تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 13 للأب متى المسكين
الجزء الرابع: إنجيل المحبة
العشاء الأخير وأحاديث الوداع
مع التلا ميد الأخصاء
من الأصحاح الثالث عشر إلى الأصحاح السابع عشر
في هذه الأصحاحات، يرتفع القديس يوحنا في تسجيلاته إلى أعلى خصائص أسلوبه الروحي في التعبير عن المحبة, حيث لا يتخللها ما يجرح المحبة ويدميها إلا التنويه عن خيانة يهوذا، أحد المحبوبين الذي باع المحبة وذبحها.
ويمكن تقسيم ما جاء في هذه الأصحاحات إلى:
1- آخر أعمال المحبة وتاجها، وجرحها القاتل: (الأصحاح 13).
2- الأحاديث الأخيرة، والمواعيد السخية: (الأصحاحات 14- 15 – 16).
3- صلاة التكريس، والوجه متجه نحو السماء: (الأصحاح 17).
وأهم محتويات هذه الأجزاء هي:
عشاء المحب القديس(1:13-20)
+ «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى»
+ قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه …
+ فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض …
+ ليس رسول أعظم من مرسله.
فرز الخائن: «فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا» (26:13).
الوصية الجديدة: وصية المحبة (34:13-35)
التحذير لبطرس (36:13-38)
حديث الوداع: الذهاب والعودة . (الأصحاح 14).
+ «أنا أمضى لاعد لكم مكاناً … (ثم) آتي أيضاً وآخذكم إلي».
+ «أنا هو الطريق، والحق، والحياة».
+ «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بى».
+ «الذي رآني ، فقد رأى الآب».
+ «أنا في الآب، والآب في».
+ «إن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي».
+ « أنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزياً آخر, ليمكث معكم إلى الآبد».
+ «لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم».
+ «إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً».
+ «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم».
حديث الوداع الثاني: الوحدة العضوية مع المسيح : (الأصحاح 15).
+ «أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الكرام».
+ «أنا الكرمة، وأنتم الأغصان».
+ «كما أحبني الآب، كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي».
+ «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضا، كما أحببتكم».
+ «أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به».
+ «إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم».
+ «ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عد الآب يبثق، فهو يشهد لى وتشهدون أنتم أيضاً».
حديث الوداع الثالث: الانطلاق والعودة: (الأصحاح 16).
+ «إنه خير لكم أن أنطلق, لأنه إن لم أنطلق، لا يأتيكم المعزي».
+ «ولكن إن ذهبت أرسله إليكم».
+ «ومتى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق».
+ «سأراكم أيضاً (ثانية)، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم».
+ «كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم».
+ «تأتي ساعة حين لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية»
+ «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني».
+ «تأتي ساعة تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي».
ختام أحاديث الوداع. (33:16).
+ «كلمتكم بهذا ليكون لكم فى سلام
+ في العالم سيكون لكم ضيق
+ لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم».
صلاة المسيح التي غيرت مجرى الدهور: (الأصحاح 17)
صلاة المسيح رفعت الإنسان إلى أعلى من رتبته الأولى: (21:17-24)
صلاة المسيح سلمت الإنسان المفدى صك الحياة الأبدية: (2:17).
صلاة المسيح فتحت معرفته وقدسته لاستيعاب طبيعة الله في ذاته: (3:17 و17 و26)
صلاة المسيح استعلنت وحدة أبوة وبنوة الله في ذاته: (5:17 و10 و21).
صلاة المسيح أدخلت الإنسان الجديد في الوجود الإلهي الفائق، ليفقد أنانيته وتفتنه إلى الأبد: (21:17و23)
صلاة المسيح أنعمت عليه بحب الآب، بوساطة الابن الوحيد، ليعيش فيه التبني: (23:17-26)
مكان البشاره
عاشراً في أورشليم
للمره الاخيره
الأصحاح الثالث عشر
خدمة المحبة: غسل الأرجل
أ- الرب يقوم عن العشاء، ليغسل أرجل تلاميذه، لتكريسهم للخدمة، كنموذج لما ينبغي أن تكون عليه المحبة بين المرسلين، وما هوا لاتضاع، كسر الكمال للكرازة والرسالة (1:13-20)
ب- الرب يكشف مسبقاً عن خيانة يهوذا. ويعطي يوحنا علامة خاصة ليتعرف عليه (21:13-33)
ت- الوصية الجديدة: المحبة (34:13-35).
ث- الرب يحذر بطرس من تجربة الانكار التي سيسقط فيها (36:13-38).
بذل المحبة (1:13-20)
في صميم سر العشاء، ومن جوهر لاهوت الإفخارستيا، يقدم إنجيل يوحنا سرده التاريخي الفريد لطقس «غسل الأرجل» كنموذج حي لكرازة المحبة، في جو روحي مشبع بالعواطف. والرواية تمتاز بالدقة الحركية والحيوية الناطقة، وتسودها شفافية المسيح الحساسة والرقيقة والخجولة في إشارته نحو التلميذ الخائن الذي اندس وسط الأطهار. كمأ يظهر القديس بطرس، بملامحه المتدفقة حيوية، سواء في اندفاعه أو في إحجامه .
ورواية غسل الأرجل تنقسم إلى قسمين: قسم يسرد عملية غسل الأرجل بملابساتها (2-11)، والقسم الآخر يسرد الدرس المتحصل منها (12-20)
1:13 أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى.
قبل الفصح: الحديث عن زمن العشاء الأخير الذي حدده إنجيل يوحنا قبل الفصح أي قبل 14 نيسان، وهو يختلف في ذلك عن الثلاثة الأناجيل الأخرى التي حددته بوقت الفصح نفسه، أي أن عشاء الفصح كان في 14 نيسان.
ولكن سواء إنجيل يوحنا أو الأناجيل الثلاثة الأخرى فكل منها كان يجتهد لإثبات أن الفصح اليهودي قد أكمل والى الأبد سواء بهذا العشاء الأخيرا لذي ذبح فيه المسيح نفسه بالنية، أو بذبح المسيح فعلاً على الصليب على أيدي اليهود، عوض خروف الفصح.
ومن جهة القديس يوحنا، فقد أكد أن الفصح الحقيقي, الذي كانت كل أعياد الفصح السابقة رمزا له, قد أُكمل والى الأبد بذبح «حمل الله» يسوع المسيح، على الصليب لرفع خطايا العالم؛ وذلك في نفس ميعاد ذبح خروف الفصح في 14 نيسان، ليصح المسيح فصح الدهور كلها: «الخروف القائم في السماء كأنه مذبوح». وهذه الصورة الفصحية الدائمة للمسيح في السماء، باعتباره خروف الفصح الأبدي، ملأت كل رؤيا القديس يوحنا حيث ظهر المسيح بصورته الفصحية هذه، كخروف الفصح، ما يقرب من خمس عشرة مرة!!
وحتى الكنيسة المعتبرة جسده, ظهرت في الرؤيا كامرأة «الخروف» التي جُبلت من ضلعه، بل «من لحمه وعظامه». بل من دم صليبه، ورآها القديس يوحنا متهيئة ومزينة بصلوات وتبررات القديسين, وأنها وشيكة الظهور معه: «لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الخروف (استعلان الملكوت الأخير) قد جاء، وامرأته هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بتزا (كتان أبيض وهو لباس خدمة الكهنوت ) نقيا بهيا، لأن البز هو تبررات القديسين.» (رؤ7:19-8)
والعجيب جداً أن الكنيسة المجيدة المحبوبة والمعشوقة لدى عريسها «الخروف» الفصحي، الذي ذُبح من أجلها فامشتراها بدمه وولدها من روحه يوم 14 نيسان، هي نفسها التي رأها القديس يوحنا في رؤياه بصورة أورشليم الجديدة عينها، مدينة الملك العظيم, وطن القديسين, بأسوارها الكريمة وأبوابها اللؤلؤية: «تُسمين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً» (إش18:60)؛ «ثم جاء إلي واحد من السبعة الملائكة… وتكلم معي قائلاً: هلم فأريك العروس امرأة الخروف. وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال، وأراني المدينة العظيمة، أورشليم المقدسة، نازلة من السماء من عند الله. (لها) مجد الله… ولم أر فيها هيكلاً, لأن الرب… والخروف هيكلها… والخروف سراجها… ولن يدخلها شيء دنس، ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلا المكتوبين في سفر حياة الخروف !!» (رؤ9:21-27)
لقد تجلى المسيح في سفر الرؤيا، ليأخذ أقصى صورة للفداء والخلاص الذي أكمله على الصليب في 14 نيسان, أمام عيني التلميذ المحبوب، ليظهر في سفر الرؤيا بشكل خروف الفصح, كأعمق تعبير عن بذل المحبة الدائم والخالد والأبدي, وكصفة ثابتة أزلية للمسيح «الفادي».
«وهو عالم أن ساعته قد جاءت, لينتقل من هذا العالم إلى الآب»: القديس يوحنا يتكلم عن «علم» المسيح، ليس كأنه وليد الظروف والحوادث، بل هو العلم الفائق على الزمن وحوادثه، فهو العلم الكلي الذي يرى ويفحص كل الدهور، وما وراء الدهور، كل ما للانسان، وكل ما ما لله بآن واحد. لذلك تأتي الكلمة كحال دائم «هو عالم» بصورة العلم المطلق. وأمام الحوادث القادمة، يقف علم المسيح المسبق، لا كمحرك للحوادث، بل كمصور للآلام القادمة في نفسه ليعطيها مزيداً من الواقعية، وقد استخدم المسيح علمه بآلامه, المزمع أن تكون، ليستعلن لاهوته، ويكشف عن صدق حبه لأخصائه, الذي هو مزمع أن يتركهم في العالم ليمضي هو إلى الآب. ثم طرح آلامه المزمعة وراء ظهره، ليتفرغ لتعزية أحبائه ويمارس عمل محبته.
«ساعته قد جأءت»: قبل أن «تأتي ساعته» لم يكن لأحد عليه سلطان. وطالما رفع أعداؤه الأيدي بالحجارة، ولكن أن يكملوا مشيئتهم فهذا مستحيل، ولكن الآن «أتت الساعة» فانفك قيد سلطانهم الأثيم، وانطلقت حريتهم الشريرة ليصنعوا كل ما شاءوا: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» (لو53:22)
وهكذا يبدو مجيء الساعة وكأنها حتمية، ولكن الحتمية الزمنية لا تخضع إلا لمشيئة الله: «لأن الرب يصنع أمراً مقضياً به على الأرض» (رو28:9). وقضاء الله وحتمياته ذو غايات وأهداف. فحتمية الله لا بد وأن تنشىء حتمية، فحتمية الساعة (الموت) كان وراءها بالضرورة حتمية القيامة: «لأنهم لم يكونوا، بعد, يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم مم الأصوات.» (يو9:20)
والترجمة العربية «ينبغي» يلزم هنا أن تكون «حتماً». فالقيامة بالنسبة للمسيح المسجى في القبر ليست هي أمراً لائقاً وحسب, بل هي أمر حتمي بأقصى ما تكون الحتمية.
في إنجيل القديس لوقا نجد المسيح يسير نحو هذه «الساعة» متجهاً إليها بكل مشيئته: «وحين تمت الأيام لارتفاعه، ثبت وجهه لينطلق إلى أورشثليم» (لو51:9). فهو لم يكن عالماً بها وحسب، بل وكان يريدها، بل جاء من أجلها: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة» (يو27:12). كان المسيح يتجاوز مرارتها بسهولة لأنه كان يتطلع إلى غايتها السعيدة: «لينتقل إلى الآب», «الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي.» (عب2:12)
لم يقلق المسيح من مجيء «الساعة»، فقد غطى حبه لأخصائه كل مرارة ما قبلها. وحبه للآب غطى ما بعدها، أما الساعة نفسها فكانت فرصته العظمى ليكشف حباً: «ليس لأحد حب أعظم من هذا» (يو13:15), حيث سيرى العالم سلطانه الفريد, كيف سيضع نفسه من أجل من أحبهم إلى المنتهى, وكيف سيأخذها مستهيناً بالموت وظلام القبر وظلم القاتلين. وحينئذ ستصبح «الساعة» بكل آلامها سجل مجد في السماء وسجل شرف في الأرض، يتوق ملوك ورؤساء وأنبياء كثيرون لو يفوزوا بوضع إمضائهم على صفحاته، شهوداً أو شهداء، ليحسبوا من أبناء هذه «الساعة».
فالأن، لو نظرنا إلى هذه «الساعة» وما تحمله من معان ومفاعيل وعواطفت مزدحمة، لوجدنا أنها لحظة القمة في حياة المسيح، فهي ساعة العودة إلى الآب، إلى الحضن الأبدي، حيث المجد القائم من قبل إنشاء العالم، وهي ساعة ختام مسيرة الحب بين الرفاق، الحب إلى المنتهى أو الذى بلا نهاية، وهي ساعة الضربة القاضية لدحر سلطان الموت والخطية لخلاص الإنسان, الساعة التي رأتها كل الأجييال السالفة بالرؤى والأحلام، فنظروها من بعيد وحيوها (عب13:11). وقد سلح الآب ابنه بكل سلطانه الخاص. «قد دفع كل شيء إلى يديه» (يو3:13)، حتى اسمه الخاص، ليجوز هذه الساعة ضد كل قوى الأعداء المتضافرة, ليخرج منها غالباً لحسابنا، ولكي يغلب دائمأ: «وقد أعطي إكليلاً، وخرج غالباً ولكي يغلب» (رؤ2:6)~ فهي ساعة النصرة والمجد للإنسان، كل إنسان.
«إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم, أحبهم إلى المنتهى»: القديس يوحنا هو المتكلم، وهو خير من يتكلم عن حب الرب لخاصته الذين اختارهم من العالم. ولكن الحب هنا يُستعلن بروح يوحنا وروح المسيح على مستوى «المنتهى»، أى نهاية قدرة المسيح على العطاء، عطاء الذات، وقدرة الأحبة على الأخذ. فهو حب الشركة، شركة الروح مع الروح, وهي الشركة التي استعلنها بل استكملها على العشاء, فيوحنا يتكلم الآن بعد أن أدرك وقاس وذاق طعم الدم في كأس الخلاص، وقوة الجسد المُقام في الخبزة المكسورة في تلك الليلة الخالدة، التي فيها أذاب حبه، كل حبه، مع روحه في كأس!!
+ «لأن حبك أطيب من الخمر… نبتهج ونفرح بك, نذكر حبك أكثر من الخمر، بالحق يحبونك» (نش2:1-4)
لقد اختفى طعم الخمر وبقي حبه مع روحه، فكيف لا يقول يوحنا «أحبهم إلى المنتهى»؟
+ «اشربوا واسكروا أيها الأحباء.» (نش1:5)
2:13 فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ.
لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذا المنظر وما احتواه، كيف جمع أقدس حب مع أشنع خيانة وعلى مائدة واحدة، حتى في أقدس ليلة من ليالي الحياة على الأرض، والله قائم على مائدة حبه، ممثلاً بابنه وسط آخير مختاريه، يسقيهم حبه، يسقيهم من روحه، ويطعمهم من لحمه، كيف يندس هكذا الشيطان، بعد أن وجد له مسكناً في إنسان؟
أي قلب هذا الذي ليهوذا ابن سمعان الإسخريوطي؟ هل قد من حديد بارد، حتى يتقمصه هكذا الشيطان المارد؟ ألم يأخذ نصيبه الكامل من الحب المنسكب من قلب الله كبقية المختارين، كيف بدده، بل كيف مزقه وداسه برجليه، والتفت ليفتك بالقلب الذي أحبه؟ ولكن هذه هي الخطية، وهذا هو الإنسان حينما يغويه الشيطان! «لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان, وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.» (اتي10:6)
إنهما زيارتان مشنومتان استضاف فيهما يهوذا صديقه المُهلك، الاولى ألقى في قلبه المشورة، فقبلها, وهان عليه أن يسلم من أحبه؛ والثانية جاءه ساكناً كصاحب بيت لينفذ معه الخطة.
لهفي على قلب يوحنا الملتهب حباً ورقة، كيف استطاع وهو يتأمل يهوذا أن يحتمل جرأته وفجوره وهو يجلس بجوار الرب يصطنع التلمذة ويتصنع المودة ة بلسانه الألين من الزيت وهو نصال؟ أي دموع كتمها هذا الحبيب؟ وأية غصة أصابت حلقه فمنعته من الصراخ؟
ولكن إن كان مثل هذا قد جرى ليوحنا, فماذا كان يجري في قلب المخلص؟ وهو لا يرى فقط النصال الذي يخفيه يهوذا، بل كان يحسه في جنبه بل في قلبه! ولكن العجيب في الرب, وهو صانع العجائب كلها, أن قلبه لم يهتز بالبفضة إزاء يهوذا ولا قيد شعرة، ألا يشرق الرب شمسه على الابرار والأشثرار؟ بل ظل يلاطفه ويغمس اللقمة ويعطيها له بيده كما يحنو الأب على صغيره بما لم يصنعه مع الآخرين، وحتى حينما جاء بقبلة التسليم بادره الرب بنداء الصداقة: «يا صاحب لماذا جئت؟» (مت50:26). وهذه هي قدرة الرب التي لا يبلغها عقل بشر، كيف يعزل، في حبه، الخاطىء عن خطيئته. فمعركته الاولى والأخيرة هي مع الخطيئة، وليس مع الخاطىء، ولكنه نعى يوم مولده, فتمنا لو لم يولد، لأنه علم كيف سيخنق نفسه رافضاً الحياة التي أخذ!!
3:13-4 يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا.
«وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه»: القديس يوحنا هو المتكلم، وكأنه بلسان المسيح، يمهد لصورة العبد الخديم التي استعارها لنفسه منحنياً على أرجل تلاميذه. فيوحنا يحاول أن يرفع ذهن القارىء ليدرك من أي مركز علوي يتنازل المسيح وهو قابض بيديه عل أعنة كل ما في السمرات والأرض من سلطان، وهو يستخدم هاتين اليدين في غسل أرجل تلاميذه. ويشدد يوحنا، هنا، على كلمة «يديه» لأنها مركز الأعجوبة الإلهية، فهي وهي قابضة على مصائر العالمين استطاعت أن تتعامل مع وسخ الأقدام بآن واحد.
إبهتى أيتها السموات وافرحى يا أرض الإنسان! فالذى جاء من العلاء ليغسل قذر بتى آدم, ليس فقط إلى مواضع القلب الداخلية بل إلى وسخ السيرة والمسيرة.
ويجىء سفر العبرانيين ليكمل هذه العجيبة, فبعد أن نزل وتنازل هكذا, يقول سفر العبرانيين: «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا, جلس فى يمين العظمة فى الأعالى, صائراً أعظم من الملائكة ….» (عب3:1-4)
«وأنه من عند الله خرج, والى الله يمضي»: ولكنه كما لم يخرج ببهاء مجده، إذ استلزم منه التجسد أن يخلي ذاته من عظمة لاهوته فتسربل باتضاع قامة الأرضيين، هكذا وفي طريق العودة استكثر على نفسه أن يعود ببهاء البشريين، بل ذهب وجروحه في يديه وجنبه مفتوح، حتى إذا تعذر علينا أن نتمثل بإخلاء الالوهية في نزوله، لا يتعذر علينا أن نتمثل باتضاع بشريته في صعوده. ومن ذا الذي يتأمل في إخلاء ألوهيته ولا يبهت؟ إنها معجزة الله!! ولكن أن نتأمل في إخلاء حتى بشريته فهذا أمر يذهل؛ إنها معجزة ابن الإنسان!!
ولكن إن كان قانون الخروج من عد الله يخص ابن الله وحده وهي معجزته، فالمضي إلى الله قد صار قانون الإنسان وهي معجزتنا. فبالأولى: «ظهر الله في الجسد» (1تى4:3) وهو أمر يفوق طاقة تصورنا؛ ولكن بالثانية «نُظهر نحن معه» (راجح كو4:3)، وهي بالإيمان في حدود رؤيتنا .
وهكذا, بحسب تدبير نعمة الله وحكمته الفائقة بالإخلاء، اقتحم ابن الله الطريق إلينا، خرج من عد الله وحيداً فريداً ومه تهليل السمائيين، ليعود إليه باتضاع العبيد محملا بأبناء كثيرين، مفتتحا الطريق وسط تهليل الأرضيين والسمائيين حتى إلى قلب الله!! وصادقة هي الكلمة التي قالها: «أنا هو الطريق» (يو6:14)، إن في مجيئه إلينا من عند الله ما يساير ذهابه بنا إليه!!
«والى الله يمضي»: هنا بيت القصيد، فبسبب هذا المضي إلى الله، وهو عالم أنه سيترك تلاميذه لخدمة هذا طولها وهذا عرضها: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت19:28)، رتب المسيح إعداد تلاميذه لهذه الخدمة بإجراء تقديسي يحمل الرمز والحقيقة معاً, وهو غسل أرجلهم بيديه لتقديسها واعدادها لمسيرة التبشير عبر جيع الأمم، ثم دعمهم بقوله: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلني … » (يو20:13)
وكأني بالرسل المبشرين الأطهار، كلما أعياهم المشي وكلت أقدامهم عن السير، جلسوا يتحسسون لمسات أصابع المسيح التي مرت على أقدامهم، فيجددون قوة، ثم يرفعون أعينهم إلى فوق فيجدونه ناظراً عليهم!
وليس عبثأ، أيها القارىء العزيز، أن نجد في الإنجيل هاتين الآيتين ملتصقتين معاً: «يسوع وهو عالم … أنه إلى الله يمضي, قام عن العشاء وخلع ثيابه …»»
وغسل الأرجل, الذي أجراه المسيح، قصره على تلاميذه من جهة الإرسالية لتبشير الأمم «أنتم الدين ثبتوا معي فى تجاربي» (لو28:22). لذلك لم يجر بعد ذلك في الكنيسة إلم من وجهة اتضاع المحبة، وتذكاراً سنويأ لخدمة غسل أرجل الرسل.
«قام عن العشاء»: إذن، لم يكن غسل الأرجل استعداداً للعشاء كإجراء يستلزمه سر الإفخارستيا، بل هو إجراء قائم بذاته، فهو مواز لقوة العشاء وملتحم به، لم يصنعه المسيح قبل العشاء ولا بعد العشاء. فبعد غسل الأرجل، جلسوا مرة أخرى وأكملوا العشاء. ومن شرح الرب لإجراء غسل الأرجل ومن ملابسات امتناع بطرس في البداية, نفهم أنه كما كان للعشاء, كشركة مع الرب, فرصة لتوزيع الأنصبة في ملكوت الله، هكذا فإن لقوة غسل الأرجل, كشركة مع الرب, فرصة لنوال ذات النصيب: «إن كنت لا أغسلك, فليس لك معي نصيب.» (يو8:13)
إذن، فغسل الأرجل قد صار سراً ملتحمأ بسر الإفخارستيا. فإن كان سر الإفخارستيا يقوم على سر بذل الجسد والدم على الصليب، أي هو شركة في موت الرب وقيامته، فسر غسل الأرجل يقوم على سر انحناء الأكبر للأصغر بشبه العبد لسيده، فهو سر «أخذ شكل العبد» (راجع في7:2)، أحد أسرار المسيح الجوهرية, الأول سرائري يُجرى بالطقس، حيث يصير التحولل من خبز وخمر إلى جسد ودم؛ والثاني سري يجرى بخلع الكرامة، وبالائتزار بالاتضاع، بشبه المسيح. الأول صورته عشاء، وجوهره شركة مع المسيح في موته وقيامته؛ والثاني صورته غسل أرجل، وجوهره شركة مع قامة بر المسيح في اتضاع الألوهية؛ حيث يأخذ كل من الإفخارستيا وغسل الأرجل كلاهما صورة «السر» وقوته, من منطلق لاهوت المسيح المتحد بناسوته, فكلا السرين إلهي وبشري بآن واحد.
لذلك، فاتضاع المسيح لا يُحسب عملاً بشريا مجرداً، بل هو عمل إلهي في جوهره، بشري في مظهره، خلاصى المفعول والهدف. لذلك نسمع المسيح يقول للمعمدان، الذي جفل وارتعب أن يضع يده على رأس المسيح لتكميل العماد: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت15:3)» بر ماذا؟ بر الاتضاع!! أما المعمدان فيكمل بر الطاعة لصوت الله؛ وأما المسيح فليكمل بر الاتضاع الإلهي ومسحة المعمودية معاً، كعمل يهيىء لسر الصليب, وكما اقترنت المعمودية ببر الاتضاع توطئة لسر الصليب، هكذا اقترنت الافخارستيا أيضاً في سري العشاء وغسل الأرجل، لأنهما الصليب بعينه. فاتضاع المسيح الخلاصي كان هو كل حياة المسيح الذي تُوج بالصليب.
«وخلع ثيابه, وأخذ منشفة, واتزر بها»: الثياب هنا هي «ثياب العشاء»، وهي أفخر ما يلبس الداعي أو المدعو لحفل العشاء الفصحي؛ وهي غالباً ما تكون مخصصة على مستوى كرامة الداعي والمدعوين. ولا يغيب عن بالنا أن المسيح عالم بأنه العشاء الأخير، ومن رواية الصليب ندرك أنه كان لباسأ خاصاً جداً تعارك عليه جنود الرومان، وأخيراً اقترعوا عليه.
ونقرأ في المثل الذي وصفه المسيح عن حفل عشاء العرس: «فلما دخل الملك لينظر المتكئين، رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس. فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس.» (مت11:22-12)
من هذا نستشف قيمة الثياب التي يرتديها الإنسان لحضور حفل عشاء. فخلع المسيح لثيابه، أي ليس فقط الثوب المطرز غالباً والمفتوح من أمام، بل وما تحته لأن الكلمة اليونانية لم تأت بالمفرد لتخصيص «الروب» الخارجي فقط، بل جاءت بالجمع.
وهذا الإجراء, أي خلع الثياب, يُحتسب خارجاً عن اللياقة بالنسبة لكرامة أي إنسان وسط جماعة، لأنه سيظهر بالملابس الداخلية فقط، هذا الأمر لا يدركه علماء الكتاب الغربيون، فهذا الخلع هو من شأن الخدم والعبيد: أن يقف العبد بالقميص واللباس الداخلي يغسل أرجل أسياده! ولكن المسيح قصد ذلك قصداً ليتراءى أمامهم كعبد وبصورة لا تُنسى. كان يمكن للسيح أن يغسل أرجل تلاميذه، دون أن يخلع ثيابه، ولكه أصر على أن «يأخذ شكل العبد» (في7:2)، لأنها في عرف اللاهوت هي «درجة» دون درجة «شكل الإنسان».
ومعروف رسمياً لدى قوانين العصور الأولى، وفي صميم القانون الروماني، أن «العبد» فاقد لحقوقه الإنساية، يُباع، ويُشترى، ويُرتهن، ويُعاقب، ويُقتل بيد صاحبه أو سيده، دون مؤاخذة.
والمسيح في تجسده، «أخذ شكل العبد» لا اتضاعاً فحسب، بل ونزولاً إلى الدرجة الحقيقية التي نزل إليها الإنسان بالخطية. فالإنسان لم يعد حراً أمام الله، أو حتى أمام الشيطان، وبالأكثر أمام الخطية. فقد اسُتعبد الإنسان فعلاً تحت سلطان الخطيئة القاتل وتحت سيادة الشيطان المستبد المهلك، وهذا هو واقع طبيعة الإنسان التي نزل إليها المسيح. فالمسيح لما تراءى أمام تلاميذه خلوا من ثياب كرامة الإنسان، فهو كان على حقيقة ما نزل إليه وليس مجرد تراء. ولم يكن مجرد «شكل العبد» بل وظيفته!! وهي هي الوظيفة التي سيرتفع فيها وبها إلى قمة المجد، إلى ما فوق شكل الانسان وطبيعته، حيث نستدعى نحن لكي نتغير عن «شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في21:3)» أي من عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله.
ولا ننسى أننا على مائدة الفصح، والفصح الأول في القديم هو فصح مصر، فصح الخروج من عبودية فرعون, حيث كان كل من وقف حوله ليتناول منه كان عبدا. وكان من شأن هذا الفصح الأول، أو من أعمق أسراره أنه أكلة التحرير، وطعام الفكاك والقوة، التي عبرت بهم أهوال الخروج وعبور البحر والبرية والتيه أربعين سنة، حتى أوصلتهم أرض الوعد والميعاد. ودمه، أي دم الخروف، بقدر ما كان كفارة للعبيد وأماناً لهم وسلاماً، كان رعبة على المستعبدين وهلاكاً للمستبدين.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»:
والمسيح هنا، أمام الفصح، يعود بالبشرية في نفسه, ممثلاً للبشرية كلها, إلى وضعها الحقيقي كعبيد مستعبدين، وليعود بذهن التلاميذ إلى حال ابائهم المبيعين عبيدا تحت السخرة. فإلى تحت الصفر, هكذا نزل المسيح، حتى لا يغيب عبد واحد عن التحرير وحرية الخلاص.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»: هذا طقس العبيد المتضعين، بحسب قول العلامة اليهودي المتنصر إدرزهيم، وتأتي كلمة «اتزر» باليونانية ( )، كما وردت في موضع آخر عن بطرس حينما كان عرياناً وعلم أنه الرب: «فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس. هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب، اتزو بثوبه, لأنه كان عرياناً وألقى نفسه في البحر.» (يو7:21)
وبذلك يظهر لنا أن كلمة «اتزر بالمنشفة» تفيه معنى ربط المنشفة حول الوسط، على أن يكون جزء كبير منها حراً للتنشيف به، وهذا هو السائد في طقس غسل الأرجل يوم خميس العهد في الكنيسة القبطية.
3:13- 4 يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا.
«وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه»: القديس يوحنا هو المتكلم، وكأنه بلسان المسيح، يمهد لصورة العبد الخديم التي استعارها لنفسه منحنياً على أرجل تلاميذه. فيوحنا يحاول أن يرفع ذهن القارىء ليدرك من أي مركز علوي يتنازل المسيح وهو قابض بيديه عل أعنة كل ما في السمرات والأرض من سلطان، وهو يستخدم هاتين اليدين في غسل أرجل تلاميذه. ويشدد يوحنا، هنا، على كلمة «يديه» لأنها مركز الأعجوبة الإلهية، فهي وهي قابضة على مصائر العالمين استطاعت أن تتعامل مع وسخ الأقدام بآن واحد.
إبهتى أيتها السموات وافرحى يا أرض الإنسان! فالذى جاء من العلاء ليغسل قذر بتى آدم, ليس فقط إلى مواضع القلب الداخلية بل إلى وسخ السيرة والمسيرة.
ويجىء سفر العبرانيين ليكمل هذه العجيبة, فبعد أن نزل وتنازل هكذا, يقول سفر العبرانيين: «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا, جلس فى يمين العظمة فى الأعالى, صائراً أعظم من الملائكة ….» (عب3:1-4)
«وأنه من عند الله خرج, والى الله يمضي»: ولكنه كما لم يخرج ببهاء مجده، إذ استلزم منه التجسد أن يخلي ذاته من عظمة لاهوته فتسربل باتضاع قامة الأرضيين، هكذا وفي طريق العودة استكثر على نفسه أن يعود ببهاء البشريين، بل ذهب وجروحه في يديه وجنبه مفتوح، حتى إذا تعذر علينا أن نتمثل بإخلاء الالوهية في نزوله، لا يتعذر علينا أن نتمثل باتضاع بشريته في صعوده. ومن ذا الذي يتأمل في إخلاء ألوهيته ولا يبهت؟ إنها معجزة الله!! ولكن أن نتأمل في إخلاء حتى بشريته فهذا أمر يذهل؛ إنها معجزة ابن الإنسان!!
ولكن إن كان قانون الخروج من عد الله يخص ابن الله وحده وهي معجزته، فالمضي إلى الله قد صار قانون الإنسان وهي معجزتنا. فبالأولى: «ظهر الله في الجسد» (1تى4:3) وهو أمر يفوق طاقة تصورنا؛ ولكن بالثانية «نُظهر نحن معه» (راجح كو4:3)، وهي بالإيمان في حدود رؤيتنا .
وهكذا, بحسب تدبير نعمة الله وحكمته الفائقة بالإخلاء، اقتحم ابن الله الطريق إلينا، خرج من عد الله وحيداً فريداً ومه تهليل السمائيين، ليعود إليه باتضاع العبيد محملا بأبناء كثيرين، مفتتحا الطريق وسط تهليل الأرضيين والسمائيين حتى إلى قلب الله!! وصادقة هي الكلمة التي قالها: «أنا هو الطريق» (يو6:14)، إن في مجيئه إلينا من عند الله ما يساير ذهابه بنا إليه!!
«والى الله يمضي»: هنا بيت القصيد، فبسبب هذا المضي إلى الله، وهو عالم أنه سيترك تلاميذه لخدمة هذا طولها وهذا عرضها: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (مت19:28)، رتب المسيح إعداد تلاميذه لهذه الخدمة بإجراء تقديسي يحمل الرمز والحقيقة معاً, وهو غسل أرجلهم بيديه لتقديسها واعدادها لمسيرة التبشير عبر جيع الأمم، ثم دعمهم بقوله: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلني … » (يو20:13)
وكأني بالرسل المبشرين الأطهار، كلما أعياهم المشي وكلت أقدامهم عن السير، جلسوا يتحسسون لمسات أصابع المسيح التي مرت على أقدامهم، فيجددون قوة، ثم يرفعون أعينهم إلى فوق فيجدونه ناظراً عليهم!
وليس عبثأ، أيها القارىء العزيز، أن نجد في الإنجيل هاتين الآيتين ملتصقتين معاً: «يسوع وهو عالم … أنه إلى الله يمضي, قام عن العشاء وخلع ثيابه …»»
وغسل الأرجل, الذي أجراه المسيح، قصره على تلاميذه من جهة الإرسالية لتبشير الأمم «أنتم الدين ثبتوا معي فى تجاربي» (لو28:22). لذلك لم يجر بعد ذلك في الكنيسة إلم من وجهة اتضاع المحبة، وتذكاراً سنويأ لخدمة غسل أرجل الرسل.
«قام عن العشاء»: إذن، لم يكن غسل الأرجل استعداداً للعشاء كإجراء يستلزمه سر الإفخارستيا، بل هو إجراء قائم بذاته، فهو مواز لقوة العشاء وملتحم به، لم يصنعه المسيح قبل العشاء ولا بعد العشاء. فبعد غسل الأرجل، جلسوا مرة أخرى وأكملوا العشاء. ومن شرح الرب لإجراء غسل الأرجل ومن ملابسات امتناع بطرس في البداية, نفهم أنه كما كان للعشاء, كشركة مع الرب, فرصة لتوزيع الأنصبة في ملكوت الله، هكذا فإن لقوة غسل الأرجل, كشركة مع الرب, فرصة لنوال ذات النصيب: «إن كنت لا أغسلك, فليس لك معي نصيب.» (يو8:13)
إذن، فغسل الأرجل قد صار سراً ملتحمأ بسر الإفخارستيا. فإن كان سر الإفخارستيا يقوم على سر بذل الجسد والدم على الصليب، أي هو شركة في موت الرب وقيامته، فسر غسل الأرجل يقوم على سر انحناء الأكبر للأصغر بشبه العبد لسيده، فهو سر «أخذ شكل العبد» (راجع في7:2)، أحد أسرار المسيح الجوهرية, الأول سرائري يُجرى بالطقس، حيث يصير التحولل من خبز وخمر إلى جسد ودم؛ والثاني سري يجرى بخلع الكرامة، وبالائتزار بالاتضاع، بشبه المسيح. الأول صورته عشاء، وجوهره شركة مع المسيح في موته وقيامته؛ والثاني صورته غسل أرجل، وجوهره شركة مع قامة بر المسيح في اتضاع الألوهية؛ حيث يأخذ كل من الإفخارستيا وغسل الأرجل كلاهما صورة «السر» وقوته, من منطلق لاهوت المسيح المتحد بناسوته, فكلا السرين إلهي وبشري بآن واحد.
لذلك، فاتضاع المسيح لا يُحسب عملاً بشريا مجرداً، بل هو عمل إلهي في جوهره، بشري في مظهره، خلاصى المفعول والهدف. لذلك نسمع المسيح يقول للمعمدان، الذي جفل وارتعب أن يضع يده على رأس المسيح لتكميل العماد: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت15:3)» بر ماذا؟ بر الاتضاع!! أما المعمدان فيكمل بر الطاعة لصوت الله؛ وأما المسيح فليكمل بر الاتضاع الإلهي ومسحة المعمودية معاً، كعمل يهيىء لسر الصليب, وكما اقترنت المعمودية ببر الاتضاع توطئة لسر الصليب، هكذا اقترنت الافخارستيا أيضاً في سري العشاء وغسل الأرجل، لأنهما الصليب بعينه. فاتضاع المسيح الخلاصي كان هو كل حياة المسيح الذي تُوج بالصليب.
«وخلع ثيابه, وأخذ منشفة, واتزر بها»: الثياب هنا هي «ثياب العشاء»، وهي أفخر ما يلبس الداعي أو المدعو لحفل العشاء الفصحي؛ وهي غالباً ما تكون مخصصة على مستوى كرامة الداعي والمدعوين. ولا يغيب عن بالنا أن المسيح عالم بأنه العشاء الأخير، ومن رواية الصليب ندرك أنه كان لباسأ خاصاً جداً تعارك عليه جنود الرومان، وأخيراً اقترعوا عليه.
ونقرأ في المثل الذي وصفه المسيح عن حفل عشاء العرس: «فلما دخل الملك لينظر المتكئين، رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس. فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس.» (مت11:22-12)
من هذا نستشف قيمة الثياب التي يرتديها الإنسان لحضور حفل عشاء. فخلع المسيح لثيابه، أي ليس فقط الثوب المطرز غالباً والمفتوح من أمام، بل وما تحته لأن الكلمة اليونانية لم تأت بالمفرد لتخصيص «الروب» الخارجي فقط، بل جاءت بالجمع.
وهذا الإجراء, أي خلع الثياب, يُحتسب خارجاً عن اللياقة بالنسبة لكرامة أي إنسان وسط جماعة، لأنه سيظهر بالملابس الداخلية فقط، هذا الأمر لا يدركه علماء الكتاب الغربيون، فهذا الخلع هو من شأن الخدم والعبيد: أن يقف العبد بالقميص واللباس الداخلي يغسل أرجل أسياده! ولكن المسيح قصد ذلك قصداً ليتراءى أمامهم كعبد وبصورة لا تُنسى. كان يمكن للسيح أن يغسل أرجل تلاميذه، دون أن يخلع ثيابه، ولكه أصر على أن «يأخذ شكل العبد» (في7:2)، لأنها في عرف اللاهوت هي «درجة» دون درجة «شكل الإنسان».
ومعروف رسمياً لدى قوانين العصور الأولى، وفي صميم القانون الروماني، أن «العبد» فاقد لحقوقه الإنساية، يُباع، ويُشترى، ويُرتهن، ويُعاقب، ويُقتل بيد صاحبه أو سيده، دون مؤاخذة.
والمسيح في تجسده، «أخذ شكل العبد» لا اتضاعاً فحسب، بل ونزولاً إلى الدرجة الحقيقية التي نزل إليها الإنسان بالخطية. فالإنسان لم يعد حراً أمام الله، أو حتى أمام الشيطان، وبالأكثر أمام الخطية. فقد اسُتعبد الإنسان فعلاً تحت سلطان الخطيئة القاتل وتحت سيادة الشيطان المستبد المهلك، وهذا هو واقع طبيعة الإنسان التي نزل إليها المسيح. فالمسيح لما تراءى أمام تلاميذه خلوا من ثياب كرامة الإنسان، فهو كان على حقيقة ما نزل إليه وليس مجرد تراء. ولم يكن مجرد «شكل العبد» بل وظيفته!! وهي هي الوظيفة التي سيرتفع فيها وبها إلى قمة المجد، إلى ما فوق شكل الانسان وطبيعته، حيث نستدعى نحن لكي نتغير عن «شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في21:3)» أي من عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله.
ولا ننسى أننا على مائدة الفصح، والفصح الأول في القديم هو فصح مصر، فصح الخروج من عبودية فرعون, حيث كان كل من وقف حوله ليتناول منه كان عبدا. وكان من شأن هذا الفصح الأول، أو من أعمق أسراره أنه أكلة التحرير، وطعام الفكاك والقوة، التي عبرت بهم أهوال الخروج وعبور البحر والبرية والتيه أربعين سنة، حتى أوصلتهم أرض الوعد والميعاد. ودمه، أي دم الخروف، بقدر ما كان كفارة للعبيد وأماناً لهم وسلاماً، كان رعبة على المستعبدين وهلاكاً للمستبدين.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»:
والمسيح هنا، أمام الفصح، يعود بالبشرية في نفسه, ممثلاً للبشرية كلها, إلى وضعها الحقيقي كعبيد مستعبدين، وليعود بذهن التلاميذ إلى حال ابائهم المبيعين عبيدا تحت السخرة. فإلى تحت الصفر, هكذا نزل المسيح، حتى لا يغيب عبد واحد عن التحرير وحرية الخلاص.
«وأخذ منشفة, واتزر بها»: هذا طقس العبيد المتضعين، بحسب قول العلامة اليهودي المتنصر إدرزهيم، وتأتي كلمة «اتزر» باليونانية ( )، كما وردت في موضع آخر عن بطرس حينما كان عرياناً وعلم أنه الرب: «فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس. هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب، اتزو بثوبه, لأنه كان عرياناً وألقى نفسه في البحر.» (يو7:21)
وبذلك يظهر لنا أن كلمة «اتزر بالمنشفة» تفيه معنى ربط المنشفة حول الوسط، على أن يكون جزء كبير منها حراً للتنشيف به، وهذا هو السائد في طقس غسل الأرجل يوم خميس العهد في الكنيسة القبطية.
5:13 ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا.
واضح أن الرب قام بعملية غسل الأرجل بكل جزئياتها، وكان القديس يوحنا دقيق الملاحظة للغاية في تسجيل الحركات وكأنها حية ناطقة. فالرب هنا أمسك بالإبريق الذي به الماء، وصب الماء في «المغسل» الذي يجيء في الترجة القبطية «لقان»، وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه واحداً بعد واحد.
المنظر هنا يفوق قدرة أي إنسان أن يمسك بطرفيه، فهذا هو ابن الله الإله المنحدر من المجد الأسنى، من أعلى السموات، منحنياً على أرجل ملؤثة تملأها الوسخ والتراب، منشغلاً في غسلها. ولكن، أليس هذا هو بمقتضى الطبيعة التي نزل إليها: أخذ شكل العبد؟ ثم أليس هذا هو عمل المسيح وصميم رسالته، أن يستعلن ما هو عمل المحبة الإلهية في أقصى حدودها؟
هنا يستعلن المسيح حدود محبة الله وموضوع انشغالها ومسرتها. ماذا؟ غسل رجل الإنسان! إلى هذا الحد بلغ المسيح في استجلاء «المنتهى»، ألم يقل أنه أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى «المنتهى»؟ نعم هذا «منتهى اتضاع المحبة» وهل بعد ذلك يمكن أن يكون شيء؟ صعب على الإنسان أن يغسل إنساناً، وعسير غاية العسران يغسل رجلي خادمه، ومستحيل أن يغسل رجلي عبد له. نعم، هذه هي طبيعة الإنسان، لا يستطيع أن ينزل دون ذاته، ولكن الله ليس كذلك!! اسمعه وهو يقول في سفر حزقيال النبي، مخاطباً أورشليم، أو بالحري الشعب الذي لوثته الخطية، والمزمع أن يلد منه الكنيسة: «فحممتك بالماء, وغسلت عنك دماءك, ومسحتك بالزيت.» (حز9:16)
وهكذا جاء المسيح ليتمم وعد الله. لهذا، فعمل المسيح يٌحسب عمل الألوهية وفي صميم الفداء لميلاد الكنيسة.
6:13-7 فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ».
لا نعلم إن كان الرب قد غسل أرجل تلاميذه حسب ترتيبهم في الجلوس على المائدة، وإن كان القديس يوحنا ذهبي الفم يرى أنه ابتدأ بيهوذا, الذي لم يمانع. أما القديس أغسطينوس فيرى أن الرب ابتدأ بالقديس بطرس الذي أبدى احتجاجه بانفعال واستنكار لأنه نظر إلى الاجراء وكأنه امتهان للسيد والمعلم أن يغسل رجلي تلميذ. ومن جهة أخرى لم ير في عمل المسيح سوى مجرد اغتسال، لذلك أحجم عن أن يمد رجليه.
ورد المسيح هنا هام للغاية، لأنه يكشف أبعاداً عميقة لمفهوم غسل الأرجل، ربما تكون تائهة حتى الآن: «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد»، وهو نفس ما حدث في تطهير الهيكل: «فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب، والكلام الذي قاله يسوع» (يو21:1). أي أن الأمر يتعدى مجرد غسل أرجل بالنسبة للتلاميذ، أو مجرد اتضاع من جهة الرب، ولكن يتعدى إلى شيء؟؟ ما هو؟؟
8:13 قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ».
إزدياد تصميم بطرس هنا على الرفض القاطع والأبدي قائم على جهل مطبق بأهداف المسيح العامة، وعدم فهم المعيار السري لغسل الأرجل بصورة خاصة، مما جعل المسيح يبوح قليلاً بالسر، موضحاً مدى الخطورة في التسرع برفض غسل رجليه، فهو يعني الحرمان من نصيبه مع الرب !!
وهنا يبدأ مفهوم غسل الأرجل يتجلى نوعاً ما. فهو, من جهة بطرس, ليس عمل غسل وحسب, بل هو عمل تأهيلي لنوال نصيب مع الرب؛ أما من جهة المسيح, فهو مهمة سماوية تتعلق بصميم خدمة الخلاص العام, كاختصاص هو مكلف من الآب بأدائه.
ولكن يتعذر على بطرس الآن فهم كنه فاعليته، طالما المسيح واقف أمامه يخدم كعبد، وبطرس لم يأخذ بعد قوة من الأعالى لبدء إرساليته وفهم رسالته، ولكن بعد ما قام المسيح من الأموات واستعلن لاهوته ونفخ المسيح في وجههم الروح القدس قائلاً: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا» (يو21:20), وكلفهم بخدمة البشارة، أدرك بطرس, وبطرس بالذات، مع التلاميذ أنهم نالوا بغسل أرجلهم تقديساً مُسبقاً بيد الرب الإله إعداداً وتجهيزاً لبشارة الإنجيل.
إسمع بولس الرسول وهو يعبر عن ذلك: «حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام» أي لابسين في أرجلكم قوة ونعمة استعداد البشارة بإنجيل السلام
هنا تظهر الصلة الجوهرية بين الإفخارستيا (العشاء السري) وبين غسل أرجل التلاميذ بيد المسيح. وهذا يبدو واضحاً وأكيداً من قول القديس بولس (اكو26:11) الذي أدخلته الكنيسة في صميم ليتورجيتها في الإفخارستيا: «لأن كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكروني إلى أن أجيء» ( القداس الباسيلي).
فالتقديس الذي ناله التلاميذ بيد المسيح في غسل الأرجل، هو لحفظ أرجلهم في طريق السلام للبشارة. فالإنجيل صار نصيب الكنيسة كلها للبشارة الدائمة، تجدده وتقويه، وتدفعه قوة التناول من الجسد والدم المتواترة والمتجددة: «كل مرة».
والذي أخذه المسيح من يد الله والملائكة، سلمه بيده وبالروح القدس: «لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك. وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.» (لو10:4-11)
ومعروف في أدب الإنجيل الكرازي أن الله هو الذي يتولى هداية أقدام المبشرين بالإنجيل: «ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكى يهدي اقدامنا في طريق السلام» (لو79:1). وهكذا تبدو آقدام المبشرين وكأنها ذات امتياز وكرامة وقداسة وبركة, وهي تحتاج فعلاً الى تقديس خاص: «وكيف يكرزون إن لم يرسلوا، كما هو مكتوب: ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات» (رو15:10)
والآن واضح معنى قول الرب لبطرس: «إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب». فما هو النصيب؟
النصيب هنا يعني جزءاً من الشركة الخاصة، فهي لا تعني ميراث التبني العام لله الآب الذي هو بغسيل المعمودية ومسح الدم، ولكن نصيباً شخصياً مع المسيح، وهي تنطبق على قول الرب انطباقاً أكيداً: «لأن من هو أكبر، الذي يتكىء أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكىء؟ ولكني أنا بينكم كالذي يخدم (غسل الأرجل). أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي. وأنا أجعل لكم, كما جعل لي أبي, ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي, وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (لو27:22-30)
أي أن تقديس أرجل التلاميذ لاستعداد التبشير بإنجيل السلام, سيعطيهم حق نوال أنصبة في الدهر الآتي الخاصة جداً مع المسيح, وشركة في دينونة الكنيسة بصورتها القديمة والجديدة، والمعبر عنها بالأسباط الاثني عشر.
9:13- 11 قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ».
هنا وضح أن غسل الأرجل لا يمت إلى المعمودية. وماذا يحتاجه الطاهر بعد أن يتقدس بالمعمودية ومسحة الروح القدس معها؟ إلا إل التقديس الخاص للخدمة الخاصة، أي البشارة.
هنا إلى الآن لم يلمح بطرس بعد ما هو القصد من غسل رجليه؟ إذ اعتبره امتيازاً بلا ثمن، ربما يزداد لو ازداد جسمه غسيلاً، يداه ورأسه.
هذه هي عقلية اليهود التطهيرية، ولكن، وبعد أن أدركنا معنى غسل الرجلين كإعداد وتقديس لخدمة البشارة الرسولية الباهظة الثمن، والتي أورثتهم فيما بعد السجون والمقاصل وقبور الشهداء، نستطيع الآن أن نفهم قول المسيح تماماً أنهم كانوا أطهاراً بحميم المعمودية والروح، ولم يكن يعوزهم إلا تقديس الأرجل فقط، لإزالة وسخ طرق العالم، بغسيل النعمة على يدي المسيح، لينالوا تقديساً خاصاً للسير في طريق الخلاص الأبدي.
ولكن كيف تُطهر المعمودية من أضمر بيع الرب؟ أو كيف تتقدس أقدام من سعى في طريق الباطل والخيانة لتسليم المسيح للموت؟ «هوذا الذي يسلمني قد اقترب» (مر42:14). لذلك قال: «لستم كلكم طاهرين»!
لقد اعتمد يهوذا كالتلاميذ ولم يتطهر، وغسل المسيح رجليه ولكنها لم تتقدس! لذلك حُرم يهوذا من خدمة التبشير، بل حُرم من نصيبه مع المسيح جملة وتفصيلاً، بل حُرم من الحياة نفسها. فالطقس لا يغير القلوب، ولكن يختم على ما فيها من كنوز.
ولكي يتأكد القارىء من اتجاه المسيح السري في غسل أرجل تلاميذه, من جهة إعدادهم للأرسالية لخدمة الإنجيل، أكد المسيح مرتين على موضوع إرساليتهم وهو يشرح لهم معنى غسل أرجلهم: «الحق الحق أقول لكم إنه ليس عبد أعظم من سيد ولا رسول أعظم من مرسلة» (يو16:13)؛ «الحق الحق أقول لكم الذى يقبل من أرسله يقبلنى؛ والذى يقبلنى, يقبل الذى أرسلنى» (يو20:13)
12:13- 15 فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً.
اتجاه المسيح التعليمي فيما يخص غسل الأرجل دقيق للغاية، ويحتاج إلى حصر الفهم لإدراك المقاصد العميقة والبعيدة منه. فالأمر جد خطير بالنسبة للكنيسة بل الكنائس .
واضح من كل ما سبق أن فسرناه وشرحناه, أن غسل الأرجل هو إجراء خاص: «أنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم», اختص به، ليس جميع التلاميذ، بل الاثنا عشر فقط (وكل سيد ومعلم)، حيث سقط منهم يهوذا ليحل محله آخر، ربما بولس الرسول. لأن عددهم قد تسجل في سجلات السماء وأسماؤهم كتبت فوق كراسيهم الاثني عشر, وأنه ليس هو اغتسال المعمودية العام لكل المؤمنين, بل هو اغتسال لأرجل التلاميذ الاثني عشر، كطقس تقديس وإعداد للارسالية.
على هذا الأساس نرى المسيح يعطي الموجبات الحتمية: «يجب عليكم» الخاصة بطقس غسل الأرجل، لكي يكون قوام الإرسالية وقوتها من منطلق الاتضاع والمحبة وخدمة الأكبر(السيد والمعلم) للأصغر. فالاثنا عشر نالوا التقديس الخاص بالإرسالية بغسل الأرجل بالتساوي, ولما أراد القديس بطرس، بمعنى التواضع، أن يحتج إنما من منطلق الشعور بالولاية أو التحدث باسم بقية التلاميذ بصفته الأول أو الأكبر، زجره المسيح محذراً إياه بشدة بالحرمان من نصيب التلاميذ, فانصاع كالبقية.
ثم بدأ المسيح يشرح هذا الطقس الخطير، طقس غسل الأرجل، أو طقس الإرسالية والبشارة والخدمة بمضمونه السري، بأنه يقوم أساساً على المحبة، التي هي الأساس الأول الذي عليه اجتمع شملهم في هذا العشاء: «إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم, أحبهم إلى المنتهى… حين كان العشاء» (يو1:13-2). ومن عمق أعماق المحبة المذبوحة على العشاء، قام المسيح، وهو لم يستكمل العشاءه ليكرس التلاميذ للارسالية العظمى التي عينها لهم من قبل الدهور، في طقس تواضعي مهيب, إذ جلس كخادم بل كعبد في موطىء أقدام تلاميذه لغسل أرجلهم واحداً فواحداً، ولم يذكر الانجيل أنه قدسهم بحسب الترتيب، لأن هذا يتنافى قطعاً مع روح هذا الطقس بجملته؛ وهذا لكي يرفع طقس خدمة الكرازة إلى أقص حدود التواضع التي يمكن أن يتصورها إنسان, حتى لا يعود في محيط البشارة كلها كبير أو صغير، ولا عظيم أوحقير. وقد أعطى نفسه مثالاً، فهو السيد والمعلم، وقد انحنى على أرجلهم يغسلها وينشفها بأهانة خدمة العبيد، لكي يرتدع الكبير فيما بمد وينحني للصغير حتى إلى غسل الأرجل أو تقبيلها!… لأن العامل في خدمة الكبير هو العامل في خدمة الصغير، وهو الروح القدس والمسيح نفسه، لأنه قال «أنا هو الطريق» (يو6:14), فطريق البشارة هو الذي يحملنا ولسنا نحن الذين نحمل هم الطريق.
16:13- 17 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ.
هنا يضع المسيح نفسه كمثال للسيد الذي اتضع لعبيده المرسلين, فأصبح من غير المعقول روحياً وإلهياً أن يتعظم العبد (المرسل) بأي حال من الأحوال على عبد (مرسل) أخر، لأن المسيح وهو السيد لم يتعظم على عبيده المزمع أن يرسلهم، بل عكس الأمر عكساً شديداً، إذ صار السيد، وهو الراسل، عبداً، والعبد، وهو المرسل، سيدا! هذا هو روح الإنجيل والبشارة، بل هذا هو روح الله.
ثم عاد المسيح ليطبق مرة أخرى مثل السيد والعبد على الراسل والمرسل، كمن يضع النقط على الحروف لينطق «سر غسل الأرجل» نطقاً مُبيناً أنه طقس الرسل والمرسلين. فقال إنه ليس رسول أعظم من مرسله. والُمرسل هنا هو المسيح دائماً وإلى الأبد، والرسول هو التلميذ، والكارز، والأسقف، والبطريرك. فلا يتعظم رسول لأنه على كل حال وعلى أي حال هو عبد ، والذي أرسله هو المسيح, وهو الذي يرسل كل رسول آخر. فلا يتعظمن رسول على رسول, والا يكون قد تعظم على المسيح الذي أرسله، وتعالى على الرسالة ذاتها.
ثم أرجأ «العلم والعمل» بهذا: «إن عملتم هذا، فطوباكم إن عملتموه»، إلى أن يحين زمان الإرسالية والملء من الروح القدس، حينما يستعلنون بالروح (يعلمون) ما جرى لهم في هذا السر، حيث يكون عليهم حينئذ أن «يعملوه»، أي يرسلوا بعضهم بعضاً بروح هذا الإتضاع عينه. وحينئذ تحل عليهم «الطوبى»، أي يصيرون مكاريين أي طوباويين.
والحقيقة أن «غسل الأرجل» في الكنيسة أُخذ بمفهوم التواضع وحسب، وحوصر في إجراء الطقس شكلياً، وقد اهتمت الكنيسة القبطة في كل عصورها إلى ما قبل عصرنا هذا، بهذا الطقس بالنسبة للكاهن، فكان يتحتم عليه بمقتضى طقس «تحفي (تعرية) القدمين أثناء الخدمة» أن يغسل، أي يرحض قدميه قبل الدخول إلى الهيكل لإجراء طقس سر الإفخارستيا بنوع من الإلزام، وكذلك قبل قراءة الإنجيل. وقد رأيت بعيني في بكور رهبانيتي (عام 1948) المرحضة بجوار كل هيكل، والمخصصة لغسل قدمي الكاهن.
فيما عدا ذلك ثُبت طقس غسل الأرجل في يوم خميس العهد قبل القداس (قبل تقديم الحمل)، كما أيضاً في عيد الرسل قبل القداس, وهذا دليل على إدراك الكنيسة القبطية للعلاقة الصميمية بين غسل الأرجل وارسالية المرسلين.
18:13 لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: الَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ.
أسرع الرب ورفع وعده ووصيته عن رأس يهوذا، ثم حدد إرساليته بالمختارين فقط الذين سبق وأعلن عن عددهم مستثنياً منهم من تقمصه الشيطان واستولى على شخصيته واسمه: «أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر، وواحد منكم شيطانا. قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي، لأن هذا كان مزمعاً أن يسلمه، وهو واحد من الاثني عشر.» (يو70:6-71)
أما عن السؤال: كيف اختار الرب يهوذا بين الاثني عشر وقد ظهر انه «شيطان»؟ فللرد على ذلك نقول: إن اختيار الرب هو اختيار الله لا يقوم قط على سبق العلم, وإلا ينعدم مفهوم الحرية والإرادة عند الإنسان, كما ينعدم مفهوم الجزاء والاجتهاد.
ولكن الاختيار لدى المسيح كان يقوم على اللياقة الفردية للعمل المطوب أداؤه، بهذا تتوطد أسس العدل الإلهي؛ ثم يترك لكل فرد أن يسلك بمقدار مقوماته الشخصية، من مواريث، واجتهاد في التعلم وإرادة، واختيار، وحرية، وبالأكثر جداً مقدار الإلتصاق بالرب وطاعة وصاياه, التي تأتي كإكليل على رأس كل المقومات؛ على أن كل نقص في المقومات الشخصية للفرد، يمكن أن يعترضه اللهه بآلاف الأضعاف إن هو كان أميناً ومحباً وخائفاً من اسمه القدوس: «لأن قوتي في الضعف تكمل.» (2كو9:12)
واضح، إذاً، أن يهوذا بدأ لائقاً كتلميذ، وربما كان أكبرهم سناً وأكثرهم خبرة بأموو الحياة وشئون المال ورجال الدين. فجرفه تيار المال وحب الفضة والتودد للرؤساء، حتى أوقعه في خطايا السرقة، ونقل الأخبار للرؤساء، وحب الرئاسة، وأخيراً سقط في يد الشيطان فابتلعه.
«ألذي يأكل معي الخبز رفع علي عقبه»: هذا جزء من المزمور 41 من النسخة العبرية، أما بقية الكلام فيكشف عن فكر الرب الذي سيستطرد فيه: «أيضاً رجل سلامتي، الذي وثقت به, أكل خبزي، رفع علي عقبه. أما أنت يا رب، فارحمني وأقمني (ارفعني) (مز9:41-10). وعلى ضوء المزمور، يستطرد الرب ويقول:
19:13 أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ (تسليم يهوذا والصليب) حَتَّى مَتَى كَانَ (القيامة) تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ.
الرب هنا يشير إلى قيامته التي ستكون، وحينئذ سيفهم تلامينذه، فعلاً، أن خيانة يهوذا العنيفة التي بلا رحمة ولا لياقة («رفع على عقبه» = رفسني)، تمت كما قالها الله على لسان دواد عن المسيح، فتبين لهم أن الرب هو حقاً المسيح «أنا هو».
ثم قول المسيح هذا: «أقول لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان، تؤمنون أني أنا هو»، نجده مطابقاً لقول الله عل لسان حزقيال النبي: «إذا جاء هذا تعلمون أني أنا السيد (يهوه) الرب.» (حز24:24)
وكذلك ما جاء في إشعياء النبي: «أنتم شهودي، يقول الرب, وعبدي الذي اخترته لكي تعرفوا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب, وليس غيري مخلص» (إش10:43-11). هكذا نجد الحوادث بكل ملابساتها تتوقع بدقة وبكلماتها بحسب ما سبق الروح وتنبأ.
20:13 «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي والَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
قد بدا هذا الكلام، عند غالبية شراح الكتاب، غريبا وغير متوافق مع تسلل الكلام، حتى قال معظمهم بأن هذه الآية دخيلة، وهذا بسبب انحراف تفكيرهم عن المعنى الحقيقي «لغسل الأرجل». ولكن بعد ما أوضحنا أن هذا الطقس هو روحي وسري، وهو خاص جداً بالإرسالية للتبشير بالإنجيل، يصبح المعنى والموقع لهذه الآية غاية في الإحكام. فهي تأتي في ختام التوجيهات الخاصة بالمرسلين أو الرسل، وهي هنا تخص المرسل إليهم، فكل جماعة أو مدينة أو شعب يقبل رسول البشارة، أي العامل بإنجيل الكلمة، فكأنه قبل المسيح نفسه. وبالتال فإن كل من قبل المسيح المبشر به على لسان الرسل، يكون قد قبل الله الآب نفسه. وان كان يبدو هذا الكلام خاصاً بالشعوب والأمم، ولكنه في الحقيقة تشجيع، أيما تشجيع، للتلاميذ الذين سيخرجون بالبشارة، لأنه يعطيهم حق التكلم باسم المسيح وقوته بكل جرأة, كما يعطيهم الشعور بالسلام وسط ضيقات الكرازة، وكأنما يعيشون تحت سمعه وبصره.
وكأنما لم يكن على التلاميذ حينما تتعب أرجلهم من المشي، وتتسلخ أقدامهم من وعورة طرق البشارة، إلا أن يفكروا في يدي الرب اللتين غسلتا أرجلهم، ويتحسسون أصابع المسيح التي مرت فوق أقدامهم، حتى يجددوا قوة لمزيد من السير ومزيد من الكرازة.
21:13 لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ وَشَهِدَ وَقَالَ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي».
المسيح هنا ناظر ما لا يُنظر، والروح ترى بالروح ما وراء الحجب والضمائر ما لا يمكن لقلم بشر أن يعبر عنه، يكفي أن يكون انفعال يوحنا قد بلغ هذا الإحساس, فاضطراب من يقبض على آعنة مقادير كل شيء «الآب دفع كل شيء في يديه»، أمر يوضح عمق المأساة التي سيتحملها وحده . كان عزيزاً على نفسه جداً، أن واحداً ممن أحبهم إلى المنتهى، يجازيه هكذا عوض حلاوة الحب علقم العداوة.
اضطراب المسيح بالروح هو ما طفا على السطح من مصارعة النور مع الظلمة، كيف لا ترتعب لها السماء؟ فما بالك بالطبيعة البشرية التي تعاين معركة الة مع الشيطان ومركزها جسد ابن الإنسان؟
الباطل رفح قرنه على «الحق»، واستغل الجسد ليسدد فيه الطعنات، فكيف لا يهتز؟
لما انبرى الشيطان ظاهراً للمسيح على جبل التجربة صرعه المسيح، وطوح به خلفه؛ ولكن ماذا والشيطان الآن متخف في تلميذ، بل في ذئب، يلبس رداء المحبة وينتحل صفة السفير لدى أصحاب الهيكل؟
كلمات المحبة كانت تتساقط من فم الرب، والنفس تتلقى ضربات الغدر، كيف لا يتداعى لها الجسد؟
يد المسيح امتدت بلقمة البركة، ويد يهوذا تتحسس موضع الطعنة، كيف لا تجفل الروح؟
قوى الموت وأدواته تطبق على الحياة، محصورة في جسد تحاصرها من الداخل والخارج، ورائحة الدم تهب من بعيد، فتفتح شهية الشيطان ليضرب مخالبه، فتترنح النفس, كعصفور واجف في قبضة صقر.
تهلل الشيطان لما اضطرب المسيح بالروح، ولكن أخفي عنه أن المسيح إنما يسير بقدميه نحو الصليب: «ولى صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تكمل؟» (لو50:12). كانت ضربات الشيطان بيد يهوذا أعظم مأساة واجهتها البشرية تمت نور الشمس، قابلتها ضربة المسيح عل الصليب لقوات الظلمة، كأعظم نعمة انسكبت على بني الإنسان.
22:13 فَكَانَ التّلاَمِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ.
لم تكن هذه هي المرة الاولى التي يشير فيها المسيح إلى التلميذ الذي سيسلمه، ولكن هذه المرة كان إعلان المسيح يصاحبه صوت متهدج حزين مهيب، عبر عه القديس يوحنا بالكلمة اليونانية ( ) وهي تفيد اضطراب الحزن العميق، وقد أضاف إليها القديس يوحنا ( ) أي «بالروح» ليوضح حفظ الا تزان للجسد والعقل.
ولكن أتى تصريح المسيح كالصاعقة المباغتة على نفوس التلاميذ، فلم يستطع الإنجيليون الثلاثة أن يععوا صورة واقعية ملموسة لهذا المشهد الحزين، مثل القديس يوحنا. ربما لأنه كان يشعر بنفس شعور المسيح وكان ملتصقاً بحضنه، إذ يقول إن التلاميذ أخذتهم الحيرة وهم ينظرون بعضهم لبعض، فالأمر جد خطير، فهوذا ذئب داخل الحظيرة!… لقد عم الجميع الصمت والغم والهم, إلا واحد
23:13- 24 كَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ.
من حركة بطرس يتبين لنا ترتيب التلاميذ. فكان المتبع في جلوس الأسرة أن الابن الأكبر يجلس عن يمين رب البيت، ثم بالتدريج يجلس باقي الأسرة حتى تنتهي بالصغير ليجلس في حضن رب البيت على شماله، أقرب مكان إلى قلبه. وبطرس لأنه لم يكن بجوار المسيح، إذ جلس بحسب ترتيب الكبر في السن بعد يهوذا، اضطر أن يتحاشى الكلام المسموع في مخاطبته ليوحنا, فأومأ إليه، أي أعطاه إشارة بالعين وهز الرأس، مما يفيد أن يهوذا هو الذي كان على يمين الرب مباشرة بصفته الأكبر سناً، ويليه بطرس. وهذا يفيد سبب لماذا حدث شجار بين التلاميذ من منهم أكبر (لو24:22) لكي يجلس عن يمين الرب، وغالباً كان الشجار بين بطرس ويهوذا. فبطرس يشعر بالقيادة والأولوية، ولكن يهوذا كان يعتمد على سنه وحيازته للصندوق، وبلغة العصر، أنه سكرتير الجماعة.
25:13- 26 فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ». فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ.
كان من السهل على القديس يوحنا أن يقترب من صدر المسيح ويُسر إليه بسؤاله. والمسيح أيضأ أعطاه إشارة كيف يعرف مسلمه، ثم أليس هذا عجباً أن يتحاشى المسيح حتى إلى هذه اللحظة أن يجرح إحساسات يهوذا؟ ثم ألا ترى معي يا قارئي العزيز أن رقة المسيح كانت فائقة الوصف؟
«فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا»: عجبي أيضاً أن يكون هذا هو الأسلوب الذي ارتآه ديان الأحياء والأموات في التعريف بالخاطىء، بل بالخائن, بل بالقاتل؛ فتغميس لقمة (أو قطعة لحم) في صحن به مزيج من عصير الفواكه الممزوجة بالنبيذ (أو الخل عند الفقراء) هو تقليد فصحي كان يٌكرم به رب البيت دائماً الابن الأكبر!
فانظروا يا إخوة، كيف يحول المسيح صيغة الإتهام من منطوق كلمات جارحة إلى حركة احترام وتضييف ومودة!
أما عن مزيج الخل والفواكه والتغميس فيه تحية بالمكرمين فنقرأ عنه في سفر راعوث: «فقالت (راعوث لبوعز): ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي, لأنك قد عزيتني، وطيبت قلب جاريتك، وأنا لست كواحدة من جواريك. فقال لها بوعز عند وقت الأكل تقدمي إلى ههنا وكلي من الخبز, واغمسي لقمتك في الخل.» (راعوث13:2-14)
27:13- 29 فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ». وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه. لأَنَّ قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ.
«فبعد اللقمة دخله الشيطان»: المعنى هنا عميق وكثيف، والأفكار فيه مزدحمة. ولكى ندرك ما تعنيه, علينا أن نعود إلى الآية التي استعارها المسيح من سفر المزامير بلغة المسيح الخاصة: «الذي يأكل معي الخبز رفع على عقبه». وفي النسخة السبعينية تأتي هكذا: «آكل خبزي رفع علىّ عقبه».
المسيح شكل الآية، لتحمل معنى خبز الإفخارستيا وأثناء أكل خبز الإفخارستيا. فهو كأنه يصف حالة يهوذا وهو يتناول مع الرب ومن يده أثناء سر الشركة. وهكذا يتضح لنا أن يهوذا تجرأ وتناول من الخبز السرى, ومن يد الرب يسوع نفسه، بدون استحقاق، بل وبنية الخيانة والغدر.
+ «إذاً أى من أكل هذا الخبز، أو شرب كأس الرب بدون استحقاق, يكون مجرماً في جسد الرب ودمه.» (اكو27:11). والنتيجة الحتمية يعرفها بولس الرسول: «فكم عقاباً أشر تظنون أنه يُحسب مستحقاً، من داس ابن الله, وحيت دم العهد الذي قدس به دنساً، وازدرى بروح النعمة. فإننا نعرف الذي قال: لى الإنتقام, أنا أجازي, يقول الرب. وأيضأ، الرب يدين شعبه. مخيف هو الوقوع فى يدي الله الحى» (عب29:10-31)
وهكذا تمت في يهوذا النبوة المذكورة عنه بالذات: «بدل محبتي يخاصمونني، أما أنا فصلاة. وضعوا علي شراً بدل خير، وبغضاً بدل حبي. فأقم أنت عليه شريراً، وليقف شيطاناً عن يمينه.» (مز4:109-6)
وليس مستغرباً على العين المفتوحة التي للقديس يوحنا الذي طالما قرأ ما في قلب الرب وفهم ما في فكره، أن يرى الشيطان وهو يقتحم نفس يهوذا وعقله، ويتملك أسارير وجهه وحركاته!
«فقال له يسوع: ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة»: ظاهر الكلام لطيف وطيب، وفيه الثقة ممتدة, هكذا ظن التلاميذ، وحتى القديس يوحنا لم يعرف ما وراء هذا الكلام الطيب: «فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلمه به». ولكن يبدو أن يهوذا بدأ يشعر بالقلق، وأحس أن الوجوه بدأت كلها تصوب نظراتها نحوه، ولم يستطع التلاميذ أن يضبطوا مشاعر الاستنكار، أما يهوذا فلما ضاق به الأمر، وجه إيماءة نحو الرب رغبة في الخروج، فعاجله الرب بالموافقة السريعة مع جملة مؤدبة رقيقة لتغطية موقفه المفضوح, ولكنها كانت تحمل إليه رسالة من هو عارف بكل حركاته, وانما بأسلوب من يستهين بكل مخططاته.
موافقة الرب على خروج يهوذا ليصنع ما يريد، هي موافقة على الصليب، وكأنما المسيح لا يريد أن تبدأ المأساة بدون موافقة، فهو وحده الذي له السلطان أن «يضعها»، أي تسليم نفسه للموت.
وبهذا أكد الرب أن الحوادث لا تفرض عليه, فهو فوق أنه «كان عالما بكل شيىء» كان يرتفع أيضأ فوق كل شيء, فوق مخططات الشرير، بإرادته، فيطأها بقدميه. فهو لم يكن يُساق في عربة الشيطان كفريسة مكبلة، ولكنه كان يسبقها برؤيته ويتبعها بإرادته: «من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه أيضاً واقفاً معهم.» (يو4:18-5)
«… إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له اشتر ما نحتاج اليه للعيد»: هذه الآية في إنجيل يوحنا توضح, عرضاً, أن هذا العشاء السري الذي أسس فيه الرب سر الإفخارستيا ليس هو عشاء الفصح, بل يسبقه بأربع وعشرين ساعة، لأنه لو كان هذا عشاء الفصح، لاستحال القول بشراء حاجة العيد, علماً بأنه بالرغم من أن عشاء الخميس الذي أسس فيه المسيح سر الإفخارستيا لم يكن هو عشاء الفصح، إلا أن المسيح أعطاه كل صفات ومميزات الفصح. غير أن بعض الشراح المقتدرين لا يأخذون بهذا الاعتراض.
30:13 فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً.
واحد في حضن يسوع، والآخر في الظلمة الخارجية؛ القديس يوحنا في حضن يسوع كالابن في حضن الآب: «أنا فيهم وأنت فىّ ليكونوا مكملين إلى واحد… كما أننا نحن واحد» (يو22:17-23)، ويهوذا في حضن الشيطان: «هذه ساعتكم وسلطان الظمة.» (لو53:22)
«خرج للوقت وكان ليلاً»: كلام القديس يوحنا هنا يحمل الأسلوب السري والنبرات اللاهوتية، فبدخول الشيطان في يهوذا بدأت ساعة الظلمة. وبمغادرة يهوذا للمسيح, خرج من دائرة النور إلى «الظلمة الخارجية». لقد سبق المسيح أن حذر من مثل هذه المخاطرة: «ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر, لأن النور ليس فيه» (يو10:11)، وواضح غاية الوضوح أن يهوذا أحب الظلمة: «أحب الناس الظلمة أكثر من النور, لأن أعمالهم كانت شريرة.» (يو19:3)
لقد بدأ العد التنازل للساعة الأخيرة. بدأ شبح الموت يخيم على اللحظات الأخيرة للعشاء الأخير، لتبتدىء بعدها، ولأول مرة، التسبيحات للفصح بنغمات حزينة!…
أحاديث ما بعد العشاء
لقد اجتهد علماء الكتاب لتبويب أو عنونة حديث المسيح فيما بعد العشاء، وهو يقع من الأصحاح 31:13 إلى نهاية الأصحاح السابع عشر. ولكن أحاديث الرب لا يحدها باب ولا يحتويها عنوان، فهي أحاديث تفوق التحديدات الذهنية، لأنها روح وحياة؛ جاءت مسترسلة من أقداس قلب ابن الله المجروح، تنطلق لتنير خفايا المجهول في ذهن التلاميذ. ومجمل أقواله جاءت لتشرح حتمية الفراق وأفراحه، ومهمته العظمى في السماء وثماره, وعمله على الأرض وأثاره، مع وصايا ثمينة ووعود صادقة، وعلى قمتها إرسال الروح القدس لعزاء الدهور كلها وتكميل عمل الابن، مع شرح سرس ريان دم الكرمة في عروق الإنسان, وكيفية تهذيب الأغصان، ونقله العبيد إلى أحباء، مع أخبار كثيرة ستسوقها الأيام يكون فيها مشقة واضطهاد وقتل وعناء، مع عتاب مر من جهة الذين أبغضوه بلا سبب, وراحة وسلام من جهة الذين سيشهدون له مع الروح.
ولما رآهم والحزن يعتصر قلوبهم من أجل الفراق، وعدهم برؤيا خاصة وفرح وشيك، ولكنه أنبأهم عن هروبهم المزمع أن يقترفوه، وفرقة مشينة تلم بهم، ثم بقاؤه وحداً ليدوس المعصرة وحده. ثم, وعلى مرأى ومسمع منهم، رفع ناظريه نحو الآب، وصلى صلاة طويلة، أطول صلاة, كان فيها كل سر اللاهوت، وبقيت لنا مطبوعة في قلب يوحنا.
31:13- 32 فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: «الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً.
«الآن تمجد… وتمجد… قد تمجد»: الآن. بخروج يهوذا بدأ تزامن الحسم في موت الرب, مع حسم الرب في تقديم ذبيحة نفسه، بتقديم الكأس قائلاً: «هذا دمى».
على أن رنين «المجد» المتكرر ثلاثاً في هذه الآية, يذكرنا في الحال ببداية التقديس في سر الإفخارستيا: مجداً واكراماً، إكراماً ومجداً للثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس. إنها تسبحة الذكصا الأبدية، الذكصا التي ملأت السماء، وفاضت على كل بني الفداء.
ولا يغيب عن بالنا أن المسيح قال هذه الآية والكأس في يديه لم يوزع بعد. وإن كان القديس يوحنا لم يذكر ذلك لأسباب وضعتها الكنيسة في أيامه من جهة عدم إذاعة أسرار الكنيسة، إلا أن المجال والكلام ينطق بقدسية ورهبة سر الإفخارستيا القائم بكل تأكيد. ونحن لا يمكننا أن نفهم سر تمجيد المسيح لنفسه: «الآن تمجد ابن الإنسان» إلا بسبب سقوط ظل الموت عليه، وفي يده الكأس المصور فيها الصليب، وقد رفعها عالياً في يده، عندما انتهى من ذبح نفسه بسكين إرادته. فالمسيح، بنطقه: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين» (مر24:14)، كان قد أكمل الصليب، وانتهى من تقديم ذبيحته للآب.
فإن كانت الأناجيل الثلاثة الأخرى اهتمت بتسجيل تقديم جسده ودمه للتلاميذ، فالقديس يوحنا اهتم بتسجيل تقديم الجسد والدم للآب. وعوض التمجيدات للأب والآبن والروح القدس على مواد السر, استعلن المسيح «هذا المجد» عينه لحظة حدوثه «الآن» الذي مجده الله به، إذ تقبل ذبيحة نفسه، الذي أيضاً تمجد الله فيه وبسببه. وهذا المجد الذي ناله ابن الإنسان على الأرض يوم الخميس، كان بلوغ منتهاه وشيكاً يوم الجمعة بعودة ابن الإنسان لذات الله: «سيمجده في ذاته سريعاً»، ليجلس والى الأبد عن يمين الآب حاملاً البشرية فيه.
وعلى القارىء أن يلاحظ أن المسيح يتكلم هنا، ليس كـ «ابن الله» بل كـ «ابن الإنسان» لأنه يتكلم والكأس في يده كخروف مذبوح، لذلك يتكلم عن «الآب» بصفته «الله» بالنسبة له كـ «ابن الإنسان».
وعليا أذ نتذكر قول المسيح سابقاً: «وأما يسوع فأجابهما قائلأ: قد أتت الساعة، ليتمجد ابن الإنسان» (يو23:12)، وقول القديس يوحنا، معلقاً على موت الرب: «لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد.» (يو39:7)
أما كون الله قد تمجد في ابن الإنسان، وتمجد بسببه وأيضاً سيمجده سريعاً ، فهذا يعلنه المسيح بوضوح: «أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته، والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم» (يو4:17-5). على أنه بعد عودة الابن إلى الآب, سيبقى الابن مصدر تمجيد دائم للآب: «لأني ماض إلى أبي, ومهما سألتم باسمي، فذلك أفعله, ليتمجد الآب بالابن» (يو12:14-13). أما عن كيف سيمجد الله ابن الانسان سريعاً, فهذا رآه القديس إسطفانوس رؤيا العين: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلىء من الروح القدس, فرأى مجد الله ويسوع قائما عن يمين الله.» (أع55:7)
على أن مجد المسيح السابق واللاحق ومجد الآب، لا يُدركان، بحسب الأصول اللاهوتية، منفصلين، لا زمانياً ولا كيانياً، فهما مجد واحد لله. ولكن بسبب توقيع اللاهوت على الزمن أو ظهور الله بالجسد في صميم الزمان والمكان والعمل، أصبح على الإنسان أن يدرك هذا المجد موزعاً في مراحله.
فمن وجهة النظر اللاهوتية، يكون مجد المسيح واحداً سواء على الصليب، أو في القبر، أو في القيامة، أو في الصعود, أو في الجلوس عن يمين الآب؛ والنظرة لأي حالة مجد في هذه تثمل المجد في كل حالاته: «لكي تجثو، باسم يسوع، كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض.» (في10:2)
«يمجده في ذاته»: الاصطلاح هنا لاهوتي، وهو يفيد وحدة الاتحاد الذاتي, أي وحدة الكيان، باعتبار أن الآب والابن كيان واحد، ذات واحدة لأقنومين، لأنهما جوهر إلهي واحد، أو طبيعة واحدة إلهية للآب والابن.
كما يلاحظ أن «في ذاته» تأتي مطابقة ومتبادلة مع: «خرجت من عنه الآب»، فهو كيان واحد يخرج منه ويعود إليه، دون انقسام الكيان، لأنه كيان إلهي للآب والابن غير محدود ولا متجزىء.
33:13 يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ.
من واقع الإفخارستيا، وحيث انتهى المسيح, بالنية، من تقديم نفسه ذبيحة فداء عن العالم، ووزع جسده ودمه على التلاميذ، ومن واقع خروج يهوذا ليعد خطة التسليم بموافقة المسيح بعد إحساسه بقبول الذبيحة لدى الآب والرد عليه بحصوله على المجد، ابتدأ يحس أيضاً بانسحابه الإرادى من العالم، فابتدأ المسيح يوجه إلى تلاميذه حديث الوداع الأخير.
لاحظ أن موت المسيح على الصليب بالجسد لا يعني أن بشرية المسيح وحدها هي التي واجهت الموت على الصليب، بل ان المسيح واجه الصليب والموت ككل لا يتجزأ، بملاهوته وناسوته معاً. اذ لم يظفر بقوات الظلمة ويفضحهم ويشهرهم جهارا بجسده الميت، بل بلاهوته, الذي اقتحم مجالات الموت والجحيم، وصرع سلطان الموت وصاحب سلطان الموت, وبهذا صار موت المسيح هو قوة نصرة وخلاص ومجد، لأنه عمل إلهي وبشري معا, وبآن واحد صار موت المسيح عملاً بلا حدود، يشمل ويغطي كل من يؤمن ويدخل في مجال فعله الإلهي الكفاري العام.
لذلك، فنحن الذين نؤمن بالطبيعة الواحدة من الطبيعتين بعد الاتحاد، لا نوافق على أن المسيح جاز الموت بطبيعة واحدة بشرية، بل إن المسيح عندما جاز الموت قامت كل طبيعة بعملها الخاص بها. فالجسد تقبل طعنة الموت وفارقت النفس الحياة, أما اللاهوت فلم يفارق النفس ولم يفارق الجسد فلم يفسد، واضطلع اللاهوت مع النفس بمواجهة طبيعة الموت، فشجب الموت وأخرجه من دائرة الإنسان والله، فأصبح الموت لا يفصل الإنسان عن الله والمسيح؛ ثم واجه الشيطان الذى له سلطان الموت فجرده من سلطانه وسلم سلطان الحياة لروح الله، أي الروح القدس، الذي له الآن سلطان القيامة من الموت مع قوة قيامة المسيح واستحقاقها.
وبنظرة الانسحاب من العالم، تساوى لديه الأعداء والأحباء. فهؤلاء وهؤلاء لن يروه, ولو طلبوه لن يجدوه. لذلك، كما قال لليهود (34:7) على بعد من الميعاد، يقول لتلاميذه الآن عن قرب، والصليب قد لاح في الأفق.
والظرف الزماني «الآن» قد يفيد الزمان حسب الظاهر، ولكن بالعمق الروحي يفيد استعلان نهاية التدبير الإلهي لغياب المعلم عن التلاميذ وبقاء التلاميذ وحدهم. هذا الشعور كان طاغيا على المسيح، كما على التلاميذ ربما بنفس القياس، «لن أترككم يتامى», غير أن المسيح يعلم أنه سيعود ليراهم.
«ستطلبونني»: إن كانوا سيطلبونه في الحزن، فلن يجدوه، ولن يستطيعوا أن يأتوا إليه، ولكن حينما يعود هو إليهم ويراهم, بعد القيامة, أي يفتقدهم، فلن يعودوا يطلبونه بعد لأنه سيكون معهم كل حين: «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت20:28)، ليس فقط بالحضرة الإلهية الشخصية المعزية والمفرحة من خلال تمهيدات الروح القدس وإعلاناته، بل وأيضاً في شركة الإفخارستيا حيث:
1- يتحد موت المسيح بإمانتنا، «قوة بقوة» قوة إلهية قوامها غلبة المسيح على العالم (الشهوات) وعلى قوات الظلمة التي ظفر بها على الصليب، أي بموته, بقوة إرادتنا لإخضاع الجسد وقمع شهواته.
2- وتتحد قيامة المسيح بتجديد حياتنا، قوة بقوة أيضاً، قوة إلهية قوامها غلبة الموت، بقوة توبتنا لنوال جدة حياة يوماً بيوم.
المحبة
34:13- 35 وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ».
يتبادر إلى الذهن عند غالبية الناس أن «المحبة وصية» أو هي وصية المسيح، ولكن، فى الحقيقة, تركيب الجملة بالغفة اليونانية يكشف المعنى كالآتي: «أنا أعطيكم وصية جديدة, لكى تحبوا بعضكم», والتركيز في معنى الآية يأتي على الكلمة «جديدة» بالنسبة للوصية بخصوص المحبة, وذلك في مقابلها القديم الحرفي والجسدي بالنسبة للعهد القديم: «تحب قريبك كنفسك» (لا18:19)؛ حيث ينبغي أن نبحث عن معنى «جدة» الوصية، أو الجديد في هذه الوصية على أساس الواقع الجديد الذي أنشأه المسيح من جهة الدوافع والمحيط الذق تعمل فيه المحبة في العهد الجديد.
فالأن، قد استعلن المسيح افاقا للمحبة جديدة فعلا لم تكن معروفة في العهد القديم، ولا يمكن الاحاطة بها أو بلوغ كمالها. وأولها وأعظمها «محبة الآب للابن», ثم «محبة الله للعالم»، التي أنشات حركة جديدة تحركت لها السموات كلها والأرض، وهي «تجسد الابن», هتف لها السمائيون والأرضيون مجداً في السماء وسلاماً على الأرض، ثم أنشأت محبة الله نحو العالم: «بذل الابن متجسداً»: «لأنه هكذا أحب الله العالم, حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو16:3)
وهكذا بلغ استعلان محبة الله للانسان قمتها العظمى في موت الابن على الصليب. وموت المسيح أكمله حباً في الإنسان الخاطىء: «الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، الذى أنشأ بدوره التزامات (غفرانا وتكفيرا وخلاصاً) من جهة الله نحو جميع الخطاة التائبين الذين يؤمنون بابنه. كذلك أدخل المسيح قوة جديدة في محيط الإنسان تعمل فيه، هي قوة الحب الإلهي الفاعلة بالروح القدس، الذي هو«أقنوم أو شخص المحبة».
إذن، الوصية القديمة المنطوقة والمكتوبة كأمر بالنسبة «لمحبة القريب» تغيرت تغيراً جذريا، إذ أصبحت قوة تعمل داخل العالم وداخل الإنسان.
على أن قوة المحبة المنسكبة داخل قلب الانسان بالروح، هي نابعة من مصدرها الأساسي وهو حب الله الذى استعلنه المسيح ببذل ذاته وموته على الصليب. أى أى قوة المحبة التى أصبحت فى العهد الجديد تعمل في قلب الإنسان، هي قوة محبة باذلة, أو قوة بذل المحبة المنبعثة من موت المسيح.
أي أن المحبة لم تعد فرضا وواجبأ يُفرض على الإنسان من خارج, بل قوة تعمل طواعية وبسرور لا مناص من الإعلان عنها، والتنفيس عن طاقتها بأعمال بذل الذات «على نموذج محبة المسيح». فالمسيح، بسبب حبه للآب وحبه لنا، لم يستطع إلا أن يموت عنا, أي يُصلب!!! «ليس لأحد حب أعظ من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.» (يو13:15)
هذا صنعه المسيح، ولكنه صنعه من أجل كل العالم، أحباء وأعداء، خطاة ومنبوذين، ومن واقع حبه هذا وامتداداً له بعدئذ بالروح القدس أعطى التلاميذ وصيته الحديدة: «وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم»، لا كأنها فرض بعد أو واجب أو تكليف. بل انتباهة, ليكتشفوا ما قد وهبه لهم بالفعل وسكن فيهم بالسر بالجسد والدم الذي أعطاهم وبسر غسل أرجلهم.
ونحن نعلم أن التلاميذ أقاموا هذه الوصية، وقاموا بها، وعاشوها، وعاشوا عليها، في بادىء الأمر وبعد الصعود مباشرة. وما اجتماعهم يوم الخمسين إلا صورة ناطقة بثمار الوصية الجديدة، فقد جعهم حب المسيح على الصلاة والصوم. وإقامة سر الشركة والعبادة الحارة، حتى حل عليهم الروح القدس بكل ارتياح، فاستعلن المسيح فيهم، وصاروا شهوداً مع الروح القدس للمسيح كالوصية، وظلت بعد ذلك المحبة الأخوية بينهم هي شهادة بحد ذاتها، وعليها قام الإنجيل وقامت الكنيسة. وظل القديس يوحنا يعظ بهذه الوصية وحدها في شيخوخته جتى مات، مما يؤكد تأثره الشديد بوصية المسيح فعلاً.
وبالانتباه لوصية المسيح بخصوص المحبة نجد أنه قدمها عى صورتين.
الصورة الأولى, خاصة بالتلاميذ, كغسل الأرجل: «كما أحببتكم أنا, تحبون أنتم أيضأ بعضكم بعضاً»؛ بالتطابق مع: «لأني أعطيتكم مثالاً, حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً… فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض».
وهذا في الحقيقة لبنيان الكنيسة, أولاً في صورتها الرسولية الأولى: «بهذا يعرف العالم أنكم تلاميذي»
أما وصية المحبة في صورتها العامة الخاصة بالمؤمنين عامة، فقد أطلقها بلا قيد ولا شرط لتكون حياة لكل إنسان ومنهج لكل مسيحي: «سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك؛ وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم, لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات.» (مت43:5-45)
كذلك غسل الأرجل، وضع أساساً لتكريس التلاميذ للبشارة ومسيرة الإنجيل في كل أنحاء العالم, كما احتفظ به الرسل كطقس اتضاع لتمارسه الكنيسة بالنسبة للشعب عامة، والتقطه الرهبان الأوائل وأدخلوه كعمل محبة وطقس اتضاع دائم يمارسونه مع كل زائر أو متردد، وبعد أسفارهم الطويلة، لبعضهم البعض.
ثم إن الوصية القديمة كانت المحبة فيها تختص بالقريب, أي بني جنس اليهود فقط, أي لحساب التاريخ والجنس اليهودي, ولكن المسيح أعطى حبه في وصيته الجديدة على أساس مهمته العظمى الخالدة ورسالته الأبدية في العالم بكل أجناسه، لذلك لما سألوه: «من هو قريبي؟»، أعطى جواباً في قصة، حطم فيه هذا القيد الحديدي الذي وضعته الوصية القديمة في عنق الحبة، حينما جعلها لا تعمل إلا بين يهودي ويهودي وحسب، ولكن قالت القصة أن قريب اليهودي هو السامري!!! (لو36:10-37)، ومن هذا المنطلق سبق ونادى بحدود وصيته الجديدة: «أحبوا أعداءكم.» (مت44:5)
كما أنه بطقس غسل الأرجل، جعل المحبة المسيحية والرسولية تنزل إلى مستوى خدمة الأرجل.
والآن نأتي إلى الظروف التي أحاطت بإعطاء المسيح وصيته الأخيرة والجديدة لتلاميذه، فأولاً نحن على مائدة عشاء الرب الذي أسس فيه سر الإفخارستيا بتقديم جسده ودمه للأكل والشرب من خلال التزام ذبيحة الصليب التي جاء ليكملها في نفسه، وقبلها منه الآب. فهنا بذل الذات في أقصى صورة يمكن أن يقدم فيها الحب، حيث أصبح الحب الإلهي المذبوح من أجل كثيرين هو أساس العهد الجديد: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين» (مر24:14), «كما أحببتكم أنا (هكذا حتى الموت), تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضأ.» (يو34:13)
غرض ألوصية ألجديدة بالنسبة للمحبة: ولكي يتضح بأجلى بيان أن المحبة ليست هي كل الوصية الجديدة، ولا يمكن أن تستنذف كل أبعادها، عاد المسيح ووضع للوصية غاية فوق المحبة: «بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي», وغاية هذه أيضاً هي استعلان المسيح نفسه للعالم من خلال حب التلاميذ بعضهم لبعض، ولأن محبة التلاميذ بعضهم لبعض لا يمكن أن تأخذ صورتها الإيمانية وقوتها الكرازية إلا بوجود المسيح، كقول القديس بولس الرسول: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة…» (أف17:3-18)
وهكذا يتضع لنا الترابط المتزامن بين قبول المسيح وفاعلية الحب في القلب، فإنه بعد أن تناول التلاميذ من الجسد والدم، وهما قوة العهد الجديه واللذان يمثلان الحضرة الإلهية عملياً: «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)، أعطى المسيح الوصية الجديدة. أي أنه بمجرد أن حل المسيح بالإيمان في القلب، وتأسست وتأصلت فيه المحبة؛ أصبح الإعلان عن المسيح تحصيل حاصل، من جراء أفعال المحبة الباذلة في الحياة المسيحية. إلى هذا الحد أخذ القديس يوحنا هذه الحقيقة، وجعلها معياراً للخلاص والحياة الأبدية: «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة» (1يو14:3), وهكذا انتشر اصطلاح محبة الإخوة (فيلادلفيا) في الغرب ويقابله في الشرق وفي الكنيسة القبطية بالذات «الأغابي» بصورة أوسع وأعمق وأكثر روحانية، حيث يجتمع الشمعب العلماني كله فى الكنيسة، وتقام الموائد، ويحضرها الأسقف ويصلي ويبارك، ويفرح الشعب، ويأكل في حضرة الرب. فقد صارت الأغابي تعني «شركة المحبة», وصار لها طقس ووجود كنسي. وبعد أن دعمتها الرهبنة كأعلى نموذج للأغابي الإنجيلية، فقد صارت شركة حياة تخصصت لعمل المحبة، والعبادة، والتأمل, والبذل والخدمة، وتقديم الأمثلة المسيحية من قديسين وقديسات، ملأوا صفحات السنكسار واحتلوا الصفوف الأولى في السماوات.
وهكذا، فالمحبة إذا سكنت في القلب بإيمان المسيح وأخذت طريقها عملياً نحو الآخرين، وخاصة بين التلاميذ على مستوى الصليب، فحتما يُستعلن المسيح. ومعروف أن من مفاعيل المحبة الإلهية قيام الوحدة الروحية على المستوى السري الإلهي، لأن طبيعة المحبة الإلهية فوق أنها تجمع، فهي توحد:
+ «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم.» (يو26:17)
+ «ليكون الجميع واحداً, كما أنك أنت أيها الرب فيّ وأنا فيك, ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني.» (يو21:17)
+ «أنا فيهم وأنت فيَ, ليكونوا مكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني.» (يو23:17)
هذه, في الحقيقة، هي أعماق الوصية الجديدة التي هي ناموس المسيح الجديد:
المحبة: وهي بعد ذاتها «إبيفانيا» إلهية بظهور واستعلان المسيح «ابن محبته».
الوحدة: موضوع المحبة الإلهية، وهي أيضاً بحد ذاتها «إبيفانيا» الآب والابن فينا.
وليكن في ذاكرتنا دائماً، أن استعلان المسيح فينا هو برهان محبة الله نحو العالم، واستعلان الآب والابن فينا هو برهان قيام الوحدة، فهو بحد ذاته كرازة للعالم.
أي أن الوصية الجديدة التي يشدد عليها المسيح في نهاية رسالته، تهدف نحو خلاص العالم واستعلان ملكوت الله والحياة الأبدية.
وهكذا، كما بدأنا إنجيل يوحنا بحركة محبة الله للعالم، هكذا تنتهي غاية رسالة المسيح في الإنجيل.
اعتذار: نحن هنا لا نقدم موضوعاً مستوفياً عن المحبة في العهد الجديد، ولكننا التزمنا بحدود المناسبة وفي إطار مفهوم وصية المسيح.
36:13 قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً».
إنطلاق القديس بطرس بهذا السؤال بعد وصية المسيح بالمحبة، يوضح أن مغادرة المسيح الوشيكة أمر شد انتباه التلاميذ، لأن بيان الموصي بالمحبة وتوضيح الغرض منه وهو كي يعلم العالم أنهم تلاميذ المسيح، يعني بكل صراحة أن المسيح سيذهب ويختفي وسيتركهم وحدهم. هذا الأمر حيرهم ، وأظهر جانب الضعف فيهم.
«يا سيد إلى أين تذهب.»: وأصلها باللاتيني: ( )، والتي بني عليها الفيلم السينمائي الديني المشهور «كوفاديس»، وقصته مأخوذة من سفر أبوكريفا «أعمال بطرس وبولس»، وهي القصة الجميلة لاستشهاد القديس بطرس في روما؛ إذ لما انتهز بطرس فرصة، وهو محكوم عليه بالإعدام صلباً، هرب من الجلادين قبل تنفيذ حكم الاستشهاد، وانسل خارجاً من روما، فقابله الرب، وظهر كأنه عابر به وذاهب إلى روما ، ففوجىء بطرس بالمسيح نفسه أمامه فسأله: يا سيد إلى أين أنت ذاهب؟ فبادره الرب بنظرة عتاب: لأصلب بدلاً منك. وهي تذكرة لاذعة لادعاء بطرس في قوله للمسيح في الليلة التي أسلم فيها ذاته: «إني أضع نفسي عنك.» (37:13)
«حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني ولكنك ستتبعني أخيراً»: صرخ إرميا, وكأنى به ينادي بطرس من بعيد: «إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تُباري الخيل، وإن كنت منبطحاً في أرض السلام, فكيف تعمل في كبرياء الأرردن؟»» (إر5:12)
فبطرس، ليلة الصليب, يسأل الرب: «يا سيد إلى أين تذهب؟»، لأنه كان يضمر في قلبه أن يقلد أليشع النبي في جريه وراء إيليا، وكأنه يريد أن يصعد معه؛ والرب أدرك ذلك بالروح، وكان الرد خاللصاً: «لا تقدر الآن أن تتبعني». ولكن لم يحرمه الرب من نظرة تطلعية من وراء الأفق: إنك ستتبعني أخيراً, أو بالحري سيأتي الرب ليأخذه بيده، لأن قصة هروبه من الموت معروفة، فلولا حضور الرب إلى روما خصيصاً ليرده إلى صليبه المقلوب، لما عثر بطرس على الباب الذي منه يتبع الرب أخيراً!! وهنا يليق جداً أن نذكر القارىء بقول الرب لبطرس في نهاية رواية القديس يوحنا: «ولكن متى شخت، فإنك تمد يديك، وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء.» (يو18:21)
و«حيث لا تشاء» هي إشارة بليغة إلى هروبه من الصلب الذي صححه له الرب.
37:13 قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ».
إنها لخطورة بالغة أن تأخذ الإنسان حرارة الثقة بالذات، ليتكلم ويقرر ويعدد بما يفوق قدره ومقداره. وأخطر من ذلك أن يقلد الإنسان أمثلة أعلى من قامته، فيبدو في أعين الناس أقل مما هو، أي أقل مما وهبه الله. لأن الفرق بين قامته الأصلية وبين ما ادعى لنفسه اختلاساً يُخصم من أصل رصيده. هذا هو قانون المسيح : «من له سيُعطى. ومن ليس له فالذي يظنه له يؤخذ منه.» (لو18:8)
هذا الأمر خطير، وخطير للغاية، في الأصول التربوية المسيحية، أي في بناء النفس الروحي وفي الجهاد النسكي. فالله لا يطالبنا أن نعطي أكثر من قدرتنا، أو نبذل من رصيد وهمي سواء في الصحة أو الإيمان. والله أعطى وقسم المواهب، وعلى قدر ما أعطى يُطالب. فالذي يدعي بأنه يقدر أن يبذل أو يخدم، وهو لم يأخذ، يُلام ويضعف ويتقهقر.
فبطرس الذي رأى نفسه أكفأ من يستطيع من التلاميذ أن يلازم المسيح، أو حتى أن يموت عنه، هكذا نجده قد تخلف في منتصف الطريق. ولما عزم أكثر من عزمه أن يرافقه حتى ولو الى الموت، انتهى عزمه عند الجواري في الدور الأرضي، وجلس يستدفىء مع الخدم. والذي مد في عافيته, ليشهد في صف المسيح, دون أن يكون لها امتداد من قوة الإيمان، أنكر المسيح عند استجواب جارية!!! وبدل أن يقول مجرد قول: نعم أنا تلميذ المسيح، واذا لزم الأمر يقسم بالحق: «ابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه» (مر71:14), عفارم, وأخيراً جلس خارج الباب يعزي نفسه ببكاء مر. وصح قول الرب لبطرس، ولي ولك أيها القارىء العزيز: «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً.» (يو5:15)
38:13 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»
لقد اهتم الإنجيليون الأربعة بتسجيل نبوة المسيح هذه عن «بطرس والديك»، إذ سجلوا تحقيقها تسجيلاً مؤثراً للغاية، وكان أدقهم وأقدرهم في التسجيل هو القدي مرقس، لأنه أخذ البيانات من فم بطرس نفسه.
لم يكن بطرس يدري هول المعركة التي يسير المسيح نحوها، ولا إزاء من تسجلت؟ ولا لحساب من سيكون الحساب؟ بل وفوق هذا كله لم يدر بطرس من هو المسيح الذي يقول إنه مستعد أن يضح نفسه من أجله؟ فالمعركة فوق طاقة جميع البشر مجتمعين، إنها ضد من استعلى على الله نفسه، أي الشيطان الذي دوخ العالم كله والذي قال في قلبه: «أصعد إلى السموات, أرفع كرسيّ فوق كواكب الله… أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي. لكنك انحدرت إلى الهاوية, إلى أسافل الجب.» (إش13:14-15)
لقد أشفق الرب على شجاعة بطرس المنهارة، ولكي يردعه حتى لا يرتكب حماقة، أعلن له أقصى ما يمكن أن يبلغه من حدود الدفاع عن الرب بدون الرب، ذلك قبل أن ينفجر نور النهار أو يصيح الديك, أو يظهر كوكب الصبح المنير، أو يستعلن نور العالم في القلوب، لأنه في ظلمة الرؤيا وعتمة القلب سينكر بطرس سيده ثلاث مرات، وعمداً مع الإصرار، وبلعن وحلفان وبشهود عيان .
ولكن، في النهاية, وبعد أن أمده المسيح بصلاته وروحه القدوس, استطاع القديس بطرس أن يحقق ما ظن وما قال، ووضع نفسه من أجل المسيح، وحقق أمنية حبه, ومات مصلوباً شهادة أمام العالم كله.
وهذا هو الدرس الفريد الذي يطرحه أمامنا القديس يوحنا كباقي الإنجيليين: أن بطرس كان مثلك ومثلي، بحسب الجسد لا شيء، مكابر، شجاع بلا قوة، مقدام بلا روية، معتد بلا أصل، متسرع سريع الندم، مدعي الأولوية دون دعوة أوتزكية. لكن عندما لمسته النعمة، انقلبت موازينه غير المتزنة, وصار بعد أن حل عليه الروح القدس أول من نطق بلسان يوم أن تقسمت موهبة الألسن, وأول واعظ ارتجت له المنابر، وصاحب أول حصاد لحساب رب الحصاد، ثلاثة آلاف نفس يهودية نقية اعتمدوا في يوم واحد. وكانت هي أول كنيسة في العالم.
فبطرس هو أقوى عمود من ثلاثة أعمدة, حملت سقف وأسقفية كنيسة أورشليم، وأول من ملأ كنيسه بعملة سماوية مسكوكة باسم يسوع المسيح الغالي القيمة، دفح منه ثمن شفاء أعرج من بطن أمه، كان يُحمل على الكتف أربعين سنة (راجح أع1:3 – 22:4). فكانت أول معجزة بعد معجزات المسيح أجراها من داخل الهيكل أمام كهنة وفريسيين والاف من شهود عيان في رواق سليمان؛ حيث اتخذها بطرس فرصة، وأخذ يوبخ بلا رحمة الذين بجهالة صلبوا رب المجد، ولما هددوه مع يوحنا صليا مح بقية الرفاق صلاة تزعزع لها المكان (راجح أع23:4-31). وهكذا جاهر بطرس بالإيمان، وشدد إخوته حسب الوصية، ثم منطقوه, وحيث لا يشاء صلبوه، وهكذا تبع المسيح أخيراً حسب الوعد!
تفسير يوحنا 12 | تفسير إنجيل القديس يوحنا الأب متى المسكين |
تفسير يوحنا 14 |
تفسير العهد الجديد |