تفسير إنجيل القديس يوحنا 14 للقمص أنطونيوس فكري

 

آية (1): “لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي.”

لا تضطرب= الاضطراب ينشأ من الخوف من المجهول أو بسبب شدة الحزن. وهنا التلاميذ نجدهم فعلًا في حالة اضطراب بسبب ما سمعوه من أن أحد التلاميذ ينكره وآخر يسلمه وأنه سيفارقهم، بل سمعوا أنه سيموت، بل إحساسهم بخيبة أمل في مملكة توقعوا قيامها وها هي أمالهم تنهار. والمسيح هنا يطمئن تلاميذه بأنه هو القائد الذي سيحميهم وسط الضيقات الرهيبة القادمة المجهولة، فالضيقات ينبغي أن تأتي على كل مؤمن. والمسيح يطمئنهم حتى لا يتزعزع إيمانهم (راجع مت16:10-22). والمسيح يطلب أن يضعوا رجاءهم في الله وفيه. قلوبكم= القلب هو تعبير قديم، وللآن عن مصدر الشعور والعواطف، ومصدر الخوف هو فقدان الصلة بالله، والصلة تأتي بالتمسك بالله بالإيمان، فالاضطراب والخوف هو الداء والإيمان بالله هو الدواء. فإذا ركز الإنسان فكره في الواقع المفزع أمامه يغرق في الحال، وهذا ما حدث مع بطرس إذ رأى الريح شديدة ولم يضع ثقته في الرب بل ركز رؤيته في الريح. فآمنوا بي= ثقوا بي. هنا نرى أن علاج الاضطراب هو الإيمان بشخصه المبارك ومعنى الآية، أنتم تؤمنون بالله وهذا حسن، ولكنكم حتى الآن لا تفهمون أنني واحد مع الآب. ولكنكم ستفهمون فيما بعد. وأنا أفعل ما أفعله حتى إذا جاءكم الموت وهو حتمًا سيجيء فأنا سآتي وآخذكم إلىّ، فلماذا الخوف آمنوا أنني لن أترككم. وآمنوا أن كل ما أفعله يفتح لكم طريق الخلاص. ونلاحظ أن الثقة في المسيح تلاشي من النفس أي اضطراب.

وما هو الإيمان المطلوب؟ هو أن الله ضابط الكل القادر على كل شيء، القوى قوة مطلقة. ولا تقدر خليقة أن تعمل شيء بدون سماح منه. وأنه هو أبونا السماوي الذي أحبنا فبذل ابنه ليفدينا. وأنه صانع خيرات. وبعد كل هذا فكيف نخاف من أي شيء ونحن نعلم أن ما يسمح به الله هو لخير أولاده.

 

آية (2): “في بيت أبى منازل كثيرة وإلاّ فإني كنت قد قلت لكم أنا امضي لأعد لكم مكانًا.”

منازل= تناظر أروقة وغرف الهيكل. وكلمة منازل تعني إقامة دائمة. ونحن سننال مكاناً في السماء بحسب وعده هذا. منازل كثيرة= إذاً الملكوت لن يضيق بمن هو أهل له. وكلمة منازل لا تشير لدرجات مجد بل مكان لكل من يغلب.. لكن هناك درجات مجد (هي درجات إضاءة “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” مت43:13) + وهكذا قال بولس الرسول أن نجماً يمتاز عن نجم في المجد (1كو22:15-23، 41).

منازل= أصلها بيوت نسكن فيها بصفة دائمة، هي مساكن دائمة وإقامة مستمرة (في اليونانية)، أماكن راحة. ونحن نقيم في الأرض هنا في خيمة (إقامة مؤقتة) نخلعها بالموت، استعدادًا لكي نحصل على بناء (جسد ممجد) في السماء لنقيم فيه نهائيًا بعد طول تغرب (2كو1:5). المسيح قال هنا على الأرض ضيق لكن هناك لنا مكان مجد في السماء. هذا هو الحق الذي ليس فيه خداع. هنا سيخرجوننا من المجامع (2:16) لكن هناك راحة للجميع وأبدية.

وإلاّ فإني قد قلت لكم= هذه تعني “إذا لم يكن في بيت أبي منازل كثيرة لكم جميعًا هل كنت قلت لكم إني أمضي لأعد لكم مكانًا= توطين الإنسان عند الله مرة أخرى، فبعد أن دخل المسيح بجسد بشريته للسماء صار الحضن الأبوي يسع الإنسان الجديد الذي تبناه الله. المسيح هنا يطمئنهم بأن لهم كلهم أماكن في السماء، وأنهم لن ينفصلوا عنه، فهذا الانفصال هو ما كانوا يخشونه.

 

آية (3): “وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتى أيضًا وأخذكم إليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا.”

المسيح هنا يلطف من صدمة الفراق بل يجعلها ضرورة حتمية لنرث الملكوت ولا نظل في غربة هذا العالم فهي فرقة وقتية الآن لحساب إتحاد أبدي آتٍ. الآية تشير للسحابة التي كانت تتقدم الشعب فهو يتقدمهم إلى السماء. وفي هذه الآية إشارة للمجيء الثاني. فهو جزئياً عاد لهم بعد قيامته وظل معهم 40 يوماً . وهو الآن وسط كنيسته (رؤ13:1+1:2) نراه بالإيمان. آخذكم إليَّ = المسيح هنا يستقبل أولاده ويضمهم إلى حضنه، وهو الذي يحدد ميعاد إنتقالهم ليستقروا عنده بل هو يجذبهم إليه بحسب شدة قوة حبه الفائق. لذلك كانت شهوة القديسين أن ينطلقوا ويتخلصوا من سجن الجسد (في23:1-24 + رو7 : 24). آتى أيضاً = كل مرة نتقابل مع المسيح في صلاة أو قداس نتقابل معه ثم أخيراً يأتي ليجذبنا للسماء معه. والملكوت هو حيث يكون المسيح سنكون نحن، بعد مجيئه الثاني.

 

آية (4): “وتعلمون حيث أنا اذهب وتعلمون الطريق.”

المسيح يفترض أن تلاميذه قد فهموا الطريق الذي سيسلك فيه من خلال تعاليمه السابقة أي أنه سيصلب ويموت ويقوم ويصعد للسماء ليفتح الطريق للإنسان.

 

آية (5): “قال له توما يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق.”

هنا نرى العجز البشري عن الفهم. هم ربما تصوروا أنه يصعد للسماء كإيليا فلا يروه. فهم لم يفهموا موضوع الجسد المكسور والدم المسفوك الذي قدَّمه لهم منذ دقائق. ولم يفهموا قصة تسليمه بواسطة يهوذا. وحتى إن فهموا إن المسيح سيسلم ويموت فكيف يكون هذا الموت طريقًا لحياتهم هم ورجاءً في القيامة. ولم يفهموا أن بتمسكنا بالمسيح وبثباتنا فيه نسلك نفس الطريق. وليس من الخطأ أن نسأل. فالإعلان القادم أعلنه المسيح لمن تساءل بأمانة لأنه يريد أن يعرف.

 

آية (6): “قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي.”

أنا هو الطريق= هذا جواب المسيح على من يتساءل أين الطريق. فهو كإبن حمل جسد بشريتنا ثم صعد للآب من حيث جاء وذلك من خلال قوة قيامته وبواسطة روح الحياة الأبدية التي فيه ليرفع البشرية التي فيه للآب السماوي ويصير هو الطريق الوحيد (وليس سواه فهو لم يقل طرق) الموصِّل للآب باستعلان شخص الآب في نفسه وبالوصول إلى الآب وهو حامل جسد بشريتنا وبذلك لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلاّ به والأدق فيه، لكل من يثبت فيه. هو طريقنا في حياتنا اليومية وآلامنا وبدونه نضل ونهلك، فهو سبق وإختبر نفس الآلام بل وأكثر منها بما لا يوصف وعَرِف كيف يواجهها، وإختبر الموت وقام وصعد للأقداس السماوية إلى الآب السماوي فمن يثبت فيه يقدر أن يواجه آلام العالم مهما كانت صعوبتها ويواجه الموت ويكون المسيح طريقه للأقداس السماوية.

مثال: إنسان تائه في جو مطير ورعد ورياح وظلمة وهو خائف. ظهرت له سيارة حملته لمكان آمن. هذا الإنسان هو أنا وسط آلام هذا العالم وتجاربه. والسيارة رمز للمسيح الذي يحملني فيه لأعبر آلام هذا العالم في سلام وإطمئنان إلى السماء.. إلى أحضان الآب، بعد أن كان الإنسان قد فقد علاقته بالآب بسبب الخطية. هو صالحنا مع الآب. ابن الله نزل لنا ليحملنا فيه ويرفعنا لله” “لا أحد يأتي للآب إلاّ بي”. فسؤال توما لسنا نعلم أين تذهب= ويرد السيد أنا ذاهب للآب لآخذكم فيَّ للآب. فلا أحد يصل لله إلاّ بالمسيح. المسيح لم يعطنا طريقة ووصفة ووصايا نصل بها للآب. بل قدم نفسه طريقاً إلى الآب، ندخل به للآب دون أن نخرج من الابن لأن الابن في الآب. هكذا بإتحادنا به نتحد بالآب. لذلك يقول المسيح اثبتوا فيَّ (يو4:15). إذاً كل ما على المؤمن أن يثبت في المسيح وبهذا يكون في طريقه للأقداس السماوية دائساً آلام هذا العالم. صار المسيح طريقًا للحياة الأبدية، وكل من يثبت فيه يثبت في الحياة الأبدية ولا يكون له موت بل إنتقال. ويصير المسيح أيضًا طريقا نحيا فيه في هذا العالم في فرح ينتصر على كل آلام هذا العالم.

وما الذي يفصلنا عن الطريق أي المسيح؟ إنخداعنا بملذات العالم الباطل. لذلك يحدثنا المسيح عن أنه أيضاً هو الحق، ومن يعرفه يتحرر من العبودية للباطل (يو32:8).

والحق= الحق هو الشيء الحقيقي الثابت في مقابل الباطل الذي هو العالم المخادع كالسراب. مثال : مجد السماء هو حق، أما أمجاد العالم فهي خداع، والسبب أن أمجاد العالم قد توجد اليوم ولا توجد غدا، وهي تزول أو نموت نحن ولا نأخذها معنا. أما أمجاد السماء فهي أبدية لا تزول. مثال آخر : الفرح الذي يعطيه الله لأولاده على الأرض وسط آلام العالم، هذا حق يدوم ولا ينزعه شيء (يو16 : 22). أما اللذات الحسية فهي باطل وعاجزة عن أن تعطى سلاما أو فرحا لأحد.  ولنسأل أنفسنا هل اللذات الحسية قادرة على أن تعطى سلاما وفرحا لإنسان مهدد بالموت بسبب مرض خطير…قطعا لا. والعكس فأولاد الله يعطيهم إنتصارا على مخاوف الموت. ألم ينام بطرس في السجن وهو عالم أن هيرودس مزمع أن يقتله بالسيف بعد ساعات. والفتية في أتون النار يمشون مع مرسل من الله في فرح غير شاعرين بآلام النار. وداود لا يخاف من الجيوش المحيطة (مز26). مثال ثالث : هل يعطى المال أمانا لأحد. من المحزن أن نسمع أن أغنى أغنياء الأرض مات جائعا، إذ دخل خزانته المملوءة ببلايينه ومجوهراته، وكان يدخلها يوميا ليستمتع بما فيها من كنوز. وإنغلق بابها السري عليه يوما، وكان قد أخفى مكان هذه الحجرة السرية عن كل إنسان. إلى أن اكتشفت هذه الحجرة بعد سنوات كثيرة. ووجد أن هذا البليونير داخلها وقد كتب “مات أغنى إنسان جائعا”.

كلمة الحق تعني الشيء الثابت، الذي لا يتغير، لذلك هي تعني ذات الله “الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران” (يع1 : 17). ورسالة المسيح كانت أنه يستعلن الحق ويستعلن الآب مصدر كل حياة وكل مجد وكل فرح حقيقي (يو18:1) . فالإنسان بسبب الخطية فقد معرفة الله أما المسيح فهو الوحيد الذي يعرفه ويُدركه ونحن لا ندركه (وإذ لم يدرك الإنسان الله عبد الشمس..إلخ = عبد الباطل إذ لم يعرف الحق).

ملحوظة :- [الآب كلمة سريانية تعني المصدر فَضَلَّت اللغة العربية إستخدامها تمييزاً للآب عن أي أب آخر].

مشكلة الإنسان أنه يُدرك ما يتلامس معه، فيتصور أنه الحقيقة. الإنسان رأى أن الشمس تعطى نورا ودفئا فتصورها مصدرا للحياة فألهها. وهكذا تصور الإنسان أن اللذات الحسية هي حقيقة لأنه يتلامس معها بسهولة إذ أنها تشبع غرائزه. لكن الحق أيضًا يمكن إختباره. ولقد جرب داود هذا فقال “الرب يعطى لأحبائه نوما” (مز127: 2)(1) وجربه بولس الرسول وإختبر “سلام الله الذي يفوق كل عقل” (فى4 : 7) . ولذلك ينصحنا بولس الرسول قائلا “غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى، لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية” (2كو4 : 18) .

والمسيح لا يُعَلِّمْ الحق عن الله، بل هو الحق الإلهي نفسه، الحق الكامل المطلق ليس فيه ذرة بطلان ولاشك بل هو يبدد كل ما هو باطل وما هو خطأ. فالآب حق والمسيح الابن هو حق. المسيح الحق أعلن الآب الحق، فلأننا كان لا يمكن لنا أن نرى الآب الحق، تجسد الابن لنرى فيه الحق متجسدا. وأرسل لنا الروح القدس روح الحق (يو14 : 17) ليعرفنا الحق فنميز بين الحق والباطل، ولا نعود ننخدع وننجذب للباطل بل ونشهد للحق الذي إختبرناه، وهذا معنى “تعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو8 : 32). فمن تذوق الفرح الحقيقي لا يعود ينخدع بالملذات الحسية، ومن عرف معنى أن المسيح هو كل شيء له، لن يشعر باحتياج لأحد ولا يشعر بأن المال قادر أن يؤمن له مستقبله فيعبده كسيد.

ورسل المسيح بوحى من الروح القدس كتبوا الكتاب المقدس وهو حق. وفي الكتاب المقدس كلمة الله نرى صورة للمسيح الحق. المسيح بتجسده أعلن الحق وبعد صعوده أرسل لنا الروح القدس، روح الحق ليعلن الحق في قلوبنا، ويرسم لنا صورة للمسيح الحق الذي ما عدنا نراه بالجسد بعد صعوده.

فالمسيح هو الذي أعلن الحق، أعلن الله وأدخله إلى العالم في شخصه فهو “بهاء مجده” إذ هو حامل لملء اللاهوت (كو9:2-10). هو الله الابن وهو استعلان الآب. هو الوحيد الذي يشهد للحق (يو37:18) وبه نعرف الحق (1يو20:5 + يو14:1). فالذي يدرك المسيح يدرك الله الآب. المسيح هو الحق لأنه كلمة الله، وهو يعلن لنا كل ما يلزمنا معرفته عن الله وعن أنفسنا. والمسيح هو الحق معْلَناً في قداسته ومحبته. المسيح هو الحق والعالم هو الباطل. المسيح هو الحق الذي ينبغي أن نؤمن به ونشهد له حتى الموت. هو أظهر الحق بأقواله وأعماله. المسيح هو الدائم للأبد والذي يعطي فرحاً حقيقياً لكن العالم غاش وخادع بملذاته وزائل كما اكتشف هذا سليمان أحكم حكماء العالم وأغناهم بعد أن جرَّب كل الملذات الحسية المتاحة وإكتشف بُطْلها فقال عنها “باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح” سفر الجامعة). قبض الريح = (سراب) فالعالم يبلى وينتهي وغير قادر أن يشبع أحد وعاجز عن أن يعطى عزاء وفرحا لمتألم. لذلك فهو ليس حق بل كذب. فالحق الوحيد الذي لا يتغير هو الله. ومن يكتشف الحق ويعرفه يثبت في الطريق فتكون له حياة.

العالم الباطل يعطى ملذات حسية ولكنها كالماء المالح، من يشربها يعطش ويموت أما الحق فهو يعطى ماء مرويا من يشرب منه لا يموت ولا يعطش كما قال المسيح للسامرية.

والحياة= وهنا نسأل ما هي الحياة الأبدية، هل أن يحيا إنسان إلى الأبد ولا يموت؟ قطعا هذه إجابة ناقصة، فالشيطان وكل أتباعه سيعيشون إلى الأبد، ولكن في نار لا تطفأ ودود لا يموت وفي ظلمة. إذاً السؤال هو عن نوعية الحياة. فالحياة الأبدية تعنى المسيح الذي قال عن نفسه “أنا هو القيامة والحياة” (يو11 : 25) .

ولأن المسيح هو النور الحقيقي فمن له الحياة الأبدية يكون في نور أبدى. ولأن الله يقول أكون مجدا في وسطها” (زك2 : 5) فمن له الحياة سيكون في مجد أبدى ونور أبدى وفرح أبدى. ولنرى عكس ذلك راجع قول الرب لمن كان غير أمينا في وزنته “إطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت25 :  30) .

والمسيح أتى ليعيد لنا هذه الحياة الأبدية بمجدها ونورها وفرحها.

 المسيح هو الحياة، له الحياة في ذاته (يو5 : 26)، وهو قادر أن يمنحها لمن يريد، وهو

يعطيها لمن يثبت فيه (يو4:1 +24:5 +57:6، 63 + 10:10+31:20). إذاً المسيح لا يمنح حياة غير حياته ، بل حياته هو ذاته. وهو مات ليفتدينا ويعطينا حياته فهو إشترى لنا الحياة بموته ووهبنا إياها بروحه بعد أن فقدناها بالخطية. “أنا إختطفت لي قضية الموت” لكن المسيح الحي المحيي، بل الحياة ذاتها أتى ليعطيني حياة فلا أظل ميتاً للأبد. الموت هو انفصال عن الله. والمسيح أتى ليتحد بي فتعود لي الحياة “لي الحياة هي المسيح” (في23:1) وهو حياة أبدية “من يأكلني يحيا بي”.

إذاً المسيح هو الطريق الذي نثبت فيه لنصل به إلى الحياة ويكون معنا كحق نشهد له في جهادنا. كل طريق غيره ضلال وكل حق سواه باطل وكل حياة عداه موت. بدون الطريق لا تقدم ولا مسير وبدون الحق فلا معرفة وبدون الحياة فهناك موت. هو الطريق الذي علينا أن نتبعه والحق الذي علينا أن نؤمن به والحياة التي نسعى لنوالها. هو الطريق الوحيد للحياة الأبدية. هو حياة الله المعطاة للإنسان. وهو الطريق الذي به نشعر بأبوة الله لنا.

أنا هو= تشير للكيان الحي الإلهي. وأنا هو = هي الترجمة العربية للفظ يهوه العبرية.

ليس أحد يأتي للآب إلاّ بي= هدف التجسد هو وصول الله للإنسان ووصول الإنسان إلى الله الآب. وهذا تم بالتجسد (الطريق) ثم استعلان الآب في الابن (الحق) ثم موت المسيح لنقبل حياته المنسكبة بالموت (الحياة). ومن يثبت فيه يحمله إلى حضن الآب فهو في حضن الآب(يو1 :18) والذي يثبتنا في الابن هو الروح القدس.

في الآيات السابقة نجد المسيح يعزي تلاميذه ويرسم لهم طريق السلام. [1] الإيمان والثقة به [2] هم لهم مكان في بيت أبيه وسيأتي ويأخذهم إليه [3] هو الطريق والحق والحياة.

 

آية (7): “لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.”

هنا مراجعة وعتاب فالمسيح معهم كل هذه السنين ولم يعرفوه. فهو قال لهم أنه “أنا هو” وأنه النور والخبز والقيامة.. ورأوا أعماله وإستمعوا أقواله. فالآب غير مدرك ولا منظور ولكن المسيح أعلنه في نفسه “هو خَبَّر” (يو 1:18) وعًرَّف به العالم (لو22:10) [في (لو21:10-24) نرى أن فرحة الابن هي بأن نعرف الآب. وما أخفى عن الحكماء هو معرفة الآب التي أعلنها للأطفال (المتضعين البسطاء) وما ينظرونه ولهم الطوبى عليه هو شخص الآب في صورة المسيح]. لذلك كل من رفض المسيح فهو قد رفض الله، فكيف يرفض المسيح الذي هو صورة الله (يو23:15-25). من الآن تعرفونه= من ساعة بدء المحنة التي ستأتي بعد دقائق والتي تُكَمَّلْ فيها مشيئة الآب وطاعة الابن. ولكن التلاميذ لم يدركوا كل هذه الأسرار الخاصة بالإبن إلاّ بعد حلول الروح القدس الذي أعطاهم فهماً لسر الآب والابن. ونلاحظ أن من ساعة الصليب سيبدأ الإعلان عن محبة الآب والابن لنا.

وقد رأيتموه= رأوا المسيح الذي هو صورة الآب. فداء المسيح أدى لإرسال الروح القدس الذي يعطينا رؤية حقيقية بها نعرف الآب والابن.

ومن (1يو13:2، 15) نفهم أن الطريق لمعرفة الآب هو عدم محبة العالم وأن نغلب الشرير. فمحبة العالم تعمى العين عن معرفة الله، لذلك “محبة العالم عداوة لله” (يع4 : 4). وكلما مات الإنسان عن محبة العالم ناظرا للسماء تنفتح عيناه على الله ويعرفه. وهكذا نعرف الله ونتذوقه خلال قبولنا للألم وللصليب، فقبول الصليب بشكر يعبر عن الثقة والحب لله عند الإنسان، وكلما إرتقى الإنسان في محبته إنفتحت عيناه فيعرف الله.

لو كنتم قد عرفتموني= هنا نفهم لماذا قال المسيح خيرٌ لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي (يو7:16) فالمسيح له معهم الآن بالجسد أكثر من 3 سنين ولم يعرفوه، أما حين حل عليهم الروح القدس عرفوه برؤية حقيقية.

 

آية (8): “قال له فيلبس يا سيد أرنا الآب وكفانا.”

المشكلة هنا أن فيلبس يريد أن يرى شيئًا محسوسًا بعينيه كما حدث أيام موسى ورأوا الله على الجبل، كان فيلبس يظن أن المسيح يريه ما هو أعظم. وكيف يرى اللامحدود بعينيه. هذه الطلبة تشبه طلبة موسى “أرني مجدك”. هو تصوَّر أنه كما يرى المسيح بالجسد يمكنه أن يرى الآب. ولكنه لم يُدرك أن تجسد المسيح هو الذي مكنه من رؤية الجسد، أما اللاهوت فلا يُرى بالعين قط (يو18:1) ولكن داخل المسيح يسكن كل ملء اللاهوت. ومن يسمع كلام المسيح يدرك أبعاد لا يمكن إدراكها بالحواس الجسدية (يو43:8) فإذا تكلم الابن أو عمل، يظهر فيه الله الآب غير المنظور، فالمسيح يستعلن الآب بأعماله وأقواله. وفيلبس أخفق في أن يرى الآب المتكلم في الابن. هم لم يفهموا في ذلك الوقت أن الآب في الابن والابن في الآب. المسيح في تواضعه ومحبته.. أي صفاته أعلن صفات الآب. وفي أعماله (شفاء، إقامة أموات..) أعلن إرادة الآب من نحو البشر. وفي تعاليمه كان الآب يتكلم فيه (يو49:12-50 + عب2:1). لذلك فمن رأى الابن فقد رأي الآب. (راجع أيضًا بنفس المعنى تث15:18-19).

 

آية (9): “قال له يسوع أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب.”

المسيح هنا يعاتب فيلبس على إخفاقه هذا. وسبب هذا الإخفاق أن فيلبس كان مرتبطًا بالعالم ولا يفهم سوى الماديات والمحسوسات “لا يكفيهم خبز بمئتي دينار” (يو7:6) ويخاف الموت وهذا ما ظهر عند هروبه ساعة الصليب فمحبة العالم والماديات تطفئ بصيرة الإنسان الروحية (يع4:4). فكيف تقول أنت أرنا الآب= هنا المسيح يواجه فيلبس بحقيقة صعبة وهو أنه لم ير المسيح بعد، وهذا ثبت من أنه لم ير الآب، بينما أن المسيح كان يستعلن الآب. وأنا معكم= ولم يقل وأنت معي، لأن المسيح هو الذي أتى لفيلبس وللبشرية كلها وليس العكس. وكان هذا عمل الروح القدس أنه يعطينا رؤية صحيحة للمسيح (يو12:16-16).

 

آية (10): “ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال.”

أنا في الآب والآب فيّ= لذلك فأنا الطريق إلى الآب.

ألست تؤمن = الإيمان هو الوسيلة لنثبت في هذا الطريق. والإيمان هو الذي يعطى الرؤية الحقيقية أن المسيح الابن والآب هما كيان واحد بلا انفصال (يو30:10). والجسد الذي أخذه الابن لذاته ووحده بلاهوته قد دخل في هذا الكيان دخولاً أبدياً متميزاً (يو13:3). وهذه حقائق ندركها بالإيمان، فالإيمان يعطى حياة، ومن له حياة هو قادر أن يبصر (يو36:3) “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو1 : 4) .

ثم يأتي الكلام عن الروح القدس في بقية إصحاحات الباراقليط، ومن ثمار الروح القدس الإيمان (غل22:5). وهو يعطي رؤية صحيحة عن المسيح فنؤمن به (يو16 : 14). لذلك قال الرب “خيرٌ لكم أن أنطلق..” (يو7:16). فرؤية المسيح بالجسد لم يستفيدوا منها كثيراً في معرفة المسيح (2كو16:5).

والمسيح يقدم برهان وحدته مع الآب على مستويين :-

[1] كلامه= الكلام الذي أكلمكم به.. هو يعلن الآب لنا بكلماته وأعماله. فالآب يتكلم في ابنه (عب1 : 2 + تث18 : 18) . لست أتكلم به من نفسي= أي ليس كلام إنسان عادي كما ترونني أمامكم الآن. بل هو كلام الله الآب يعلنه فيَّ.

[2] أعماله= هو يعمل الأعمال فالمسيح هو قوة الله (1كو1 : 24)، وبه عمل العالمين (عب1:1-2) ، فأعمال المسيح هي استعلان إرادة الآب وإظهار محبته ومشيئته من نحو الإنسان. وفي (عب1 : 3 ، 4) نرى المسيح صورة الله الذي قدم الفداء للإنسان، ليرث المجد، وذلك بتجديد طبيعة الإنسان إذ طهره من خطاياه.  فحينما يقيم المسيح موتى فهو يعلن أن الآب يريد لنا حياة أبدية وهكذا. الآب يعمل بالإبن فهو ذراع الآب (أش9:51-10 + 10:52) لذلك يقول “جئت لأصنع مشيئة الذي أرسلني”. فالآب يريد

فهو أقنوم الإرادة، والابن ينفذ إرادة الآب فهو أقنوم التنفيذ.

تأمل في “جئت لأعمل مشيئة الذي أرسلني” :- كان المسيح يقدم نفسه دائماً كمثل أعلى للإنسان الجديد الذي يسمع للآب ويطيعه. فالمسيح كان يطبع فينا صورته فنطيع الآب. وطاعة المسيح الكاملة كإنسان للآب، جعلت كل من يثبت في المسيح يُحسب طائعا (كو1 : 28). ولذلك كان الله يتنسم رائحة الرضا مع ذبيحة المحرقة التي تشير للطاعة الكاملة للمسيح، والسبب أن الآب كان يرى أنه بطاعة المسيح سيعود له أولاده الذين سيحسبون طائعين كاملين في المسيح.

وكلام المسيح هنا نفهم منه أننا عدنا للحالة الفردوسية الأولى حين كان الله يكلم أبوينا آدم وحواء. ولكن لأننا ما عدنا نحتمل أن يكلمنا الله في صورة مجده لئلا نموت، تجسد الابن وصار الآب يتكلم في ابنه.

 

آية (11): “صدقوني أني في الآب والآب فيَّ وإلاّ فصدقوني لسبب الأعمال نفسها.”

المسيح هنا يطلب أن يصدقوه وإن لم يصدقوا فإن أعماله تشهد له. إني في الآب والآب فيّ= هذه تعني أن الآب والابن هما واحد وتعلن التساوي المطلق. لكن التمايز بينهما يعني أن لكل أقنوم عمله فالآب يريد والابن ينفذ هذه الإرادة ويعلنها وهذا معنى الآية السابقة. وهذه الحقيقة نستنتجها من كلام المسيح عن إرسال الروح القدس فمرة يشير لأن الآب سيرسل لهم الروح القدس ومرة أخرى يقول أنه هو الذي سيرسل الروح القدس (يو26:14 + يو26:15) والآن إن لم يصدقوا المسيح فليصدقوه بسبب أن الأعمال التي يعملها تشهد بأن الآب فيه وهو العامل فيه. إن هدف المسيح هو أن يظهر محبة الآب لهم وأن الآب يشتاق أن يُسعِد البشرية، وأن هذه هي مشيئته أن يعود البشر للحياة مع الله وأن سعادة المسيح تتركز في توصيلنا للآب لنشترك في نفس الحب الذي به يحب الآب الابن (يو25:17-26) وأعمال المسيح تنطق بحب الآب فهو يشفي المقعد ليعلن أن مشيئة الآب هي تصحيح ما فسد في طبيعتنا العتيقة. ويفتح أعين الأعمى ليعلن أن مشيئة الآب هي أن النور الإلهي يعمل في الطبيعة العتيقة. وهو يقيم من الأموات ليعلن أن إرادة الآب هي أن يعطينا حياة أبدية. صدقوني إني في الآب والآب فيّ= هذه طبيعتي أنني غير منفصل عن الآب. ولذلك فأنا الطريق إلى الآب. وهذه تحتاج لإيمان. وإن لم تفهموا هذا فصدقوني بسبب الأعمال= وهذه تحتاج لتصديق بالعقل.

 

آية (12): “الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا اعملها يعملها هو أيضًا ويعمل اعظم منها لأني ماض إلى أبي.”

في الآيات (8-11) كان المسيح يركز على العلاقة بينه وبين الآب والآن ينتقل ليوضح هذه العلاقة بالنسبة للتلاميذ. فمن يؤمن بالمسيح (ومن يؤمن بالمسيح يؤمن بالآب حتمًا) سيستطيع أن يعمل نفس الأعمال التي عملها الآب بالابن (أف17:3-20) وذلك لتكمل الخدمة وتستمر الكنيسة في مواجهة اضطهاد العالم.

الحق الحق= إذًا الرب سيعلن حقيقة جديدة. وهي أن مفارقته لتلاميذه ستكون سبب قوة عظيمة لهم. والسبب أنه سيكون فيهم. وهو سيكون في مجد الآب. فسبب القوة التي ستكون فيهم هو المجد الذي سيكون المسيح فيه. المسيح رفع البشرية فيه. ومن يعطينا حياة المسيح فينا هو الروح القدسماضٍ إلى أبي= رفع للبشرية للسماء وإكمال الفداء وإرسال الروح القدس الذي يجدد طبيعتكم ويثبت حياتي فيكم (2كو 1: 21، 22)، فتصير أعضاءكم آلات بر (رو6) استعملها أنا لعمل الأعمال. ويعمل أعظم منها= فنازفة الدم شفيت بلمسها للمسيح أمّا بطرس فكان ظله يشفي المرضى (أع15:5) وبولس كانوا يأخذون المآزر من على جسده فتشفي الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة (أع12:19). وأيضًا نحن لنا فكر المسيح (1كو16:2) فنحن نعمل أعماله ويكون لنا فكره، فهو زرع حياته فينا. وما نعمله هو باسمه. ولكن كان التلاميذ يصنعون هذه المعجزات باسم المسيح أي بقوته (أع6:3) (فهم كطفل يمسك أبوه بيده فيرسم لوحة رائعة) لذلك فكل عمل نعمله هو باسم المسيح. حتى صومنا وصلاتنا. وكان الناس يفرحون عندما يرون أعمال التلاميذ المعجزية، وبالتالي يؤمنون بالمسيح لأني ماضٍ إلى أبي= أي لن يستطيع التلاميذ أن يفعلوا شيئًا إلاّ بعد أن يتم الفداء ويذهب المسيح إلى الآب ويرسل الروح القدس يعمل فيهم ويتمم إتحاد المسيح بتلاميذه وثباته فيهم. ويشفع فيهم أمام الآب فيواصلون عمله الذي بدأه على الأرض (أع1:1 + يو39:7). فأغصان الكرمة لا تأتي بثمر إلاّ إذا اتحدت بالكرمة إتحادًا قويًا. وأهم معجزة سيقوم بها التلاميذ هي إقامة الموتى بالخطايا، فيأتون بهم إلى حياة أبدية. ولذلك آمن بعظة بطرس 3000 نفس. أعمال التلاميذ كانت أعظم لكن كان المسيح هو العامل فيهم. عمومًا العمل هدفه مجد الله. والتلاميذ ليغيروا شعوب وثنية احتاجوا لأعمال أعظم. فما تحتاجه الكرازة يعمله المسيح في رسله. فكانت أكبر معجزة تغيير الأمم الوثنيين إلى المسيحية. وبهذا نفهم معنى آخر لقول الرب لأني ماضٍ إلى أبي= فلن أكون موجودًا بالجسد، وأنتم ستكملون العمل ونشر الإيمان، لكنني سأعطيكم حياتي وأرسل لكم الروح القدس.

 

آية (13): “ومهما سألتم باسمي فذلك افعله ليتمجد الآب بالابن.”

مهما سألتم= أي صليتم. وهنا نرى أننا نطلب من الآب باسم المسيح، والمسيح يعمل والروح القدس يعلمنا ماذا نطلب (يو5:15+ أف18:2+ رو26:8). والروح يعلمنا أن نطلب بحسب مشيئة الله ليستجيب لنا الله (1يو14:5). وحينما يستجيب لنا الآب، فالإبن يعمل = فَذلِكَ أَفْعَلُهُ ، حينئذ يتمجد الآب بالإبن= لأننا سنمجد الآب، وهذا هو هدف الابن، أن يتمجد الله وليس لإرضاء الذات وشهواتها. لذلك يمكن أن تعملوا أعمال أعظم من أعمالي إذا طلبتم بإسمي لمجد الآب. باسمي = والإسم ليس هو اسم الشخص، لكن هو قدراته وقوته، والمسيح بفدائه صار لنا قبول عند الآب. ولهذا يستجيب الآب لصلواتنا بإمكانيات دم المسيح، وقوة هذا الدم غير محدودة. والأعمال التي نعملها حينئذ هي بقوة وقدرة المسيح القدير= بإسمي= ومازال المسيح هدفه أن يتمجد الآب، فكما مجده هو (يو4:17) يريد أن تلاميذه يكون هدفهم مجد الآب= ليتمجد الآب بالإبن= فالإبن سيعطي قوته للتلاميذ ليعملوا وينشروا الكرازة فيتمجد الآب وهذا هو هدف المسيح دائماً، أن يتمجد الآب. ألم يقل لنا جميعاً “لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (مت16:5)

 

آية (14): “إن سألتم شيئًا باسمي فإني افعله.”

إن سألتم = إعلان عن إرادتنا. وهذه يبدو أنها تكرار للآية السابقة ولكن هناك فرق.  ففي آية (13) يشرح أن الآب يسر ويتمجد بسؤالنا وتنفيذ طلباتنا. أما في هذه الآية نرى أن المسيح يضع كل إمكانياته رهن سؤالنا، أليست حياته فينا، ومن يريد يسأل والمسيح يعطيه أن يعمل، فهو لا يجبر أحد على شيء. بإسمي= الاسم يعبر عن الشخص بكل قوته وكرامته. لذلك فهذه الآية تظهر إمكانيات المسيح الفائقة وتشير لمجد المسيح أيضًا. والدعاء بالاسم يصير هو استدعاء ودخول للحضرة الإلهية. ولذلك ففي بدء القداس يقول الكاهن.. خين إفران إم إفيوت.. أي باسم الآب والابن والروح القدس. وهذا استدعاء للثالوث ليحل ويقدس القرابين وينقل الموجودين إلى الحضرة الإلهية التي للثالوث القدوس وبهذا فإن المسيح أبقى على حضوره السري مع كنيسته في كل حين كلما احتاجوه كمصدر قوة وعمل وعزاء. نحن نطلب الآن من الآب ليس فقط عن طريق علاقة الله بكل البشر صالحين وأشرار، بل بطريق جديد طهره المسيح بدمه. وهذا هو مصدر القوة الحقيقية، وما يعطينا ثقة للسؤال هو دالة البنين التي كانت لنا بعمل المسيح. الآية السابقة يطلب فيها المسيح أن نعمل من أجل مجد الآب، وهو سيعطينا القوة في كل عمل نعمله. وفي هذه الآية يقول السيد المسيح.. أما عن حياتكم الشخصية فأنا مسئول عنها، واطلبوا أي شيء وأنا سأعمله لكم. إذًا بضم الآيتين يصبح المعنى. أننا نعمل لمجد الآب والمسيح مسئول عنا ويعمل فينا بقوته. وفي كلا الأمرين فقوته = اسمه يعيننا.

 

الآيات (15-16): “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا اطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد.”

المسيح هو الطريق للآب، لكن كيف نثبت في الطريق “اثبتوا فيَّ”. الطريق هو بحفظ الوصية ، فلا شركة للنور مع الظلمة. وكيف يمكننا أن نحفظ الوصية؟ هنا يعد المسيح بأن يرسل الروح القدسوأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر = في (يو15 : 26) يقول المسيح أنه هو الذي سيرسل الروح الْمُعَزِّي، لكن هنا نراه يطلب من الآب، ومن هذا نفهم معنى شفاعة المسيح الكفارية أمام الآب، فبدم المسيح وفدائه صار هناك إمكانية إرسال الروح القدس للإنسان. بل صار لنا أن نطلب باسم المسيح والآب يعطينا ما نطلبه.

والروح القدس هو الذي يساعدنا على حفظ الوصية. وهنا نرى سبباً آخر لقول الرب “خيرٌ لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” فالروح هو الذي يثبتنا في الطريق.

في الآيات  (12 – 14) يكلمنا المسيح عن الإيمان الذي به نسأل فيستجيب لنا.

وفي الآيات (15 – 16) نسمع عن الحب. فالإيمان يُخْتَبَرْ بأن نسأل أسئلة ونطلب ان يكون لنا عمل لمجد اسمه ، ومحبتنا تختبر بأن نحفظ الوصايا أي نطيع الوصايا. والسيد يعد بإرسال الروح القدس الذي يعيننا على حفظ الوصايا (رو26:8). الإيمان يأتي أولًاً ثم الحب. فمن يؤمن تكون له حياة، والحى قادر أن يبصر. ومن إنفتحت عيناه يرى المسيح. ومن يرى المسيح سيحبه لأن المسيح يستحق هذا لحلاوة عشرته. ومن يحب يطيع الوصايا والروح القدس هو الذي يعطينا الحب فنحفظ الوصايا. فالروح القدس.. إلخ.

 

آية (17): “روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما انتم فتعرفونه لأنه  ماكث معكم ويكون فيكم.”

كما أن المسيح هو الحق كذلك الروح القدس هو حق. ولأن المسيح ماضٍ فهو يرسل الروح القدس لهم. وهو الحق الذي سينطق على أفواههم وفي قلوبهم ليسمعهم العالم كله. وهو روح الحق لأنه يرشد للحق، وهذا في مقابل روح الضلال الذي في العالم. الابن كان يعلن الآب.. هذا هو الحق الذي يقوله المسيح ويعمله. والحق الذي يقوله ويعمله الروح القدس فيهم وبهم هو الإعلان عن الابن واستعلان الآب الذي في الابن (1يو13:4-15). هو يرشدنا للمسيح الحق “يأخذ مما لي ويخبركم” (يو14:16) أي يعطينا رؤية حقيقية له. والحق= غير متغير بل ثابت. فمن هو مملوء بالروح لا يتقلب ولا يتغير. لا تجده يوماً في فرح ويوماً آخر في حزن وهكذا لا يتغير بتغير الظروف.. لا يستطيع العالم أن يقبله= فالروح القدس هو روح الحق، أما روح العالم فهو روح التزييف والضلال. وكما رفضوا المسيح وصلبوه وهو الحق (يو24:15-25 + لو25:17) هكذا رفضوا الروح القدس الذي ينطق على فم التلاميذ برفضهم للتلاميذ ورفضهم للروح القدس لأنهم يرفضون المسيح والروح يشهد للمسيح (يو21:15). والعكس فمن يقبل المسيح يرفض العالم (1يو15:2). يقصد بالعالم الذين أحبوا العالم فحملوا اسمه. الروح القدس لا يقبله العالم فهو يدعو للصلاة والزهد والتسبيح فنجد فرح حقيقي، أما العالم فيبحث عن الملذات الحسية لذلك لن يقبل من يدعوه إلى عكس ذلك. من أحب الظلمة لا يطيق أن يفضحه النور. لا يراه ولا يعرفه= الروح القدس لا يُرى بالعين المجردة، ولكن يُرى بالعقل الروحي. والعالم ليس لديه هذه الإمكانية، فهو حق لا يُدركه من انشغل بالعالم بل يُدركه من أعطاه الله وانشغل بالحقائق الروحية والممارسات الروحية (عب14:5) لتصير له الحواس مدربة. وكل من يتوقف من المؤمنين عن الممارسات الروحية يتوقف فيهم مركز الاتصال بالله ويفقدوا حساسيتهم وتصبح معرفة الله غير واضحة لهم، وهذا يحدث لمن ينشغل بالمحسوسات. مثل هذا يصير إنسانًا طبيعيًا وهي الصفة الدنيا أي إنسان العالم (راجع 1كو11:2-16). فمن ينشغل بالروحيات ويقارن الروحيات بالروحيات يصلي ويقرأ كتابه المقدس ويتأمل فيه تصير له الحساسية الروحية وحواسه الروحية مفتوحة، يرى الحق ويمتلئ سلامًا وفرحًا وراحة. أمّا من ينشغل بالعالم لن يجد الراحة فالإنسان مخلوق على صورة الله ولن ترتاح الصورة إلاّ على أصلها. الحق عكس العالم الباطل، فالعالم متغير متبدل تافه، لا أمان له ومن يلصق نفسه به يصير مثله، أمّا الحق فلا يتغير ولا يتبدل. من يعيش وراء العالم سيعلو وينخفض معه كموج البحر ولا يهدأ إلى أن ييأس، أما من يعيش مع المسيح فسيجد الفرح (يو27:14+ 22:16). لا يستطيع أن يقبله= أي لا يستطيع أن يستقبله فليس له جهاز إستقبال الذي به يدرك الحق، هو اطفأ الروح لذلك فمراكز الوعي الروحي عنده معطلة، حواسه التي تعمل هي حواس الجسد الذي يدرك الملموسات، الشيطان أعمى العالم عن كل ما هو سماوي بأن فتح أعين العالم على كل ما هو أرضي ومادي وجسداني. إذًا مثل هذا لن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. بل إن من انفتحت حواسه على العالم صارت ملذاته في العالم بل أصبح لا يحتاج لله وهذا يغلق جهاز الإستقبال تمامًا. فالعالم لا يدرك سوى المحسوسات (2كو3:4-4 + أف1:2-5 + 1يو19:5-20). فالعالم مملوء شرًا وأباطيل فكيف يعرف الحق والروح القدس هو روح الحق. هذا العالم لا يفهم الأمور الروحية. فالروح القدس لا يُعرف من الخارج بل من الداخل نشعر به وبعمله. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم= ماكث معهم الآن بمكوثهم مع المسيحويكون فيكم= حينما يرفع المسيح سيأتي الروح القدس ليقيم فيهم ويشترك معهم بل يعمل الأعمال التي سيعملونها. الروح القدس يقيم فينا ويدرب حواسنا فيفتحها ونكون هياكل له ويغير طبيعتنا ويقدسها ويجددها كأنه يخلقها من جديد. أنتم تعرفونه= أنتم الذي سيسكن الروح القدس فيكم ستعرفونه وتدركون عمله، فهو يبكت ويعلم ويذكر ويعطي كلمة حكمة في حينه ويعزي ويعطي فرح وسلام بل يفتح الأعين الداخلية على السماء (1كو10:2) ويعطي قوة وقت الاضطهاد. بل يغير طبيعتنا من طبيعة عتيقة إلى خليقة جديدة (2كو17:5)..إلخ كل هذا ندركه داخليًا ونعرفه. كل ما يلاحظه العالم هو التغيرات التي تحدث في سلوكياتنا. ماكث= لن يفارقكم كما سأفارقكم أنا الآن بالجسد. الحق= هو وصف لله. فالآب حق (يو3:17) والمسيح حق (6:14). والروح القدس حق (هذه الآية) وهو يعلن حق الله ومجد الله وصدق ومحبة الله وشخص ابن الله ويرشد للحق.

 

آية (18): “لا أتترككم يتامى أني آتى إليكم.”

لا يزال المسيح يعزي تلاميذه على الفراق بعد موته وقيامته ولكنه يعطيهم وعد بأنه سيظل حاضرًا في كنيسته فهو رأس الكنيسة (مت20:28) ولكن ذهابه للآب ضروري لصالحهم. والروح القدس يكشف لنا عن عمل المسيح ووجوده في كنيسته وعمله لي شخصيًا (غل20:2) لا أترككم يتامى= إشارة لموته. فهم سيشعرون باليتم إذ يفارقهم السيد، لكن الروح القدس عمله التعزية. إني آتي إليكم= إشارة لقيامته.

 

آية (19): “بعد قليل لا يراني العالم أيضًا وأما انتم فترونني أني أنا حي فانتم ستحيون.”

لا يراني العالم= يقصد بالجسد. فالعالم لم يكن يدركه إلاّ كإنسان وبموته لن يعودوا يرونه. أمّا أنتم فترونني= ترونني هنا تفيد الرؤيا اليقينية. أي يرونه بالرؤية الروحية التي يعطيها الروح القدس للمؤمنين. وبالإضافة لذلك فهم رأوه فعلاً بعد القيامة. إني أنا حي= المسيح يشير لقوة القيامة التي فيه وكأن الموت سيعبر به عبوراً وكأنه لم يكن. هو حي وبعد القيامة والصعود سيظل مع الآب في المجد. وكل من يؤمن بالمسيح تكون له حياة= فأنتم ستحيون= حياة المحبة والإيمان والرجاء على الأرض وحياة المجد في الأبدية. أنا حي فأنتم ستحيون= فالمسيح يعطينا حياته (في23:1+ غل20:2). الحياة التي فيه ستكون هي حياتنا لأننا نتحد به في المعمودية (رو6: 1 – 14).

 

آية (20): “في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وانتم في وأنا فيكم.”

هو سبق وقال في الآية السابقة “ترونني” أي الروح القدس يستعلن المسيح، بل سنعرف طبيعة المسيح وأنه في أبيه وأننا فيه وهو فينا سر حياتنا. هنا نرى كيفية امتداد حياته إلى تلاميذه وأن ذلك يكون بالروح. في ذلك اليوم= يوم الخمسين، يوم حلَّ الروح القدس روح المعرفة والفهم= تعلمون. والروح القدس يشهد للمسيح أنه ابن الله (يو30:20-31) وهو يستعلن علاقتنا بالمسيح وبأننا صرنا ورثة (رو14:8-17). إني أنا في أبي= يشير للوحدة القائمة بين الآب والابن، وحدة الطبيعة أو الجوهر، وجوهر الله ألوهيته. هذه الحقيقة لا يفهمها التلاميذ الآن، لأنهم يرون المسيح كإنسان. فالآب والابن هما بالطبيعة متحدان ليكونا الذات الإلهية الواحدة.. الله. لهما المشيئة الواحدة. الروح القدس يشهد لنا بهذه الحقيقة. ما لستم تدركونه من علاقتي بالآب سيشرحها لكم الروح القدس. فالروح يعطي إنفتاح للذهن. أنتم فيَّ وأنا فيكم= المتكلم هنا هو المسيح ابن الله المتجسد، الذي اتحد بالطبيعة البشرية، وصارت الكنيسة جسده. وقوله أنا فيكم أي حياتي صارت فيكم وأنتم فيَّ أي طبيعتكم صارت فيَّ. وصرتم أعضاء جسدي. وهذا هو ما فتح لنا المجال لنطالب بحق هذا التجسد. وهذا الحق هو الشركة معه أو فيه أو في حياته، ويكون له هو الشركة في حياتنا. وهذا معنى قوله “أنا أمضي لأعد لكم مكاناً” (2:14) أي يُدخِل جسد بشريتنا الذي فيه للمجد، فيكون لنا إمكانية أن ندخل نحن أيضاً. هي حالة إتحاد. ولكن هناك فرق شاسع بين قوله أنا في أبي.. فهنا إتحاد لاهوتى على أساس وحدة الطبيعة أي الجوهر الإلهي، وبين قوله أنا فيكم.. فهنا إتحاد بين جسد المسيح البشرى وجسدنا البشرى. المسيح هو الله المتأنس الذي تجسد وصار له جسد بشريتنا، هو بلاهوته متحد لاهوتيا مع الآب، وهذه وحدة باللاهوت. والمسيح بجسده اتحد بجسدنا. وكان هذا ردا على شكوى أيوب “ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا” (أى9 : 33) فجاء المسيح ليصنع هذا الصلح بين الله والإنسان، فبيده الإنسانية أمسك ببشريتنا وبلاهوته هو متحد بالآب.

الأولى أنا في أبي تعني أنهما ذات واحدة ولكن أنا فيكم لا يوحد الذات ولا يرفع الفوارق بل يعطي حقوقاً مجاناً ويُعبَّر عنه بمفهوم الشركة في حياة المسيح (في9:3) أوجد فيه + (غل20:2 + يو56:6-57) وأنا فيكم= ولأن حياة المسيح أبدية “ولا يسود عليه الموت بعد” (رو9:6). فنحن حين نموت جسدياً سنقوم، فهو أعطانا حياة أبدية. وهذه مثل “يحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف17:3). هذه الشركة معه لن تبلغ مداها إلاّ في الحياة الأخرى، ولكنها تبدأ تتحقق منذ الآن جزئياً على مستوى الاستعلان بواسطة الروح القدس وبتقديس الروح أيضاً وبالتغيير والتجديد المتواصل. بخلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد الذي يتجدد بحسب صورة خالقه. وعلى أساس الإتفاق الكامل في العمل والمشيئة مع الروح القدس لتكميل الحياة المسيحية. ومن له شركة مع المسيح بالروح سيدرك حقيقة المسيح المنيرة وصورته تصبح لا تفارق النفس الواعية بوجوده، وهذا يملأ النفس فرحاً وسلاماً حقيقياً.

أنتم فيّ وأنا فيكم= هذه شركة بيننا وبينه، هي شركة فيها يعطينا حياته ويعطينا أن يشترك معنا في كل عمل وهو يعمل الاعمال فينا ، ويعطينا قداسة، وسلطان على إبليس وعلى الخطية وبهذا يصير لنا سلطان أن نكون أولاد الله.

 

آية (21): “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا احبه واظهر له ذاتي.”

من يحب أحد تصبح وصايا وطلبات المحبوب هي اوامر لمن يحب. وحب الله يسكبه فينا الروح القدس رو 5:5 فيطبع في قلوبنا وصايا المسيح. لذلك فدليل محبتنا للمسيح هو طاعة وصاياه، وبالتالي يثبت فيَ فلا شركة للنور مع الظلمة. ومن هو ثابت ومتحد مع الابن فالآب يحبه، لأن الآب يحب الابن ويحب من هو متحد وثابت في ابنه.

الذي عنده= الذي قد سطرها في قلبه وأطاعها فالطاعة علامة المحبة. ووصايا المسيح هي محبة الكل وخدمة الكل وغسل أرجلهم خصوصًا من قال عنهم إخوته. وحمل الصليب وترك محبة العالم والصلاة بدون ملل لينسكب الروح. وتكريم المسيح يكون بحفظ وطاعة واحترام كلمته وكل وصية قالها.

أبي= هو أب خاص لي. يحبه أبي= “أكرم الذين يكرمونني..” (1صم30:2). ومن يُكرِمْ المسيح بحفظ وصيته يُكرِمْ الآب. ومن يحب المسيح يؤهل ليكون محبوباً من الآب. فلا ثبات في المسيح بدون محبة، ومن يثبت في المسيح الابن ينعم بحب الآب له. فبالحب الذي يحبني أبي به، يحب به الآب من يحبني. فالمسيح هو الحامل لإسمه والآب في الابن. وأنا أحبه= حب الآب هو حب أبوي يدخلنا لميراث البنين وحب الابن هو حب العريس لعروسه. وأظهر له ذاتي هو ظهور فائق ليس كما يظهر لعيوننا المادة والعالم، هو ظهور لا تدركه سوى الحواس الروحية فهو اعلان من الروح القدس الذي يعطينا رؤية حقيقية للمسيح. وتزداد الرؤية وضوحا لمن يمتلئ من الروح القدس. والروح يملأ من يثبت في المسيح. وحفظ الوصايا شرط للامتلاء، فمن يصر على خطاياه فهو يقاوم الروح فينطفئ داخله فيفقد الرؤية. لذلك فهذه المعرفة هي معرفة داخلية للمسيح يعرفها من يحفظ الوصايا أي يحب المسيح. هذه إنارة خاصة من المسيح. هي حالة روحية متقدمة نرى فيها مجد الدهر الآتي. والمسيح يظهر ذاته بحسب احتياج كل واحد (وهذا يتضح من رسائل سفر الرؤيا السبع) فالمسيح كان يظهر لكل كنيسة بصورة تتناسب مع احتياجاتها. إذاً لن يدرك المسيح ويراه بعينه الروحية ويستمتع بنوره سوى من يطيع الوصية. معرفة المسيح لها لذة خاصة تجعل من يشعر بها يحتقر كل ملذات العالم.

 

آية (22): “قال له يهوذا ليس الاسخريوطي يا سيد ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم.”

لم يفهم يهوذا أن الظهور الذي يقصده الرب هو ظهور روحي. فيهوذا كان يتوقع أن يملك المسيح على أورشليم ملكًا ماديًا. فالمسيح يتكلم عن السموات ويهوذا يفكر في الأرض. الرب يعلن ألوهيته ويهوذا ينظر للجسد. يهوذا هو لباوس أو تداوس كاتب رسالة يهوذا وهو أخو يعقوب كاتب الرسالة.

 

آية (23): “أجاب يسوع وقال له إن احبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا.”

المسيح يشرح ليهوذا أنه سيظهر لتلاميذه وسيرونه ولكن ليس بالجسد كما يفهم هو، ولن يراه سوى من يحبه ويحفظ وصاياه. هنا المسيح يرفع فكر يهوذا للاهوته فقوله إليه نأتي= أي أنا والآب فنحن واحد، وهذه إشارة لوحدانيته مع الآب. ولاحظ أنه سبق وقال إن الروح ماكث معكم ويكون فيكم. فلا انفصال بين الأقانيم. ومعنى كلام الرب إن أردتني أن أظهر لك فأعمل ما يحبه الآب.

عنده نصنع منزلًا= (هذه مثل رؤ20:3+ لو21:17+ إش15:57) فالله يسكن عند المنسحق. والخطية هي نوع من الكبرياء فمن أظن نفسي حتى أخالف أوامر الله. وإذا أطعنا فالآب يكون معنا يسكب حبه الأبوي فنستمتع بالبنوة لله. نصنع منزلًا= الله هو الذي يصنع منزلًا عند من يطيع الوصية، فيسمح لله بأن يصنع المنزل. وعدم طاعة الوصية يعطل الله عن إقامة المنزل فالخطية تمنع عمل الله والخطية تنشأ من عدم المحبة. والمسيح يكون كقائد ومخلص والروح القدس للتعليم والشهادة والدفاع عن الإيمان. وهذا تنازل من الله أن يسكن عندنا الآن هنا على الأرض ويشترك معنا في ضيق الحياة وتنازل منه أيضًا أن نسكن نحن معه في منازل في السماء (2كو16:6). وفي الحالتين لنا مجد معد على الأرض أو في السماء. من يستضيف الله على الأرض يستضيفه الله في السماء. والإنسان يعجز عن أن يصنع منزلًا لله، ولكن من يطيع الله تاركًا الخطية يصنع الله عنده منزلًا يرتاح فيه هنا على الأرض، ويعطيه منزل في السماء. وإذا صنع الله عندي منزلًا فبهذا أراه وبهذا يظهر ذاته لي، وهذه هي الإجابة على سؤال يهوذا (آية22). وقطعًا هي رؤية داخلية وليست بالعين الجسدية. ومن يصنع الله عنده منزلًا على الأرض يشبع بالله= يتعشى معه. ويتعشى مع الله في السماء (رؤ20:3) وكلاهما شبع. على الأرض عربون الشبع في السماء.

 

آية (24): “الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني.”

الذي لا يحبني= من إنجرف في تيار محبة العالم (يع4:4) يتنكر لله وكلماته= ومثل هذا لا يحفظ كلامي الحب يترجم إلى طاعة للوصية. فأي موافقة لهيكل الله مع الأوثان (2كو16:6). هذه إجابة على سؤال يهوذا “لماذا لن يظهر نفسه للعالم” فالعالم لا يحب المسيحليس لي بل للآب= فالمسيح يستعلن الآب ويستعلن الوحدة الذاتية مع الآب. ورفع مستوى الكلام الذي يتكلم به إلى مستوى الرسالة الإلهية. فمن لا يحفظ أقوال المسيح وهي نفسها أقوال الآب، فهو لا يحب الله الآب. يهوذا سأل السيد لماذا يراك البعض ولا يراك البعض الآخر. وكانت الإجابة أن من يسمع كلامي يراني، وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس.

 

آية (25): “بهذا كلمتكم وأنا عندكم.”

هنا المسيح يشرح أنه في الوقت الحاضر طالما هو موجود بالجسد فهو يعلم ويتكلم بشخصه، وعلى قدر فهمهم الآن. ويودع كلامه أمانة عندهم إلى أن يأتي الروح القدس فيعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله السيد المسيح.

 

آية (26): “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.”

هنا المسيح يشرح أنه بعد إنطلاقه يكون الروح القدس هو العامل في هذه المعلنات، وهو الذي يعلم ويذكر بكل ما قاله المسيح. وما كتبه يوحنا بالذات في هذه الإصحاحات يشير فعلاً أن الروح القدس هو الذي ذكره بكل كلمة، فكيف يذكر يوحنا تفاصيل هذا الكلام بكل دقة لمدة 60سنة بل هذا الكلام سمعه يوحنا وهو في قمة التعب والألم (2بط21:1). وهذا معنى قول بولس الرسول “أما نحن فلنا فكر المسيح (1كو16:2) فالروح القدس يرفع فكرنا ويعلمنا ويذكرنا. فالروح الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو10:2) قادر أن يكشف لنا حتى أعماق الله. ولكن هل نجلس في هدوء لنتعلم. فصوت الله منخفض خفيف لا يسمع وسط ضجيج العالم (1مل19: 12). ونلاحظ أنه حين أخطأ الإنسان فارقه روح الرب (تك3:6) وبالفداء يعود الروح القدس للإنسان ليعطيه قوة القداسة مرة أخرى. ولم يكن هذا ممكناً أي أن يأتي الروح القدس قبل أن يتم الفداء لذلك قال المسيح “خيرٌ لكم أن أنطلق” (7:16-14). وهذا خيرٌ لنا أن يكون الروح في داخلنا كل وقت ليعلمنا ويذكرنا حين نحتاج. يذكركم= إذ يخطئ الإنسان أو يفكر في أن يخطئ يذكره الروح القدس بأنه سيخالف وصية المسيح ويذكره بالوصية. وفي كل موقف حرج يذكرنا بكلمات المسيح لنرد على ملوك وولاة. المعزي= أصل الكلمة الباراقليط وأتت هذه الكلمة 5مرات في العهد الجديد. ترجمت 4مرات بالمعزي (16:14-26 + 26:15 + 7:16) وكلها في إنجيل يوحنا. وجاءت مرة واحدة في (1يو1:2) عن المسيح وترجمت شفيع. ونلاحظ أنها في المرات الأربعة الأولى جاءت عن الروح القدس. ولكن المعنى واحد. وتشير الكلمة إلى من يدافع عنا في المحاكم أمام القضاء. ولها معاني الشفيع والمعين والمشجع الذي يقف بجوار الضعيف ليسانده فيكون بمساندته له معزياً مشعراً إياه بالأمان وتعنى الحاضر للمعونة (بارا وملازم ومجاور ومنها parallel). وفي آية (16) سمعنا أن المسيح سيرسل الروح القدس معزياً آخر لأنه كان في حالة تجسده هو المعزي لهم والمدافع عنهم وفي السماء شفيعنا بفدائه والروح القدس شفيعنا في هذا العالم بعمله الخفي فينا ليجعلنا مقبولين أمام الله ، بل هو يعلمنا ماذا نقول في الصلاة (رو26:8-27 + هو14: 2). والروح يعلمنا كل شيء يخص المسيح (مجده وعظمته ومحبته وطبيعته). وراجع (يو14:16) وإلاّ فكيف دافعت الكنيسة عن الإيمان الصحيح ضد الهراطقة. بإسمي= أي بسبب يسوع وقوة عمله الفدائى وبحضوره وبواسطته. هو سيغيب جسدياً لكن هو حاضر بشخصه. والإسم يعلن كل قوة الابن وطبيعته وقوته وعمله ومشيئته فكل هذا متضمن في الاسم. والآب سيرسله بشفاعة المسيح وكل عمله الفدائى حتى صعوده للسماء. وقوله بإسمي يشير لقوة وقدرة عمل المسيح الفدائي الذي أدى أن يُرسَل الروح القدس للإنسان، وهذا شرحه الله في أن مذبح المحرقة ومذبح البخور كان لهما قرون والقرن رمز للقوة. يرسله= جاءت في صيغة المستقبل الدائم فالروح القدس سيرسله الآب للكنيسة كل الأيام. وهو الروح القدسلأنه يقدس الكنيسة أي يكرسها لله ويهيأها كعروس للمسيح. فتكون مقبولة أمام الآب وهذا معنى شفاعته. في ص(16) نرى الروح يبكت فنتوب. وفي هذه الآية نراه يعلم ويذكر. وفي ص(16) نراه يأخذ مما للمسيح ويخبرنا فيكون لنا رؤية صحيحة عن المسيح فنحبه. ولو وصلنا لدرجة الحب يكشف لنا الروح عن أمجاد السماء كما في لغز (1كو9:2-12 + 1كو12:13). وكتشبيه لهذه المحبة الفائقة المعرفة (أف19:13). فلو هناك رجل غني عنده قصر جميل محصن. فلا وسيلة لكي نرى ما في القصر سوى الدخول مع صاحبه في علاقة صداقة وحب. وهذا هو دور الروح القدس الذي يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5: 5).

 

آية (27): “سلامًا اترك لكم سلامي أعطيكم ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب.”

سلامًا= هذا عهد بين المسيح وكنيسته. سلامي= هي عطية المسيح، هبة من المسيح ووعد منه وهو يودع تلاميذه. سلام= إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله (رو1:5) والله يعطي سلامًا يفوق كل عقل (في7:4) ولكن شرطه البر أي يدخله في الهدوء والسكينة الإلهية وطمأنينة وراحة وسط ضيقات العالم، راحة تتفوق على الاضطراب (2كو8:4). وهو سلام يرفعنا فوق ذواتنا ويسكن في قلوبنا ويملك عليها (كو15:3) فيوقف اضطرابها. إذًا مجال سلام الله في القلب والعقل. القلب منبع والعقل مصب. أترك لكم= هو الآن منطلق ويترك لهم السلام كميراث. أعطيكم= هو أيضًا هبة. ويتلازم السلام والفرح في وعود المسيح للمؤمنين كعربون لما سنتذوقه في الحياة الأبدية، وهما علامة الثبات في المسيح. لذلك فجهادنا الآن أن نثبت في المسيح (يو4:15) وعلامة الثبات السلام والفرح. فسلام المسيح مرتبط بالثبات في شخصه. ليس كما يعطي العالم= ماذا يعطي العالم؟ مال/ مناصب/ جاه/ مباهج وملذات زائفة وزائلة. وهذه كان تلاميذه ينتظرونها إذ كانوا يتصورون أنه سيملك ملكًا زمنيًا ويكونون هم حاشيته. ولكن عطايا العالم إن أعطى فهي تدوم إلى زمن وسريعًا ما يذهب كل شيء ولكن عطية المسيح تملأ القلب وتمتد للأبدية وهي ثابتة. الإنسان العالمي إذ تقابله مشكلة [1] يهرب منها مثلًا بالنوم أو التليفزيون أو الإدمان [2] يؤجل الإنسان مشكلته ويظل يؤجل بلا نهاية [3] تنازل مقابل شيء أحصل عليه. وكل هذا لا يعطي سلام. أما سلام المسيح فهو باقي غير متغير وينمو. لا تضطرب قلوبكم= سيقابلكم الآن وبعد ذلك ضيقات كثيرة ولكن لا تخافوا فسأعطيكم سلامًا يملأ قلوبكم كعطية فائقة. بل أعطى المسيح تلاميذه أن يهبوا السلام للآخرين، وهذه قوَّة فعالة روحية تخرج مع النطق لتسكن الفكر والقلب وإذا لم تجد لها مكانًا في الآخرين تعود مرة أخرى إلى ناطقها (لو5:10-6). وهذا ما يصنعه الكاهن حينما يصلي قائلًا “السلام لكم” إيريني باسي Iryny paci. وفي نهاية كل اجتماع أو صلاة يقول “اذهبوا بسلام سلام الرب مع جميعكم” فهو بداية ونهاية كل صلاة (والشعب يرد على الكاهن ومع روحك أيضًا). نبدأ الصلاة بالسلام لنشترك في الصلاة بأذهان صاحية، وننهي به الصلاة كأننا نستودع السلام كعطية في قلوب الشعب قبل أن ينصرفوا. لكن من هو منفصل عن الله يحيا بلا سلام في حياته. لا تضطرب قلوبكم= هي نفس العبارة التي بدأ بها الإصحاح. لكن هي تعني هنا أن بالسلام الذي أعطيه لكم لن تضطرب قلوبكم.

ولأن السلام عطية المسيح وسط هذا العالم المضطرب نقول “يا ملك السلام”.

 

آية (28): “سمعتم أني قلت لكم أنا اذهب ثم آتى إليكم لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت امضي  إلى الآب لأن أبي اعظم مني.”

سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب= فلا تضطرب قلوبكم لهذا السماع. هنا المسيح يعزي تلاميذه عن فراقه لهم بالموت ويشرح لهم أن الموت هو الطريق الوحيد للخلود حاملاً معه كنيسته، وهو سيذهب لكنه سيأتي ليأخذهم معه. فالنتائج التي سيحصلون عليها هي أعظم مماّ لو بقى معهم، بل هو سيرسل لهم الروح القدس الذي يشرح لهم ويعلمهم ويذكرهم بكل شيء ويكشف لهم حقيقة المسيح، فكيف لا يفرحون بذهابه، فهو سيتمجد لحساب الكنيسة (لو26:24) وهم يكسبون مكاسب عظيمة (عب12:9، 24 + عب24:7-25 + 1يو1:2 + يو2:14-3، 16-18، 26 + رو16:8، 27). إذاً هم سيفرحون بأن المسيح بجسده سيكون له نفس مجد الآب. وهذا سيعود بالبركة على تلاميذه. أبي أعظم مني= يقولها المسيح وقد أخلى ذاته وصار إنساناً تحت الآلام. فالآب والابن واحد في الطبيعة وفي الجوهر ومقامهما واحد. وحين يأخذ الابن صورة المجد ويجلس عن يمين أبيه لا يقال هذا. فإن الآب في مجده فهو أعظم من حالة الابن حال تجسده، والعبيد يهينونه بل هو قادم على موت شنيع وملعون. ويكون المقصود أن الصورة السماوية هي أعظم من الصورة الأرضية المتواضعة.

 

آية (29): “وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون.”

المسيح يخبر تلاميذه بكل ما سيحدث من موت وقيامة وصعود وإرسال للروح القدس، حتى حينما يتم ذلك يزداد إيمانهم به. الآن= وأنا على وشك الرحيل.

 

آية (30): “لا أتكلم أيضًا معكم كثيرًا لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء.”

كثيراً= المسيح يعرف أن الساعة أتت ولا وقت للكلام الكثير، لقد إنتهى وقت التعليم بالكرازة وأتى وقت العمل بالفداء. أتى وقت الصراع مع رئيس هذا العالم الذي سيأتي بعد دقائق مع كل من حركهم ضده ليهجم عليه بأكبر وأشرس هجمة. رئيس هذا العالم= (لو5:4-6) نجد فيه نفس المفهوم، وأسماه بولس الرسول إله هذا الدهر (2كو3:4-4) أي إله هذا الزمان أو العالم (راجع أيضاً أف12:6) والشيطان قوي وقوته في القتل وفي خطايا هذا العالم التي يتاجر بها، أما مسيحنا فقوته في الحياة. الشيطان قوته في الكذب والغش والمسيح قوته في الحق (يو31:12 + مت29:12 + أع18:26 + أف12:6). هو رئيس هذا العالم ففي يده أن يعطى تابعيه من ملذات وخطايا العالم وبها يستعبدهم، كما قال للسيد “أعطيك كل هذه.. ولكن خر وأسجد لي” . ليس له فيّ شيء= كل إنسان خاطئ، للشيطان فيه شيء هو الخطايا التي أعطى له أن يعملها، لذلك يطالب بموته ثمناً للخطية. ولكن المسيح يقدم نفسه بإرادته ثمناً لخطايا غيره (يو46:8) “من منكم يبكتني على خطية”. وكل من هو ثابت في المسيح يستطيع أن يقول “الشيطان ليس له فيّ شيء”. ومن يقبل من يد الشيطان خطايا يصبح مديونا له. فيأتي الشيطان لحظة مفارقة الروح للجسد ويطالب بالثمن، ألا وهو نفوسنا يأخذها معه للجحيم. لكن المسيح لحظة موته إذ هو بلا خطية قبض هو عليه وقيده بسلسلة (رؤ20: 1،2). ومن هو ثابت في المسيح الآن حين تأتيه هذه الساعة، تأتى له أم النور (صلاة الغروب) وتحمل نفسه الملائكة إلى السماء.

 

آية (31): “ولكن ليفهم العالم أني أحب الآب وكما أوصاني الآب هكذا افعل قوموا ننطلق من ههنا.”

مع أنني لست من العالم والشيطان ليس له فيَّ شيء لكنني لأجل محبتي للآب وطاعتي له ومحبتي لكم أسلم نفسي للموت، وسمحت للشيطان أن يأتي عليّ. ويرى الناس طاعتي هذه فيعرفون محبتي للآب، فالطاعة علامة المحبة. لذلك فمن أجل أن إرادة الآب هي خلاص البشر من سلطان إبليس، فمن أجل تحقيق خطة الآب سمح السيد المسيح لإبليس أن يدخل معه في معركة كأنه إنسان عادي، يأتي إبليس ليقبض على روحه. لكن المسيح الذي بلا خطية لم يستطع إبليس معه شيئًا بل قبض هو على إبليس وقيده وأشهره جهارًا. ولاحظ أن المسيح قدم نفسه للموت بإرادته وليس للموت سلطان عليه. هو لم يمت مغلوبًا من ضعف، فهو له سلطان الحياة.

إني أحب الآب:

وقيل “الآب يحب الابن” (يو20:5). وقيل عن الابن أنه المحبوب (أف6:1). فهي إذًا محبة متبادلة. ولكن  هذا الكلام لا يفهم على المستوى البشري، أي كما يحب إنسان إنسانًا آخر. بل هو تعبير عن الوحدة بين الآب والابن، ولكن بلغة المحبة التي هي طبيعة الله، فالله محبة (1يو8:4)

وتعبير الله محبة يعنى أن الله نبع محبة، تنبع منه المحبة. فقولنا الآب يحب الابن هذا يساوي الآب في الابن. وقولنا الابن يحب الآب فهذا يساوي الابن في الآب. فالمحبة التي تنبع من الآب تصب في الابن، والمحبة التي من الابن تصب في الآب.

وكما أوصاني الآب هكذا أفعل:

دليل المحبة هو الطاعة. والمسيح دليل طاعته أنه أطاع حتى الموت، موت الصليب (في8:2). ولكن مرة أخرى، فالمعنى ليس مباشر هكذا. لكن لأن الآب والابن واحد (يو30:10). ومشيئتهما واحدة. إذاً هناك إتفاق أزلي على أن يقوم الابن بعمله الفدائي. وقوله أوصاني الآب يعني أن الآب يريد وأنا أنفذ. فالآب يريد والابن والروح القدس هما أقنومي التنفيذ. وبهذا تكون طاعة المسيح للآب علامة وحدة بالحب بينه وبين الآب.

قوموا ننطلق من ههنا:

حين تأتي مباشرة بعد كما أوصاني الآب هكذا أفعل فهي تشير لشدة اشتياق المسيح لتنفيذ إرادة الآب، ولشدة اشتياقه هو أيضًا في تنفيذ الفداء ليخلص البشر. راجع (إش2:27-5) لترى شوق المسيح لفداء البشر.

قوموا ننطلق من ههنا= هو كان يعلم أن أعداؤه استعدوا له، فلم ينتظر أن يأتي إليه الموت، بل قام هو ذاهبًا إليه في شجاعة وبمحض إرادته. قوله هذا يعني هيا نواجه الصليب. أليس عمله أن يعلن حب الآب وينفذ وصيته فهو يخرج طواعية وبمحض إرادته ليواجه الصليب والموت. بل قولهُ هذا لتلاميذه يعني أنكم ستتبعونني يومًا إلى الصليب فلا تهابوا. هذا القول هو تعليق على أنه ينفذ وصية الآب= كما أوصاني الآب. وهذه العبارة تعني غالبًا أنهم خرجوا من العلية حيث غسل أقدامهم وقدّم لهم جسده ودمه في العشاء السري. وغالبًا انطلقوا إلى الهيكل حيث فاه السيد بتعاليمه الواردة في (ص15-16) وبعد ذلك صلّى صلاته الشفاعية (ص17) وبعد ذلك نسمع أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون (1:18) ووادي قدرون هذا هو وادي يفصل بين الهيكل وجبل الزيتون حيث بستان جثسيماني. وهناك من يقول أن تعاليم (ص15-16) كانت في الطريق. والصلاة (ص17) في الهيكل. والآية الأولى في (ص15) يحدثهم فيها المسيح أنه هو الكرمة الحقيقية ويقول المفسرون أن المسيح رأى كرمة في الطريق فأشار لها وقال أنا هو الكرمة الحقيقية. أمّا أصحاب الرأي الأول الذين يقولون أن تعاليم (ص15-16) كانت في الهيكل فيقولون أن الكرمة المقصودة هي كرمة ذهبية مجسمة على أبواب الهيكل (فالكرمة كانت ترمز لإسرائيل). عمومًا فالمقصود استعارة من واقع ما يرونه بعيونهم. والمسيح يستعمل ما نراه بعيوننا ليحدثنا عن طريقه (مثل الزارع والصياد والحقول..) والمسيح اختار الكرمة لأنهم منذ دقائق شربوا من عصير الكرمة أي دم المسيح الذي يعطيهم حياة فيكونوا أعضاء حيَّة في كرمة المسيح. والكرمة قيلت أولًا عن إسرائيل ولكن قيل أنها أعطت ثمرًا رديئًا (أر21:2-22+ أش1:5-2+ مز8:80-19+ مت23:21-46). وكل تطهيرات الناموس لن تفيد في تطهيرها ثانية فكان لا بُد أن تقطع ويغرس الله كرمة أخرى جديدة هي جسد المسيح السري فنحن أعضاؤه من لحمه ومن عظامه. ونحن نولد بالمعمودية لنكون أغصان في الكرمة وعصيرها أي دمه يسري فينا وحينما نحفظ الوصايا نثبت في الكرمة.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 13 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 15
تفسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى