه الإنسان أمام الله « وتغلب متى حوكمت» (رو4:3)؛ يقول ق. بولس : إن الله دائماً يبقي له بقية من وسط المرفوضين يكونون على مستوى الاختيار وأمانة الدعوة التي دعوا إليها. وهو يستشهد بذلك من موقف إيليا مع الله ، فهو وهو نبي يشكو الشعب الله أنه بجملته ارتد عن الله وقتل أنبياءه وانقلب على العبادة الحقة! هنا لا يفوتنا تعريج ق . بولس على موقف إيليا الذي لا يحسد عليه ، حيث كان مطلوباً قتله ، وهذا هو بعينه موقف بولس الرسول نتيجة مطاردة اليهود له ومحاولتهم قتله !!

وهـنـا يـسـتـظـهـر ق. بولس على إيليا بالنعمة التي تضيء فكره وقلبه . فهو لا يشتكي شعب إسـرائـيـل : «ليس كأن لي شيئاً لأشتكي به على أمتي» (أع 28: 19)، بل بالحري وعلى النقيض تماماً فهو يدافع عن شعب الله حتى و بعد أن رفض علنا !! متمسكاً برد الله على إيليا أن الله أمين على وعـده ودعـوتـه واختياره ، فإن لم يكن مع الكل فمع الذين أحسنوا إلى اختياره ودعوته ، وكانوا ولو على شيء من الأمانة تجاه أمانته «أبقيت لنفسي». هذا هو المبدأ البديع الذي يقدمه لنا ق . بولس في دفاعه لا عن شعب الله كما يبدو للعلماء والشراح ، بل هو دفاع عن الله من جهة أمانته واختياره : « ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت . » (رو6:9)

ولـو أنـصـت القارىء وانتبه لكلمة «أبقيت لنفسي»، فالله تعاهد مع الإنسان ليس من أجل الإنسان وحـسـب بـل ومـن أجـل نـفسه، الله أحب الإنسان بالحقيقة و بالصدق ، وهو أمين غاية الأمانة في حبه، أحبه لا لشيء حسن في الإنسان ـ ولو أنه خلقه حسناً (تك1: 31). ولكن أحبه لأنه أحبه، والله ليس كالإنسان، فالإنسان يحب لعلة ما ولسبب !! ولكن الله ليس عن علة ولا لسبب أحب الإنسان ! الله أحب الإنسان فخلقه، وليس بعد أن خلقه ! فحب الله للإنسان هو الذي امـتـد وصـار فعلاً للخليقة كلها ، فخلقة الإنسان هي آية من حب للإنسان. لذلك فحتى و بعد أن تـنـكـب الإنسان في أمانته الله دائما وفي كل الأحوال والأزمان، لم ترتد أمانة الله في حبه للإنسان ! لذلك قلنا عن وعي ورشد : «من سيفصل الله عن محبة الإنسان» ؟؟ أخطية أم تعد أم جـحـود أم تجن ؟ هـوذا لـولا خطية آدم ما تصادقنا مع ابن الله شخصياً وعن قرب وصرنا من لحمه وعـظـامـه !! ثـم أكـلـنـا وشربنا على مائدته من جسده ودمه !! ثم هوذا لولا جحود شعب إسرائيل وعقوقه ورفضه الله علناً بل وذبحه لابنه الحبيب صلباً، ما دخلنا نحن الأمم في مودة مع الله وقربي ،  وهكذا صرنا اختطافاً رعية مع القديسين وأهل بيت الله !!! 

لذلك قال ق. بولس عن إلهام ورؤيا : « الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو5: 8)، وكأنه يرد على قول الرب في إنجيل يوحنا : « هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). أو قول ق. يـوحـنـا نفسه: «بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به» (1يو9:4). ثم يقطع على كل فكر أن الإنسان يتفاخر بحبه الله : «نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا» (1يو4: 19). لأنه يستحيل أن تكون هناك مبادرة حب أو خير للإنسان من أي وجه ولا يكون الله صاحبها !

هنا، عزيزي القارىء، يمكن أن نثق بقول ق. بولس أن الشعب الذي أحبه الله واختاره يوماً فإن رفضه زمناً فلن يرفضه أبداً، وإن رفضه حقاً فلن يرفضه كلية لا بسبب شيء . ، فيه ، ولكن يقول الله : « من أجل نفسي » ( إش 43: 25 و 11:48)!!

4:11 «لكن ماذا يـقـول لـه الوحي: أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبغل » .

«أبقيت لنفسي » :

البقية والاختيار:  ويلزمنا أن نلاحظ هنا قول الله «أبقيت » ، فهو الذي أبقى لنفسه سبعة آلاف لم يعبدوا البعل ( 1مل 18:19). هنا لا زال الاختيار الأول ومنذ البدء لشعب الله قائماً . فهو الذي أبقى اختياره حيـا ومـسـتـمـراً في هذه البقية . إذاً، فالاختيار لم يهزه رفض إسرائيل الله ولا رفض الله لإسرائيل . فالاختيار متعلق بأمانة الله وصدقه أي بره الشخصي الذي رافق الإنسان ليس فقط منذ أن خلق بل وقـبـل إنشاء العالم !! «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين و بلا لوم قدامه في المحبة» (أف1: 4). ولـكـن واضح كـل الـوضـوح أن الله لا يثبت اختياره على أساس سلوك الإنسان، فالإنسان متقلب ، لذلك أسسه على حبه الشخصي، على أمانته، على بره الذاتي!! هنا الاختيار الأزلي للإنسان قائم على بر الله الأزلي .

والآن ربمـا تـقـول : إذا خـطـيـة الإنسان لا تتعارض مع الله ؟ نقول بلغة ق. بولس حاشا ، فالتعارض بين خطية الإنسان و بر الله هو الذي كلف الله بذل ابنه على الصليب ليرفع هذه الخطية ، أي هذا العائق الخطير، يرفعها من أمام بر الله، حتى يستطيع الله أن يحتوي الإنسان في بره !!!

 إذاً، فالذي ضمن اختيار الله للإنسان على طول الزمن هو استعداد بذل الله أقصى البذل ، حتى وإلى سفك ابنه ليبقي على اختيار الإنسان؛ ليتمم فيه مقاصد بره، ليقربه إلى قلبه، ليفيض عليه من حبه ومن روحه بلا كيل !!

إذاً، لو اتسع أفق رؤية القارىء وامتد معنا ببصره، لرأى أننا نحن الآن مختارون في إسرائيل . فـاخـتـيـار الله لإسرائيل كشعب خاص له منذ البدء من أجل إبراهيم وإسحق ويعقوب كان بداية اختياره للإنسان عامة، وعصيان إسرائيل وعقوقه كشعب ، لم يوقف أو يعطل اختيار الله ، بل ظل يمتد هو هو من الأقل إلى الأكثر ـ لا يعوقه عائق ـ فالسبعة الآلاف ركبة في أيام إيليا صارت الآن سبعة آلاف ملايين أو ربما بلايين !! وكل عصيان أو تعد نال مجازاته في حينه، أو رفع وتلاشى في ذبيحـة الـفـداء والمصالحة لكي يمتد الاختيار على كل حال بلا تعوق حتى يبلغ غايته عند الله ؛ عندما ينسكب بر الله فيقف الإنسان أخيراً أمام الله كقديس وكابن بلا لوم في المحبة .

فإذا سألت : على أي أساس يختار الله البقية ؟ يرد ق . بولس :

11: 5 «فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة» .

 «حسب اختيار النعمة»: 

هنا ق. بولس يعطي لموضوع البر، أي بر الله بالمسيح يسوع ، دفعة جديدة في توضيح كيف أن يهبه بدون عمل الإنسان ! فالبقية الباقية من شعب إسرائيل، التي آمنت بالمسيح بعد أن رفض الشعب کله الانصياع لنداء الله ودعوته بواسطة ابنه يسوع المسيح : « مددت يدي طول النهار إلى شعب معاند ومقاوم»، أما الأغلبية فرفضت ، وأما البقية فنعرفها نحن جيداً ، كيف ابتدأت بحسب الإنجيل ، كيف اختارهم الله ودعاهم واحداً واحداً : الذي من فوق مراكب الصيادين ، والذي من أمام مائدة العشارين، وهذا بولس الأخير وهو في طريقه لذبح القديسين ! أي عمل حسن كانوا قد أتوه ؟ وأي جهاد كانوا فيه يجاهدون ؟ وأي بر كانوا فيه ينشغلون ؟؟

 

إذاً ، فهو اختيار النعمة وليس بمقتضى أعمال حسنة عملوها . إذاً، فهنا يرسي ق. بولس عمل الاخـتـيـار على عمل النعمة التي ذاقها هو حينما طئت في أذنيه كلمة المسيح ـ وهو بضمير مهلهل واقف أمامه ـ « هذا لي إناء مختار» (أع9: 15). فالقديس بولس عرف الاختيار من أين أتى منذ الـبـدء ومـن أيـن يـأتـي حينما ترتد الأغلبية لتتمسك بأعمال يديها ، فيختار الله بقيه بنعمته ؛ ليظل الاختيار اختيار نعمة كل حين وإلى الأبد . 

6:11 «فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال وإلا فليست النعمة بعد نعمة وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً».

نعم لو عرفنا أن «النعمة» هي الهبة المجانية التي يطرحها الله على الإنسان حينما تكل يداه وتذبل عيناه ويبلغ منه الشقاء منتهاه، هكذا مثلاً :
+ « فظهر له ملاك الرب وقال له الرب معك يا جبار البأس !
فقال له جدعون أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ .
فالتفت إليه الرب وقال اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل ؟؟! …
فقال له أسألك يا سيدي بماذا أخلص إسرائيل ؟
ها عشيرتي هي الذلي في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي
فقال له الرب إني أكون معك …» (قض6: 12-16)

أن يكون الله معنا هذه هي النعمة، وإن كان الله معنا فقوتنا ليست بعد قوتنا ولا العمل هو بعـد عـمـلنا. فإن كان جدعون قد غلب أعداء إسرائيل بقوة بأسه وعمل يديه ، فالنعمة ليست بعد نعمة، ويكون هذا النجاح هو عمل جدعون وليس عمل الله ، ولكن جدعون ، وهو يعلم أنه وهو من أضعف سبط وأضعـف مـن في هذا السبط ، ذهب وغلب بإيمانه بوعد | ونعمته ؛ فماذا لو كان جدعون قد ذهب مغروراً بقوته وحارب ؟ هذا هو حال إسرائيل !!!

هكذا، يا قارئي العزيز، يعلم الله الإنسان منذ البدء الفرق بين العمل مع القوة بيد الإنسان وبين النعمة مع الضعف بيد الله . وهكذا تعلم ق. بولس أيضاً من فم الله أن النعمة تعمل في الضعف فتجعله أقوى من القوة . فحينما صلى ق. بولس ثلاث مرات ليسترد عافيته وقوته، كان الصوت المعلم : «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل» (۲ کو۹:۱۲). فذهب ق. بولس يـتـقوى بنعمة الله من يوم إلى يوم، وغلب بضعفه ما لم يكن يتوفر له بقوته ، وأدرك تماماً أنه لم يكن هو الذي يعمل ويتكلم وينجح : « بنعمة الله أنا ما أنا … ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي » (۱کوه1 : 10)!! إذاً، فشرح ق. بولس الدقيق والوثيق بخصوص تعارض العمل الذاتي مع النعمة المجانية لا يتكلم به ق. بولس كنظرية يؤمن بها ، بل كحياة يحياها ، ولولاها ما عاش وصار معلماً ورسولاً . 

فـالـقـديـس بـولـس هو من البقية التي أبقاها الله لنفسه ليشهد بنعمة الله الاخـتـيـار جـاحـداً عـلنا الأغلبية التي كان هو منها والتي فقدت اختيارها لما اعتمدت على ذاتها وليس على الله واتـكـلـت على ذراعـهـا وليس على ذراع الله ، ففقدت ليس اختيارها فحسب ، بل فقدت انتماءها الله ، بل قاومته بعناد ، بل حاربته في جهل وعمى القلب.

وهكذا أيضـاً صـار بولس مع البقية الجزء الحي العامل والفعال من الشعب المختار الذي يحـمـل تـاريـخ الاخـتـيـار بـجـملته نقياً صافياً، ممثلاً لإسرائيل الله عبر محنة الشعب الرافض والمرفوض، لـيـوضـل هذا الاخـتـيـار إلى شعب هيأه الله من جديد لنفسه ـ و بنعمته ـ ليقبل الاخـتـيـار، اخـتـيـار الله الذي للإنسان منذ البدء، ليمتد برحلة اختيار الله للإنسان حتى غايتها العظمى في الله !

وهـكـذا مـن الأول إلى الآخر يقف «الاخـتـيـار» معتمداً على النعمة، نعمة الله التي تختار الإنسان على مستوى الشعب والفرد، ولا تعتمد على شيء في الإنسان إلا أن يجحد هو ذاته وقدراته لـيـقـبـل اختيار الله ونعمته، ويجحد عمله ليحل فيه عمل الله وقوته ، حتى يظل الاختيار نقياً صافياً من شوائب جهالة الإنسان وذاتيته .

«وإلا فليست النعمة بعد نعمة»:

القديس بولس يريد أن يقول إن النعمة لها طبيعة إلهية خالصة، فلكي تظهر النعمة قوتها وفعاليتها يلزم أن لا يقحم الإنسان مهاراته وقدراته وذاته في طريقها ، وإلا فالنعمة تتوقف عن إظهار عملها ، وأعـظـم أعـمـال نعمة الله هو « الاختيار» الذي ينتهي بقبول بر الله الخاص. هكذا ومن الأساس يوضح ق. بولس أن أعمال الإنسان الذاتية تتعارض مع الإيمان والاختيار والنعمة والبر، وأن لكي تبقى وتدوم كنعمة يلزم أن نخلي من أمامها ذواتنا لتستطيع أن تعمل فينا وبنا كل ما النعمة يريده الله .

«وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً »:

هنا أفلس الشراح وقالوا إن هذا النص مضاف وليس أصلياً ولذلك حذفوه .

ولكن الحقيقة هي أن كل مبدأ إيجابي يزداد إيجابية إذا قلبناه بالعكس، وظهرت السلبية التي فيه لتضاف على الإيجابية. فالنعمة حقيقة والعمل حقيقي. ولكن في أمور الله لا نكتسب رحمته إلا إذا توافقنا نعمته وبنعمته فقط ولا غير نعمته أبدأ .

فإذا نـحـن قلنا إنه يمكن أن نكتسب رحمة الله بأعمالنا فنحن نكون قد ألغينا النعمة . معنی أن النعمة لا تحسب بعد نعمة أي لا يكون لها عمل !!

تماماً كما في أمور الإنسان الطبيعي، فالإنسان لا يكسب لقمة العيش ويصح بدنه إلا بالعمل وبالعمل فقط ولا شيء غير العمل. فإذا نحن قلنا إنه يمكن أن نكتسب لقمة العيش وأن يصح بدن الإنسان بالنعمة بدون عمل نكون قد ألغينا العمل وقانون العمل : «إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً » ( 2تس3: 10). فالقول بأن مبدأ : «العمل لا يكون بعد عملاً » ، بمعنى أن يلغى العمل من قاموس الإنسان، هو خداع .

فالنعمة حقيقة فيما يخص بر الله ، والعمل حقيقة فيما يخص جهد الإنسان، فإذا قلنا فيما يخص بر الله إنه بعمل الإنسان فلا تكون النعمة بعد نعمة؛ وإذا قلنا فيما يخص أود الإنسان إنه بالنعمة فقط، فلا يكون العمل بعد عملاً . فالنعمة تخص ما لله والعمل يخص ما للإنسان. ونحن نعلم فيما يخص الله أن الإنسان ميت بسبب الخطية وحكم الموت ، فكيف ينال ما الله ليحيا ويقوم من موته بعمل يديه ؟ 

۷:۱۱ «فماذا. ما يطلبه إسرائيل ذلك لم يتله، ولكن المختارون نالوه . وأما الباقون فتقسوا » .

هنا يقسم ق. بولس إسرائيل إلى الجزء الأكبر: وهو الذي كان يعيش بمقتضى فكر الجسد : «ليس أولاد الجسد هم أولاد الله !!! بل أولاد المـوعـد يـحـسـبـون نسلاً (إسرائيل بالحق ) … » (رو8:9)، ثم البقية وهم الذين كانوا يعيشون بحسب فكر الموعد أي يسعون وراء الإيمان أينما سمعوه، الذين قبلوا خبر الإيمان بالمسيح لما سمعوه فآمنوا وتبعوه . وهنا نجد ق. بولس يحتفظ بلقب إسرائيل للجزء الأكبر الذي عاش حسب الجسد متخذاً الناموس فرصة لأعمال البر الذاتي، الذي كان يمثله في ذهنه ما كان في أيام إيليا الذين هدموا مذابح التقوى وقتلوا الأنبياء . أما الموضوع الذي كان يطلبه شعب إسرائيل عامة فهو ـ في مفهومه الكلي – ـ «بر الله » ، أو بمنتهى البساطة هو الله نفسه في أنقى صورة له . لذلك لما انشغل إسرائيل ببره الذاتي بأعمال الناموس ، سقط بعيداً عن نعمة الله وذلك بمقتضى الآية السالفة (6:11)، وبهذا لم ينل بر الله الذي يظن أنه ناله أنه كان ممسوكاً في بره الذاتي، فلم يتعرف على بر الله الحقيقي الذي ظهر بظهور ابن الله يسوع المسيح الذي كان مشهوداً له من الناموس نفسه ومن كافة الأنبياء . أما البقية من شعب إسرائيل ـ أولاد الموعد ـ فكانوا مستعدين ومتواعدين مع ظهور بر الله ، وكان إيمانهم يتأجج في قلوبهم، ولنا نماذج منهم قوية وملتهبة .

فمثلاً حنة النبية التي أحست بمولد المسيح دون رؤساء الكهنة والفريسيين وقفت تسبح الرب :« وتـكـلـمـت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم» (38:2). وعندما دخل يوسف ومريم ومعهما الطفل يسوع محمولاً على ذراع مريم ليقدموه في الهيكل، انبرى لهما سمعان الشيخ : « وكان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه ، وكان قد أوجي له بالروح القدس أنه لا يرى المـوت قـبـل أن يرى مسبح الرب … فأخذه (سمعان ) على ذراعيه و بارك الله ، وقال : الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرنا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل » (لو2: 25-32). إذاً، كان سمعان هذا يتمنى أن يرى الخلاص ورآه، ويترجى أن يرى المخلص فرآه . هؤلاء كانوا على ميعاد مع الاخـتـيـار فـلـحـقـوا بـه بالرجاء والإيمان الذي ملأ قلوبهم . كذلك نسمع عن التلاميذ كيف كانوا بقليهم وفكرهم مشغولين إلى أقصى حد بظهور المسيح باستعداد الإيمان به . « كان أندراوس أخو سمعان بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا ( المعمدان) وتبعاه (تبعا الرب ). هذا وجد أولاً أخاه سمعان (بطرس) فقال له : قد وجدنا مسيا …» (يو1: 40و41). كذلك فيلبس : «فيلبس وجـد نـثـنـائيل وقال له : وجدنا الذي (كنا نبحث عنه ) كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء (كانوا يدرسون فيه ليل نهار) يسوع ! …» (يو1: 45)

هذه عـيـنـات مـن «البقية» التي أبقاها المسيح لنفسه التي لم تحن ركبتيها لبر الذات ولا انشغلت بأعمال الجسد دون البحث والصلاة والتأمل متى يأتي مسيا الموعود به. فلما أتى عرفوه حالا وقبلوه من كل القلب وتبعوه . هؤلاء هم المختارون الجدد exhort الذين نالوا البر بر الله المحفوظ لهم منذ البدء قبل تأسيس العالم .

۷:۱۱و۸ « وأما الباقون فتقسوا كما هو مكتوب أعطالهم الله روح سُبات وعيوناً حتى لا يبصروا وآذاناً حتى لا يسمعوا إلى هذا اليوم» .

هنا يلمع في ذهـنـنـا قـول ق. بولس سابقاً عن كيفية التقسي ومن أين يأتي وكيف يأخذ عقوبته، وذلك في موضوع فرعون ، « فهو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء» (رو9: 18). وكلمة « يقسی» لها صورة واضحة في الطبيعة، فهي عند أول ظهورها على أوراق الأشجار تعني الذبول ثم الموت ثم السقوط حتى تجدد الأشجار حياتها ويستمر إثمارها !! وفي الإنسان، حينما يتقسى القلب فهو لا يلين للـمـشـورة ولا للـتـأنـيـب ولا للتهديد، وبالنهاية ينفصل الإنسان عن مستوى التعقل والحكمة إيذاناً بالقطع وأيضاً السقوط !! ولكن حال « الذين تقسّوا» فلم ينالوا مواعيد الله ، كان في ذهن ق. بولس ، صدى لما جاء في سفر التثنية حينما كان الله يعير الشعب على فم موسى: «أنتم شـاهـدتـم ما فعل الرب أمام أعينكم في أرض مصر بفرعون و بجميع عبيده و بكل أرضه. التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك وتلك الآيات والعجائب العظيمة ولكن لم يعطكم الرب قلباً لتفهموا وأعيناً لتبصروا وآذاناً لتسمعوا إلى هذا اليوم . » (تث29: 2-4)

كما أن الذي حدث للأغلبية التي تقشت وكيف أنها تقشت ، فهذا كان في ذهن بولس الـرسـول كما وصفه إشعياء النبي : « توانوا وابهتوا ، تلذذوا واعموا . قد سكروا وليس من الخمر، تـرنـحـوا ولـيـس مـن المسكر، لأن الرب قد سكب عليكم روح سبات وأغمض عيونكم . الأنبياء ورؤساؤكم الناظرون غطاهم، وصارت لكم رؤيا ( المسيح وهو واقف أمامهم يقول لهم أنا المسيا ) الـكـل مـثـل كلام السفر المختوم (مغلق) الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول : لا أسـتـطـيـع لأنه مختوم !! أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول : لا أعرف الـكـتـابـة. فقال السيد “لأن هذا الشعب قد اقترب إلى بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني وصارت مخافتهم مني وصية الناس معلمة.» (إش29: 9-13)

وهكذا من خلال هاتين النبوتين يتبين لنا تماماً ما يقصده بولس الرسول من معنى « تقسوا » وكيف ولماذا !!

« إلى هذا اليوم » :

لا يقصد ق . بولس هنا وقفة زمنية ؛ بل هو امتداد باللعنة الموقوتة حتى اليوم الذي ستستعلن فيه وتتصفى لكي يتقبلوا بعدها انفتاح الرؤيا ، حيث الآذان الصم تصير وعيا بهياً فائقاً بالحق المعلن، والعيون ينفتح عماها على رؤية رب المجد، مع تهليل وتعرف باك على الذي طعنوه ! فتحل النعمة عوض الغضب .

9:11و10« وداود يـقـول لتصر مائدتهم فخا وقنصاً وعثرة ومجازاة لهم. لتظلم أعينهم كي لا يبصروا ولتحن ظهورهم في كل حين» .

واضح هنا أن ما جاء بالروح على فم داود يكمل ويشرح ما جاء على فم موسى وبينهما ألف سنة !!

ولـكـن لـو قرأنا ما قاله موسى على ضوء ما قاله داود ، لا تضح تماماً كيف قالها ولماذا قالها وعلى أي وقت يشير: «انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقماً وفي عطشي يـسـقـونـنـي خـلا. لتصـر مـائـدتهم قدامهم فخاً مجازاة لهم وللعثرة، لتظلم عيونهم فلا يروا ولتحن ظهورهم دائماً، اسكب غضبك عليهم . » (مز69: 20-24 عن السبعينية )

واضح من هذا الـوصـف المؤلم أن الجزء الثاني من الآية : « لتظلم عيونهم وتسد اذانهم» هو السبب الأساسي جزاء وفاقا لما جاء في النصف الأول . بمعنى أن – عمى قلوبهم وعدم سماعهم للحق جعل الطعام الجيد على مائدة تراثهم المجيد بمثابة فخ يوقعهم في الحرام والعصيان . وهذه الآية تنسحب على قول ق. بولس سـابـقاً : « أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة … فإنهم اصطدموا بحجر الصدمة». وقد يصور لنا هذا في مجمله بمائدة الفصح يوم الفصح الأخير التي أقاموها بعد أن ذبـحـوا المسيح الفصح الحقيقي في صهيون وأكلوا الفصح الكاذب وهم مرتاحو القلوب ، فصارت لهم مائدتهم فخاً وشركا ومن بعدها انحنوا ولم يقوموا.

وفي الحقيقة نرى في هذه الآيات نوعاً من اللعنة التي هي بمثابة التسليم للشيطان ليعمي عيونهم عن رؤية الله ويسد آذانهم عن سماع الحق، ويحني ظهورهم للالتصاق بالأرضيات حتى لا يأكلوا من شجرة الحياة فـيـحـيـوا !! وهذا مطابق تماماً لما تكلم به المسيح عنهم وجها لوجه : « لماذا لا تـفـهـمـون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي . أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تـعـمـلـوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق …» (يو8: 43و44). ثم إن قـول بـولـس الـرسـول : «لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب (جسد المسيح ودمه) وفي مـائـدة شـيـاطين (شهوة القتل)» (1کو21:10)، ينطبق على مجمل المعنى ، فمائدة (فصح) الذين قتلوا ابن الله هي في حقيقتها فخ الهلاك وعثرة الموت مزينة بكأس الحقد وشر النقمة .

 

[ 11: 11- 24] صارت عثرتهم وزلتهم سبب خلاص للأمم

 

11:11 «فأقول ألعلهم عثروا لكي يسقطوا . حاشا . بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم » .

الـقـديـس بـولس انتهى من نقاش قضية الرفض التي طرحها في الآية الأولى : « ألعل الله رفض شعبه» ؟ وأجاب عنها بـ ” حاشا ” ، ثم شرح كيف يمتنع الله أن يرفض كلية شعبه الذي اختاره ، ولـكـن أبقى له بقية ممثلة في الذين آمنوا من اليهود بالمسيح فامتد الاختيار، وهكذا كان الرد على سؤاله السابق أيضاً المضمر في الجواب : « ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت » (رو6:9)، أي كلمة الاخـتـيـار والوعد . فالله وإن رفض، فقد أبقى بقية محافظاً فيهم على كلمة الوعد وعهد الاختيار.

والآن يـطـرح ق. بولس في هذه الآية قـضـيـة الـسـقـوط النهائي بقوله : «ألعلهم عثروا لكي يسقطوا »، فيرد حالا : «حاشا » . ثم يبدأ يشرح السبب في قوله : « حاشا » ، لماذا أو كيف أن عثرتهم لم تبلغ حد السقوط ؟

ولكن يلزم أولاً أن نفهم الفرق بين العثرة والسقوط :

العثرة والسقوط :

فالعثرة اصطدام، ولكن السقوط انطراح على الأرض لا قيام بعده . فإذا قلنا إن العثرة تعني سقوطاً عفوياً فهذا يستلزم أن يكون السقوط سقوطاً بعده قيام، ولكن السقوط فقط كنهاية مقصودة يكون هو سقوطأ وبقاء في السقوط بلا قيام . وعندنا في أمر الملائكة الذين سقطوا مثل للسقوط بلا قيام: «لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء » ( 2بط2: 4). وهذا الوضع المحتم عينه يصفه يهوذا الرسول في رسالته هكذا : « والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بـقـيـود أبـديـة تحت الظلام» (يه 6)، لأنهم سقطوا بإرادتهم لما تعالوا وطلبوا رئاسة أعلى كالله !! « وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات ، أرفع كرسي فوق كواكب الله … أصعد فوق السموات وأصير مثل العلي . » ( إش14: 13 و14)

بولس الرسول يقطع أن عثرة إسرائيل ليست إلى سقوط ويعطي الأسباب هكذا :

أولا : في قول ق. بولس متسائلاً : «ألعلهم عثروا ” لكي“ يسقطوا ؟ » تلميح واضح في حرف «كي» إلى أن عـثـرتـهـم كـانت تحت ملاحظة الله، وأن قصد العثرة لم يتحدد «لكي» عند الله بالسقوط الدائم !! فهنا كلمة « حاشا » تعود مباشرة على تدبير الله المنزه عن الظلم والجور والخطأ ! والمعنى حاشا الله أن يجعل عثرتهم للسقوط الدائم أي الهلاك !! فماذا كان قصد الله إذا ؟

ثانياً: «بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم » :

هذه الآية مشحونة بالمعاني الخفية. فالله ولو أنه لم يقصد زلتهم، ولكنه جعل اصطدامهم بصخرة صهيون أي عثرتهم في المسيح ورفضه سبباً وفرصة لخلاص الأمم، جاعلاً خلاص الأمم في مقابل رفضهم هم للخلاص قرصة لتأديبهم وإغارتهم على مستوى الإذلال . 

ثالثاً: ولكن بولس الرسول يرى في عثرة إسرائيل شيئاً لا يخطر على بال ! إذ اعتبر عثرة إسرائيل وسـيـلـة لنعمة الله لدخول الأمم رغماً عن إسرائيل . فلو تصورنا فرضاً أن شعب إسرائيل بمثابة مملكة خاصة بالله ذات طاقة نعمة معينة وأنه لابد أن تبقى هذه النعمة على الأقل كما . هي، فإنه لما أخـرجـت إسـرائـيـل الجزء الأكبر من كيانها من هذه المملكة ـ صار فراغ للنعمة يتحتم ملؤه ـ وهكذا صارت الفرصة مواتية وملحة لدخول الأمم وقبول طاقة النعمة التي سقطت عن إسرائيل .

‏رابعاً : إغارتهم :

إن دخول الأمم الذي صار ضمناً لإغارتهم ، وهذا في غاية الأهمية، دخل تحت تدبير نعمة الله ـ الـتـي تـدبر للساقط والقائم خيراً ـ في مراحم الله النهائية . فدخول الأمم أصبح و بصورة دائمة فرصة لإغـاظـة شعب إسرائيل ، وهذا حفظهم بالتالي في روح الغيظ متشبثين بحقهم الذي ضيعوه لعـلـهـم يـنـالـونـه . وهكذا صار دخول الأمم ضماناً وتأميناً مستمراً لنوال شعب إسرائيل في النهاية لنفس النعمة ونفس البر الذي عثروا فيه وضيعوه . ونحن نجد فكرة إغاظة شعب إسرائيل بدخول الأمـم راسخة في تاريخ الخلاص منذ البدء كخطة إلهية نراها نحن الآن بأعيننا ، وقد التقطها ق . بولس بإلهـام واضح في قوله مردداً قول موسى منذ البدء : « موسى يقول أنا أغيركم (من الغيرة ) بما ليس أمة . بأمة غبية أغيظكم » (رو۱۹:۱۰). وهنا يتنبأ موسى عن خروجهم ودخول الأمم !

إذاً، فعثرة إسـرائـيـل بـحـسـب تـدبير خطة الخلاص الكلي أنشأت رحمة وفداء وخلاصاً للأمم وتذكيراً دائماً بما فقدوه هم .

۱۲:۱۱ «فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانُهم غنى للأمم فكم بالحري ملؤهم ؟ ».

 زلة : لقد انتهينا في الآية السالفة أن زلتهم لم تكن في تدبيرا الله للسقوط أي الهلاك، بدليل أنها أي زلتهم صيرها الله رغماً عنهم سبب خلاص للأمم . هنا ق. بولس يعتبر أن دخول الأمم في الخلاص صار غنى للـعـالـم . هنا لا يمكن فهم هذا المعنى إلا إذا كشفنا معنى « زلتهم » التي جاءت في اليونانية napanrola أي «تعد» بأقصى ما يمكن من معنى الخطأ. هذا في الواقع تم على أيدي اليهود ليس برفضهم المسيح وحسب بل بتسليمهم المسيح للقتل صلباً، هذه الخطية « الأعـظـم » في عرف المسيح في حديثه مع بيلاطس (يو11:19) هي التي فتحت باب الخلاص وأكملت الفداء وصارت خبر الإنجيل السار الذي صار غني للعالم . بهذا المعنى فقط يمكن فهم كيف أن زلتهم صارت غنى للعالم . أي إن زلتهم أنشأت لنا إنجيلاً للخلاص ! 

 

‏نقصانهم :

حيث النقصان هنا هو نزول مستوى إسرائيل عن مستوى الأمم بمعنى فقدانهم تفوقهم ، والذي يقابله في نهاية الآية كلمة ملؤهم والأصح أن تكون اكتمالهم naripoua. والمعنى واضح بالرغم من المناقشات الكثيرة التي أثيرت حول شرح هذه الآية .

فالقديس بولس قشم شعب إسرائيل إلى أغلبية زلت وأخطأت وخرجت من مضمون الشعب المـخـتـار، فاستقر الاختيار على بقية صغيرة أبقاها الله لنفسه آمنت بالمسيح وشهدت له . هنا حقيقة النقصان الذي يتكلم عنه ق. بولس ؛ فالكثرة رفضت والقلة قبلت الإيمان . فبولس الـرسـول يتصور أنه إن كان نقصانهم هذا أدى إلى غنى العالم ودخول ملء الأمم !! فكم بالحري عـنـدمـا يعود الجزء الأكبر المفقود و يدخل إسرائيل في حالة ملئه أي اكتماله ؟ وطبعاً لا يقصد ق. بولس هنا المضمون العددي لإسرائيل ولكن يقصد المستوى عند حصول شعب إسرائيل على الإيمان بالمسيح بكامل طاقاته الروحية وميراثه في الحكمة والتدقيق الهائل والدراسة والتمسك بمخافة الله إلى أقصى . حد، والمعرفة التي كان قد اختصهم بها الله .

13:11 «فإني أقول لكم أيها الأمم . بما أني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي» .

«فإني أقول لكم »:

الترجمة العربية لا تعطي المعنى المقصود . وصحتها : « ولكن أيها الأمم أقول لكم». لأن ق . بولس يفترض أن سؤالاً دار في ذهن مسيحيي الأمم مضمونه هكذا : ” أنت تدافع عن اليهود ومشغول بهم ثم تقول إنك رسول للأمم . ما هذا ؟‘‘ بولس الرسول يرد عليهم ويستدرك كل دفاعه الـسـابـق عـن الـيـهـود بـاعـتـبـار أنه لا يدافع عن اليهود بل عن الله الذي كان قد تواعد مع اليهود بـالاخـتـيـار والتبني والبر والمجد، والآن قد ظهر وكأنه رفضهم ، فأنا أصحح مفهوم الأمم عن اليهود لأن في ذلك صحة لإيمانكم بالله نفسه أيها الأمم ! فبولس الرسول يقول لهم أنا في دفاعي عن اليهود لـم أخـرج عن رسوليتي للأمم بل لا أزال أمجد خدمتي ؛ لأن ما يسري على اليهود المرفوضين الآن قـد يـسـري عـلـيـكـم أنتم الأمم أيضاً بعد أن أخذتم مكانهم في الاختيار. فإن قلت أنت لي : لقد قطعوا هم لكي أدخل أنا ؛ حسناً، من أجل عدم إيمانهم قطعوا وأنت بالإيمان المجاني دخلت . لا تستكبر ولا تدنهم . فدفاعي عن المقطوعين الآن هو مرتد عليك لتفهم أن الله لا يقطع من اختاره ؛ لأنهم عندما يندمون ويعودون من عدم إيمانهم إلى الإيمان سيقبلون ، لأن وعود الله دائماً بلا ندامة . أما لماذا أنا منشغل بهم ولا أزال مصلياً من أجلهم فأعلم ذلك :

14:11 «لعلي أغير أنسبائي وأخلص أناساً منهم » .

بمعنى أن إنارتي لذهن اليهود الرافضين الآن هو من صميم عمل الرسولية للأمم ، لأن قبولهم الإيمان بالمسيح هو قوة لكم ، وأنا لا أطمع في أن أغير موقف اليهود ككل ؛ لأن ذلك فوق عملي بل هو عمل الله الذي سيتممه في حينه ، ولكني أحاول الآن أن أخلص بعضاً منهم لحساب المسيح. الذي أخدمه وهؤلاء سيكونون حتماً خداماً لكم ، فخلاص اليهود خلاصكم . بعد ذلك يرتفع بولس الـرسـول مـرة واحـدة ليبلغ حد النبوة فيرى أن عودة اليهود ككل أي قبولهم الإيمان بالمسيح ستكون بمثابة قيامة من الأموات جديدة بالنسبة للعالم المسيحي . 

15:11 «لأنه إن كان رفضهم هو مصالحة العالم فماذا يكون اقتبالهم إلا حياة من الأموات » .

رفض واقتبال : 

واضح أن الله مـنـذ الـبـدء وإن كان قد اخـتـار إسرائيل، فإنه اختارها من أجل العالم . فجميع الأنبياء وبوحي من الله ملح ومتكرر، يذكرون أن الأمم وكل الشعوب داخلة في تدبيره . والـنـهـايـة ستتلألأ بالمسيح بين الأمم، «نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل» ( لو2: 32). فأي إخلال أو تقصير في تمجيد الله من جهة إسرائيل سيكون ثمنه في الحال تعويضه بواسطة الأمم : «حتى يمتلىء بيتي» ( لو14: 23). وأي تقصير في الكرم وخيانة، فحتماً ينزع من الكرامين الأردياء ويعطى لآخـريـن يحسنون الفلاحة والأمانة لأنه لابد أن يبقى الكرم !! وأصحاب الملكوت إن همو أهـانـوا الملك، تُنزع خدمتهم له وتعطى لأمة تصنع ما يليق بأثماره. و بنو الملكوت إن خانوا العهد والوعد يطرحون خارجاً، فالملك قادر أن يأتي بأمناء لملكه من أقاصي الأرض .

وهـكـذا يستحيل أن يكون عند الله رفض في الاختيار إلا و يكون معه قبول ، ولا يكون خروج إلا و يـكـون معه بالمقابل دخول ! فالإنسان ككل ( المختار في إسرائيل ) وإن كان متفتتاً في ذاته و واقعاً في عداوة، فليس هكذا أمام الله فهو «محبوب الله » ، وحبه يتحتم أن يزيد ولا ينقص ! وإسرائيل الإنسان لم ترتبط بالله بل الله هو الذي ارتبط بإسرائيل بصفتها الإنسان وقدسها لنفسه . فإن خانت إسرائيل ولم تكن أمينة، فخيانتها لنفسها ، وخيانتها لن تبطل أمانة الله للإنسان الذي اخـتـاره لنفسه وأحبه . فإن كانت صورة إبراهيم خليل الله أمام الله مع إسحق و يعقوب قد سترت إسـرائـيـل في الـقـديـم مـراراً من غضب محيق وعقاب فكم بالحري تكون صورة المسيح وهو هو مسيا إسـرائـيل ، قبل أن يكون مسيح الأمم !! «لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك . بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدئي أرحمك ، قال وليك الرب ، لأنه كمياه نوح ، هذه لي ، كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك . فإن الجبـال تـزول والآكـام تـتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب » ( إش54: 7- 10). وفي هذه الآية يبلغ ق. بولس أقصى رؤياه في تتبعه لتاريخ خلاص اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل . إنها نبوة العالم المسيحي ـ كما رآها ق. بولس منذ ألفي سنة ـ الذي بلغ الآن حالة الموات : فالإيمان المسيحي بلغ من الضعف مبلغه، والرجاء حتى في تغيير أو تجديد أو توبة انطفأ، فالعالم المسيحي في نزول وليس في طلوع ، الكنيسة ممزفة : عقائد مـتـضـاربـة وأحـقـاد مـتـوارثـة تـزداد ولا تهدأ، خدمة وكرازة بين الأمم صارت إلى توقف ثم إلى ارتداد !! إن المنظر الرؤيوي الذي لمع في ذهن ق. بولس عن حالة الموات التي يكون قد بلغها العالم المسيحي ـ والكنيسة ـ في زمن عودة اليهود إلى المسيح ثم انتعاشها مرة أخرى بظهور المسيح وإيمان الـيـهـود ، رآها كحالة قيامة من الأموات ! أو بمنتهى الوضوح رآها برؤية المسيح في استعلان مجيئه والكنيسة قائمة فيه بثوب جديد وهي تزف دخول اليهود من خارج الأبواب عبر خوارس الـتـائـبين حتى إلى قدس الأقداس : «لأن به لنـا كـلـيـنـا قـدوماً في روح واحد إلى الآب . » (أف2: 18).

أما حالنا وحال إسرائيل معاً الآن فيراه إشعياء النبي كالآتي :

+ «لقد ساد الموت وابتلع كل الناس ، ولكن الرب الإله يعود ويمسح كل دمعة من عيونهم ويزيـل عـار شـعبه من كل الأرض لأن فم الرب تكلم . في ذلك اليوم يقولون : هوذا الرب الذي آمنا به فهو سيخلصنا. هذا هو الرب الذي انتظرناه الذي رفعناه فسوف نفرح بخلاصه . » ( إش25: 8و9 سبعينية)

+« قـومـي اسـتـنـيـري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يرى فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك . » ( إش 60: 1-3)

قـد تـكـون الـرؤيـا ـ من جهتنا ـ خيالاً، وقد يكون التفسير ـ من جهتنا ـ وهما ، ولكن إن كـان المـنـطـق الـواقـع أمـام أعـيـنـنا ينطق بالصدق ، والكلمات تحمل صحتها بين حروفها بحسب المـنـظـور، فلماذا لا تكون الرؤية صحيحة ويكون التفسير حقاً ؟ فبولس الرسول يقول والشاهد في يمينه: إن كان رفضهم أنشأ مصالحة الله والأمم ، والتاريخ يشهد على ذلك ، فماذا يكون قبولهم بين مستقبلاً « والآن» ينطق بهذا المستقبل ؟ و بولس الرسول لا ينظر إلى إسرائيل بل ينظر إلى الله ؛ فإن كان الله في تنحيته لإسرائيل أكمل المصالحة مع الأمم فماذا يكون في رضاه وقبوله لهم ؟ نعم تكون حياة من الأموات . وماذا تعني الحياة من الأموات إلا ملء عودة الخلاص الذي نترجاه الآن بدموع وتـكـمـيـل الـفـداء الـذي يـعـتق أجسادنا من نوازع الموت وكرب الحياة الحاضرة : «نحن الذين لنا بـاكـورة الـروح ــ نـحـن أنـفـسـنـا ـ أيـضـاً !! نـئـن في أنـفـسـنا متوقعين التبني فداء أجسادنا . » (رو23:8)

16:11 « وإن كانت الـبـاكـورة مـقـدسـة فـكـذلك العجين. وإن كان الأصل مقدساً فكذلك الأغصان».

الباكورة والعجين: 

+ هنا ق. بولس يعمد إلى استخدام لغة رفع قربان ـ القمح ـ من باكورة الحصاد ( البيدر) تقدمة للرب ليصير القمح كله مقدساً ليس فيه شائبة وكأنه كله صار قدساً للرب : « وكلم الرب موسى قائلاً : كلم بني إسرائيل وقل لهم متى دخلتم الأرض التي أنا آت بكم إليها (فلسطين) فعندما تأكلون من خبز الأرض ترفعون رفيعة (تقدمة قربان) للرب : أول عجـيـنـكـم تـرفعون قرصاً رفيعة كرفيعة البيدر هكذا ترفعونه . من أول عجينكم تعطون للرب رفيعة في أجيالكم .» (عد15: 17-21)

فماذا يقصد ق . بولس من هذا التشبيه ؟ يقصد أن بتقديس الباكورة من الدقيق بتقديم رغيف منها قرباناً للرب يتقدس العجين كله . وبالأكثر بحسب النص في سفر العدد فإن قمح السنة كلها (بـاكـورة خـبـز الأرض ) يتقدس . ويستمر التقديس هكذا لكل القمح لكل سنة لكل الأجيال إن هم حافظوا على تقديم الباكورة من محصول كل سنة. هنا يصبح كل خبز إسرائيل مقدساً الباكورة التي قدست للرب . والتطبيق أن بقية العجين بعد الباكورة ، بالرغم من أنه لا يتم عليه أي تقديس، فهو يكون مقدساً !

الجذر والأغصان : 

كذلك إن كان الأصل أي جذر الشجرة مقدساً ، فكذلك تكون الأغصان . طبعاً هنا يقصد ق . بـولـس شـجـرة الـزيـتـون الـتـي سيطبق عليها شرحه . وهي معروفة أنها من الأشجار المقدسة نظراً لاستخراج زيت الزيتـون منها الذي توقد منه المنارة. باعتبار أن النور هو المسيح وأن الزيت هو النعمة وأن المنارة هي الروح القدس ، وذلك حسب التقليد قديماً وحديثاً . والأمر بديهي أن الشجرة إذا كان جذرها مقدساً فالأغصان كذلك تكون بالتالي . والتطبيق أن الأغصان تتبع الجذر في غنى الحياة .

أما التطبيق الكلي فهو أن «شعب إسرائيل » كشعب مختار ومقدس ، لا يقوم اختياره وتقديسه على الأفراد وتـصـرفـات كل واحد ومسئوليته لدى الجماعة والله ، ولكن اختيار الشعب وتقديسه هو كـــل مـتـضـامن . فهو كفروع مفردة ولكن الكل متصل بالجذر الواحد، الذي هو إبراهيم وإسحق ويـعـقـوب الذين تم اختيارهم وتقديسهم كباكورة العجين ، أو كالجذر الذي سيغذي الشجرة لتظل حية حتى يأتي المسيح الغصن الذي سينبت من جذر يسي، أو بالتالي من جذر إبراهيم ، ليعطي أغـصـانـاً جـديـدة حسب قول المسيح : « أنا الكرمة وأنتم الأغصان» (يو15: 5). « والكرمة نقلها من مصر» ، كـمـا يـقـول المـزمـور 80: 8 : « ومن مصر دعـوت ابني»، كما تقول النبوة أيضاً  (هو11: 1).

فهنا البقية التي أبقاها الله لنفسه من شعب إسرائيل قائمة من العجنة المقدسة أصلاً وقائمة في الجذر المـقـدس أصلاً، دون اعـتـبـار لمن رفض وقطع : «لأن ليس جميع الذين هم من إسرائيل هم إسـرائـيـلـيـون ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد» (روو:7). هم لا يزيدون عن كونهم فـروعـاً على الأصـل المـقـدس ، ولما لم يثبتوا في الأصل قطعوا، كما سيشرح ذلك ق . بولس حالاً . وطالما أن الأصل مقدس ، فكل من طعم على هذا الأصل من كرمة غريبة عوض المقطوعين ، فإنه يتقدس .

كذلك من العجنة المقدسة خرج القديس وخرج المستبيح ، خرج يعقوب وخرج عيسو، ولكن بقيت العجنة مقدسة حتى خرج منها المسيح . لذلك فالفرد لا يعكر قداسة الأصل ، فلا يوجد الأثر الرجعي لإبطـال ما سبق وقدسه الله . لأن عدم أمانة الناس لا يعطل أمانة الله . و وعود الله كما سنعلم هي بلا ندامة. ونظرية القديس بولس هي أن الجزء لا يلغي الكل، وأن البداية متصلة بالنهاية اتصالاً لا يخلخله ما يتوسطهما ، والتقديس والاختيار سهم منير منطلق ، والذي يقاومه يصرع ويسقط ليستمر السهم يقدس حتى النهاية : « أنا البداية والنهاية . » (رؤ6:21).

17:11 و18 «فإن كان قد قطع بعض الأغصان وأنت زيتونة برية طعمت فيها فصرت شريكاً في أصـل الـزيـتـونة ودسمها . فلا تفتخر على الأغصان وإن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك تحمل» .

هـنـا يـبـدأ بـولـس الـرسـول يـشـرح عقيدة لاهوتية تختص بالكنيسة المسيحية في الأمم ومنشئها وأسـاسـهـا الـذي بـنـيـت عـلـيـه، وهي عقيدة تبلغ من الأهمية والخطورة مبلغاً كبيراً بالنسبة لمفهوم الخلاص العام المسيحي، ونهاية وغاية هذا الخلاص بالنسبة للآخرة .

والآن بالنسبة للآية التي نحن بصددها ، فبحسب الأصول الزراعية الطبيعية لا يكون هذا التمثيل بالتطعيم صحيحاً. لأن فرع الزيتونة المر من الشجرة البرية إذا طعم في شجرة زيتونة حلوة فإنه يخرج زيتوناً مرا، وليس فيه أي دسم حلو. هذا قانون الطبيعة ، فماذا يقصد ق . بولس إذا من هذا المثل ؟

 ق. بولس هنا حينما يعكس الوضع و يصمم أن فرع الزيتونة البرية المرة إذا طعم في الزيتونة الجـيـدة سـيـنـصـلح حاله ويخرج زيتوناً جيداً دسماً و يصبح شريكاً في الأصل الدسم ، فهو يقصد المعجزة ضد الطبيعة ! وهذا تمثيل بارع وصادق تماماً أشد ما تكون البراعة ، وكأنما ق . بولس يقول إن الله ليـس كـالـطـبيعة، هنا التقديس يقلب النجس طاهراً، هنا البركة الإلهية تطغي على اللعنة الطبيعية وتلغيها ، هنا الاختيار يبتلع الرفض : «كما يقول في هوشع أيضاً سأدعو الذي ليس شعبي شـعـبـي والـتـي لـيـست محبوبة محبوبة، و يكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي» (رو9: 25و26). فالأممي حينما يقبل الإيمان بالمسيح الذي هو من جذر يسی يصیر أخاً للمسيح وبالتالي ابناً لإبراهيم بل و يصير شريكاً مع القديسين وأهل بيت الله !!

«فلا تفتخر على الأغصان»:

بولس الرسـول يـلـتـفـت إلى الأمـم لـيـحـذرهـم مـن الافتخار والشماتة أو التعالي على اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح ، وذلك من وجهة نظر عاملين ، الأول سبق وشرحه أن رفض الـيـهـود لـيـس كلياً ولا أبدياً، فهم حتماً سيعودون : « هل عثروا لكي يسقطوا ؟ حاشا » . فكما خرجوا سيدخلون . وكما قطعوا كأغصان سيعودون ليطعموا في أصلهم .

أما العامل الثاني، فأنت أيها الأممي إنما تغتذي من أصل الشجرة اليهودية، فالأصل يحملك وأنت لست على فراغ صرت أو آمنت . فميراث العهد القديم كله بآبائه وأنبيائه ووعوده وهباته هو الجذر الذي لا يزال يغذيك ويطعمك ؛ لأن قول المسيح لا يزال قائماً «فالخلاص هو من اليهود » (يو22:4). هكذا بإيمان المسيح تجلست الأمم بجنس الاختيار وورثت واستلمت عهد الكهنوت والملوكية فأصبحوا كهنة وملوكاً لله ، بل وصاروا من صميم الأمة المقدسة والشعب المقتني !!

+ « فـلـكـم أنـتـم الـذيـن تـؤمـنـون الـكـرامـة، وأما للذين لا يطيعون ( الإيمان ) فالحجر الذي رفضه الـبـنـاؤون هو قد صار رأس الزاوية، وحجر صدمة وصخرة عثرة. الذين يعثرون غير طائعين للكلمة، الأمر الذي جعلوا له؛ وأما أنتم (الأمم) فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب، الذين قبلاً لم تكونوا شعباً وأما الآن فأنتم شعب الله ، الذين كنتم غير مرحومين وأما الآن فمرحومون. » (1بط 2: 7-10)

بولس الرسول ينبه إيماننا المسيحي أن الكنيسة المسيحية لم تعد أممية خالصة أو حرة من اليهودية بل هي امتداد لاختيار الله منذ البدء ، لإنسان أحبه الله اسمه إبراهيم ، وشعب قدسه واقتناه لنفسه اسمه إسـرائـيـل ، فـامـتـداد الكنيسة المسيحية يلتحم بتاريخ إسرائيل حتماً ـ في الحب والاختيار والـتـقـديـس ـ وبالتالي و بالضرورة بتاريخ العالم والخلق . فالكنيسة ليست من فراغ أنت ولا إلى فراغ تمتد تمتد أو تنتهي، بل إن الكنيسة المسيحية هي مرحلة الاستعلان الأخير لتدبير الله ووعده منذ الـبـدء بل ومنذ الأزل ، وهي تتجه نحو الاستعلان النهائي لتدبير الله وبره الأخير أو الأخروي للعالم، الذي فيه تتجلى كل مراحل الخلاص بكل أشخاصه الذين شملهم التاريخ المقدس والذين لم يشملهم . كل اسم دعا باسم الله وكل اسم دعاه الله منذ آدم إلى آخر ابن لآدم، حيث يظهر الـكـل الـذيـن التحموا بالاختيار للإيمان، يشملهم بر الله ومجده حين يبلغ الإنسان المحبوب مرحلته الأخـيـرة العلنية في محبة الله كأعظم خليقة أحبها الله وصورها على صورته لتنعم بحبه وينعم بحبها : « ولذاتي مع بني آدم . » ( أم31:8) 

21-19:11 «فستقول قطعت الأغصان لأطقم أنا، حسناً، من أجل عدم الإيمان قطعت وأنت بالإيمان ثبت. لا تستكبر بل خف . لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أيضاً» .

«زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة ،
دعا الرب اسمك. بصوت ضجة عظيمة
أوقد ناراً عليها فانكسرت أغـصـانـها.
ورب الجنود غارسك قد تكلم عليك شرا
من أجل شر بيت إسرائيل وبيت يهوذا
الذي صنعوه ضد أنفسهم لـيـغـيـطـونـي
بـتـبـخـيرهم للبعل . » (إر11: 16و17)

إن تحذير ق. بولس للمسيحي الأممي جد خطير، إن هو نظر إلى رفض الله لإسرائيل بالتشفي أو الازدراء أو الاسـتـكـبـار كـأنها مسألة تاريخ مضى وانقضى؛ بل هي في حقيقتها مسألة إيمان وعدم إيمان، وهو أمر لا زلنـا تحـت امـتـحانه . لأن بالنظرة الحكيمة بالروح يكون العكس تماماً؛ إذ أن الإنسان الروحي يتألم ويتوجع على شعب امتلك ناصية المعرفة بالله ، واستؤمن على أسفاره المقدسة ، وله هذا الدلال كل الدلال من حب الله لآبائه وأنبيائه ، ثم هكذا يقطع ويطرح بعيداً عن الله وعن كل مواعيده . يا للهول !! ويطول القطع ويطول البعاد . يا للرعبة !!

فبـالـنـظـرة الحكيمة بالروح يدخل تحذير ق . بولس منطقة الخوف والجزع في إيماننا لأن . رفض الله لشعبه ليس مجهولاً لدينا ؛ بل معروفاً كل المعرفة؛ فهو لعدم إيمانهم بالمسيح ربأ وفادياً ، ولـيـس هـو تـاريخاً سقط؛ بل هو قضية ذات استئناف : «لأنهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سـيـطـعـمون» (23:11)!! فلهذا حينما ننظر ما حاق باليهود ، يعود الإنسان جزعاً يتحسس إيمانه من المسيح: « جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان ؟ امتحنوا أنفسكم أم لستم تعرفون أنفسكم أن يسوع المسيح هو فيكم إن لم تكونوا مرفوضين . » (2کو13: 5 )

فالآن وقد اسـتـؤمـئا على إيمان المسيح وبالتالي على كل غنى وتراث الشعب المختار بكل آبائه وأنبيائه ووعوده ومفاخره ، ماذا إن لم تثبت أننا أمناء عليه ؟ وماذا إن فرطنا في الإيمان الذي ورثنا هذا المجد؟ ألا يـعـود الله ويعمل فينا لإغاظتنا مثل ما عمل في اليهود لإغاظتهم يوم قطعهم من ميراثهم وثبتنا نحن فيما هو لهم ؟ أظن هذا أسهل بكثير؛ فإن قطعنا مما هو أصلاً ليس لنا هو أسهل من قطعهم مما كان أصلاً لهم ؛ وعودتهم لما هو لهم هي أسهل من دخولنا نحن إلى ما لم يكن لنا . فقول ق. بولس: «لا تـسـتـكـبر بل خف»، هو قول يؤمن فكرنا ويلهمنا اليقظة لتكريم ما بين أيدينا .

فإن كان الله لم يشفق على شعبه الخاص الذي اقتناه لنفسه بعهد ووعد لما زلَّ ؛
فهل يشفق علينا نحن الذين جمعنا من خلف السياجات إن نحن عملنا ما عملوا ؟

لهذا ما أصدق قول ق . بولس لنا هنا : «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة.» ( في2: 12)

۲۲:۱۱ «فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا، وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضاً ستُقطع » .

« لطف الله وصرامته » :

عجيب أن يربطهما ق. بولس معاً، فهما لا يفترقان في تدبير الله مع الإنسان.

فلو نحن استعرنا من ق. بولس قوله في الآية : « وأنت بالإيمان ثبت ، لا تستكبر بل خف » ، وجـعـلـنـاهـا أساس حياتنا وأسلوبنا في التفكير والسلوك ، فحتماً سيكون نصيبنا اللطف إن ثبتنا في عدم الاسـتـكـبـار وفي الخوف من السقوط من رحمة الله . أما إذا أخذنا الغرور وتفكرنا في أنفسنا أن إيمـانـنـا بـالمسيح يرفعنا فوق الآخرين حتى وإن كانوا مرفوضين ، فهذا هو الاستكبار الذي لا يناسبه إلا صرامة الله حيث القطع .

فـبـولـس الـرسـول يحثنا أن نبقى في نطاق لطف الله ، فهو إنما يدعونا أن نمسك بالإيمان دون أي افتخار أو استكبار، وخاصة بالنسبة للذين أخطأوا وزلوا . وعبرة اليهود أمام أعيننا قائمة .

۲۳:۱۱ «وهـم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيطعمون. لأن الله قادر أن يطعمهم أيضاً».

إذا فقـطـع الـيـهـود لـيـس نهائياً ولا أبدياً . فالغصن المقطوع لا تزال فيه عصارة الحياة، رائحة إبـراهـيم . ففي الوقت الذي يكف فيه اليهود عن عنادهم وإعطائهم الله القفا دون الوجه ، ويندمون على عدم إيمانهم فلا تزال قوة الله الشافية قائمة ومتحفزة لشفائهم ، فالذي قطع ، قادر أن يطعم من جدید .

هـنـا يـتـألـق رجـاء بولس الرسول ويهتز قلبه بالابتهاج لمجرد رؤية عودة إسرائيل لأصلها وهي تـطـرح الـزيـتـونـة مـن جـديـد لحساب المسيح، ولكن لا مفر من الإيمان . فبر الله لا يركب على غير المسيح الفادي ، وقدرة تحنن الله رهن توبة الإنسان .

عزيزي القارىء، إن أحلام ق . بولس الذهبية هذه التي تبدو جميلة ومذهلة بآن واحد لا تأتي مـن فـراغ ، ولا هو منعطف بالحنين على أقربائه وأنسبائه بالجسد كما يظن العلماء والشارحون ؛ بل الذي ألهمه هذه الأحلام هو نداؤه ببر الله بالمسيح يسوع كعمل بدأه الله على الصليب وحتماً سيبلغ أقصى قـوتـه وأقصى منتهاه . وفي نظر ق. بولس وإيمانه ، وفي نظرنا وإيماننا أن أقصى بلوغ سيبلغه بر الله هو حينما يطرحه على إسرائيل العاصية التي هجرها وأذلها هذه الألفي سنة، فيعود ويلبسها البر لباساً ، والخلاص تاجاً ، وتفرح كل الأمم معها بذات البر وذات الخلاص الذي اغتصبناه منها. 

 

 

24:11 «لأنه إن كنت أنت قد قطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة، وطعنت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة. فكم بالحري يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة» .

ق. بولس يـنـتـقـل نـقـلـة يحـفـهـا الـتـمـنـي مع الرجاء وشيء من الثقة، «من الله القادر أن يطعمهم»، في الآية السالفة، إلى هنا : «فكم بالحري يطعم هؤلاء في زيتونتهم الخاصة » !! يلزم الانـتـبـاه كيف يتدرج ق. بولس في رجائه، بل في يقينه ، من واقع رؤياه من جهة عودة إسرائيل إلى الإيمان والخلاص هكذا :

أ ـ « من أجل عدم الإيمان قطعت » .
ب ـ « إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيطعمون » .
ج ـ « الله قادر أن يطعمهم » .
د ـ «كم بالحري يطعم هؤلاء في زيتونتهم الخاصة » .
ثم هـ ـ « وهكذا سيخلص جميع إسرائيل » .

وبالعودة إلى الآية أعلاه نجد منطق ق . بولس صحيحاً وقوياً ، لأن تطعيم زيتونة برية مرة في زيـتـونـة جـيـدة ــ هـو بـحسب الطبيعة يستحيل أن يعطي إلا زيتوناً مرا. ولكن ق . بولس يرى أن نجاح تطعـيـمـنـا نحن الأمم في أصل يسى الحامل لبركة إبراهيم وميراث الشعب المختار لنطرح بالإيمان مجـداً الله وننال برا معادلاً لبر إبراهيم بالإيمان بقيامة الرب يسوع المسيح من الأموات ، هو ليس تطعيماً حسب الطبيعة ؛ هو بالحقيقة معجزة. فإن صح تطعيمنا، وهو على خلاف الطبيعة، فما أهـون ، بل هو من الطبيعي، أن يعود شعب إسرائيل المهجور إلى الله وليه الذي اختاره، الذي قدسه ودلله تدليلاً، يعود ليلتحم في الأصل الذي حفظته له الأمم .

هنا نلمح في أسلوب ق . بولس ليس قوة منطق الكلام وحسب ؛ بل لهجة الرضى وكأنها حقيقة مرسومة أمام : عينيه يطرحها أمامنا بتزكية خاصة منه .

[ 11 : 25-32] حينئذ يرحمون وتخلص بقية إسرائيل !

 

11: 25 «فإني لستُ أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر، لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم» .

سر:

الـسـر في العهد الجديد هو عمل من أعمال الله الفائقة التي كانت مخفية عنده ثم أعلنها ، وهي التي لا تخضع للعقل، يعطيه الله للإنسان ليحياه ويمارسه ، ويبقى تحقيقه بانتظار الاستعلان الأخروي . وهذا المعنى توضحه بجلاء هذه الآية : « والقادر أن يثبتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب ” إعلان السر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الأزلية ولكن ظهر الآن وأعلم به جميع الأمم …» (رو16: 25و26)

لذلك فـخـدام إنجيل الله يسمون « وكلاء أسرار الله » (1كو1:4). كذلك فكل أمر متروك تحقيقه للـمـسـتـقـبل وتقتصر معرفته على الاستعلان، هذا يسمى «سر»، كما هو الحال في هذه الآية (1). والقديس بولس يعني أن هذا الأمر هو عمل الله الذي سيتم في حينه والمطلوب منكم أن تستعلنوه بالروح لتتأكدوا منه وذلك لخلاصكم .

ق. بولس يعطينا لمحة سريعة عن كيفية فهم وشرح الواقع تحت أعيننا والذي تدعمه النبوات ، فـمـوضـوع رفض إسـرائـيـل لا يمكن فهمه كحادثة تاريخية سقطت بعيداً عن مدرج حوادث الفداء والخلاص، بل إن رفضهم هو في الحقيقة «سر» من أسرار الفداء والخلاص هم تسببوا فيه رغماً عنهـم بـل مـن وراء ظـهـورهم ؛ لأننا من النبوات التي ذكرت مراراً سمعنا وتأكدنا أن الله أعمى عـيـونـهـم وأصم آذانهم حتى لا يعودوا ويؤمنوا فيشفيهم حسب قوله : « القساوة قد حصلت جزئياً لإسـرائـيـل». فالله هو الذي قشاهم ، فهو «يرحم من يشاء ويقشي من يشاء»، بل أغلق عليهم في عماهم وصممهم، حتى اصطدموا بصخرة رجائهم مسيا الدهور الذي انتظروه وكان محط فخرهم وآمالهم . والرب صنع ذلك بهم لأنهم لم يكونوا يستحقون هذا الرجاء وهذا الفخر؛ إذ أنهم أساءوا إلى الله جدا : «الصخر الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك . فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته ، وقال : أحجب وجهي عنهم وأنظر ماذا تكون آخرتهم . إنهم جيل متقلب، أولاد لا  أمـانـة فـيهم . هم أغاروني بما ليس إلها . أغاظوني بأباطيلهم . فأنا أغيرهم بما ليس شعباً ( الأمم )، بأمة غبية أغيظهم (بدخولهم الإيمان ). » ( تث 32: 18-21)

و واضح من هذه النبوة المبكرة جداً، لأنها جاءت من فم موسى في سفر التثنية ، أن الرب وهو يرفضهم يقول : «أحجب وجهي . وأنظر ماذا تكون آخرتهم ». إذا فليس هو الرفض الكامل والـنـهـائي، إذ هو على أساس التأديب «أغيرلهم (من الغيرة)» « وأغيظهم »، وفي آخرتهم يعود الله وينظر في أمـرهـم ، ماذا ستكون استجابتهم . وموسى الذي كتب هذه النبوة أوضح ببيان أن رفضهم يزامن دخول أمة غبية لتحل محلهم عند الله أمام أعينهم لإغاظتهم .

وهنا يلتقط ق. بولس صوت الله في هذه النبوة ويضيف إليها ما هو واقع أمام عينيه وعلى يديه من دخول الأمم بالفعل، والإضافة الوحيدة التي أضافها لتكميل امتداد النبوة إلى آخرها : « وأنظر مـاذا تـكـون آخـرتـهم » ، بقوله إنه عند تمام دخول الأمم يعود الله وينظر في أمر إسرائيل ويرفع عنها سحابة عماها وغطاء ضميها فترى وتسمع وتعود وتتوب وتؤمن .

ولكن يقول قائل ما ذنبنا نحن أن نوجع قلبنا وفكرنا بخروجهم ودخولهم فيطوف بنا ق. بولس بهذه المشكلة من أولها إلى آخرها التي حيرته وحيرتنا معه ؟ القول هنا والإجابة خطيرة إلى أبعد حد :

فأولا : الذي يشغل ق. بولس ليس إسرائيل ولا رفض إسرائيل ولا عودة إسرائيل ولا دخول الناموس ولا خروج الناموس ولا عدم نفع الناموس ، ولكن الذي يشغله هو بر الله الذي صمم الله أن يهبه للأمم بأعظم فيضان أكثر مما كان قد سكبه على أخصائه في القديم .

ثانياً : ق. بولس يتتبع بر الذي أظهر بظهور يسوع المسيح الذي رفضته إسرائيل ككل، إلا بقية صغيرة، أبقاها الله لنفسه ، لتقبله الأمم . ويعود بعين النبوة ويرى أن رفض إسرائيل هو زمني مؤقت لحين دخول ملء الأمم ليعود الله ويرضى عن شعبه الذي سبق أن اختاره .

ثالثاً: والقديس بولس يسير متتبعاً المخطط الخلاصي الإلهي عبر تاريخ العالم وإسرائيل والأمم ممسكاً ببر الله بيد والاختيار والتقديس باليد الأخرى .

على أن بر الله كان لابد أن يـسـود ، والاختيار كان من المحتم أن يبقى ويدوم ، وذلك مهما قابلهما من عقبات وجحود لأن الله أحب الإنسان .

فالآن انظر أيها القارىء ، نحن لا نمثل إلا حيزاً محدوداً من خطة الخلاص العظمى، وقدراً محدوداً مـن بـر الله ، وكمية محدودة من اختيار الله ، ويلزمنا جداً أن نعرف أين نحن ومن نحن في هذا الخلاص العظيم ، وعلينا أن نستوعب كيف حصلنا على هذا الخلاص والبر والاختيار، وكيف نتمسك به ونصونه لئلا ينزع منا، لأن أي إهمال أو كبرياء أو اعتداد بما نلناه ـ وكأننا قد صرنا حكماء عند أنفسنا ، أو أي ازدراء أو استعلاء أو تشفي باليهود الذين نخاهم الله لنحل محلهم ، سيعطي الله الحق لينځينا ويدخلهم ، لأن القساوة التي أوقعهم الله فيها هي جزئية وزمنية .

ولـكـن نعود ونقول إن عين ق. بولس وهو يسرد لنا ـ في رسالة رومية ـ مراحل خلاصنا هي دائماً متجهة نحو مسرة بر الله عبر التاريخ ، تاريخ العالم واليهود والأمم ، ليرسيه في النهاية على اكتمال الإيمان بالمسيح عند استعلان المسيح الأخير لتكميل الفداء ووضع إكليل الخلاص على رأس البشرية المفدية .

«ملؤ الأمم»: 

تضاربت أقوال العلماء في فهم هذا القول لبولس الرسول دون أن يصلوا إلى حل، ولكن نحن نعتقد أنه لا يعود على أزمان ولا على أجناس ولا أعداد بل على «المختارين من الأمم». فهؤلاء هم وحدهم الذين يمثلون «الملء الإلهي» وهم معروفون سابقاً حسب علم الإله الأزلي : «الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم » (رو29:8)، «كما “اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لـنـكـون قـديسين و بلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق “فعيننا” للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مـسـرة مـشـيئـته … الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً “معيّنين سابقاً، حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف1: 4 و5 و11)، «المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح . » (1بط1: 1و2). أمـا عـدد هؤلاء المختارين فهو قطعاً معروف عند الله وهو بحجم ملء بيته: «فقال السيد للعبد أخرج إلى الطرق (طرق الأمم) والسياجات (خارج الـنـامـوس ) وألـزمـهـم بـالـدخـول ( الروح القدس يدعو ويلح في الدعوة حتى الإلزام) حتى يمتلىء بيتي.» (لو14: 23).

أما متى يدخل ملؤ الأمم ؟ فلنا في سفر الرؤيا لمحة : « ( الشهداء ) صرخوا بصوت عظيم قائلين حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض . فأعطوا كـل واحـد ثـيـابـا بـيـضـاً وقيل لهم أن يستريحوا ، زماناً يسيراً، أيضاً حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخـوتـهـم أيضاً العتيدون أن يقتلوا مثلهم » (رؤ6: 10و11). بمعنى حتى تكمل جميع الشهادة للمسيح على كل الأرض .

11: 26 « وهكذا سيخلص جميع إسرائيل، كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنفذ ويرد الفجور عن يعقوب » .

 قول ق. بولس إن القساوة حصلت جزئياً لإسرائيل يمهد مباشرة لقوله : « وهكذا سيخلص جميع إسـرائـيـل » . لا زال ق. بولس يتكلم في إطار «السر» : «لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر» ، وهو السر الذي يعتبره ق. بولس رأس ماله الذي أعلنه له الله بالروح :

+ «نتكلم بحكمة الله في سر. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا التي لم يعلمها أحد من  عظماء هذا الدهر (بالعقل والمنطق ) . » (1کو2: 7و8)

+ « السر المـكـتـوم مـنـذ الـدهـور ومنذ الأجيال لكنه الآن قد أظهر لقديسيه الذين أراد الله أن يعرفهم ما هو غنى مجد السر في الأمم الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد» (کو1: 26و27)

وهو کله يدور حول قيام الكنيسة بعد انحجاب الهيكل والسنهدريم واليهود ، ثم يضيف بعد دخول الكنيسة حتى إلى ملء الأمم ، عودة إسرائيل !! « بل أغلظت أذهائهم لأنه حتى اليوم ذلك الـبـرقع ( العمى الذي أصابهم به الله ) نفسه عند قراءة العهد العتيق باقي غير منكشف ، الذي يبطل في المسيح. لكن حتى الـيـوم حين يـقـرأ مـوسى ، البرقع موضوع على قلبهم ولكن عندما يرجع (إسرائيل) إلى الرب يرفع البرقع . » (2کو3: 14-16)

«جميع إسرائيل » :

بحسب الرأي السائد لدى العلماء الآن، فإن التعبير « جميع إسرائيل» لا يعني كل الشعب الـيـهـودي كما كان يظن القديس أغسطين وغيره، ولا كل فرد في إسرائيل، ولكن المفهوم ينصب على الشعب الإسرائيلي في مفهومه كأمة. ولكن، بحسب رأينا ، نرى أن كلمة جميع هنا هي المـقـابـل المكمل لكلمة البقية (5:11). بمعنى أن الجزء الأكبر رفض الإيمان إلا البقية الـتـي أبـقـاها الله لنفسه التي آمنت بالرب يسوع المسيح والتي انحصر فيها الاختيار بعد رفض الأغلبية . والآن يعود بولس الرسول و يرى أن هذه الأغلبية التي رفضت والتي قال عنها سابقاً أما “الباقون فتقسوا”(7:11)، هذا هو الجزء الأكبر الذي سيعود لينضم إلى الجزء الأصغر الذي كان قد آمن. وهكذا يتكون مفهوم كلمة «جميع » إسرائيل التي  تكون مجموع كل من : Aetna «البقية» التي آمنت سابقاً مع Rounot « الباقي» أي الأغلبية التي تمثل الـذيـن سـبـقـوا ورفضوا. فكلمة «جميع إسرائيل» تفيد إفادة قاطعة معنى عودة ودخول إسـرائـيـل « كـكـل» دون تحديد أعداد أو أفراد ودون أن تحتمل الكلمة شمولاً كاملاً للشعب ؛ بل تعني رضاء الله « الكامل» عن ما كان يسمی « شعب إسرائيل ». مثلما كان يقال عن أن الله غضب على شعب إسرائيل وأرسله إلى السبي « جميعاً»، في حين أن كثيرين بقوا في أورشليم . أو أن يقال رضي الله على شعب إسرائيل «جميعاً» وأعادهم من السبي، في حين أن كثيرين تخلفوا واسـتـوطنوا في البلاد التي شبوا فيها. هكذا كانت كلمة «جميع الشعب » تفيد المعيار الكلي للاسم وليس مضمون الأعداد أو الأجزاء .

« كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ و يرد الفجور عن يعقوب » :

ق. بولس يستشهد بإشعياء النبي في قوله كما هو مكتوب : « ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى الـتـائـبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب . أما أنا فهذا عهدي معهم ؟ قال الرب » ( إش 59: 20و21)، « وينزع فـجـور يـعـقـوب وهذه تكون بركته حينما أرفع عنه خطيته …» ( إش27: 9 سبعينية )

27:11 « وهذا هو العهد من قبلي لهم مني نزعت خطاياهم » .

وهنا تلميح غير واضح لنبوة إرميا النبي : « ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد ( الأول ) الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب … لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد . » (إر31:31 و32 و34)

وفي الحقيقة نحن لو تمشينا مع نبوة إرميا هذه ، نجده في النهاية يقول بما يقول به ق. بولس تماماً هكذا: «الجـاعـل الشمس للإضاءة نهاراً وفرائض (أنظمة) القمر والنجوم للإضاءة ليلاً … إن كانت هذه الفرائض ( الأنظمة ) تزول من أمامي يقول الرب فإن نسل إسرائيل أيضاً يكف من أن يـكـون أمة أمامي كل الأيام … إن كانت السموات تقاس من فوق وتفحص أساسات الأرض من أسـفـل ( استحالة هذا) فإني أنا أيضاً أرفض كل نسل إسرائيل (استحالة) من أجل كل ما عملوا يقول الرب . » (إر31: 35-37)

وفي الحقيقة نجد في نبوة إشعياء (20:59) قوله : « ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يـعـقـوب»، إشارة بليغة حقاً لمجيء المسيح « الثاني» باعتباره المجيء الفادي لبقية إسرائيل التائبين عن معصيتهم .

28:11 «من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم ؛ وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء ».

وما هو الإنجيل ؟ إلا ظهور ربنا يسوع المسيح والفداء، الذي وقف فيه إسرائيل موقف العداوة المرة، وبأيديهم ذبحوا الفادي ، فحملوا وزر عملتهم السوداء، وفزنا نحن ـ بعملتهم ـ بنجاتنا وخلاصنا وفدائنا. وهكذا وقف الصليب ليلقى من ظهره الخلفي على إسرائيل وزر العداوة والجهالة وحـكـم الـرفـض والتأديب، ومن أمام وجهه الأمامي وقفنا لنغتسل بالدم وننال خلقتنا الجديدة وروح الحياة وبر الخلاص ونعمة الفداء والمصالحة .

ثم ما هو قوله : «من جهة الاختيار»؟ إلا إبراهيم والعهد والوعد بالقسم وكل أسفار العهد القديم التي تحمل فعل الاختيار والتقديس .

وهنا تقف إسـرائـيل لتحتفظ «بموقع » المحبوبين عند الله ، حتى ولو كانت قد انتزعت منه ، وتـوقـف أن يسري عليها حتى تكمل زمن هجرانها وتأديبها . على أن موقع المحبوبين محجوز لها إلى أن تـنـفك من سلاسل وقيود عداوتها وتعود تائبة مرضياً عنها . الله غضب على إسرائيل لكي يرحمها ، الله قتى إسرائيل لكي يؤدبها، والذي يحبه الرب يؤدبه ، الله طرد آدم بخطيته ليعيده إليه بلا خطية والله رفض إسرائيل لعنادها ليعيدها منكسرة منحنية .

الأمـم كـانـوا تحـت الغضب غير مرحومين ثم دعاهم وفداهم وصاروا موضوع مسرته ، وفي نعمته وحـبـه يـمـرحـون ، ذلك ليظهر فيهم غنى عمل بره المجاني، وهم قبلوه غير مصدقين لأنه ليس بعمل أيـديـنـا رحمنا ؛ بل بمقتضى رحمته صرنا في هذه النعمة مقيمين. فما بالك بالذين كانوا مرحومين بل كـانـوا مـخـتـارين ومدللين وفي نعمته يمرحون ؟ أكثير عليهم يعود بهم إلى ما كانوا عليه وفيه ؟ ويضيف إليهم ما أضافه لنا من غنى الفداء و بهجة الخلاص !!

29:11 «لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة » .

هذه الآية إنمـا تخـدم قـضـيـة ما قاله في الآية السالفة : « من جهة الاختيار هم أحباء من أجل الآباء». لماذا ؟ لأن هبات الله للآباء ودعوته لهم وتقديسه إياهم لا يشوبها ندم ! ق. بولس هنا يعود على مفهوم « الاختيار» الذي حتماً يأخذ مجراه ليبلغ غايته ومنتهاه .

هبات ودعوة : 

«هبات» لا تـأتـي وحـدهـا كما لا تأتي «دعوته » وحدها، فالذي يدعوه الله يهبه، والذي يهبه الله يدعوه ، بمعنى أنه لابد للنعمة من العمل والعطاء، ولا عمل ولا عطاء بدون النعمة. 

فالله اخـتـار إسرائيل وخصهم بالعطايا والمواهب ليكونوا نوراً للشعوب . فإن أخفق إسرائيل فالله لـن يـنـدم؛ بل هو متمم دعوته وعطاياه ومواهبه إلى النهاية، يزيدها ولا يلغيها . فهل يسحب الله محبته للآباء ؟ أم يوقف نعمته التي أعطاها لقديسيه ؟ أم يلغي دعوته لإسرائيل ليكون شعبه إلى الأبد لأن إسـرائـيـل أخطأ؟ وبحسب فكر ق . بولس هل يوقف الله مسار عمل بره الذي قرره منذ الأزل ليهبه للإنسان عبر إسرائيل من أجل خطية إسرائيل ؟ هذا غير وارد في تدبير الله . فليكن الله أميناً في كـل مـواعـيـده ، والإنـسـان هـو وحـده الـذي أخـفـق في أمانته. وكأن ق . بولس يريد أن يقول إن إسـرائـيـل مـرفوض ، ولكن لا يزال محتفظاً عند الله بموقع المحبوب من أجل مواعيد الله للآباء وعهده للشعب ، حتى يعود من حماقته .

ومـا قيمة هذا بالنسبة لنا الآن ككنيسة ؟ فليعلم القارىء أننا نخرج من هذا بمبدأ يثبتنا في الإيمان، ويشـدد ثقتنا في كل مواعيد الله التي أعطاها لنا في المسيح . فنحن دعينا أيضاً لنكون له كنيسة بـل جـسـداً للمسيح ، ودعينا لنكون لابن الله القائم من الأموات إخوة وأبناء الله بالروح ، وتـقـدسـنـا بـروحه القدوس و بغسل دمه ، وأعطينا وعداً أبدياً أننا مخلصون ومفديون ومدعوون للحياة الأبدية. هذه كلها بالمثل وعود الله ، وهي بلا ندامة، فهي ثابتة لنا أثبت من السماء فوق رأسنا والأرض تحت أقـدامـنـا. فثبوت وعد الله لإسرائيل بالرغم من زلتها وعثرتها يعطينا نفس الحق الله الأبدي أننا  ونحن خطاة لنا وعد الله الأبدي أننا مرحومون ومحبوبون لا محالة ، لا من أجل الآباء ومواعيد الله لهم ؛ بل من أجل يسوع المسيح ابن الله الذي قدسنا وضمن لنا العهد والوعد .

والآن فإن اسـتـكـثـرنا أمانة الله على مواعيده بالنسبة لإسرائيل فكيف نتمسك بمواعيده بالنسبة لنا ؟

32-30:11 «فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله، ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء، هكذا هؤلاء أيضاً الآن لـم يـطـيـعـوا ، لـكـي يـرحـمـوا هم أيضاً برحمتكم . لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان، لكي يرحم الجميع » .

الحقيقة المرة تبدأ من كون اليهود كانوا يحتقرون ويكرهون الأمم بشدة ودون تعقل؛ وهكذا وبالمثل كان الأمم يبادلونهم نفس الاحتقار والازدراء والكره الكريه !!

وهـكـذا صمم الله أن يغلق على الجميع في العصيان، كون كل واحد منهما يعرف أنه مرفوض ومـكـروه من الله . وهـكـذا تـبـادل الأمم واليهود الرفض من قبل الله . وعلى نفس المنوال يرى ق . بولس أنهما سيتبادلان العودة والرحمة. الأمم أولا عادوا من رفضهم إلى محبة الله بالمسيح . وعلى هذا الـقـيـاس يـعـود إسـرائـيـل بعد مرارة الرفض والتأديب . والله لم يعمل بينهما هذا التبادل خلواً من رباط ؛ فعصيان إسرائيل هو الذي تسبب في رحمة الأمم وقبولهم . هكذا فإن رجعة إسرائيل إلى رحمة الله إنما سببها وأساسها هو رحمة الأمم كعامل إغاظة وغيرة، ولكن بالأكثر كعامل تشجيع واستنارة وربما صـلاة مـن طـرفنا وتوسّل !! أما عودة إسرائيل فقال عنها ق. بولس إنها ستكون للأمم كحياة من موت (15:11)!!

وللـذيـن يستصغرون أهمية عودة إسرائيل نقول : وهل صليب ربنا يسوع المسيح هكذا يخفق في أن يجذب مـعـانـديـه ؟ لقد جذب ق. بولس بسهولة، وهو حامل على يديه توصيات بقتل المسيحيين وإبادتهم ، فهل يصعب على المسيح أن يجذب أولاد الذين غفر لهم خطية صلبه (لو23: 34)؟! ألم يقل الرب : « إني إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع » (يو12: 32)؟ فبأقل من الجميع ، اليهود والأمم معاً، لا يرتاح المسيح على صليبه . يتحتم أن يتخلص الصليب من عثرته المفتعلة، ومن وجهه السلبي للمخدوعين من الشيطان، يلزم أن يكون الخلاص بلا عثرة لأحد، وعمل الله العظيم الذي أكمله في ابنه لا يليق أن يكون فيه خسارة للإنسان، فتصبح ساعة الصلب ليست ساعة إسـرائـيـل وسلطان الظلمة (لو22: 53)؛ بل يتحملها الشيطان وحده وتتبرأ إسرائيل. ويتحول دم المسيح من «علينا وعلى أولادنا » (مت27: 25) ليكون لتطهيرنا نحن وأولادنا ، حينئذ يتم دعاء المسيح على الصليب من أجلهم: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» ( لو23: 34)، وتتم رؤية النبي: «فيسكن الذئب مع الخروف . » ( إش 6:11)

[ 11 : 36-33 ] نشيد الحكمة !!

«یــا لعـمـــق غـنى الله … وحـكـمــتــه وعـلــمـه
ما أبعد أحكامة عن الفحص… وطـرقـه عـن الاستقصاء
لأن مـن عـرف فـكـر الـرب… أو مـن صـار له مشيراً
أو من سبق فأعطاه فيكافأ… لأن منه وبه وله كل الأشياء
له المجد إلى الأبد . آمين».

لم يرتفع ق. بولس في تجلياته لرؤية إيجابية الله والخلاص كما ارتفع في هذه الرسالة إلى رومية وعلى وجه الخصوص في الأصحاحات 9 و10 و11.

لقد حلق في سماء بر الله واطلع على رحمة القدير وكشف أعماق غنى سخاء الله من نحو الإنسان. لقد أجلسته الحكمة على جناحيها وطارت به حول دائرة أفكار القدير وأرته أعماق قلب الله، فاطلع على مشورة الأزل كيف خصص الله للإنسان كل بر وملء حبه واختياره . ثم دارت به الحكمة حول دائرة الأرض وكشفت له عن هوان الإنسان، في ذاته، وفي بعده عن الله : إن إسرائيل كالأمم. ثم عادت الحكمة تلقنه معرفة سبق علم الله وسره المكتوم منذ الأزل عما أضمره من جهة تدبير كمال خلاص الإنسان، إسرائيل مع الأمم لا فرق، فجاءت هذه الرسالة إلى رومية .

33:11 «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء » .

بعد أن طارق. بولس وحلق واطلع على أعماق غنى الله في ذاته، وحكمته نحو تدبير خليقته ، وعلمه الذي بث صورته في عقل الإنسان وقلبه ، وبعد أن كتب رسالته إلى أهل رومية التي بين أيدينا وسكب فيها كل رؤيته بكل أمانته وكل وعيه، عاد ليراجع نفسه فيما كتب ، ويطابقه على رأى وعاين وسمع ، فجزع، إذ استصغر كل ما قال ووصف عن أن يوفي حق غنى الله وحكمته . فالبعد شاسع : «لأنه كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم . » ( إش 9:50)

«غنی الله »: 

فبر الله الذي بهر قلب ق. بولس كأعظم صورة لسخاء الله المتناهي نحو الإنسان الذي ظل يحكي عنه إلى تسعة أصحاحات ، رآه فإذا هو لم يزد في حقيقته عن عينة من بحر غناه الذي اذخر لنا فيه ألواناً وألواناً من عطايا وحب ولطف عميق لا يُحد. 

«حكمة الله »: 

والحكمة التي رآها وهي تصنع الفداء العجيب ، والخلاص الممتد الذي فاجأ الله به الإنسان وهو في موته الذليل في خطاياه ، بابنه الذي تجسد من أجله خاصة، هذا الأمر الذي فاق حد التصور والخيال والذي صـال فيه ق. بولس وجال ، و بعد أن قاسه طولاً وعرضاً وعمقاً وغلوا، رآه فوجده على ما رآه عملاً واحداً ، أعمال حكمة الله ذات الأغوار التي لا قرار لها ، والتي ادخرها لتقديس الإنسان وتقريبه إلى نفسه وضمه إلى قلبه .

«علم الله »: 

واختيار الإنسان في المسيح قبل الزمان وقبل أن توجد الأكوان، كخليقة مقدسة تحتل تصور الله على مـسـتـوى مسرة قلبه في الخلود ، تم تحقيقه في الزمان، لتأخذ هذه المسرة لها في آدم ـ من تراب الأرض ـ كـيـاناً تتشكل به وتتخلق ، وتشقى فيه وتتدرب ، لتتهيأ لهيكلها الروحي في المسيح الذي تنطلق فيه إلى موطنها الأعلى، بعد أن يعود التراب إلى التراب .

لما طابق ق. بولس علم هذا الخلق في المسيح على أعماق علم الله ، أدرك أنه مجرد بدء التهجي في علم الله .

«أحكام الله »:

وحـكـم الله الذي استعلنه ق. بولس من جهة خروج إسرائيل لدخول الأمم ثم دخول إسرائيل بعد اكتمال الأمم ـ هذا الذي أجهد فيه ذاته أشد الجهد وأجهدنا معه ونحن نجري خلفه لاهئين يسبب الأسباب ويعطي البراهين والنصوص ويلين العصي من الأفكار حتى استعلن السر الذي عـلـيـه اؤتمن ، ذلك لـنـكـون على وعي ويقين بصدق وأمانة الله في كل ما وعد، فنمسك بكلمته إمساكنا بالحياة. ثم بعد أن اطمأن ق. بولس أنه سلم الوديعة عاد لينظر ما طرحه علينا ، أبعاد حكم الله في هذا الأمر، فـوجـده لا يزيد عن كونه بندأ من بنود أحكام الله التي تستعصي على الفحص والتي لا يقر لها في الذهن قرار. 

«طرق الله » :

والطريقة التي اختار الله بها ق. بولس ودعاه، وهي التي ظل يتأمل فيها ويجتر مناظرها كلما امتدت به الحياة، حكاها لنا ثلاث مرات، وظل يحكيها للمقربين إليه كلما ذكر كيف يدعو الله.

وكيف يقدس من دعا، وظل يستخلص منها طرق الله في الدعوة والاختيار. وبعد أن استوعب قي . بولس كأعظم من استوعب أبعاد طرق الله ، انتهى إلى أنه «ما أبعد طرقه عن الاستقصاء » !!

رو33:11-36 «لأن من عرف فكر الرب أو من صار لـه مـشـيـراً؟ أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟ لأن منه وبه وله كل الأشياء، له المجد إلى الأبد . آمين» .

القديس بولس هنا في أعمق تعبيراته المستيكية يعقب على ما أعلنه له الله خاصة من دون جميع الرسل بأقصى ما يكون الإلهام، مندهشاً من نفسه متعجباً من أنا حتى أتعرف هكذا على فكر الرب وفكر الرب لم يعرف به أحد، من أنا حتى أطلع على حكمة الله وحكمة الله لم يعلمها ولا عظماء هذا الدهر. ماذا ؟ هل صرت له مشيراً ؟ حاشا، وحتى لو اعتبرني له سفيراً ؟ « لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ـ ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يـبـطـلـون ـ بل نتكلم بحكمة الله في سر. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا ـ التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد ـ بل كما هو مـكـتـوب مـا لـم تـر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه . فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله . » (1کو2: 6-10). 

ق. بولس محصور بين استحالة معرفة فكر الرب لأي بشر وبين حصوله على هذه المعرفة ـ « أما نحن فلنا فكر المسيح » (1کو2: 16) ـ بالروح الذي أخذه من الله .

وكأن ق. بولس يريد أن يقول إن ما كتبته يا أهل رومية ليس مني بل هو فكر من الرب. هو الروح يـأخـذ مـن المسيح ويخبرنا، «لا أنا بل نعمة الله التي معي» (1كو15: 10). ليس هذا مكافأة لي عن شيء عملته أو شيء أعطيته له. حاشا. لأن كل شيء هو منه وهو به وهو له، وله المجد إلى الأبد آمين .

تفسير رومية 10 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 12
 القمص متى المسكين
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى