تفسير رسالة رومية اصحاح 13 للقمص متى المسكين

 

[ 13: 1- 7 ] رفع الوعي المسيحي في التعامل مع الدولة ومؤسساتها

المسيحية والدولة

الطاعة للسلطات

مقدمة:

اعـتـبـر كثير من الشراح أن مطلع هذا الأصحاح الثالث عشر لا يتمشى مع فكر وأسلوب ق . بولس ؛ بل يـوجـد مـن قـال إنه مدسوس على الرسالة وليس من تأليف ق. بولس. وهذا أمر يتعجب له، لأن الأمر واضح إذ أنه في نهاية الأصحاح السالف يتكلم ق. بولس عن معاملة المـضـطـهـديـن لـنـا والمقاومين والمتعدين علينا ، وكيف نسلك إزاءهم بالصلاة والمحبة والبركة وعدم الغضب، وأنه لا ينبغي للمسيحي أن ينغلب للشر، ثم بعدها مباشرة يتكلم عن كيفية التعامل مع الدولة. والدولة التي يتكلم عنها ق. بولس هي الدولة الرومانية، وهي كانت وثنية وقد تعاملت مع اليهود بعنف شديد. وفي وقت كتابة الرسالة كانت الاحتكاكات بين روما وأورشليم قد بلغت حد الخطـر مع بوادر اندلاع حرب السبعينية التي بدأت سنة 66م، إذ كانت مناوشاتها الأولى قد بدأت مبكراً قبل هذه الرسالة بأقل من خمس سنوات .

ولا ننسى أن ق. بولس يتكلم ويوغي من مركز الإحساس الروحي أو «التعليمي». فكيف يمكن قبول رأي هؤلاء الشراح أن هذا الجزء لا يتمشى مع الرسالة وأسلوب ق. بولس ؟ فكلام ق . بولس هـنـا ينطبق تماماً على الحال الواقع سابقاً في التاريخ القريب جداً من الرسالة، حينما طرد الإمبراطور كلوديوس سنة 49م جميع اليهود من روما (أع18: 2) بسبب ثورتهم ضد ما كان يعرف بـ «كريستوس » ، وواضح هنا أنها ضد المسيحيين . وهكذا لم يكن قد مضى على هذه الثورة والطرد الذي أعقبهـا أقـل مـن عشر سـنـوات . كذلك فإن حادث حريق روما بيد نيرون الذي اتهم فيه المسيحيين ونكل بهم ظلماً سنة 64م، يكشف أن وضع المسيحيين بالذات بالنسبة للدولة لم يكن مريحاً. إذاً، كانت هناك وساوس في روع الحكومة الرومانية من جهتهم بسبب ولائهم للمسيح بـاعـتـباره ملكهم ؟ وق. بولس كتب رسالته هذه سنة 58م، ويعتقد أن الوضع آنئذ لم يكن مريحاً بالنسبة للمسيحيين ، و بذلك تحتم توعيتهم كيف يتعاملون مع حكومة مثل هذه، وفي المقام الأول بالنسبة لرسالة تحمل المنهج المسيحي بالكامل .

ويعتبر أنه أكـثـر مـن مـن تـزعم حركة النقد لهذا الجزء من الأصحاح هو العالم أونيل، وكذلك بارنيكول الألماني. وقد تعسّف في أحكامه ضد هذه التعاليم بالنسبة للتعامل مع الدولة ووصفها أنها أشـد مـا أضـر بـالمسيحيين في الشرق والغرب، في حين بحسب صحة الحكم التاريخي في الحياة السياسية والاجتماعية لم توجد نصائح أحكم من هذه النصائح يمكن أن تتلقاها كنيسة في علاقتها بالدولة، وهي التي أبقت على المسيحيين حقاً وبالفعل إن شرقاً أو غرباً حتى هذا اليوم . وكان رد العالم المدقق كايسمان الألماني على ادعاءات أونيل بالقول : [ لا يوجد أي مبرر للتنازع في صحة وأصالة هذا الجزء من الرسالة ]. ويضيف أن الأصالة في الفكر والنص والأسلوب متمشية تماماً مع باقي الرسالة .

 

وعلى ادعاءات وشـطـط أونـيـل مـن جـهة صحة التعاليم والمبادىء سياسياً واجتماعياً يرد عليه الـعـالـم ماركوس بورج : [ ليس فقط إن هذا الجزء من الأصحاح يتلاحم بانسجام مع بقية النص السابق واللاحق ؛ بل ويتناسب تماماً مع العلائق الحاصلة مع الرومان ككل. ]

ولا يغيب عـن ذهـنـنـا أن ق. بولس يعطي هنا أول انطباعات روحية مسيحية عن العلاقة المسيحية بالدولة عامة، لأن اليهود في صميم إيمانهم لا يعترفون بأي ملك أممي؛ بل ويستهينون به ؛ بل ويستهزئون بكل الأمم وكل ملوكهم، ويمتنعون عن إعطاء الجزية ـ أي الضريبة ـ وبذلك أنشأوا في ذهن الدولة عداوة ونفور لكل دين . من هنا تأتي تعاليم بولس الرسول رائعة حقاً وجديدة ؛ بل وجديرة بالاحترام لا من المسيحيين فقط؛ بل من كل دولة كانت ما كانت !! غير أن أول من أشار إلى وجوب الـتـفـريـق بين علاقة الدين بالدولة هو المسيح حينما قال قولته الخالدة : « أعطوا ما لقيصر لقيصر وما الله الله» (مر ۱۷:۱۲). وفي قوله هذا واضح كل الوضوح أنه كان يكن للدولة احترامها ويحق لها حقوقها !!

وكان لتعليم ق. بولس هذا من جهة العلاقات مع الدولة أثره البالغ في قيام وحياة الكنيسة في روما، وهي تعيش خاضعة في أحضان أباطرة كانوا على مستوى الأسود الكواسر، تسلحوا بالقسوة والاضطهاد والتنكيل بالمسيحيين عدة مئات من السنين .

كما فصل ق. بولس تماماً بين المنهج الفكري السياسي ـ الديني عند اليهود ومثيله عند المسيحيين، فلم يشترك المسيحيون قط في ثورات اليهود ضد الحكام الرومان في أورشليم التي لم تكف حتى جاءت الحرب السبعينية بين روما واليهود ؛ والتي كانت نتيجتها أن مسح اليهود من خريطة أورشليم، فأخليت أورشليم من أهلها اليهود كلية بعد حرقها وهدمها على من فيها . وفي هذه المحنة المرعـبـة بالنسبة لليهود، نجا المسيحيون ـ بفضل تعاليم المسيح السابقة وكذلك ق . بولس ـ وظلوا بمعزل عن الاضطرابات السياسية في هذه الأيام وما بعدها .

في حين أن الـيـهـود لمـا تمـسـكـوا بالتعقل في التعامل مع الدولة في البدء، أعطتهم روما بحسها الـتـكـريمـي لـيـهـوه إله اليهود حقوقاً فائقة على مواطنيهم الرومان . فقد خلعت عليهم الحكومة الرومانية حق Collegia licita ، أي الجماعات المسموح بها ، وذلك حتى بالنسبة لمعتقداتهم التي تعتبر تحـديـاً للمواطن الروماني مثل حفظ السبت وذبح اللحوم وبقية قوانين الأطعمة، و بالأكثر الامتناع عن التعامل مع شارات وصور وتماثيل آلهة الرومان وقياصرتها داخل أورشليم التي حرص الرومان على عـدم دخـولهـا أورشـلـيـم، وذلك بقوانين خاصة استثنائية من الدولة، كما أن الدولة أصـدرت تـعـلـيـماتها لحكامها في أورشليم أن يحترموا عادات وتقاليد اليهود فسمح لليهود ألا يحملوا صـورة قيصر نفسه أو شاراته إذا دخلوا أورشليم . وأجازت لليهود قانونهم المتعسّف بالقتل لكل من يتجاوز رواق الأمـم لـيـدخـل داخـل أروقة الـيـهـود الأخرى في الهيكل، حتى ولو كان مواطناً رومانيا. كل هذا عن طيب خاطر، ولكن للأسف كانت مغالاة اليهود في المطالبة بحقوقهم وامتهانهم للحكام الرومان ـ الذين أحسنوا إليهم أصلا كرامة لإلههم !! ـ هو الذي جعل الدولة تنقلب عليهم بشدة وعنف لا مثيل له، ولكن كان السبب الخفي أنهم هم أنفسهم ـ أي اليهود ـ لـم يكرموا الله الذي أرادوا أن يكرمه لهم الحكام مرغمين . من هنا يأتي الفارق الهائل بين نظرة اللاهوت المسيحي للحكام ونظرة اليهود . ويكفي باختصار الآن أن نعرف أن ق. بولس اعتبر حـكـام الـدولة، أية دولة، أنهم معينون من الله !! فاحترامهم وطاعتهم واجب وجوب احترام إرادة الله !

ونحن هنا نلخص مبادىء بولس الرسول التي جاءت في مجمل تعاليمه ليكون القارىء على بينة من منهجه الكامل في العلاقة بين الكنيسة والدولة :

 

الرسالة الأولى إلى تيموثاوس :

+ «فأطلب أول كل شيء أن تـقـام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكراتلأجل جميع الناس :

+ لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار.

+ لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون » . (1تي2: 1-4)

الرسالة إلى تيطس :

+ «ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح ،

+ ولا يطعنوا في أحد ويكونوا غير مخاصمين حلماء ، مظهرين كل وداعة لجميع الناس » . (تي3: 1و2)

أما بقية ما ورد في الرسائل الأخرى غير رسائل بو بولس .

الرسالة إلى أهل رومية :

(7-1:13) + «لتخضع كل نفس للسلاطين ( السلطات) الفائقة ( الحاكمة) لأنه ليس سلطان إلا من الله .
+ والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله .
+ حتى إن مـن يـقـاوم الـسـلـطـان يـقـاوم تـرتيب الله ، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة .
+ فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان افعل الصلاح فيكون لك مدح منه .
+ لأنه خادم الله للصلاح . ولكن إن فعلت الشر فخف . لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر.
+ لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضاً بسبب الضمير.
+ فـإنـكـم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه

+ فـأعـطـوا الجميع حقوقهم : الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية ، والخوف لمن له الخوف ، والإكرام لمن له الإكرام » .

ثـم تـأتـي الـوصـايا المسيحية الأخرى في رسالة بطرس الأولى وهي مأخوذة من روح رسائل ق . بولس ولغته :

(1بط2: 13-17) + «فـاخـضـعـوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب . إن كان للملك فكمن هو فوق الكل ،

+ أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير،
+ لأن هكذا هي مشيئة الله أن تفعلوا الخير فتسكتوا جهالة الناس الأغبياء ،
+ كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشربل كعبيد الله ،
+ أكرموا الجميع ، أحبوا الإخوة ، خافوا الله ، أكرموا الملك » .

وفي هذا يقول العالم شفيتزر:

من جهة النظرة الأخلاقية فإننا في هذا الموضوع الخاص بالعلاقة مع الحكام ، فإننا لا تعثر قط على أي كاتب آخر في كل الأحقاب القديمة من عبر بهذه العبارات إلا بولس الرسول ، فلا أفلاطون ولا أرسطو حمل لواء الطاعة للسلطات كما حملها ق. بولس، ولا في كل الفكر اليوناني، كما أوضحها ق. بولس في (رو13: 1-7). ]

و يقول العالم ليون موريس :

[ورؤية بولس الإلهية في هذا الأمر واضحة، فهو مقتنع تماماً أن الله يتحكم، حتى لا يستطيع أي إنسان أن يأخذ سلطاناً على البشر إلا بسماح من الله . ] 

وهذا واضح من كلام المسيح لبيلاطس الحاكم الروماني حينما ادعى أن له سلطاناً أن يصلبه أو يطلقه : «لم يكن لك علي سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق » (يو19: 11). إذاً فالحاكم يُعطى السلطان من الله

ويـزيـد الـعـالـم ليون موريس بقوله : [ إن الحكومات بأنظمتها ليست هي مجرد ترتيبات بشرية ولكنها تحمل في أصلها عنصراً إلهياً. لهذا وجب على كل أولاد الله وخدامه أن يخضعوا لقوانينها .

والـقـديـس بـولس لا يعتبر أن الحكام يُحسبون مستقلين بذواتهم بل معينين من الله . فالحاكم هو في حقيقته خادم الله ، هذا بحد ذاته يعطي الحاكم هيبة خاصة. ولكن ق. بولس في نفس الوقت يبرز مبدأ أن الوالي نفسه واقع تحت سلطان آخر أعلى منه ـ أي الله ـ فهو لا يستطيع أن يصنع ما يشاء بل كما يشاء الله من وجوده .]

ولـكـن قـام في أنحاء العالم وخاصة في ألمانيا عاصفة من النقد بخصوص هذا الفكر عند ق. بولس، معتبرين أن هذا الاتجاه التعليمي الخنوع شجع الحكام على الاستبداد والتأله وربما القسوة الغاشمة، حيث يبرر الشعب سلوك الطغاة دون أن ينتبهوا إلى كرامة الإنسان عامة . 

وهذا الاتجاه في النقد قام على أساس أن تعليم ق. بولس يكون قد منع الشعب نهائياً بسبب أمر الطاعة المطلقة للحكام من أن يثور على الحاكم الطاغي، وكان هذا هو أساس النقد عند العالم هالدین.

ولكن فات على هالدين وغيره من النقاد أن ق. بولس منع فعلاً القيام بأية ثورة على أساس أن تـقـوم باسم المسيح أو من المسيحيين باعتبارهم مسيحيين. والدليل القاطع على ذلك أن ق . بولس نفسه ثار على الحاكم الروماني الذي أمر أن يمد ق. بولس ويضرب بالسياط (أع22: 25)، وكان أساس ثورته الشخصية واحتجاجه ليس أنه مسيحي أو خادم ورسول للمسيح، ولكن باعتباره مواطناً رومانيا. بهذا نفهم أن المسيحي والمسيحيين عامة مصرح لهم بالقيام بأية ثورة وطنية كمواطنين عاديين مع بني وطنهم الآخرين، وليس بمفردهم باعتبارهم فالمشاركة في الإصلاح الوطني السياسي قائمة ولكن ليس على أساس ديني!! وهنا يمتنع أن تقوم الكنيسة بذلك أو تشترك فيه بأي حال من الأحوال حتى ولا بأن تعطي صوتها بالرضى أو تشجع على ذلك، لأن هذا ليس من اختصاصها، فهي تمثل المسيح، والمسيح لم يثر قط من أجل الحق في وجه الظلم والطغيان والاستبداد، سواء لدى المحاكم اليهودية أو المحكمة الرومانية ؛ بل حكم عليه بالإعدام صلباً دون أن يحتج أو يدافع عن نفسه !

كذلك لا يخطىء المسيحي في فهمه معنى الحرية التي نالها بالمسيح والتي عليها يقوم خلاصه والـتـي ينبغي أن يتمسك بها ضد أي عمل أو فكر يعرقل خلاصه وحياته في المسيح ، والخطورة هنا أن تفهم هذه الحرية أنها فكرية أو حرية اجتماعية أو حرية سياسية أو حتى حرية شخصية بل هي حرية لاهوتية منشؤها التحرر من الخطية وعبوديتها ولا يجوز قط استخدامها لحساب لقمة العيش أو عزة النفس أو سعادة الجسد : « فإنكم دعيتم للحرية، أيها الإخوة، غير أنه لا تصيروا الحرية فرصة للجسد . » (غل5: 13).

 إذا ق. بولس يحصر طاعته للسلطات في مفهوم أنها طاعة ـ لتدبير الله ـ سواء كانت المعاملة سيئة أو حسنة لأن ليس أحد مثل ق . بولس تألم وحبس وقيد بالسلاسل من السلطات الرومانية ، وبالرغم من ذلك حينما أرسل رسالته إلى تلميذه تيطس من روما وهو سجين مقيد بالسلاسل ينتظر حكم الإعدام، كـتـب لـه يـقـول : «ذكـرهـم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح » (تي١:٣). هذا روح وفكر وضمير وإيمان من يعتبر أن كل الحادث له من السلطات هو بتدبير وسماح من الله وعليه أن يخضع ويطيع حتى الموت كالمسيح .

إذا فإصرار ق. بولس على الطاعة المطلقة والخضوع للسلطات لم يكن خوفاً من السلطات، كما كتب هو أيضاً في موضع آخر، ولا احتراماً أو طاعة لإنسان بحد ذاته مهما كان هذا الإنسان رئيساً أو ملكاً، ولـكـن هـي طاعة الله في من يمثله في السلطان الأرضي ، لأنه لا يمكن أن ننسى قانون الـرسـل القائل : «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس » (أع5: 29). هذا معناه أن الملك أو الـرئـيـس أو الحاكم إذا أمر المسيحي أمرأ يخالف أوامر الله فلن يطيعه حتى ولو حسب ثائراً على السلطات وحتى ولو هُدد بالموت. فقول الرسل : «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس » هو أمر رسمي بالعصيان الديني لكل أمر أو توصية تخالف وصايا الله المفروضة على المسيحي لإطاعتها .

ولـكـن لكي يدخل هذا الأمر الرسولي في حدود مفهومه القانوني يلزم أن الذي يقرر أن هذا الأمر مخالف فعلاً لوصايا الله هي الكنيسة التي لها وحدها أن تقرر أن هذا الأمر هو حقيقة مخالف لوصايا الله .

ولـيـس خـافياً أن هذا البند بالذات هو علة صدور قرارات الإعدام على كل شهداء المسيحية في الـعـصـور الأولى ، إذ كان يؤمر المسيحي أن يقدم البخور أي العبادة لاسم الإمبراطور وصورته ، فكان يرفض ، ومع التهديد بالموت كان يزداد الرفض، ولكن بإشهار السيف كان يحني رقبته طاعة لأمر السلطات !!! فأن يطيع أمر الإمبراطور بأن ينكر المسيح فهذا محال، والرفض حاضر وبكل إصرار، ولـكـن أن يـؤمـر بـإحـنـاء الرقبة لتقبل حكم الموت ، فهنا الطاعة للسلطات واجبة ومستحبة !!

والـقـديـس بـولـس يتكلم من مصدر روحي أعلى بكثير من مستوى التاريخ والتمدين والحوادث الـزمـنـيـة العابرة، وليس كما يقول العلماء أن ق. بولس حصر ذاته في حالة واحدة هي حالة كنيسة روما وحكومة روما ، وأن هذا لا ينطبق على غير ذلك من بلاد وشعوب وحكومات ، هذا افتراء، وروح الله لا يعطي مشورات عرجاء أو بالقطاعي .

أما كيف نصالح فكر ق . بولس بالطاعة المطلقة للسلطات في هذه الأيام مثلاً، والملك قد يكون فـاسـداً مـسـتـبـدأ مستبيحاً، وفي بلد مسيحي ، والشعب كله مسيحي والملك نفسه مسيحي، فكيف الحل؟ واضح أن الطاعة المطلقة للسلطان عند ق. بولس هي باعتباره أنه من الله وبترتيب الله . ولكن إذا تأكد الشعب المسيحي أن هذا السلطان يخالف الله ووصايا الله في مواجهة حالة ـ  ينبغي أن يطاع الله أكـثـر مـن الـنـاس ـ فـأصـبح الشعب كله في حل من هذا السلطان؛ بل وتكون قد وجبت معارضته بل تحتم أيضاً إسقاطه .

أما إذا كان المسيحيون في هذه الحالة أقلية والملك طبعاً ليس مسيحياً وغير عادل ، فواضح أن الأمر بالنسبة لهم هو ضيقة، وهي تجربة لابد من احتمالها كأنها من يد الله ، حيث الطاعة واجبة إلا إذا امـتـدت أوامـر الـسـلطان لتجبر الإنسان المسيحي أن ينكر مسيحه، هنا وجبت عدم الطاعة وحل الاستشهاد!!

۱:۱۳ «لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من الله. والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله » .

« لتخضع » :

وسيأتي الكلام عنها حالاً .

« لتخضع كل نفس » :  و بالعبرية : كل نفش kol nephes .

هنا ق. بولس يحكم «بالأمر» إذ ليس مسموحاً لأي نفس أن تستثني ذاتها من هذا الإلتزام ! في الحقيقة إن هذا التحتيم بالطاعة يحتل مكانة كبرى في القانون الأخلاقي الإلهي، لأن هذا يعني وحدة الشعب وبالتالي وحدة الأعضاء في الجسد لتنسجم مع الرأس في مطالبها ووصاياها !! إذا ليس هناك آراء شخصية ولا تحاليل موضوعية، فالطاعة المطلوبة للسلاطين حتمية. وحينما يركز ق. بولس على النفس وليس الإنسان عامة ، فهو يخاطب المشاعر العميقة بقصد الارتقاء بالإنسان من المستوى البشري المدني العادي إلى مستوى الإنسان المدني الديني، فهي نقلة من الحياة المدنية العادية إلى حياة المدنية الراقية الروحية التي تعيش الأرضيات بروح سماوية وفكر سماوي. ولا يغيب عن البـال أن المعتقد الإيماني العام الذي ورثته المسيحية عن اليهودية هو أن الله – هو الملك الأبدي الذي يحتفظ بملوكيته فوق كل هامات الملوك .

« للسلاطين»: 

ق. بولس هنا يقصد الحكام المدنيين المعينين من قبل الدولة . وإن كانت قد قامت نزعة تبناها أحـد الـعـلـمـاء الألمان يـسـمـى ديـبـلـيـوس سنة 1909، بأن ق. بولس برفعه مستوى الطاعة للسلاطين إلى الـطـاعـة المطلقة، كان يعتبر أن وراء السلاطين المدنية سلاطين أخرى ، أي ملائكة سـمـاويـة تـتـدخـل في شئون الإدارة والتدبير، وقد انتشرت هذه الفكرة وامتدت مسافة زمنية كبيرة حتى ثـبـت عـدم لـيـاقـتها . واستقر الرأي لدى كل العلماء أن ق. بولس يقصد السلاطين المدنية الموضوعة بتدبير الناس .

« الفائقة »:

ورود تعبير «السلاطين الفائقة »، بهذه الصفة « الفائقة»، والتي تعني العالية، قد أعطيت لكلمة السلاطين ليناسبها كلمة «الخضوع » بمعنى «التحتية»، أي أن تكون النفس واقعة تحت السلطان . والمقابلة بين الفائقة أي العالية والخضوع = « التحتية» في اليونانية تأتي عن قصد واضح ، وهمـا بـادئتان معروفتان لدى الجميع : «أعلى» ، « أسفل »  . هنا علو الرئاسات هو الذي أنشأ التحتية لكل نفس . فكل نفس : تخضع  للسلاطين الفائقة . فـالـرئـاسـات يصبح علوها هو بالنسبة للنفوس فقط . على أن علوها تستمده من الله.

ولـنـا أيها القارىء العزيز قصد من هذه اللمسة اللغوية البلاغية لتدرك مدى تمكن القديس بولس من التعبير البلاغي المنسجم ، حيث تأتي “طاعة كل نفس“ أي حتمية خضوعها تحت أوامر السلاطين العالية أمراً منسجماً وطبيعياً .

ويلزم أن يكون في الاعتبار الأول عند فهم الطاعة للرؤساء المدنيين عند ق . بولس أن هذا مجرد أمر الله أو تدبير منه أو طقس إلهي لا يدخل في دائرة المسيحية كفداء وخلاص ، إنما هو درع خارجي يحميها أو كما يقول ق . بولس بمنتهى الوعي والوضوح : « لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار. » (1تي2: 2)

على أن هذا التدبير الإلهـي يـلـزم أن يفهم أخيراً أنه ليس طاعة للرؤساء المدنيين بحد ذاتهم وإنما هو طاعة تدبير الله أولاً وأخيراً. لذلك فحينما تدخل الطاعة في تنفيذ الأوامر يلزم أن تفحص هذه الأوامر حتى تكون غير مناقضة الله أو للإيمان المسيحي وإلا لا تكون الطاعة صحيحة .

كذلك ولأن الطاعة للرؤساء المدنيين هي أمر من الله وبتدبير منه ، وجب أن تمتد الطاعة لهم إلى الصلاة من أجلهم والصلاة باستمرار، أي في مواعيد ثابتة وجماعية كما هو حادث في الأواشي = (الـصـلوات) داخل القداس، وذلك بحسب وصية ق. بولس (1تي2: 1-3). بهذا تُحتسب الكنيسة ـ كمؤسسة دينية ـ في اعتبارق . بولس أنها شريكة مع الدولة في قـيـامـهـا وثبات الحكم فيها وسلامة المسئولين فيها، ولكن ليس أنها شريكة في الحكم. أن . أما الأفراد المسيحيون فلهم حقهم الوطني «كمواطنين » ـ وليس كمسيحيين ـ أن يشتركوا في سياسة الحكم والتصويت البرلماني والإدارة، فيشتركون في كل شيء كمواطنين فقط . ثم يسرع ق . بولس ويوضح لماذا هذه السلاطين هي فائقة أي عالية على هذه النفوس .

« لأنه ليس سلطان إلا من الله » :

«لأنه» 

لأن هنا تأتي لتوضح « لماذا»، لماذا السلاطين عالية ؟ ولماذا تخضع كل نفس تحت أوامرها ؟ فـيـقـول ق. بولس لأنه ليس سلطان ـ تعين على الناس ـ إلا ويكون من الله . ثم يعود ويشرح معنی أن يكون السلطان من الله هكذا :

« والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله » :

« مرتبة » : 

هـذه الـكـلـمـة لا تعني مجرد ترتيب بل تنصيب ورسامة Instituted , ordained ذات وجود وكيان قائم أمام الله .

هذا المبدأ الإلهي قائم منذ العهد القديم كما أشار إليه النبي دانيال بالروح:
«أجاب دانيال وقال ليكن اسم الله مباركا من الأزل وإلى الأبد لأن له الحكمة والجبروت وهو يغير الأوقـات والأرمنة، يعزل ملوكا و ينصب ملوكا … لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار قد عرَّف الملك نبوخذ نضر ما يكون في الأيام الأخيرة … أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتدارا وسلطانا وفخرا.» ( دا2: 20 و21 و28 و37)

+ «هذا الأمر بقضاء الساهرين والحكم بكلمة القدوسين لكي تعلم الأحياء أن العلي متسلط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس.» ( دا4: 17)
و يصدق إرميا النبي عل كلام دانيال النبي فيقول :
+ «والآن فد دفعت كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نضر ملك بابل عبدي وأعطيته أيضأ حيوان الحقل ليخدمه، فتخدمه كل الشعوب وابنه وابن ابنه حتى يأتي وقت أرضه أيضا فستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام و يكون أن الأمة أو المملكة التي لا تخدم نبوخذ نصر ملك بابل والتي لا تجعل عنقها تحت نير ملك بابل أني أعاقب تلك الأمة.» ( إر27: 6-8).

وواضح من هذه النبوات أن أمر تنصيب ملك أو سلطان أو رئيس على شعب ليس بالأمر العفوي أو الاعتباطي. فتاريخ البشرية داخل في أجندة الله وكل حركات التاريخ من قيام ملوك وسقوط ملوك وتغيير أنظمة وتجديد أنظمة تتحكم فيها عين ساهرة ويد مقتدرة، ليسير التاريخ وفق مخطط إلهي معروف لدى الله سابقا.

بهذا المعنى يتكلم ق. بولس، و بهذه الروح بدأت المسيحية تأخذ هذا المفهوم العالي. وهذا كان له في العصور الاول موقع رسمي عظيم لدى الشعب، فكان الملوك والأمراء المسيحيون في بلاد الغرب – يوقعون فوق إمضائهم: «بنعمة الله» ، أي أنهم معينون من الله. هنا يتضح لنا أن كلام ق. بولس كان مفهوما بدقة في الكنيسة وفي العصور الاول ، وكان الانسجام وكانت الطاعة بين هذه السلطات المدنية وبين عموم الشعب المسيحى كاملة – باعتبار أن طاعة الرؤساء  المدنيين هي واجب ديني رسمي ـ وهذا يوضح لنا مدى صحة مبادىء بولس الرسول الإلهية . فإن كانت العلاقات قد اختلت بعد ذلك وساءت الأمور وفسدت السلطات وتراجعت فرحة الشعب بسلاطينها ، فهذا ليس مرجعه خطأ ق . بولس بل ضياع إدراك قيمة السلطان عند أصحاب السلطان وإدراك قيمة الطاعة عند الذين وجبت عليهم الطاعة .

 وإن كان الله قد سمح بـقـيـام سلاطين طغاة فلكي يتمموا خطة هي في تدبير الله ذات قصد وهدف ، فتعيين السلاطين الطغاة لا يقل عن تعيين السلاطين الصالحين عند الله . وهذا نراه ونسمعه جيداً في قـصـة فـرعون مع شعب إسرائيل : «لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه ” أقمتك.. لكي أظهر فيك قوتي ولكي ينادي باسمي في كل الأرض .» (رو9: 17)

واضح هنا أن الله هو الذي أقام فرعون مصر، بل هو الذي قسى قلبه : « ولكني أقسي قلب فـرعـون وأكـثـر آياتي وعجائبي في أرض مصر» (خر7: 3). وذلك بتدبير منه عن قصد وغاية هامة تعود على شعب الله نفسه !!

إذا فالسلاطين عند ق. بولس مرتبة من الله ، بل معينة ومنصبة سرا بحسب تدبير الله الأزلي . من هذا نفهم – لماذا يعتبر المسيحيون أنهم يطيعون الله حينما يطيعون السلطان حتى ولو كان قاسياً ، فالله هو الذي يقسّي من يشاء ويرحم من يشاء ليكمل أعماله : « ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت » (مز104: 24)؛ وكلها غير مدركة للإنسان لأنها تفوق قدرته في الفهم والقياس ، فإن كان الله يتمم مشيئته وسلطانه بواسطة الحكام، فمن هذا أيضاً نفهم لماذا يقول ق . بولس إن السلاطين هم خدام الله

«السلاطين الكائنة»:

«السلاطين الكائنة هي من الله»: : المعنى هنا عميق للغاية ، فليس كل سلطان هو من بل السلطان « الكائن» أي الذي تثبت في ملكه بإقرار من الشعب وارتضاء الجميع ، سواء بالإجماع أو بغير الإجماع ، المهم أنه قد ثبت سلطانه و باشر مهام رئاسته بالفعل . 

فلو فرضنا أن ثورة اشتعلت من الشعب ـ ( وطبعاً يكون ذلك في غياب الكنيسة والمسيحيين بمفهومهم الديني، ولكن كمواطنين وجب عليهم الاشتراك ولكن ليس تحت أي شعار مسيحي) – وأن هذه الثورة أطاحت بالوالي ونصبت والياً آخر؛ فالكنيسة أو الإنسان المسيحي لا يمنح ولاءه أو طـاعـتـه إلا بعد أن يتثبت الجديد وتعلن صحة رئاسته ويتولى مهام أمره، وحينئذ تخلي الـكـنـيـسـة يـدهـا وكـل مسيحي من طاعة الوالي القديم الذي نحي عن الحكم . هذا هو معنى أن الطاعة واجبة بالنسبة للسلاطين «الكائنة» .

2:13 «حتى إن مـن يـقـاوم الـسـلطـان يـقـاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة» .

(حتى):

كلمة «حتى» هنا هي تعقيب على أن السلاطين مرتبة (معينة ) من الله ، والمعنى المتسلسل هكذا : والسلاطين مرتبة من الله حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم الله .

« يقاوم » :

يلاحظ في اللغة اليونانية العلاقة بين يخضع ويقاوم : هو تغيير البادئة فقط : يخضع …، يقاوم …أي ..يأتي ضدها … وهنا يلذ لنا أن ترجع إلى اللغة أيضا فهي تشرح بسهولة كل المعنى .

فالذي يخضع  يخضع لمن هو عال  ، والعالي هو عال لأنه من الله بل ومرسوم ومعين من الله والله هو الذي أقامه .

والذي يقاوم = .. هو يقاوم العالي الذي من الله الذي رتبه الله، أي هو يقاوم الله . ولكن لا يقاوم الله في ذاته بل يقاوم ترتيب الله … والذي يقاوم ترتيب الله يهلك نفسه.

« والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة » :

« دينونة » : 

مخيف هذا الوعيد، إذا أخذت كلمة.. على أنها دينونة روحية أبدية، كالتي جاءت مثلاً « الذي يأكل ويشرب بدون إستحقاق يأكل ويشرب دينونة … لنفسه غير مميز جسد الرب » (۱کو۲۹:۱۱) ولـكـن كـلام ق. بولس بعد ذلك يوضح أنها دينونة من قبل الحاكم نفسه (كما ستوضحه الآية القادمة).

3:13 «فإن الحكام لـيـسـوا خـوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان ؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه»

للأعمال الصالحة ـ للأعمال الشريرة = الصلاح × الشر: ق. بولس يؤسس في الشعور واللاشعور إحساساً طيباً بالحكام حتى من هذا الشعور واللاشعور يـسـتـطـيـعون أن يكونوا علاقات طيبة بالحكام. فهو يعطيهم الانطباع أن الحاكم ليس مخيفاً للرجل الصالح وهـم بـطبيعتهم صالحون، فليس من داع بالمرة للخوف من الحاكم، ولكن الحاكم مخيف حقاً للشرير، ونحن لسنا أشراراً. ثم يعطي الإجراء الإيجابي لتكون بيننا وبين الحكام مودة ومديح أن نمارس أعمال متبادل وهو الصلاح . . وطبعاً لا يقصد ق. بولس هنا الأعمال الروحية، ولكن الأعمال الاجتماعية الخيرية التي تفرح الحاكم، كالاشتراك في مساعدة الفقراء والمعوزين وأعمال النجدة والـتـبـرع للمشروعات الخاصة بالدولة والاستجابة السريعة لأي تداء للمعونة من جهة الحاكم. وهـكـذا فـبـالـصـلاح الذي أوتيناه من قبل أخلاقنا المسيحية وطاعتنا ووداعتنا ومحبتنا للآخـريـن وبذلنا بلا حساب ، يكون لنا المديح منه ويكون لنا الثقة والمودة معه. إذا، فوضعنا المسيحي بالنسبة للدولة والحكام عموماً هو وضع جيد ومضمون النتائج ، لأننا نحمل مؤهلات أخلاقية كلها في صالح الدولة والحكام .

ولـكـن ق. بولس لم يذكر العكس وهو حالة الحاكم الذي يمدح الشرير ويسيء إلى الصالح : «خذ هذا ( المسيح ) وأطلق لنا باراباس » ( لو23: 18). هنا في الحال تنبري أخلاقنا المسيحية التي على مستوى المسيح في احتمال الشر والشرير والدعاء له والغفران، بل والمحبة القلبية المكتومة وقبول الإساءة الظالمة وكأنها إكليل وقبول الظلم حتى إلى الموت ! فالمسيحي بالحقيقة لا ينتفع بالمديح ولكنه ينتفع بالإساءة : «ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنا» (لو6: 26). والكلام في هذا يشمل الإنجيل كله . أما الوالي الصالح فيمثل الله حقاً.

4:13 «لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبئاً إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر».

هذه حقيقة قد يعرفها الحاكم أو لا يعرفها أنه معين من الله أساساً لكي ينشر الصلاح ويؤمنه ويؤمن الناس عليه ويشجعهم على عمله، ثم أيضاً يحميه بسيفه أي بسلطانه. وهذا في الحقيقة وإن خفي على أفهام معظمنا فهو لا يخفى على عارفي الله الدارسين لكلمته والذين يتتبعون أعماله ويـدرسـونـهـا، ففي سفر إشعياء أقوال بهذا المعنى في غاية الحكمة والعجب : «ويل لأشور قضيب غـضـبـي والـعـصا في يدهم هي سخطي ( الله استخدم أشور لتأديب الأمم ومنهم إسرائيل) على أمة منافقة أرسله (إسرائيل) وعلى شعب سخطي (إسرائيل) أوصيه . ليغتنم غنيمة وينهب نهباً ويجعلهم مدوسين كطين الأزقة. أما هو فلا يفتكر هكذا ( أي لا يعلم أنه مسخر من الله للتأديب ، بل يظن في نفسه الحكمة والعظمة والقوة فقط )، ولا يحسب قلبه هكذا بل في قلبه (يظن) أن يبيد ويقرض أمماً ليست بقليلة. فإنه يقول … أليست السامرة (شمال يهوذا وأورشليم) مثل دمشق ؟ كما أصابت يدي ممالك الأوثان وأصنامها المنحوتة التي هي أكثر من التي لأورشليم وللسامرة. أفليست كما صنعت بـالـسـامـرة و بأوثانها أصنع بأورشليم وأصنامها ( كان يعتقد وهو يحطم الهيكل في أورشـلـيـم أنـه يحطم أوثاناً لأنه لا يميز في فكره بين عبادة إسرائيل وعبادة الأمم فحظم هذا وذاك، والمقصود من الله أنه  يؤدب أورشليم). فيكون متى أكمل السيد (الرب ) كل عمله ( تخريبه ) بجبل صـهـيـون و بأورشليم أني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه ، لأنه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي، لأني فهيم (هكذا في النهاية وبعد أن أكمل الله به كل ما أراده من معاقبة أورشليم على فسادها أنه استدار على ملك أشور وعاقبه على تكبره وافتخاره على الله حين اعتبر نفسه وكأنه الله يصنع ما يشاء مع أنه كان كخادم الله لتنفيذ أوامر محددة الله ) … هل تفتخر الفأس (البلطة) على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده ؟ كأن القضيب يحرك رافعه ؟ » ( إش10: 5-15).

هذه صـفـحـة مـن نبوة إشعياء تشرح بأجلى بيان أن الملك والحاكم ورئيس الجند إنما هو خادم مـشـورة الله وكعصا في يد القدير، يؤدب به من يشاء، وكذلك بسلطانه العالي يمدح ويكرم من يشاء الله أن يمدحه ويكرمه. لهذا فالسيف الذي يحمله لا يحمله من ذاته ولا عبثاً يحمله ، بل ليحركه بالتأديب لمن يرى الله تأديبه ، كل من وقع تحت غضب الله.

لهـذا يـقـول ق. بولس احترس من أن تصنع الشر، والشر هنا ليس شرا روحياً، بل تعدياً على قـوانين الدولة ومصالحها وكرامتها أو سباً أو إهانة لحاكمها أو مقاومة لمشيئته أو اختلاساً لحقوق الـدولـة مـن ضـرائـب وأموال مطلوبة أياً كان بندها . فالشر هنا هو كل ما تعتبره الدولة تعدياً على حـقـوقهـا أو قوانينها أو أنظمتها، سواء كان ذلك مناسباً لفكر الإنسان الخاص أو غير مناسب ، أو متمشياً مع مطالب الحق في نظرك أو غير متمش .

«لأنه خادم الله للصلاح»: 

« للصلاح»:

الترجمة العربية أسقطت .. وتعني « لك»، فالمعنى الصحيح هو  خادم الله لصالحك »

أو لما هو صالح لك. فهنا تخصيص صلاح الحاكم للإنسان المسيحي ـ وهو المخاطب في الآية السابقة ـ يعطي انطباعاً أنه مهما عمل الحاكم سواء مدح أو أهان فهو لصالحك، إلا في حالة واحدة هو أنك إذا أنت بادرت بالإساءة إلى الدولة بعمل ما هو شر في غرفها ! فحينئذ تكون تحت غضب الله وتنال التأديب من الحاكم وربما من الله نفسه !

«يحمل السيف»:

تـوجـد كلمتان تفيد معنى السيف، الأولى وهو الخنجر ذو الطرف المعقوف ويلبسه الملوك والعظماء، ويوجد السيف المعروف لنا  وهو ذو النصل الطويل، وهذا لا يحمله إلا المسلطون على أرواح الناس. وتوجد كلمتان لحمل السيف، الأولى popel والأخرى papet ، فأن يلبس الحاكم السيف بصفة دائمة فهذه علامة على السلطان والرئاسة والعظمة، فالإمبراطور يحمل الخنجر في جنبه أينما صار كمظهر للسلطان، فتفيدها الكلمة popet التي استخدمها ق . بولس؛ أما من يحمل الخنجر (السيف ) كما يجيء في الكلمة pepet فهي بمعنى الاستعداد لتنفيذ السلطان الذي يتضمن توقيع العقوبة أي الموت.

«خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر»:

« غضب ـ منتقم » : 

هنا حالة فريدة بالنسبة للإنسان المسيحي، وهي أن يفعل الشر بالنسبة للدولة كأن يكسر نظامها أو يخونها أو يختلس أموالها أو يتجسس عليها . هنا يقع المسيحي تحت الغضب . ومن جهة كلمة الغضب اختلف المفسرون والعلماء، فمنهم من قال إنه غضب الله  ومنهم من قال إنه غضب الحاكم. والحقيقة في نظرنا واضحة هنا بمعنى أن عمل المسيحي للشر يوقع نفسه تحت غضب الله لا محالة، وعـقـوبة ذلك ـ أو الانتقام ـ هو على المستوى الأخروي لأن الله لا يدين أحداً الآن فللدينونة يوم آت : « أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه (يزني مع امرأته) في هذا الأمر لأن الرب منتقم  لهذه كلها كما قلنا لكم قبلاً وشهدنا » (1تس4: 6) وفي نفس الوقت، فالشر الذي يعمله الإنسان المسيحي بالنسبة للدولة ونفترض أنه نفس الشر الذي ينتقم منه الله كالزنى، فإن الحـاكـم سوف ينتقم لقانون الدولة الذي كسره ذلك الإنسان متعمداً. وبذلك نرى أن المسيحي الذي يعمل شرأ يسيء به إلى الدولة فإنه يقع تحت غضبين : غضب الله وغضب الحاكم، وينال عقوبتين الأولى هنا والثانية يوم الدينونة.

5:13 «لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضاً بسبب الضمير».

 هنا ق. بولس يراجع ما فات بكلمة «لذلك» أي من واقع أن الحاكم هو خادم الله ، ومن واقع أنـه مـرسـل مـن الله لأداء رسالة رتّبها الله للإنسان، ومن واقع أنه مسلح بسلطان من الله وأنه يحمل السيف ليحكم على كل تعد، فإن كان الإنسان الذي لا يؤمن بالله عليه أن يخاف من العقوبة فلا يتعدى قوانين الدولة بل عليه أن يخضع لكل أحكامها ، فالمسيحي ليس من أجل الخوف يخضع ويطيع بل من أجل الضمير، لأن وراء أحكام الدولة أحكاماً سماوية من الله .

«يلزم » :

إلزام الخـضـوع هنا تزكيه الأخلاق المسيحية ويزكيه الضمير الذي استنار بمعرفة الله وبالدينونة المزمعة أن تكون على المضادين . وهكذا فإن كلمة «يلزم » هنا بالنسبة للمسيحي هي تحذير خطير حتى لا يستهين قط بقوانين الدولة فلا يتعدى عليها مهما كانت تافهة، لأن محاكمة الدولة إن غابت فوراءها محاكمة الضمير، ومحكمة الضمير إن لم تعقد هنا فسوف تعقد هناك يوم الدينونة .

ق. بولس يـتـكـلـم بمنتهى الاختصار، ولكن كلماته تحوي مبادىء وتحيط بأصول أخلاقية إن تمسك بها الإنسان أمن خلاصه لنفسه ، وإن استهتر بها انزلق في تعديات ستحسب عليه روحياً .

« أعطوا ما لقيصر لقيصر وما الله الله » 

6:13 «فإنكم لأجـل هـذا ثـوفـون الـجـزية أيضاً. إذ لهم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه » .

الحديث متصل وق. بولس يوقفنا هنا أمام محكمة الضمير!!!

«لأجل هذا »: 

إنه ليس عـن خـوف تخضـعـون وتطيعون بل من أجل الضمير والأخلاق والله الذي هو وراء هؤلاء الحكام، لأجل هذا أنتم تعطون الجزية .

«توفون الجزية » : 

هنا ق. بولس يفتح ملف الضرائب الذي هو رأس مال الدولة وعصب قوتها ومصدرها الوحيد للـقـيـام بـمـسـئـولـيـاتها الإنسانية والاجتماعية والأمنية والتنظيمية والدفاعية أيضاً. حيث إزاء قوانين الـدولـة ومـعـايـيـرهـا في الضرائب المفروضة ( وسيأتي معها أيضاً في الآية القادمة العوايد ) لا يوجد ضابط ولا رابط ولا ضامن لها عند المواطن المسيحي إلا الضمير. وق. بولس في خلفية تفكيره ما يكنه اليهود من كره ومقاومة لهذه الضرائب ، فهي أثقل واجب على نفسية اليهودي بل أشد إهانة بعظمة سيادته على الشعوب والأمم الأخرى « الكلاب» في غرفه !! فكانوا يقاومونها ويتهربون منها حيث كان اعـتـقـادهم أنها عبودية للشيطان والكلاب أي الأمم . القديس بولس هنا يرسي حجر الأساس في علاقة المسيحي بالدولة على أساس أنه مواطن منتفع ومؤيد ومسئول ، فالضرائب بالنسبة له عمل حيوي على مستوى الشرف والمروءة والرجولة، وهو ليس عملاً وطنياً إنسانياً فحسب بل هو عمل يختص بالله أيضاً والضمير والعبادة الله الذي أقام هؤلاء الحكام ليخدموا الإنسانية التي تحت مـسـئـولـيـتـهـم. إذاً، فاستيفاء الضرائب هو داخل في خدمة رفيعة المستوى إذ يختص بالعناية بحياة الناس وصحتهم وأمنهم وسلامهم في خدمة مشتركة تقوم بها الدولة كمسئولة أمام الله .

«إذ هم خدام الله » : 

هنا ق. بولس يكشف بقوة وتركيز على نوع خدمة الحكام في جمع الضرائب ، ففي الآيات السابقة وصف خدمتهم بالنسبة الله كمجرد خدام الله، ولكن خدام الله هنا جاءت حيـث الـ « ليتورجوس» هو خادم عبادة الله ، خادم تمجيد الله ، خادم هيكل وكنيسة . إلى هذا الحد رفع ق . بولس من شأن الحكام أثناء خدمتهم لجمع الضرائب إذ اعتبرها عملا إلهياً يختص بخدمة الله فسماها ليتورجية !!! هذا ليس مغالاة في تمجيد الحكام بل تمجيد في قيمة جمع الضرائب لحفظ حياة البشر، فالحكومات أدوات في يد الله يقوم بواسطتها بعمله الإلهي في حفظ الإنسان والترقي به والامتداد بنسله عبر الزمن ضد الكوارث والمجاعات والأوبئة والـفـيـضـانـات والزلازل والحروب المدمرة . المال هنا في يد الدولة هو جزء لا يتجزأ من ميزانية الله المالية التي يصرف منها على قيام ودوام الإنسان على الأرض خاصة المحرومين والفقراء والضعفاء .

أنـظـر عـزيـزي القارىء وراجع نفسك في مفهومك لدفع الضرائب واحترامك وتقديرك لمأمور الضرائب !! الشكوى مرة وصلت لعنان السماء من مغالاة مأموري الضرائب في تقييمهم للضريبة ، ولـكـن الحقيقة أنه كل من أعطى الدولة حقها تماماً في الضريبة، عاد عليه ذلك بالمديح والكرامة ، وصار مأمور الضرائب معه أعز صديق وأكرم رفيق . أعرف طبيباً في عاصمة من عواصم البلاد طلبوا منه حساباته فقدمها صحيحة بكل دقة ، ففرضوا عليه ضريبة ربما تساوي أرباحه ، فذهب ومعه المبلغ وقـدمـه لهـم دون تـوسـل لـتـخفيض أو منازعة، فكان انذهالهم منه شديداً وقالوا له بالحرف الـواحـد: ليس طبيب في المدينة كلها قدم ما قدمت وكلهم أصحاب عيادات كبيرة وذوو أسماء لامعة، فكان رده : هذا حقكم . ثم إذ صدر بعد ذلك قانون لزيادة النسبة في الضرائب بأثر رجعي ، حسبها من تلقاء نفسه وذهب بالمبلغ كله ليورده ، فقاموا في وجهه معترضين لأنه سيفضح أكبر الأطباء، وطلبوا منه أن يخفضه فرفض ، فكتبوا نيابة عنه التماساً باسمه دون أن يضع هو فيه كلمة واحـدة، وأرسـلـوه للإدارة فـخـصـمـت لـه ما خصمت وردت له الباقي. لم تنخفض عائدات هذا الـطـبـيـب بل زادت وزادت وزادت ، ولـم يـفـتـقـر بل اغتنى بالله والناس ولم يتنازع مع مصلحة الـضـرائـب بـل صـار مـعـهـا ولهـا كـأعز الأصدقاء، لماذا ؟ لأنه عامل مصلحة الضرائب كما يعامل الكنيسة، حقها كحق الله !!

7:13 «فأعطوا الجميع حقوقهم : الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام » .

وهذه الوصية ـ أعطوا  ـ جاءت لتجمع ما قيل في الآيات (5و6) وهي تساوي قول الرب : « أعـطـوا مـا لـقـيصر لقيصر» (مت ۲۱:۲۲)، حيث جاءت أعطوا بنفس التعبير ἀπόδοτε.

« الجميع » : 

وهم خدام الله للضبط وخدام الله لجمع الأموال . هنا « الجميع » الـتـي يـقـصـدهـا ق. بولس هم ضباط الضرائب ، وضباط العوايد، والضباط العظام الواجب لهم الخوف والضباط الأقل والواجب لهم الإكرام .

«أعطوا ، الحقوق » : 

هنا تلاقي حقوق الدولة مع واجبات المسيحي كمواطن مجموعة معاً، حقوق إزاء عطاء ، حقوق الدولة مجموعة معاً هي الضرائب والعوايد والخوف والإكرام .

الضرائب والعوايد :

أما الـعـوايـد فهي الأموال المفروضة على العقارات الثابتة والمنقولة كالأرض والمباني، وأما الضرائب فهي المفروضة على البضائع والأرباح والدخول .

« أعطوا » : ما لهم أو حقوقهم  :

« أعطوا» وحدها تفيد مجرد العطاء ولكن إضافة كلمة «ما لهم» جعلت العطاء هنا دينا على المواطن المسيحي. فإن كان للحكومات حق، فإنه يصبح ديناً في رقبة المسيحي، عليه أن يؤذيه وإلا يحسب مختلسا في نظر الدولة وفي نظر الله ، لأن أصحاب الديون هم خدام الله الصانعون إرادة الله . الإنسان يجمع من عرق جبينه و يعطي، والحكومات تأخذ وتصرف لحاجات الشعب ، وهـو مـنـظر إلهي في الحقيقة و بديع يشبه نزول المن من السماء ، فالمكثر كالمقلّل، بالنهاية لا يفضل شيء (٢ کو٨ : ١٥) لكي تكمل مشيئة الله فقط .

«الخوف »:

 تـقـديـم الخـوف للحكام، ظهرت إزاءه إعتراضات من المفسّرين ، لأن ق. بولس نيه سابقاً أن الخوف من الحكام إنما يكون بسبب عمل الشر. كذلك في كل مواضع الأسفار بالنسبة للخوف فإنه جاء فقط مقدماً الله وحـده مع الـتـحـذيـر مـن الخـوف مـن الـنـاس « أمـا خـوفهم فلا تخافوه » (۱بط 14:3). وكذلك بطرس الرسول يفرق بين الإكرام والخوف فيجعل الإكرام للحكام والخوف الله : « أكـرمـوا الجميع ، أحـبـوا الإخـوة، خـافـوا الله ، أكـرمـوا الملك » ( 1بط2: 16). وقد ذهب المفسرون في ذلك كل مذهب وتعصب كثير منهم أن الخوف الله فقط . ولكن من جهتنا نرى أن الخوف لا يأتي بمعنى واحد بل يأتي على عدة مستويات ، فيوجد خوف نفساني وخوف جسداني وخـوف وجـدانـي، خوف من المجهول وخوف أمام الكوارث وخوف ينشأ من الضعف وخوف ينشأ بسبب تهديد القوة الغاشمة . فكلمة « الخوف » إنما تتشكل بحسب المناسبة، فالخوف من الحكام بسبب الإحساس بضعف الذات هذا مركب نقص فهو خاطىء، والخوف بمعنى المخافة من الهيئة الـزائـدة يعتبر خطأ لأنه ينشأ كمركب نقص أيضاً. وق. بولس هنا يعطي للخوف معنى ما يستحقه الحـاكـم تماماً ، لا لأنه إله ولا لأنه شيطان بل لأنه خادم الله بالدرجة الأولى. فالخوف الذي تنص عـلـيـه وصـيـة ق. بولس بالنسبة للحكام العظام كالإمبراطور أو القواد الكبار هو أصلاً ممتد ليأخذ أصوله وأسـبـابـه مـن أن هؤلاء معينون من الله كخدام لتنفيذ مشيئة الله . فالخوف هو تجاه مشيئة وإرادة أعلى من مشيئتهم وإرادتهم .

[ 10-8:13] رفع الوعي المسيحي لتعامل الجماعة بعضها مع بعض لاقتلاع أسباب الخطايا

المسيحي والالتجاء إلى المحاكم

 

« كـن مـراضـيـاً لخصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق
لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي … الحق أقول لك لا
تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير. » (مت5: 25و26)

على كل إنسان دين محبة نحو الآخرين، فإذا انشغل كل إنسان في أن يوفيه ، وهو لن يستكمله أبدأ، فلن يقع إنسان ما في خطية ما .

والنتيجة:
+ وقف الاستدانة المالية أو ما يماثلها .
+ القضاء على الزنا .
+ القضاء على القتل .
+ القضاء على السرقة .
+ القضاء على شهادة الزور.
+ القضاء على شهوة ما للغير.

في هذه الثلاث الآيات (۱۳ : ۸-۱۰) لا يذكر ق. بولس كلمة «المحاكم » ، ولكنه يـسـتـبـعدها عملياً بأن يعطي وصية المسيح الأولى والعظمى لتجنب الإنسان النزاعات والخصومات ؛ بل والجـرائـم الـتـي تـؤدي حتما إلى المحاكم . وقد وضع ق . بولس سابقاً أساس التعامل الإيجابي العام بالنسبة للخارجين أولا والذي يجنّب الإنسان الخصومات .

1- «كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير.» (رو12: 9) 
2– «لا تجازوا أحداً عن شر بشر.» (رو12: 17)
3 – «إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس .» (رو12: 8)
4- «لا تنتقموا لأنفسكم ، أيها الأحباء، بل أعطوا مكاناً للغضب . » ( رو12: 19)
5 ـ «لا يغلبئك الشر، بل اغلب الشر بالخير.» (رو12: 21)

ثم يعطي هنا وصية لما بين الإخوة بعضهم مع بعض لقطع دابر الخصومات من أصولها التي تؤدي بالفعل إلى المحاكم . والوصية تتركز في الاحتراس من الاستدانة، وتحاشي الإساءة للآخرين ، وذلك بتنشيط المحبة كلغة تعامل .

8:13 «لا تكونوا مديونين لأحد بشيء، إلا بأن يحب بعضكم بعضاً، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس » .

الآية تنقسم إلى نصفين، النصف الأول وهو الخطير، وهو الذي يؤدي إلى الخصام ثم الخصومة ثم النزاع ثـم المحكمة للفصل. القديس بولس لا يرى في المنهج الإيماني المسيحي داعيا للخصومة أصلاً، وبالتالي وبالأولى دخول المحاكم . ففوق ما قدم ق. بولس في بداية الأصحاح من وصايا عـن اجـتـنـاب الشر والعداوة والخصومة العامة بالنسبة للأعداء، فإنه هنا يقدم وصية للمعاملة بين الإخـوة في المسيح . فلكي يجتز المسيحي كل جذور المنازعات المالية، أعطى ق. بولس وصيته أن لا يـكـون الإنسـان مـديـونـاً لأحد سواء بأموال أو بما يوازيها . فمن الأساس لا يستدين، هذه نصيحة عظيمة في حد ذاتها، وذلك مهما كانت الحاجة. فالأفضل أن تبقى معتازاً من أن تبقى مديوناً ، الأفضل أن تبقى فقيراً محبوباً من أن تستدين فتصير مكروهاً . والدين كما يقول أهل العلم ، هم بالليل وذل بالنهار! فلماذا الهم والذل ومعاناة البغضة ؟ لا تكونوا مديونين لأحد بشيء على أي وجه مهما كان .

وق. بولس لا يترك الإنسان بدون نصيحة إلهية عن كيف لا يستدين، وهو أن يشتغل بالمحبة أخـذاً وعـطاء. فالمحبة الأخوية عديمة الغش والرياء لا تترك الإنسان المحبوب معتازاً ولا تجعل الإنسان الغني يترك المعتاز دون معونة. فالمحبة في المسيحية بنك ادخار يعطي فيه من فاضت أمواله عن الحاجة، ويسحب المعتاز منه ما نقص عن الحاجة. وبنك الحب كالمن السماوي مصدره إلهي والـكـل يـأخـذ بين مكثر ومقلل، هكذا المحبة تغني ولا يزيد معها تعب . المحبة في المسيحية تصير كل واحـد غـنـيـاً بالآخر، وبالنهاية الله يغني الكل. لقد حققت الكنيسة الأولى صدق وصية ق . بـولـس : « وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج » (أع2: 44و45)، «وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ( المحبة) ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له (هذا فعل المحبة) بل كان عندهم كل شيء مشتركاً» (أع4: 32). كان الفقير والمحتاج يطلب بقلب طيب وبعين متضعة، والغني يعطي دون شعور بالتعالي ودون أن يعتقد أن ماله هو له خاصة بل هو مال المسيح : «من أراد أن يقترض منك فلا ترده» (مت5: 42)، «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فـاتـرك لـه الرداء أيـضـاً» (مت5: 40)، «لأني جعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني . كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني . » ( مت25: 35و36).

ثم بعد ذلك كيف أن ذا الحاجة يستدين ؟ ولماذا يستدين ؟ ومن ذا الذي عليه ما يأخذه كأنه دين؟

«لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس» كيف ؟

كانت علاقة الإنسان بالله تقوم على الناموس ، ولما جاء المسيح صارت علاقة الإنسان بالله تقوم على الإيمان بالمسيح !!

كذلك قبل أن يجيء المسيح كانت علاقة الإنسان بالإنسان تقوم على أساس الناموس بأحكامه الرادعة، فلما جاء المسيح صارت علاقة الإنسان بالإنسان تقوم على المحبة، وهكذا حلت المحبة عوض الـنـامـوس رسمياً، أكملت كل حقوقه وواجباته فصار من يحب أخاه من قلب طاهر بشدة يكون قد أكمل الناموس !!

والمعنى: حينما يبلغ الإنسان إلى قامة المحبة في المسيح يكون قد أكمل الناموس بنفس المعنى الذي قاله المسيح: «لا تـظـنـوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل» (مت5: 17)، وقد أكمل فعلاً على الصليب . فالمسيح بموته لأجل الخطاة ـ والإنسان عامة هو خاطىء ـ يكون قد غفر كل خطاياهم، وبقيامته يكون قد بررهم. وهكذا أكمل كل مطالب الـنـامـوس ووصاياه التي كان لا يمكن لإنسان أن يكملها . فنحن حينما ننال « حب » المسيح الذي مات به من أجلنا ونكون مستعدين أن نموت أيضاً: «نضع نفوسنا لأجل الإخوة » ( 1يو3: 16) نكون قد أكملنا كل وصايا الناموس حتى الكمال .

ومرة أخرى كان الإنـسـان مـرتـبـطـاً بالله بواسطة الناموس، والآن صار مرتبطاً بالله بالإيمان بالمسيح ، فالمسيح جاء بدل الناموس، بمعنى أن المسيح حل بدل الناموس أي أكمله . والإنسان في الـنـامـوس كان مرتبطاً بالإنسان قريبه بوصايا الناموس، والآن صار مرتبطاً بالمحبة ، فالمحبة جاءت  بدل الناموس بمعنى أغنت عنه وأكملته . فالمحبة كمال الناموس وأكثر. 

«قد أكمل الناموس»: 

«أكمل»: هذا فعل كامل تام يعني أن التكميل كمل وانتهى، بمعنى أن الذي يحب أخاه وكل أخ في المسيح وخارج المسيح يحسب على مستوى العهد القديم أنه أكمل كل وصايا الناموس بـالـكـامـل وانتهى منها، الأمر الذي عجز عنه جميع شعب إسرائيل بأنبيائه وقديسيه حتى إن الله : «أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع » (رو11: 32)، «الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو3: 12)، «لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله ( الناموس ) » (أع15: 10). فهذا الناموس العاتي (أي الشديد القسوة ) بوصاياه التعجيزية والذي لم يفلت واحد منه دون أن ينال على يديه حكم الموت بسبب تعديه على الوصايا، التي إن أخفق في واحدة منها يكون قد أخفق في الكل، هذا الناموس الذي تحدى الأجيال السالفة ووضعهم تحت الـعـصـيـان، يصبح الإنسان المسيحي الذي «أحب الإخوة» مكملاً لهذا الناموس ككل ، وليس ذلك فقط بل ويكون قد انتقل من الموت إلى الحياة : «قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة . » (1يو3: 14).

المحبة المسيحية لا تقف عند محبة المسيحي فقط ، هذه محبة يهودية التي تقول : «تحب قريبك وتبغض عدوك » . المحبة المسيحية لا يقف أمامها عائق يمنعها من عملها ، لا أخ مخالف في الرأي ، ولا مخالف في العقيدة، ولا مخالف في الدين، ولا مخالف في المحبة. فلا العدو يوقفها عن عملها ولا الإساءة ولا تهديد الموت … لماذا ؟ لأنها ليست محبة من داخل الإنسان وقلب الإنسان وفكر الإنسان؛ بل هي: «محبة الله التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا» (رو5: 5 ). فكل «من لا يحب لا يعرف الله . » (1يو4: 8).

إن كل أعـمـالـنـا بدون المحبة لا تساوي شيئاً كما يقول الأصحاح (13) من رسالة كورنثوس الأولى ! بل كل جهادنا الروحي وصلواتنا ودموعنا وصومنا ، بدون المحبة الأخوية الطاهرة، ليست شيئاً ! بل إنه بدون المحبة نكون مطالبين بكل وصايا الناموس لأننا في هذه الحالة لا تحسب أننا في المسيح ! أو بالحري تحسب أننا لا نستحق المسيح ! « هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم . » (يو15: 12).

۹:۱۳ «لأن لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشته، وإن كانت وصية أخرى، هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك».

كيف :

لا تزن : (خر20: 14، تث5: 18).

لا تقتل : (خر20: 13، تث5: 17).

لا تسرق : (خر20: 15، تث5: 19).

لا تشهد بالزور: ( خر20: 16، تث5: 20)

لا تشته : (خر20: 17، تث5: 21).

تحب قريبك كنفسك: (لا19: 18 ـ السبعينية).

ق. بولس أعطى مجموعة وصايا الناموس التي جاءت في اللوح الثاني، وأعطى وصية المحبة التي جاءت في سفر اللاويين. أي أنه اعتمد فقط على نصوص العهد القديم دون أية زيادة أو شرح . ولكن الذي يرفع هذه النصوص كلها من العهد القديم ليضعها في صميم العهد الجديد هو الموازنة بين هذه الوصايا ووصية «تحب قريبك كنفسك » بالتساوي، فالذي يحب قريبه كنفسه يـكـون قد أكمل الناموس، وهذا أمر لا يقره العهد القديم ولا يفهمه ولا يستطيع أن يعمله . فكيف يتم في العهد الجديد ؟

 ليست المحبة فعلاً سحرياً، حتى وهي في أشد إخلاصها لا تستطيع أن تلغي شهوة الإنسان أو تضبط جموح أعـصـابـه ووجدانه وتوقف حركة اللاشعور الذي يرتكب الخطايا دون وعي كامل أو إرادة. فالأمر هنا كما سبق وقلنا ، أن ق. بولس يعتمد في إعطاء هذه الوصايا على أساس قائم جديد في الإنسان قد أكمله المسيح بالكامل، فالإنسان افتدي من الموت واللعنة وغفرت خطاياه يسفك دم المسيح على الـصـلـيـب، وتصالح مع الله بالقيامة، ونال عهد التبني بحلول روح الله القدوس الناطق في قلب الإنسان منادياً بفم الإنسان الله يا أبا الآب . الإنسان في المسيح نال طبيعة جديدة قادرة بالروح القدس أن توقف أعمال الإنسان العتيق وتتحكم في أعضائه . فالمحبة في العهد الجـديـد ليست كالمحبة في العهد القديم، هناك فارق كما بين السماء والأرض. فمحبة العهد الـقـديـم محبة يهودية ناموسية مربوطة بالجنس اليهودي فقط، وبالجسد، وبالذات ، وبالنفس ، فهي محبة الأنـانـيـة المرتدة كلها على الذات تضخمها وتثبتها وتزيدها صلفاً ورياء وشحاً. لذلك راعى موسى النبي في وصـايـاه أن تـكـون المحبة في حدودها العشائرية الجنسية فجاءت «تحب قريبك وتبغض عدوك » ، وحينما قال موسى وصية : «تحب قريبك كنفسك » ، فالقصد منها أنه كما أن اليهودي يحب ذاته حباً شديداً مادياً أنانياً، هكذا يحب قريبه على ذات المعيار، وذلك كله لحساب بقاء الجنس اليهودي !! بمعنى أنه يرتد عليه بالنفع المادي الذاتي الأناني، فهو يحب قريبه ليحبه قريبه حتماً و بالضرورة، فالاثنان منتفعان، وهكذا كل إسرائيل . 

ومن ذلك جاءت الرابطة الشديدة الذاتية الجماعية، فصارت إسرائيل تحب ذاتها حباً جنونياً وتعادي من عاداها وما عداها عداوة جنونية. وكان القصد من ذلك أن تبقى وتعيش وتناطح الزمن والتغيير. وفعلا عاشت ولا تزال تعيش على هذا المعيار! و بهذا الوضع والأخلاق والصفات والمحبة الذاتية الأنانية التي تعيش بها إسرائيل اليوم تعطي برهاناً ناطقاً حيا كيف نجح الناموس بوصاياه أن يحفظ إسـرائـيـل إلى اليوم نموذجاً حيا للناموس ، ثم تظهر عيوب إسرائيل الشنيعة في هذه الذاتية المخيفة التي تقف بها لتعادي بها كافة شعوب الأرض ، لتوضح قيمة رسالة المسيح وعظمة فعل الصليب والدم المسفوك والفداء الذي أكمله، هذا العمل الفائق القوة الذي إذا أردنا أن نجمعه في كلمة واحدة تكون هي : « هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). هذه هي محبة الله الجديدة للإنسان، وهذه هي محبة المسيح التي دفعته إلى الصليب.

فـالـيـهـودية قامت ودامت وتثبتت على «محبة الذات » كأكبر عدو للبشرية كلها !! والمسيحية قامت ودامت على الصليب على «بذل الذات»، فاحتضنت العالم كله .

فحينما يقول ق. بولس : «من أحب غيره (ليس قريبه ) فقد أكمل الناموس » ، فهذا . نال محبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس، والروح القدس ختم الفداء والخلاص ، يعني أن الإنسان الـعـتـيـق بـطـبـاعه وأخلاقه وشهواته وكل تعدياته قد أبطل عمله في المسيح وبالتالي أبطل الناموس بكل وصاياه . فهنا تكميل الناموس ليس أنه أكمل وصاياه واحدة فواحدة ؛ بل أنه أكملها جميعها معاً وتعداها إلى ما هو أعلى منها ؛ بل إلى ما هو عكسها فألغاها !!

فبدل أن كانت الوصية «لا تقتل» آخر، صار المسيحي يبذل نفسه ـ أي يموت ـ من أجل الآخر حتى ولو كان عدوه. وبدل أن كانت الوصية «لا تسرق» مال الآخر، صار المسيحي يتعب بيديه ليعطي ويكمل احتياج الآخر حتى ولو كان عدوه ! وبدل أن كانت الوصية «لا تزن»، صار المسـيـحـي قـادراً أن يعيش من أجل الله وحباً في المسيح متبتلاً كل أيام حياته ! وبدل أن كانت الـوصـيـة «لا تشته»، صـار المسيحي قادراً أن يقمع جسده ويستعبده ويقدم أعضاءه آلات بر في خدمة الله . فمسـرة المحبة المسيحية هي في أن ترى خير القريب أو تعمله ، مسرة في العطاء لا في الأخذ، في البذل لا في الانتفاع، في إماتة الجسد لا في تلذذه وتنعمه، في خدمة كل إنسان للآخر لا في التعدي عليه .

وجه جديد للمحبة

10:13 « المحبة لا تصنع شرأ للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس» .

بهذه الآية يكون ق. بولس قد كشف وجها للمحبة لم يكن معروفاً أو ملاحظاً من قبل، لأنه بهذا الفعل السلبي للمحبة تكون المحبة عند ق. بولس لها طاقتان ، طاقة سالبية : «المحبة لا تصنع شراً للقريب » ، « المحبة لا تحسد ولا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالاثم . » (1کو13: 4-6).

وطـاقـة أخـرى إيجابية فائقة تعطي صفات جديدة للإنسان لم تكن له: «أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعـنـيـكـم، أحـسـنـوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم » (مت5: 43) التي يأتي في مقابلها عند ق. بولس: «المحبة تتأنى وترفق … تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. » (1کو13: 4 و6 و7)

وق. بولس الذي ذاق حب الفداء: «أحبني وأسلم نفسه لأجلي » (غل2: 20) كيف وبأي شـعـور يـصـنـع شـرأ للـقـريـب ؟ أو بالحري يصنع شرأ مطلقاً، وإن كان قد وضعها المسيح هكذا : «أحبوا أعداءكم» فكيف أنا أصنع شرأ بالقريب ؟

وإن كانت الوصية الناموسية القديمة جاءت هكذا : «تحب قريبك وتبغض عدوك»، فكيف وأنا في عهد النعمة وبر الله أعيش «أصنع شرأ بالقريب » .

حينما قال ق. بولس إن المحبة لا تصنع شرأ، قصد بأن يعطي للمحبة معيارها المتعفف ليظهر أن المحبة المسيحية ليست منعكفة على ذاتها ، كما قالها ق. بولس: «لا تطلب ما لنفسها » !! تنسى ذاتها وتطلب خير غيرها ، ترتعب من آلام الآخرين ولا تطيق سماع الأنين .

و بـتـوضـيـح ق. بولس للعمل السلبي للمحبة يظهر لنا كيف تنازل ق. بولس مع أهل رومية لـخـطـو بـهـم الخطوات الأولى في المحبة المسيحية. لأن «لا تصنع الشر» وصية تجيء قبل «اصنع الخير» .

«فالمحبة هي تكميل الناموس » :

«تکمیل»: 

لاحظ أن «تكميل» غير التي جاءت في الآية (8) «أكمل». فالأولى كما جاءت في هذه الآية تعني التكميل بالفعل المستمر، والثانية كما جاءت في الآية (8) تعني الكمال الذي تم. فحينما قال ق. بولس من أحب غيره فقد أكمل الـنـامـوس فهـو هـنـا يقرر حقيقة وقيمة المحبة ذاتها في وجهها الإيجابي أنها الكمال وأنها أعلى من الناموس. ولكن في هذه الآية ق. بولس يعقب على عدم فعل الشر الذي هو لا يزال حالة جهاد المحبة، فهو إنما يحاول تكميل الناموس .

فعدم صنع الشر بالآخرين هو استخدام القوة السالبية في المحبة، وهذا يقع على عاتق اللاهوت الأخلاقي الذي يبرز طاقات المحبة العاملة في الطبيعة البشرية على مستوى الجهد والتمرين والضبط للـفـكـر والـنـفـس والجسد في عدم فعل الشر. وذلك يعني أن المحبة لها قوة فعل سالبي ضد الخطية والشر، وقوة فعل إيجابي لصنع الخير. القديس بولس هنا يهتم بالطاقة السالبية للمحبة التي بها نضبط أنفسنا تجاه الشر، لكي نؤهل بالتالي لفعل الخير بآن واحد. فالقديس بولس أعطانا أمثلة لذلك كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال تقدم هذه الآيات :

+ «أقمع جسدي وأسـتـعـبـده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً . » (1کو9: 27) 

+ « فـأمـيـتـوا أعضاء كم التي على الأرض : الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان . » ( كو3: 5) 

+ «إن كنتم بالروح (المحبة ) تميتون أعمال الجسد فستحيون . » (رو8: 13)

+«لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته . » (رو6: 12) 

+ «لا تقدموا أعضاء كم آلات إثم للخطية . » (رو6 : 13)

+ « اهربوا من الزنا كل خطية يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد لكن الذي يزني يخطىء إلى جسده . » (1کو6: 18)

«كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. » (1کو9: 25)

+ « وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد لأن الجسد يشتهي ضد الروح ( القدس ) والـروح (الـقـدس ) ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون ، ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس . » (غل5: 16-18).

+  « الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات . » ( غل5: 24)

+ « مجتهدین تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام . » ( أف3:4)

+ «أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور … » (أف4: 22)

+ « اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه لأننا بعضنا أعضاء البعض . » (أف4: 25)

+ «اغـضـبـوا ( للصالح) ولا تخطئوا . لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تعطوا إبليس مكاناً. » (أف4: 26و27)

+ «لا يسرق السارق فيما بعد؛ بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج . » (أف4: 28)

+ «لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين . » (أف4: 22)

+  «ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق بل بالحري الشكر. » (أف5: 4)

+ «لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها . » ( أف5: 11)

+ «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح . » (أف5: 18)

+ «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً . » (في2: 4).

 

+« ليرفـع مـن بـيـنـكـم كـل مـرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث . »(أف4: 31)

+« وأما الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يسم بينكم كما يليق بقديسين . » (أف5: 3)

+« تمموا خلاصكم بخوف ورعدة . » (في2: 12)

+ «اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. » (كو3: 2)

« اطـرحـوا عـنـكـم أنـتـم أيضاً الكل الغضب ، السخط ، الخبث ، التجديف، الكلام القبيح من أفواهكم . » (كو3: 8)

«لا تكذبوا بعضكم على بعض، إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه . » ( کو3: 9 و10).

« محتملين بعضكم بعضاً ومسامحين بعضكم بعضاً، إن كان لأحد على أحد شكوى ، كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً . » ( كو3: 13)

« وأن تحرصوا على أن تـكـونوا هادئين وتمارسوا أموركم الخاصة وتشتغلوا بأيديكم أنتم، كما أوصيناكم، لكي تسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج ولا تكون لكم حاجة إلى أحد. » (1تس4: 11و12)

هذه صورة من جهاد المحبة لتكميل الناموس، وواضح أنها كلها وصايا للإنضباط والتمرين واسـتـخـدام أقصى طاقات المحبة لتجنب الشر والخطية بكل أنواعها . وفي الواقع نجد أن في تكميل هذه الوصايا المسيحية ما هو أرفع وأعلى جداً من وصايا الناموس القديم . فوصايا الروح أعلى من وصايا الجسد، وهذه كلها وصايا الروح والقوة الفعالة الوحيدة التي نعتمد عليها في تكميل هذه الوصايا هي نعمة المسيح ومحبته الباذلة التي نلناها بقوة صليبه . فنحن وإن كنا نجاهد، ولكن في الحقيقة نحن منتصرون بالروح ؛ بل وأعظم من منتصرين بالمسيح الذي فينا الذي أحبنا وأعطانا نعمة وقوة أن نـعـمـل ما يرضيه. لذلك فتكميل الناموس هنا هو تكميل ناموس المحبة، الذي هو بـعـيـنـه نـامـوس الأخلاق المسيحية!! وكما قلنا إن: «تكميل الناموس» هو الدرجة الأولى لعمل المحبة التي يأتي بعدها «كمال الناموس» الذي هو المحبة في عملها الإيجابي الكامل الذي ينتقل من وصية «لا تصنع الشر» إلى وصية أن تصنع الخير والتي معيارها المسيحي : «أحبوا أعداءكم ، بـاركـوا لاعـنـيـكـم ، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم » (مته :٢٤)، وهو المعيار الذي يفوق ناموس الأخلاق، وهو ناموس الصليب الذي ليس له مثيل في كل العالم .

[ 13: 14-11 ] تمييز زمن التوبة لئلا تضيع فرصة الخلاص

[ الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أعطي له
أن يحول الزمن إلى خلود ] الكاتب .

تمييز الزمن
العبور من الظلمة إلى النور

11:13 «هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا » .

«هذا وإنكم»:

اصطلاح يـفـيـد أن الكلام الآتي يؤكد ويرفع من أهمية ما فات قوله. وهنا ، ومن ملابسات الكلام، نفهم أنه يعقب على أصحاحي ١٢ و١٣. بمعنى أنه فوق ما قلت لكم ينبغي أن تفهموا أنكم ملتزمون بالعمل والاجتهاد بمقتضى هذه الوصايا ، خصوصاً وأن الزمن ليس في صفكم، فإنه يمر بسرعة خاطفة. وهذه لغة ق. بولس، فيقول لأهل فيلبي : « الرب قريب » ( في4: 5)، ويقول لأهـل تـسـالـونـيـكـي: « وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أيها الإخوة أن أكتب إليكم عنها لأنـكـم أنـتـم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلف في الليل هكذا يجيء. لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للخيلى فلا ينجون» (1تس5: 1-3)، ويقول لأهل أفسس : «فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء مفتدين الوقت لأن الأيام شـريـرة» (أفه: 15 و16)، ولأهل كورنثوس : « الوقت منذ الآن مقصر، لكي يكون … الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم تزول » (1کو7: 29-31)، وقد أخذ عنه بطرس الرسـول : « وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقلوا واصحوا للصلوات . »(1بط4: 7)

«الآن» ـ «الوقت » :

ق. بولس يقصد “الآن، بالمفهوم الأخروي، أي الحاضر المتصل بالنهاية والوقت الحاضر الذي بلغناه في سعينا الخلاصي، بين ما عمله المسيح في الماضي وما هو حتما آت في المستقبل القريب . هنا الوقت عند ق. بولس هو وقت أخروي، زمن خلاصي لا علاقة له بالعالم، حيث لا يفهم قرب المستقبل والنهاية على مستوى الزمن بالأيام والسنين، ولكن بالروح حيث ظهور الرب والمقابلة والحساب .

وهذا الاصطلاح ما أهمه ومـا أخـطـره، لكي نعرف زماننا !!! أن نعرف «زمان افتقادنا » (لو19: 44)، وزمان افـتـقـادنـا لـيـس هو أمساً ولا غداً بل اليوم بل الساعة !!! المسيح بكى على أورشـلـيـم لأنها لم تعرف زمان افتقادها ، وزمان افتقادها هو هو اليوم والساعة التي كان المسيح منحدراً فـيـهـا مـن فـوق جبل الزيتون داخلاً أورشليم ليعلن نفسه سرا في قلوب تلاميذه والأطفال والأتقياء أنه «الملك الآتي». أورشليم كانت لاهية في البيع والشراء والسرقة والمقايضات والأكل والـشـرب ، بينما استعلان الخلاص والحياة الأبدية كان يبوق به الملائكة في آذان الذين لهم آذان للسمع. وأورشليم لم تسمع، ففاتها الخلاص وفاتتها الحياة الأبدية، رفضوا النور فعم عليهم الظلام وخيم .

وق. بولس يكلم أصحاب الآذان الحسّاسة ذات السمع المرهف : «إنكم عارفون الوقت أنها الآن ». و الآن يا صديقي القارىء ليس الأمس ولا الغد بل “الآن الخلاصية“، لو انفتحت أذنك الروحية لصفقت بيديك وقلت : ” هلم تعال أيها الرب يسوع ” . “الآن“ ماران أنا !!! “تعال أيها الرب يسوع ماران أثاء كان يقولها الشعب الحي الذي كان يحس بساعة الخلاص تدق في قلبه في خـتـام كـل قـداس ، فـكـانـوا مـعاً وبصوت عال و بدموع يصرخون : “ماران أثا تعال أيها الرب يـسـوع”. وكـان يـأتـي المسيح حقا ويدخل ويحل في القلوب ويفيض سلاماً فلم يكونوا من فراغ يسبحون : « قلبي دوماً يفيض سلاماً » !!!

«إنها الآن ساعة لنستيقظ » :

هنا أيضاً “الساعة“  هي ساعة ق. بولس المشهورة ، ساعة الخلاص : « هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص» ( 2كو6: 2). ما أعظم الفارق بين الإنسان في هذا العالم الغافل وبين كافة مخلوقات الأرض وحتى ملائكة السماء، فهو المخلوق الوحيد الذي أعطي في يديه سر الزمن وسر الخـلـود ؛ بل سر تحـويـل سـاعـات الزمن الشحيحة بالصلاة والعبادة والتقوى الروحية إلى حياة الخلود بلا حدود ! 

وبهذا نفهم معنى اليقظة عند ق. بولس !! فهي الخروج من ليل العالم إلى نهار الأبدية، من ضغطة وشح الزمن إلى رحب الخلود، من عبث الدنيا وصندوقها المغلق على أصحابها الذين يلعبون في الظلام، إلى نور الله إلى صحو الحقيقة الأزلية إلى استنشاق روح الحرية في حضرة الله !! من سيرة الخطية الحزينة المظلمة إلى سيرة أهل النور و بهجة القداسة وفرح الأبدية !

أمـا بلغة المسيح، فاليقظة هي القيامة من  الموت، والموت عند ق. بولس هو موت الخطية . فالقديس بولس يقصدها قصداً أنها يقظة من موت الخطية. وبمفهومها اللاهوتي قيامة من الأموات !! كما عرفها المسيح في مثل الابن الضال: «أخاك هذا كان ميتا فعاش» ( لو15: 31). ق. بولس يتكلم مع الإنسان الذي أطال غربته عن وطنه، إنه يطلب منه أن يستيقظ من غفلته ويقوم سريعاً ويذهب إلى الآب الـواقـف على الباب في انـتـظـاره : « استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات فيضيء لك المسيح » ( أف5: 14). القديس بولس لم يستكثر أن يدس ذاته بين الذين ينبغي أن يـسـتـيـقـظـوا فـيقولها بالجمع : «إنها الآن ساعة لنستيقظ (جميعاً)». لأن الساعة هي ساعة كل يوم وكـل عـمـر وكل قامة، فهي لائقة لكل خاطىء، ومن هو الذي بلا خطية؟ « إن قلنا إنه ليس لنا خـطـيـة نـضـل أنفسنا وليس الحق فينا » (1يو1: 8). ولينتبه القارىء فالذي يقول هذه الآية هو القديس يوحنا اللاهوتي !!

«فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا » :

الخلاص عند ق. بولس تم في الماضي ويتم في الحاضر وسيتم في المستقبل :

في الماضي: «لأنكم بالنعمة قد خلصتم ( الترجمة الصحيحة عن اليوناني ) = having been saved بالإيمان، وذلك ليـس مـنـكـم هـو عطية الله . (أف2: 8)

في الحاضر: «فإن كلمة الـصـلـيـب عـنـد الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين= being saved  فهي قوة الله . » ( 1کو1: 18)
في المستقبل: «فبالأولى كثيراً ونـحـن مـصـالحون نخلص ( مستقبل )  = we shall be saved بحياته . » (رو5: 10 ).

لقد عثر الكل في اعتقاد ق. بولس بقرب مجيء الرب . ولكن في الحقيقة الناصعة أمام كل عين روحية سليمة أن ق. بولس كان يتكلم لا من معرفة ولا من نبوة ولا من إحصاء ساعات وأيام وسنين، ق. بولس كان يتكلم بإحساس روحي غامر بقرب مجيء الرب لا عن اعتقاد فكري ولكن عن واقع إحساس، ق. بولس كان يحس بالرب حاضراً وليس آتياً فحسب ، وكان إحساس ق . بولس بحضور الرب الدائم هو الذي جعله ينطق بمجيء المسيح السريع أو حالاً، وهو في ذلك ليس مخطئاً بـل يـود أن تـكـون الكنيسة في حالة استعداد وأن ينهض كل مؤمن من رقاده وينتظر مجيء الرب بسهر روحي. هي خطية ق. بولس في هذا ؟ ق. بولس لم يحول إحساسه إلى عقيدة ولـكـن حول إحساسه إلى وعظ ، فقوله بغاية الوضوح أن «الرب قريب » هو صادق جداً لأنه قريب فعلا منه ،وهو يود بكل قوته أن نحس بقرب الرب لكي نلتهب ، كما كان ق. بولس يلتهب من واقع ويقين !!

ولـيـس سـرأ، يا قارئي العزيز، أن تعلم أن بالصلاة الحارة المخلصة والدائمة أمام الرب يدخل الإنسان في نفس إحساس ق. بولس فيشعر بقرب الرب بل ويشعر أن الرب آت سريعاً ؟ إنها حقيقة روحية، فمجيء الرب للذين في انتظاره قريب جداً، وهذا بحد ذاته يلهب القلب ويشعل الروح . بهذا نـفـهـم على أي أساس يقول ق. بولس إن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا . فالعلاقة مع المسيح بعد التجارب والأهوال التي عاناها ق. بولس وبعد المعونات العلوية والحضور الشخصي للمسيح للمؤازرة والتشجيع وبعد العلاقات الحلوة التي نشأت بين ق. بولس والمسيح « أحـبـنـي وأسـلـم نـفـسه لأجلي» (غل20:2)، جعلت ق. بولس يتأجج قلبه بحب المسيح ، فالـتـجـارب قربته جدا من المسيح، والخلاص الذي تحققه بخصوص الصليب على خلفية الرقوق والـتـسـلـيـم والرؤى والإعلانات ازداد رنينه في قلبه وأضاء حياته، فكان كلما امتد ق. بولس في عراكه مع العالم ازداد الخلاص وضوحاً وفاعلية داخلية . فالقديس بولس يتكلم عن واقع وشهادة أن الخلاص بمرور التجارب يصير أقرب إحساساً وفعلاً وتأثيراً في الحياة، فليس مسألة مرور زمن بل «الآن» كما اتفقنا أنها هي «الآن» الخلاصية، «الآن» في زمن الخلاص وليس في زمن العالم، «الآن» الإسخاتولوجية المواجهة للاستعلان الأخير. «فالآن » أصبح الخلاص أكثر وضوحاً وقوة لأنه صار منعكساً من صورته النهائية أكثر مما رأيناه يوم نلناه !

حينما يطلع الإنسان على صورة أورشليم السمائية التي يرسمها سفر الرؤيا من بعيد بقبابها الذهبية وأبوابها اللؤلؤية ونورها الذي يشع بلا شمس ولا قمر فيملأ الكون كله بهاء، يتأجج القلب ويـتـهـلل بإحساس الخلاص المنبعث منها وكأنه يجذبه فيزداد رنين الخلاص في القلب ويطغى على كـل صـور الماضي من خـبـرات الخلاص التي كانت تملأ قلبه وحياته. فالخلاص الآتي يبتلع أولاً بأول كل الماضي بصوره ، كلما تقدمنا نحوه أو بالحري كلما جذبنا إليه ازداد قرباً وكمالاً .

أنظر، كيف أن هذا الشعور عند ق. بولس هو الذي جعله يقول إنها الآن ساعة لنستيقظ ، « فالآن» عند ق. بولس لا تعوضه السنين. وإذا فلت الآن من بين أيدينا ، فالعمر كله يكون قد ذهب ولن يعود .

12:13 «قد تناهي الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور».

معروف في التقليد جيداً من هم أبناء النور ومن هم أبناء الظلام، والليل عند ق . يوحنا هو غياب المسيح، والليل عند القديس بولس هو ليل الخطية وغياب النعمة ، هذا نفهم ومن ماذا يعني ق. بولس .

«تناهي الليل»: 

الكلمة الـيـونـانـية تفيد أن الليل قطع مشواره . الليل هنا هو المقابل للنوم في الآية السالفة . و ”تناهی“ هنا تقابل ميعاد اليقظة، والاصطلاح شديد التعبير عن ليل الزمان الحاضر ونهار الأبدية السعيد. فالليل تعبير عن معركة الإنسان تجاه الزمن والخطية والجسد، هو لم ينته ولكن تناهى أي قرب من نهايته التي على وشك أن تنفتح على اليقظة في ملء نور يوم الله الأبدي .

ولـكـن لـيـل العالم والخطية والجسد لا يعبر علينا كأننا نائمون حقاً بلا حراك ، بل في نور الله الداخلي في ملء نعمة المسيح نحن نجاهد، نحن نخلع الليل كل ليل، ونلبس النهار كل فجر، ولـكـن لـيـل الـعـالـم ليـس لـيـلـة تـأتـي وتعبر ولكنه عمر، عمر الخطية وجهادها ، عمر الضيقات بآلاماتها. اللـيـل ينسلخ عنا بعد أن يسلخ معه من أعصابنا وقوانا وحياتنا ما لا يعود. إنها معركة الظلمة مع النور في أعماقنا ، نخلع فيها بالفعل الجسد العتيق بأعماله، وهي كلها أعمال الظلمة غير المثمرة، ونلبس الجديد الذي لا يرى الذي يتجدد بحسب صورة الإنجيل الحسنة والنعمة ووجه المسيح الذي ينطبع عليه. 

نعم، تناهى الليل وتناهى معه إنساننا الشقي العتيق، ذلك الصديق العدو والعدو اللصيق ذلك الذي ليس من صداقته بد. ليل الإنسان في المسيح أحزانه، وأحزان الإنسان المسيحي حتماً تؤول إلى فجر وبشارة .

ق. بولس يبشرنا كما بشر إشعياء أورشليم بعد أن تناهي ليلها وهبت عليها نسمات فجر آت من بعيد :

+  «عزوا عـزوا شعبي، يـقـول إلهـكـم، طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل ، أن إثمها قد غفي عنه . » ( إش40: 1)

+ « والآن، هـكـذا يـقـول الـرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل، لا تخف لأني فديتك دعوتك باسمك أنت لي . » (إش١:٤٣)

+ «اسـتـيـقـظـي اسـتـيـقظي، البسي عزك يا صهيون ، البسي ثياب جمالك يا أورشليم ( النفس تلبس الإنسان الجديد) المدينة المقدسة، لأنه لا يعود يدخلك فيما بعد (خطية) أغلف ولا نجس . » ( إش52: 1)

« وتقارب النهار»: 

كلمة «تقارب » جاءت باليونانية في زمن المضارع التام الذي يدل على حدث تم في الماضي ولكنه لا يزال يـتـم في الحاضر بمعنى «تقارب ولا يزال يتقارب » ؛ « لقد أتى ولم يأت بعد بالتمام »؛ «حضر ولم نره بعد»، هو في الحقيقة فعل مستقبل ولكنه يحتل الحاضر بالقوة . لقد قرب ولكنه على بعد قليل . القديس بولس يراه أنه نهار الاستعلان، استعلان المسيح الذي يراه ق. بولس ولـكـن لـيـس بـالـعـيـان، فهو قريـب غـايـة الـقـرب من الإنسان : «أراه ولكن ليس الآن » (عـد24: 17)، فهو قريـب بـالـروح و بعيد بالزمن !! رؤيا في ضباب ، صورة ولكن «في مرآة»، « بعض المعرفة » (1کو13: 12) ولكن ليس كلها .

«فلنخلع (إذا) أعمال الظلمة » :

«إذاً» سـقـطـت مـن الترجمة العربية للأسف الشديد! إذا توضح هنا سبب أو علة عدم اكتمال الرؤيا وعدم تمام استعلان النور والحق والمعرفة . لماذا أنه قد جاء ذلك النهار السعيد ولكنه لا يزال على بعد ؟ المسيح حاضر بالفعل ولكنه لم يستعلن بعد، الدهر الآتي أشرق ولكن لم يستطع أن يرسل نوره ، والأبدية لاح فجرها ولكن لا يزال ليل !!!

+ «صرخ إلي صارخ من سعير يـا حـارس ما (بقي) من الليل ؟ يا حارس ما (بقي) من الليل ؟ قال الحارس أتى صباح وأيضاً (لا يزال) ليل.» (إش21: 11و12)

لماذا هذا التحرج الشديد في اكتمال الرؤيا والنور والنهار؟

نعم، لا يزال الجسد مدثراً بأعمال الظلمة، لذلك فالعين انحجبت عنها تباشير النور!

«إذاً» فلنخلع أعـمـال الـظـلـمـة حتى يشرق النور بالكمال ، حتى يأتي الآتي ولا يتأخر : «فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج ( الأخروية = زمن الأبدية والخلاص ) من وجه الرب ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل، الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد (اكـتـمـال) كل شيء الـتـي تـكـلـم عـنـهـا الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر. » (أع3:19-21)

«أعمال الظلمة»: 

كل عمل للإنسان يغيب عنه نور معرفة المسيح فهو بمثابة ثوب من الظلمة تنسجه الخطية بميولها وأفـكـارها ، يلبسه الإنسان فيثقل روحه ويغلف نفسه ويحجب عنها نور الله وبهجة الخلاص. هذه هي أثواب الليل المفضلة بأيدي الخطية على قامة الإنسان في معرفة الباطل واختباراته . لبشها سهل، تـلـتـصـق بالجلد وتتفاعل مع الجسد، لذلك فخلعها يكون بالدم! ما أسهل أن يسرق الإنسان ويزور ويجحد المسيح ويشهد زوراً ويختلس ويكذب ويزني، في دقائق يتم كل فعل، وكل فعل من هذه يسري حالاً في النفس ويملأ الشعور ويترسب في اللاشعور هناك في الأغوار العميقة، ويتسرب إلى الـسـلـوك يـلـونـه ويلوثه ويتحكم في الأفكار والأمزجة والكلام والتعبير، وتصير هذه الأفعال وكأنها ميراث يزاحم الجينات الموروثة بالطبيعة في قوتها وأثرها وتوجيهها للإنسان !!

ما أسهل أن يخطىء الإنسان، ووراء السهولة هذه إجراءات للخطية أشنع من السلاسل تكبل بها النفس والفكر والعادات والأمزجة؛ بل والجسد بأعضائه، وأعمال الخطية والظلمة، تنسجها الخطية وهو نائم بخيوط رقيقة لا تُرى بالعين المجردة وكأنها خيوط العنكبوت أو الأخطبوط تلفها وتلفها حول النفس، فإذا الإنسان فريسة لا يقوى على الحركة الحرة فلا يتحرك بعد إلا بمقتضى سلطان الخطية كسيد، ومن ذا الذي يستطيع أن يفك نفسه وأي نفس تستطيع أن تتخلص من قـيـودهـا بـذاتـهـا !!؟ إلا بنعمة الله وصليب المسيح و «كلمة الله » السيف ذي الحدين المخصص لمحاربة الخطية وشق قلب الظلمة وتتبعها في أعماق النفس : «لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سـيـف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونـيـاتـه» (عب4: 12). كلمة الله سيف من نار وأعمال الخطية والظلمة مهما التفت على النفس وقيدتها وكأنها بسلاسل وقفلت عليها بأقفال من حديد، وبمتاريس في الأعماق من نحاس فهي لن تزيد عن ربط شمشون وقيوده بيد أصدقاء دليلة التي «قطعها كخيط . » (قض16: 11)

« ونلبس أسلحة النور» :

إعادة لمنظر الإنسان في المعمودية وهو يخلع ثوب العالم والخطية بأشكاله وألوانه ويلبس الثوب الأبيض النقي ثوب الخلاص الذي هو رمز الإنسان الجديد، القائم من الأموات ، ولكن يظل الخلع واللبس بمفهومه الروحي العملي على مستوى العمر، حيث الخلع بمرارة واللبس بجدارة، الخلع بالألم والضيق والتضييق بالصوم والصلاة والسهر وتبكيت النفس والصراخ إلى من في يده الحل والربط ، وإعمال سـيـف الكلمة والاستعانة بالنعمة بصبر ومثابرة. أما اللبس فبيد النعمة الحانية لا بأثواب يأثر بها الإنسان بل بأسلحة تتسلح بها النفس : «ألبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس . فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات . من أجل ذلك احملوا سلاح | الله الـكـامـل لـكـي تـقـدروا أن تـقـاومـوا في اليوم الشرير وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا . فاثبتوا ممنـطقين أحـقاءكم بالحق ولابسين درع البر وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام حاملين فوق الـكـل تـرس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة . وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله . » (أف6: 11-17)

 هذه الأسلحة هي أسلحة الروح بمثابة اثني عشر جيشاً من الملائكة تحت إمرة الرب ، معدة للدفاع عن النفس البشرية الجديدة التي اشتراها بدم صليبه . لا يراها الإنسان ولكن يرى عملها يوم الضيق : «أدغني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني» (مز50: 15)، «الرب يقاتل عنكم وأنتم تـصـمـتـون» (خر14: 14)، «لأن أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون ، هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح . » (2کو10: 4و5).

هذه هي أسلحة النور التي بشر بها ق. بولس كل كنيسة ووضعها في يد الذين أشرق عليهم النهار: « وأما نحن الذين من نهار فلتضح لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء الخلاص» (اتس ٨:٥)، «في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار» (٢ كو٦ : ٧)، حيث البر هو المطابق للنور وسلاح اليمين للضرب وسلاح اليسار للدفاع . 

نعم، أيها القارىء العزيز، هي حرب ولـكـن الـذيـن مـعـك هم أكثر من الذين عليك (2مل6: 16). والمـطـلـوب أول كل شيء وأهـم كـل شيء، كجـنـدي صـالـح لـيـسـوع المسيح (2تي2: 3)، أن تدخل المحاربة وأنت واثق من نصرتك لأنك تدخل تحت لواء المسيح : « كما هو مـكـتـوب أنـنـا أجلك ثمات كل النهار، قد حسبنا مثل غنم للذبح ، ولكننا في هذه جميعها ـ نحن أعظم من منتصرين ـ بالذي أحبنا » (رو8: 36 و37). لا تخف ولا تجزع ولا تزم السلاح مـن يـدك مهما كان، فالعدو جبان : «قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع4: 7). بل هوذا سر أقوله لك كـجـنـدي صغير في جيش المقدمة، حينما يثقل عليك القتال أصرخ صرخة النجدة تجد الرب يرسل ملاكه في الحال ليقف أمامك يصد جحافل الظلمة : «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم» (إش63: 9). ثـم عـلـيـك أن ترفع نظرك كل حين إلى فوق لأن لنا سحابة من شهود شهداء ماتوا منتصرين غالبين والآن هم فوق رؤوسنا بل خلف ظهرنا بل يتقدمون أمامنا ولهم مهام رسمية في معركتنا، فتشجع وأذع منهم من تدعو فكلهم لك : « وإلى أي القديسين تلتفت . » ( أي5: 1)

+ «إذ لنا سحابة من الشهـود مـقدار هذه محيطة بنا ، لنطرخ كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر (نركض) بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومـكـمـلـه يـسـوع الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينا بالخزي ، فجلس في يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تـكـلُـوا وتخـوروا في نـفـوسـكـم . لـم تـقـاومـوا بـعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية . » ( عب12: 1-4)

وبالنهاية فلننتبه أن ق. بولس يقول نخلع أعمال الظلمة، ولم يقل نلبس أعمال النور بل أسلحة النور، فنهار المسيح وزمن الخلاص الذي نعيشه هو حرب وليس أعمالاً أو بالحري فأعماله كلها حرب ، فالعدو بالمرصاد ينازعك في كل عمل بر، يريد أن يخطفه من يدك، من فمك، من فـكـرك. فـلـكـي تـعـمـل أعمال الخلاص أو تفكر فيها أو تبشر بها ، فاعلم أنها كلها على مستوى الحرب : «بسلاح البر لليمين واليسار» (2کو6: 7)، فباليمين إن أردت أن تبني فيلزم لليسار أن تحارب (نح14: 17). فما هي حرب اليسار؟ 

13:13 «لنشلك بلياقة كما في النّهار، لا بالبظر والشكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد» .

« لنسلك بلياقة كما في النهار»:

بلياقة : وهي من بادئة = حسن + شكل .

مفتاح هذه الآية هو «النهار»، نهار النور والروح واستعلان المسيح وكأننا في حضرة الله . هذا النهار هو عكس الليل الذي سبق وطال، فالليل له أعماله التي أوصى ق. بولس بحتمية خلعها لإمـكـانـيـة التسلح بالروح لحرب الخلاص والنصرة. فالآن نحن دخلنا حرب النهار بأسلحة النهار إزاء أعمال الظلمة المفضوحة. فهنا ألقانا ق. بولس فجأة في وسط معركة الخلاص وقد سلّحنا بـأسـلـحـة الـنـور، وهـو يـطـالـبـنا أن نعمل عملها إزاء مخازي الليل الذي لابد أن نتخلص من آخر ساعاته ، لأننا بصدد فجر الحياة الجديدة .

فـإن كـانـوا بـالليل يعملون أعمال الخزي و يسيرون سير الخلاعة، فنحن الآن بالنهار، يلزم أن نسلك بليـاقـة ووقار المسيح لأن أعمالنا وسلوكنا هي منظورة من الله والملائكة والقوات السمائية وأرواح القديسين لأننا في نهار الله !

«لا بالبطر والسكر»:

يلاحظ أن ق. بولس يجمع هذه الأعمال المخلة بالتقوى اثنين اثنين، وكل اثنين لهما علاقة مشتركة ووجهة واحدة . فالإنسان يسكر ثم يعربد، ولو أن ق. بولس قدم العربدة على الشكر فهي الجزء المنظور من السكر.

«البطر» هي التي يقال لها «العربدة» أو تهييص خارج عن الحد. كما في الأفراح الريفية الخليعة . هذا عمل من أعمال الظلمة حيث الخطية تأخذ نشوتها ويخرج الإنسان عن رزانته ويسلك كالسفهاء .

والسبب في سلوك «البطر» هو «السكر»، والسكر هو شرب الخمر الزائد عن الحد : «لا تـسـكـروا بالخمر الذي فيه الخلاعة» (أف5: 18). فهنا البطر والسكر مجتمعان معاً في هذه الآية أيضاً .

وق. بولس يرى أن شرب الخمر الزائد هو عمل من أعمال الظلمة، لأن الذي يستزيد من الخمر إنما هو يقصد قصداً أن يخرج عن وعيه، إما طلباً للعتق من الهموم أو رغبة في رفع حاجز الـتـعقـل إرادياً لمزيد من الفرح الكاذب الذي يدخل في مفهوم التهييص والعربدة . وكلا الفرضين من صنع الخطية، فرفع الهم هو من عمل الروح القدس ومزيد الفرح هو من عمل الروح القدس أيضاً. لذلك يوصي ق. بولس لمثل هؤلاء وهؤلاء بقوله : «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح » (أف ١٨:٥). لأن الذي يمتلىء من الروح القدس يحيا بلا هم وفي أوج الفرح والسرور بالرب !!

والـذي يـسـتـرعـي انـتـبـاهـنا في اختيار ق. بولس لحالة الكلمة في «البطر» و «السكر» أنه يوردهما في حالة الجمع (أي البطر والسكر المتكرر) وهذه إشارة خفية أن هذين العملين هما في الحقيقة اسـتـمـراء مستمر للذة الخطية وسلطانها ، لذلك يرتمي الإنسان فيهما بكثرة فيصيران عادة وسلوكاً، ولهذا يبدأ التوصية بأن «نسلك بلياقة»، فهي مسألة سلوك أي أفعال متكررة .

هنا ولو أن ق. بولس أمسك عن أن يورد بأية أسلحة نحارب وبأية أسلحة نغلب ، ولكن هذا لا يفوت على القارىء اللبـيـب . ففي الآية الأخرى التي ذكرناها ( أف5: 18 ) يقول ما معناه : لكي تقطعوا الطريق على أعمال الظلمة، إن كنتم تريدون أن ترفعوا الهموم عن أنفسكم أو تعيشوا الـفـرح الـدائم ، فامتلئوا بالروح القدس. هنا إشارة إلى أن الملء من الروح القدس بحد ذاته كفيل إذا استوعبناه أن يطرح الحاجة إلى السكر والبطر .

أعرف إنسانا وما أعظمه من إنسان! كان لا يعود إلى منزله من العمل كل يوم إلا وزجاجة الخمر في يده، وفي يوم ـ كما اعترف لي ـ داهمه الروح القدس وهو راجع إلى منزله وفي يده آلة الـطـرب أو إله البطر، فما كان منه إلا أن ألقى بمعبوده في صندوق الزبالة وذهب إلى منزله وأغلق بابه، وكانت صلاة، وكانت ملاقاة وتوبة وحياة بدأت في ملء الإيمان ، وانسكب الروح في قلبه وخلص وخلص الآلاف وصـار مـن القديسين . فيا عزيزي القارىء أسلحتنا قادرة بالله على هدم عادات مهما تملكت فينا وسادت علينا وكادت لنا وكبلتنا بالقيود .

«لا بالمضاجع والعهر»: 

المضاجع هي في الحقيقة تعني أسرة للرقاد ولكن خاصة بالاتصال الجنسي سواء في حدود الزيجة الرسمية أو خارجها . ولكن بسبب الكلمة الأخرى التي أوردها ق . بولس لتكون مرادفاً لها وهي العهر، فالمضاجع أصبحت تعني مكان الرذيلة . والعهر أو الدعارة هو ممارسة الزنا بإفراط .. والـكـلـمـتـان تـفـيـدان كل أنواع الأعمال السرية للزنا التي تجري في الظلام . ولكن الذي يسترعي انتباهنا أن اختيار ق . بولس لعملي الظلمة الأولين « البطر والسكر» كان أنهما يؤديان إلى الزوج الثاني من الأعمال الشائنة التي تليق بأبناء الظلمة وهما المضاجع والعهر.

والـعـمـلان الأخـيـران جاءا في الـيـونـانية بصيغة الجمع أيضا تأكيداً أنهما من أعمال الاعتياد والسلوك الدائم .

«لا بالخصام والحسد»: 

آخر زوجين في أسـرة قـبـائح الليل، وهما اللذان ينتهي إليهما الحال . فبعد السكر عربدة و بعد الـعـربـدة ارتماء في أحـقـر أنـواع الزنا والشذوذ، ومنها إلى الخصام أي العراك والمشاجرة. واختلاق الخصومة والحسد يأتي كمقدمة لأعمال أخرى أكثر إجراماً تنتهي بالقتل .

ولـكـن أيـهـا القارىء العفيف ، لودريت أن هذه الألفاظ النابية ومعرض هذه القبائح التي تتقزز منها النفس ، اطلع عليها يوماً ـ وما أسعده يوما من أيام البشرية ـ الفتى أغسطينوس وهو غارق في خطاياه وهمومه، وكان يبحث عن مخرج وتوبة عندما مل حياة الإثم ؛ وما أن قرأ هذه الآيات السابقة حتى رأى نفسه عارية ورأى الله !! فتعمد وصار قديسنا المحبوب وشفيع الغرب كله، أمير التصوف وأبو اللاهوت الكاثوليكي.

كان ذلك في ميلانو بإيطاليا وكان في حديقة أحد أصدقائه، وبينما هو غارق في همومه وتردده هل يقبل الإيمان بالمسيح ، سمع صوت صبي صغير يصيح : « خذ هذا واقرأ. خذ هذا واقرأ»، ولعله كان يقلد أمه وهي تحثه على المذاكرة، والتفت أغسطينوس فوجد على طرف مقعده كتاباً لصديقه ، وكان رسالة ق. بولس إلى أهل رومية : [ فتحت وبدأت أقرأ في صمت فما أن وقعت عيني على كلمات ق. بولس : «ليس بالبطر والسكر ليس بالمضاجع والعهر ليس بالخصام والحسد بل ألبسوا الرب يسوع ولا تصنعوا تدبيراً للجسد». فلم أهتم أن أقرأ أكثر من ذلك، ففي ختام الآية إذ بشعاع من الوثوق انسكب في قلبي وانقشعت عني سحب التردد في الحال .].

«بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ». 14:13

«بل»: 

رجعة على ما مضى من أفعال الظلمة البغيضة، التي بعد أن فضحها وجب ليس خلعها فقط بل:

«آلبسوا الرب يسوع المسيح » : إجراء سري معمداني .

ق. بولس يتصور أننا خلعنا بالفعل ـ كما في سر المعمودية ـ الإنسان العتيق بأعماله والظلمة بقبائحها ، فوجب أن لا نبقى عراة بل حالاً كما في السر المقدس نلبس الإنسان الجديد. ولكن ق. بولس يجري الآن طقساً جديداً مذهلاً للعقل، فهو كمن أخذ سلطاناً من الله أن يلبسنا المسيح ، ها هـو يـأمـرنـا أمـراً أن نلبس الرب يسوع الروح من السماء، وكأن الأمر مفروغ منه، وكأن المسيح واقـف أمامنا سهلاً مهلاً يمد يديه لتمسك به لندخل فيه ويدخل فينا بسر الإيمان الذي لا ينطق به ، كسر المعمودية الذي لا يرى ولا يحس . أن نلبس المسيح يعني أن نتحد بجسده السري ، أن يدخل المسيح فينا يحل بالقلب فيصير هو المنظور فينا ونحن نكون مستورين فيه، وبه لا يظهر شيء منّا بل المسيح يظهر في كل فكر، في كل عمل، في كل نية، في كل مشيئة، في كل حب، في كل صلاة :

«بسـبـب هـذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الأرض، لكي يـعـطـيـكـم بـحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ـ ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم ـ وأنتم متأصلون ومتأسّسون في المحبة . » (أف3: 14-18)

هذا الأمر يـقـوله ق. بولس من واقع حاله ، من اختباره، من حلول المسيح فيه، في القلب وفي الفكر وفي الروح حتى قال ق. بولس : « فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل2: 20). هذا هو «آلـبـسـوا الرب يسوع المسيح »، هو اختفاء إنسان الليل صاحب مخازي الليل، وظهور إنسان النهار الإنسان الجديد الذي بحسب صورة خالقه يتجدد يوماً فيوماً. ثم هذا بحسب الآية السابقة يكون سبب وعلة « السلوك باللياقة » .

لا يمكـن خـلع الإنسان العتيق بأعماله المظلمة القبيحة إلا في مواجهة الرب يسوع باستعداد الإدثـار بـالمسيح أي لبسه لتختفي مرة واحدة كل مخازينا فلا يعود لنا ليل يقلقنا ولا أعمال تلح علينا وتغرينا، لأننا نكون مع المسيح قد مثنا عن جسد الخطية ولبسنا الجديد في المسيح ، وتصير «حـيـاتـنـا مستترة مع المسيح في الله » (كو3: 3)، « ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة الله وبرأ وقداسة وفداء . » ( 1کو1: 30).

ولـكـن «ألبسوا الرب يسوع المسيح » ليس عملاً محدوداً، فأعمال النهار ليست كأعمال الليل ذات بداية ونهاية، فأعمال الله تبدأ ولا تنتهي إلى الأبد . نحن نلبس الرب جديداً كل يوم في كل كلمة حية من كلماته تدخل قلبنا لتحييه، في كل صلاة بالروح نسكبها أمامه فترتد علينا رضى وسلاماً يدخل أعماقنا ويملأ كياننا ، فنحن نلبس الرب يسوع من داخل عشرة وشركة يأخذ فيها ما لنا و يعطينا ما له، حتى ، نفرغ مما لنا ونمتلىء مما الله ، فلا تعود حياتنا مئا بل منه، هذا نبدأه معه وهو يكمله معنا.

« ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات » :

هذا هو المقابل الحتمي الذي ينشأ بالضرورة عندما نلبس الرب يسوع ـ طبعاً ليس من جهة الـشـكـل ـ بل من جهة الموضوع، أي «متمثلين به » في كل فكر وعمل، حيث « الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة» (في2: 13). هذا هو الواقع الحي الذي تشبث به ق. بولس سابقاً :

+ «أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكنا فيكم … فإن كان المسيح فـيـكـم فـالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر … فإذا أيها الإخوة نحن مـديـونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون . » (رو8: 9 و10 و12و13)

إذا فهذه الوصية «لا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات » قائمة ومنبثقة من «ألبسوا الرب يسوع المسيح » ، لأن « ألبسوا الرب يسوع المسيح » تساوي الإنسان الجديد، « والتدبير للجسد لأجل الشهوات » تساوي الإنسان العتيق .

ق. بولس هنا يستبعد بإلحاح أن نخطىء ونرتد إلى شهوات الجسد وتدبير السهرات والمسرات والملذات ، بعد أن نكون قد قبلنا المعمودية ولبسنا المسيح وقبلنا الدخول في حرب الإيمان للتخلص من أعمال الظلمة ليشرق علينا نهار الحياة الجديدة .

إن خطر العودة إلى العادات القديمة واقف بالمرصاد يتهددنا ، وق. بولس يجاهد معنا ليكشف مدى اتساع رقعة الحرب المقررة علينا، فهي وحتى النهاية وبعد أن نكون دخلنا عهد النعمة وتمثلنا بالمسيح في السلوك بالوقار المسيحي، تعود الغرائز وتعود العادات تلح لرجعة خطرة ثمنها ندامة تكذر النفس، حيث يكتشف الإنسان أنها محاولة من الشيطان لجحد المسيح فيصبح طعمها مرا وسرورها غماً وخمرها شماً ونهايتها نكداً .

ما أعجب ق. بولس في هذا التحذير الأخير، إنه حقاً أب يريد أن يتمخض بنا حتى يتصور المسيح في داخلنا، إنه حقا معلم : «من يعثر وأنا لا ألتهب » (2کو11: 19). لا يريد أن يتركنا حتى يؤمن على وجود المسيح فينا .

ولـكـن عـنـصـراً هاماً لا يزال مختبئاً في التحام النصف الأول من الآية : «ألبسوا الرب يسوع المسيح» مع النصف الآخر: « ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ». فبالجزء الأول يتم لنا الـسـلـوك بـالـروح ، لأنه يستحيل أن نلبس المسيح بمعزل عن الروح القدس، وإذ تكون في الروح لا يعود للجسد مكان في اهتمام الروح ، وإذ نكون في الروح نحصل على حرية مجد أولاد الله. وهذا هو مـوضـوع الأصحاح القادم (14)، حيث يستعرض حريتنا في المسيح ماذا تعني من جهة الأكل والشرب وأيام العبادة والحكم على ضمائر الآخرين .

تفسير رومية – 12 رسالة رومية – 13 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية – 14
القمص متى المسكين
تفاسير رومية – 13 تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى