من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

محاسبة النفس

وتأملات في رأس السنة الميلادية

جميل أن ترتب الكنيسة فرصة لأبنائها في نهاية كل عام، ليتذكروا في معنى هذه المناسبة ولكي يستغلوها للتنمية الروحية. فمن حقنا بل من واجبنا أن نتأمل الماضي . وأن نتدارسـه وأن نحاسـب أنفسنا فيما صنعنـا ومـا أهملنا من خير، وما صنعنا أيضاً من شر.

محاسبة النفس:

هذا هو مقام المحاسبة، وهذه المحاسبة لازمة ونافعة، في المدارس والجامعات، ترتب امتحانات في أثناء العام الدراسي وفي نهاية العام الدراسي، في وقت ما، كان في نهاية كل شهر يعقد امتحان، وفي منتصف العام يعقد امتحان أيضاً وهو امتحان نصف السنة، وفي نهاية العام امتحان لنهاية العام.

وفي نهاية كل مرحلة من مراحل التعليم سواء أكان إتمام الشهادة الإبتدائية، أو الإعدادية أو الثانوية أو الجامعية، هناك امتحان عام يشمل السنوات كلها، التي تتضمنها هذه المرحلة العلمية، هذه الامتحانات لها فوائد جزيلة يقف منها الطالب على مدى ما حصل ومدى ما استفاد، وتقف المدرسة أيضاً من هذه الامتحانات على مدى تحصيل الطالب ومدى توفيقه، لتعرف ماذا صنعت أجهزة المدرسة من خير في هذه الناحية التعليمية.

والموظفون الذين يعملون في البنوك أو في البريد، والذين يعملون مع الجمهور بعد أن ينتهى عمل اليوم ويغلق البنك أبوابه يبقى الموظفون وقتاً ما، قد يكون نصف ساعة أو ما إليه يراجع فيها الموظف حساباته، ليعرف إذا كان قد أخطأ أو أعطى واحداً مبلغ من غير وجه حق. وفي نهاية الشهر يأخذ هؤلاء الموظفون المشتغلون مع الجمهور وقتاً أطول للمراجعة الشهرية قد يستغرق ساعة أو أكثر يراجع فيها حسابات الشهر، وفي نهاية العام أيضاً هناك مراجعة سنوية، قد يستغرق هذا العمل ساعات من هؤلاء الموظفين قد يكون الأمر إلى منتصف الليل أو إلى أكثر من يوم.

أهمية المراجعة:

هذه المراجعة في غاية الأهمية، أولاً بالنسبة للموظف نفسه ليعرف إذا كان قد أصاب وإذا كان قد أخطأ ويطمئن إلى عمله، وثانياً بالنسبة إلى المؤسسة العامة إن كانت هي البنك أو غيرها من المؤسسات العامة، هذه المراجعة اليومية و الشهرية والسنوية لها أهميتها لكي يمر العمل العام بنجاح وتوفيق.

ونحن في حياتنا الروحية من حقنا بل من واجبنا أن تكون هناك مراجعة، مراجعة لأعمالنا، مراجعة يومية، إن بعض الفلاسفة قال: «عليك يا إنسان في نهاية اليوم وقبل أن تنام أن تسأل نفسك فيما أخطأت وفيما أصبت ولماذا أخطأت؟».

وسيدنا يوصينا أن يغلق الإنسان منا بابه، ويصلي إلى أبيه الذي في الخفاء «وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية». ليس المقصود هنا مجرد الباب الخارجي للغرفة، وإنما أن يغلق الإنسان على نفسه حواسه، والحواس الخمسة كما تعلمون هي أبواب المعرفة الأذن والعين والأنف واللسان واليد. السمع والبصر والشم والذوق واللمس، هذه الحواس الخمسة، مفروض في نهاية اليوم أن يغلق الإنسان حواسه، لكي يستبعد كل الشواغل التي تشغله سواء كانت شواغل شخصية، أو شواغل عائلية أو شواغل العمل، هذه الشواغل يجب في فترة معينة أن يضع الإنسان لها حداً، يغلق عليها حتى يتفرغ للتأمل الباطني ولمراجعة نفسه، طالما أنت مشغول بهذه الأمور لا يمكن أبدأ أن تعرف مدى ما وصلت إليه.

الابن الضال الذي ضرب سیدنا به مثلاً، هذا الذي خرج من بيت أبيه، وصار في الخلاعة وأنفق مال أبيه الذي أعطاه إياه، على الزواني والزانيات حتى خرب، وصار محتاجاً إلى الخرنوب الذي كانت تأكل منه الخنازير ولم يكن يعطيه أحد. فلما وصل إلى هذه الحالة وأدرك ما هو عليه، يقول الإنجيل رجع إلى نفسه وقال: كم أجير يفضل عنه الخبز وأنا هنا أهلك جوعاً.

«رجع إلى نفسه»، عبارة في غاية الأهمية، إذن أيـن كنـت يا إنسان؟ كنت خارجاً عن نفسك ثم رجعت إليها وهذا ما نسميه بالتوبة، باللغة العربية ثاب إلى .. أي رجع، فالتوبة معناها الرجوع، لكن أول خطوة في التوبة أن يرجع الإنسان إلى نفسه لأنه عادة يكون خارجاً عن نفسه، مشغولاً عن نفسه بهموم حياته أو بالأسرة أو بالعمل، مشغولاً عن نفسه.

متى يـا إنـسـان ترجـع إلى نفسـك، تـدخل إلى داخـل نفـسـك، تغلق أبواب الحـواس حتى لا تتعطل عن التأمل فيما أنت فيه وفيما أنت عليه، وفيما بلغته وفيما أصبت فيه وفيما أخطأت.

مدی ما أحرانا وما أحوجنا وخصوصاً في نهاية هذا العام، إلى هذا التأمل وإلى هذه المراجعة وأن يستنبط الإنسان نفسه، يدخل إلى باطن نفسه، لأنه عادة يكون مشغولاً عن نفسه، إلى أي تشغل يا إنسان عن نفسك؟ نفسك هذه الثمينة الغالية كيف تشغل عنها؟ أنت من يوم ميلادك روحك آتية من فوق، ليست من الأرض، تنزل الروح من فوق وبهذا تبدأ رحلتها على الأرض.

إذن أنت بميلادك تبدأ رحلة حياتك، وبعد ذلك يا إنسان ستعود مرة أخرى إلى سيدك وإلى خالقك، فأنت في الأرض في رحلة، لها طول ولها عرض لن تطول بك، ليس لنا هنا إقامة، أنت عائد يا ابني، أنت راجع، وهذا ما يقوله الكتاب المقدس «ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك». فهنا رجوع !! نعم رجوع، لأنك لست من هنا، روحك آتية من فوق وفي نهاية رحلتك على الأرض ترجع ثانية وتوضع على الميزان.

الله وازن الأرواح:

جاء في سفر الأمثال الأصحاح السادس عشر: «الله وازن الأرواح»، أنت ستوزن بعد أن تعود من رحلتك، ستوضع على الميزان أو تقيم وحينئذ يكون مصيرك تبعاً لوزنك.

الصورة التقليدية لرئيس الملائكة ميخائيل يمسك باليد اليسرى میزان وتحت منه التنين، والتنين هنا يرمز إلى الشيطان الذي أسقط من السماء، ويلاحظ أن الميزان كفتاه ليستا على مستوى واحد، كفة عالية وكفة نازلة، وباليد اليمنى سيف، هذه هي الصورة التقليدية لرئيس الملائكة ميخائيل، ما معنى هذا الميزان؟ معناه أن أعمال البشر والملائكة ستوزن، لأننا كائنات حرة عاقلة مريدة مسئولة، أربع صفات. البشر والملائكة كائنات عاقلة حرة مريدة مسئولة، فبعد نهاية الرحلة يكون هناك ميزان ووزن، فتجد التنين وهو إبليس الذي أسقط من السماء، نجد كفتا الميزان غير مستويتين معاً، واحدة نازلة وواحدة مرتفعة وهذا يعني أنك وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً يا إبليس. وهنا السيف باليمين، سيف القضاء وسيف الحكم وسيف العقاب.

عندما هجم نبوخذ نصر ملك بابل على هيكل في أورشليم وحطم الهيكل وهو هيكل سليمان، وأخذ آنية بيت الرب وذهب بها إلى بابل، وهناك أخذ يشرب الخمر في آنية بيت الرب استهتاراً واحتقاراً. ومات نبوخذ نصر وخلفه بليشاصر، بلیشاصر ابن نبوخذ نصر وبليشاصر أيضاً أخذ يشرب الخمز في آنية بيت الرب الذي حطمه نبوخذ نصر، وبينما هو يشرب الخمر، وربما كان يشرب بشيء من السعادة واللذة لأنه في وليمة، إذا به يرى طرف يد تكتب على مكلس الحائط «منا منا تقيل وفرسين» (دا5: 25)، انزعـج الملك، ما هذه اليد، يد تكتب على مكلس الحائط، اضطرب الملك ثم استدعى العلماء كالمجوس ومن إليهم، الذين يمكنهم أن يقرأوا مثل هذه الأمور، فعجزوا جميعاً عن أن يقرأوا، فدخلت الملكة لعلها أم الملك بليشاصر وزوجة نبوخذ نصر، وقالت يا ملك في مملكتك رجل له روح الآلهة القدوسين هو الذي فسر لأبيك الحلم، حلم التمثال الذي من ذهب، فاستدعيه لأنه الإنسان الكفء الذي يمكنه أن يقرأ هذه الأمور. فاستدعى دانيال وقرأ دانيال منا منا تقيل وفرسين إلى آخره، ما التفسير الذي فسره دانيال؟ وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً.

انظـروا يـا أولادنا كلمة وزنت، الكتابة التي كتبتها اليد الخفية على مكلس الحائط «منا منا …» تقول للملك «وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً. لقد أنهى الله حكمك، وفي تلك الليلة هجم عليه داريوس ملك الفرس وقتله، وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً.

الله وازن الأرواح، كـل إنسان منا بعد نهاية رحلته، يوضع على الميزان، يوزن الإنسان، يا ترى وزنك ماذا يكون؟ ما قيمة هذا الوزن، الله ليس بظالم، وزنك هو هو بعينه، الحقيقة لن تستطيع أن تخدعها.

الخلاصة أنه مثل ما يقول سفر الأمثال أصحاح (16: 2) «والرب وازن الأرواح»، ستوزن يا إنسان، ليس لك هنا إقامة، أنت في رحلة، وبعد ذلك سترجع مرة أخرى لن تبق هنا إلى الأبد، أبداً ابداً، هي فترة الحياة قلت أو كثرت، قصرت أو طالت لكنك راجع، أنت غريب، ليس لك هنا إقامة، نحن غرباء ونزلاء على الأرض، آه يا إنسان لو تنبهت إلى هذا وعرفت حقيقتك أنك راجع، إنك مسافر وستعود مرة أخرى، لا تضيع وقتك في أمور تافهة، هناك أشياء كثيرة نضيع فيها وقتنا، أنت عندما تكون مسافراً يا ابني وتعرف أن هناك ميعاد محدد للقطار أو الطائرة تضطر أنك تستعجل، لو حضر أحد يطرق على الباب ترد عليه بسرعة، لا تريد أحداً يعطلك لأنه يوجد ميعاد، فيه ميعاد، فيه قطار، أنت تنتظر القطار ولكن القطار لا ينتظرك.

أنت راجع، يوجد جملة في القداس، يقولها الكاهن سراً في بدء القداس، «أنت يا رب خلصتنا وأدخلتنا إلى هذه الحياة»، أدخلتنا، أدخلتنا إلى الحياة، ففيه دخول، أنت دخلت الحياة عن طريق الميلاد، من الأم، وفي الموت أيضاً تخرج، يوجد خروج، نعم، هذا التعبير . – استخدمه بطرس الرسول، فقال: «بعد خروجی»، نعم، دخول وخروج بالموت، ندخل وبالموت نخرج. يوم أن يولد الجنين من بطن أمه، يخرج من رحم الأم إلى الحياة ونسميه الميلاد، ومثل ما يقول سيدنا له المجد: المرأة تحزن لأن ساعتها قد جاءت ولكن متى ولدت الولد تفرح ولا تذكر الحزن لأنه ولد إنسان في العالم، ويوم أن نخرج، أو تخرج أرواحنا، نفس العملية تخرج من هنا وتدخل في العالم الآخر، خروج ودخول، تدخل ومثل ما أن المرأة تعاني والطفل يعاني من عملية الخروج من بطن الأم لكي يدخل إلى العالم، هناك أيضاً عند الخروج يحدث هذا الألم وهو ما نسميه بسكرات الموت، سكرات الموت، أو الحشرجة التي تكون في الآخر، لأن هناك عملية خروج، ومثل ألم المرأة وهي تلد، لأن هناك عملية معاناة لهذا الجنين عندما يخرج من المسالك الضيقة، فيعاني ويصرخ ويبكي ويتألم، كذلك الروح عندما تخرج من المخارج الضيقة، تمر في هذا الممر الذي تخرج منه وهو الجسد لكي تدخل إلى العالم الآخر، هي هي بعينها، ميلاد وخروج.

فنعمل حسابنا يا أولادنا مثل ما دخلنا سنخرج، إذن يا إنسان هل رتبت لنفسك أن حياتك لها قيمة هنا؟ فلا تترك نفسك الأيام تجرى بها وأنت لاه، وأنت سرحان وأنت لا تعلم معنى حياتك، لماذا أنت هنا، وما هو الهدف من وجودك؟ هل فكرت هذا التفكير، لماذا أنت هنا؟ أنت مرسل، ليس الإرسال هو إرسال الأنبياء فقط إنما روحك أيضاً مرسلة، وتعود ثانية، راجع نفسك، أنت مرسل، هل فهمت لماذا أنت هنا؟ هل فكرت في هذا الموضـوع؟ لا تسرح بعيداً، هذا سؤال أنت غير مستعد أن تجاوب عليه، تهرب منه، لماذا أنت هنا؟ ثم ماذا بعد هذا؟ ماذا بعد حياتك هنا؟ أنت روحك موعودة بالحياة الأبدية، أنت ستحيا حياة أبدية، وجودك على الأرض هنا مرحلة أولى، بعد ذلك يوجد مراحل أخرى يا أولادنا، الكتاب يقول إلى الأبد، هذا هو الوعد الذي وعدنا به الحياة الأبدية.

حياتك على الأرض مرحلة أولى:

أنت إنسان لك قيمتك ستحيا إلى الأبد، وجودك في الدنيا مرحلة أولى، مثل ما هو في التعليم يا أولادنا المرحلة الأولى نسميها المرحلة الإبتدائية بعد ذلك المرحلة الإعدادية، بعد ذلك يوجد مرحلة ثانية اسمها الثانوية، بعد ذلك يوجد مرحلة المعاهد العليا والجامعات، بعد ذلك يوجد مراحل أخرى، العلماء الأفذاذ لا يكتفون حتى بالدكتوراه، يوجد لهم دراسات أخرى لماذا؟ لأن هذا العقل الإنساني العظيم الذي خلق على صورة الله ومثاله لن يقنع، فيستمر يواصل باستمرار..

فأنت هنا مرحلة أولى، يوجد مراحل ثانية كثيرة، ونجاحك في المرحلة الأولى يرشحك للمرحلة الثانية، الفوائد التي أنت أخذتها هنا، من حياتك ومن رحلتك هنا تأخذها معك وتنفعك في المرحلة الثانية والمراحل التي بعد ذلك، لذلك كل استفادتك هنا والفضائل التي تربي نفسك عليها وتحصل عليها ستأخذها معك، لأن هذا العقل وهذه الروح الإنسانية خالدة وكل الفضائل تصحبها الروح، العلم، والمعرفة، والتقوى، والأعمال الصالحة، كلها تتبع الروح في رحلتها، تمشي وراءها وتمشى معها.

هذا المخ يا أولادنا أعظم ريكوردر، أعظم مسجل، ألا تذكر اليوم أمور حدثت لك وكان سنك سنتين أو ثلاث سنين، قد تكون كلمة قالها لك شخص منذ 15 سنة ولكنها رسمت في المخ، كل شيء كل ما تراه العين وتسمعه الأذن، كل فكر، وكل شعور بيعمل Print يطبع على هذا المخ.

الله ليس بظالم:

 صورة يقدمها لنا سفر الرؤيا أو الجليان يقول: «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض، والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله»، وقال الصغار قبل الكبار حتى لانقول الصغار ليس لهم شيء، ثم «وانفتحت أسفار» فتحت أسفار بالجمع، «وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة» وهذا مفرد الأسفار أي سفر واحد وهنا يقول «ودين الأموات بحسب أعمالهم» (رؤ20: 11 – 12). ما هي هذه الأسفار؟ سفر كلمة عبرية معناها كتاب. إذن ما هي الأسفار التي تفتح يوم الدينونة؟ هل هي كتاب من ورق؟ لا .. يا ابنی، سفر حياتك على هذا الجسد، كتاب حياتك مرسوم، كل شيء مرسوم على هذا المخ، أعظم ريكوردر، وعلى هذه اليد، الرسوم التي على يدك اليوم غير رسوم الأمس، بل الآن غير ما كانت في الصباح، كل ما يمر على حياتك، يرسم ويطبع، يوجد هنا طابعة، تطبع، ففتحت أسفار، ستقف أمام الديان، ولذلك يوم الدينونة مرجأ إلى ما بعد القيامة، لا توجد الدينونة الكاملة، بعد ما تخرج روح الإنسان من جسده، لا يوجد أيضاً الجزاء الكامل أبدأ، مُرجأ إلى ما بعد القيامة لماذا؟ لأن هذا الجسد زميل للروح في رحلتها على الأرض، فكيف تجزى الروح بدون الجسد؟ فلابد من إرجاء الدينونة إلى ما بعد القيامة، ولذلك الكتاب يقول: لأننا لابد . جميعاً أن نقف أمام كرسى المسيح للقضاء، لاحظوا كلمة كرسي المسيح للقضاء، لينال كل واحد، كل واحد دينونة فردية، حساب فردی، لينال كل واحد بحسب صنع في الجسد خيراً كان أم شراً.

لن أظلمك يا إنسان، الله ليس بظالم، الله لا يحابي بالوجوه، أنت صانع مصيرك يا إنسان، فتحت أسفار رأيت عرشاً عظيماً أبيض، طبعاً البياض هنا يرمز إلى الطهر والنقاء والطهارة معاً، نعم، الله عادل، عادل لن تكون عدالته ظلم، رأيت عرشاً عظيماً أبيض، نعم، لن يظلمك إنسان، لن تأخذ غير حقك، وفي آخر الأصحاح الثاني والعشرين من سفر الرؤيا أو الجليان يقول: «هوذا أنا آتي سريعاً وأجرتى معى، لأجازي كل واحد منكم حسب عمله»، أجرة، ما هي الأجرة يا أولادنا؟ هي المقابل، كل سيأخذ أجرته حسب تعبه، لذلك يوجد درجات، كل الناس لن يكونوا في درجة واحدة، مثل درجات النجاح في الإمتحان هناك من يأخذ فوق العشرين من أربعين، يوجد واحد آخر 21أو 22أو 25، إلى آخره، لابد أن يكون هناك تفاوت طبعاً، وأيضاً مصير الإنسان، الأبرار ليسوا في درجة واحدة، لذلك يقول نجم يمتاز عن نجم في المجد، انظر الكلمة، نجم يمتاز عن نجم في المجد إذن القديسون ليسوا درجة واحدة، ولكن بحسب تعبهم وبحسب العمل الذي عملوه، لأن الله عادل والعدل يقتضى، أن كل واحد يأخذ المقابل، «الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة»، «كل سيأخذ أجرته حسب تعبه» لا يوجد محاباة.

إذن يا إنسان أنت صانع مصيرك، لن يتحكم الله فيك، لن يظلمك، هو أبونا كلنا، لذلك لا يميز إنساناً عن آخر، لماذا يميز واحداً عن الثاني؟ هو أبونا كلنا وخالقنا كلنا، لا يوجد محاباة أبدأ، إنما أنت يا إنسان صانع مصيرك، كل سيأخذ أجرته حسب تعبه.

لذلك لا تتضايق إذا أنت تعبت من أجل المسيح، أو اضطهدت من أجل المسيح، مثل الشهداء ومثل القديسين، إذا كان من أجل المسيح اضطهدت أو تعبت تأكد تماماً أنك ستأخذ الأجر، ستأخذ المقابل لتعبك.

لذلك يتضاعف إكليلك، الأكاليل ليست واحدة، الأكاليل مختلفة، على قدر التعب، كل سيأخذ أجرته حسب تعبه.

المهم يا أولادنا وقد أتينا إلى نهاية هذا العام، يجب إحقاقاً للحق لا تترك نفسك بغير محاسبة، إبدأ بنفسك، لو حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا، احكم على نفسك الآن قبل أن يأتي الوقت الذي يفلت منك الزمام فلا تستطيع أن تتفاداه، يقول: «مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة» ، لكن اشكر الله أنك تحيا حتى الآن، يوجد كثير غيرك سافر، بالأمس كان هناك أشخاص سافروا، وأول أمس أيضاً أشخاص سافروا، أنت موجود لغاية الآن، افرح واشكر الله إنك تعيش حتى الآن، وذلك ليس لأنك أفضل من غيرك، إنما ربنا يعطيك فرصة لعلك تصحح أخطاءك، يجب أن تستفيد يا إنسان من فرصة وجودك في هذه الحياة، خسارة أن تضيع منك هذه الفرصة، ولا تستغلها لفائدتك.

جميل إننا في نهاية العام نتأمل ونتذكر لكي نحاسب أنفسنا، ونراجع حياتنا، المراجعة معناها التوبة، لأن ثاب بمعنى رجع.

التوبة تقوم على أربعة عناصر:

* العنصر الأول: الندم والانسحاق والدموع: الندم ، اندم يا إنسان لأنه إن لم تندم يكون معنى ذلك أنك راضي عن نفسك، لكن ندمك دليل على أنك أنت غير راضي عن نفسك، وهذا حسن ولمصلحتك، هذه الخطوة الأولى النافعة أن تعرف نفسك، وأن تدين نفسك وأن تندم على ماضيك. وتندم على الفرص التي ضاعت منك.

* العنصر الثاني: العزم الصادق على تجديد السيرة: العزم الصادق، الابن الضال قال أقوم وأرجع إلى أبي وأقول له أخطأت، أقوم، وقام فعلاً، قام، حكم على نفسه أن يقوم فقام، وأنت؟ كل واحد فينا، حسن أنك أنت تأسف وتندم ويؤنبك ضميرك على حياتك، لكن الخطوة الثانية أنك تعزم عزماً أكيداً، أن تغير سيرتك، وأن ترجع، ما معنى التوبة إن لم يكن هناك رجوع؟ ترجع، أنت تسير في طريق ترجع منه، كنت تمشى في طريق الخطيئة ترجع منه، وذلك يحتاج عزيمة، أنت الذي تعزم لا تنتظر الله يدفعك؟ لا… الابن الضال، يقول الكتاب المقدس لما هو رجع، أبوه رآه من بعيد فركض ووقع على عنقه وقبله، ماذا يعني ذلك؟ يعني كان الأب منتظراً عودة ابنه وقلبه متحرق عليه ولكن لا يفرض نفسه عليه، لما هو رجع فـرح به، الله ينتظر عودتـك يا إنسـان، لا تنتظر أن الله هوالذي يتوبك، لا .. أنت الذي لابد أن تبدأ، ولكن إعلم أن الله متطلع إليك، هو يريدك، السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من 99 باراً لا يحتاجون إلى توبة. الله ينتظر عودة الإنسان إليه.

* العنصر الثالث: الرجاء: ماذا يعني الرجاء؟ يعني أن لا تفقد رجاءك في أن الله أبوك، وعندما ترجع إليه يقبلك. لن يرفضك مادمت في توبة صادقة. يقول المسيح له المجد: «من يقبل إلى لا ألقى به خارجاً»، هذا وعد من حنوه لا يرفضنا ولكن التوبة لابد من . القلب، يقول أنا واقف على الباب أقرع إن فتح لي أحد أدخل. نقول له يا رب اقتحم!! يقول: لا … لا لا هذه ليست سياستي، سياستي سياسة الحرية، أنت الذي تفتح، أنا واقف على الباب أقرع.. أنتظر، أنت الذي تقوم وتفتح، ولكن إذا أنت لم تفتح الباب سيعبر، ، مثل ما نقـول في نشيد الأنشاد لكن حبيبي تحول وعبـر، قال لهـا قومی یا حبیبتی یا کاملتی افتحي لى الباب، قالت له أنا طلعت فوق الفراش، غسلت رجلي فكيف أوسخهما، تمنعت .. اعتذرت عن أنها تفتح الباب، بعد ذلك انتظرت أن يقرع مرة أخرى فلم يقرع، التهب قلبها وقامت وفتحت الباب، فلم تجده، جريت في الشوارع وهي تصرخ، يا بنات أورشليم هل رأيتن حبیبی؟ حبیبی أبيض وأحمر، يا بنات أورشليم، يقول: وجدوها الحراس ضربوها وجرحوها.. ولم تجد حبيبها، رفضت الفرصة التي عرضت أمامها ففقدتها إلى النهاية. وهذا معناها أن من الممكن الواحد فينا أن يفقد الفرصة. 

إذن يا إنسان انتهز الفرصة، لكن أنا واقف على الباب أقرع، أنا لن اقتحم الباب أبداً، هذا حفظاً لحريتك يا ابني، أنا لا أقتحم الباب عن غير إرادتك هذه سياستي، أنت الذي تفتح الباب، إن فتح أحد أدخل وأتعشى معه بالمسرات الروحانية، وإن لم يفتح لن أدخل، بل أعبر، ستفقد الفرصة يا إنسان.

* العنصر الرابع: الاعتراف: والاعتراف سلطان الأدلة، الاعتراف على الكاهن، بإعتباره ممثل السلطة الإلهية، الكاهن يمثل السلطة الإلهية، فأنت لابد أن تعترف، هذه شروط التوبة الناجحة، ندم ثم عزم صادق على تجديد السيرة، وأن لا تفقد رجاءك كما فقد يهـوذا رجـاءه وقـال أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً، لكنه فقد رجاءه وذهب وشنق نفسه. لا يا ابني، لا تفقد رجاءك، اعلم أن الله أبوك وأنه ينتظر عودتك، وينتظر عزمك على تجديد السيرة، فلا تيأس، لا تيأس من رحمة الله، اليأس يعد تجديف على الله، والله لا يقبل منك هذا اليأس، لابد أن يكون لك رجاء وتثبت في الرجاء، فلا تكون كيهوذا الذي فقد رجاءه وفقد خلاصه. ذلك تأكد أنك ستكون في حياة أخرى أفضل مما كنت، لأنك استفدت من الماضى بما يفيدك أن تبدأ حياة أخرى جديدة. لذلك ونحن ننهي هذا العام لابد أن ندين أنفسنا على أخطائنا، وأن يكون لنا تصميـم على صناعة المستقبل، ماذا تريد يا إنسان؟ أحلام حياتك، ماذا تصنع؟ لا تيأس، ننسى ما هو وراء ونمتد إلى ما هو قدام، ليكن أنك تدين نفسك لكن لا تيأس، إنش الماضي، كفر عن الماضي بالتوبة واعلم أن دم المسيح يطهرنا من كل خطيئة وتتقدم إلى سر التناول، تغسل بدم المسيح خطاياك، قم مثل ما قال حنانيا لشاول قم واعتمد واغسل خطاياك، ففي دم المسيح نغسل خطايانا، فإذا قدمت توبة صادقة بعد ذلك تتقدم إلى سر التناول، وبذلك تكون خطاياك غفرت، بعد ذلك تنمو بالنعمة وفي الفضيلة، لكن لابد أن يتجدد ذهنك، ماذا تريد يا إنسان، ضع في ذهنك أحلامك، حلم حياتك، شخصيتك يا ابني عمارة لابد أن تبنى درجة درجة، الأول لابد أن يكون هناك (رسم عمارة) ثم بعد ذلك البناء، شخصية الإنسان تبنى كالعمارة، فضيلة بعد فضيلة، فلابد أن تنمى الفضائل في نفسك، وبهذه الطريقة تستفيد من حياتك، وتصـيـر عمـارتك عظيمة جداً بكثرة الفضائل التي فيها، وستبقى هـذه العمارة لأنه «إذا نقض بيت خيمتنا الأرضى فلنا في السموات بناء، غير مصنوع بيد أبدى».

المفروض إننا سائرون في طريق السماء وأمامنا هدف كبير هو خلاص أرواحنا، وأننا ونحن نواصل مسيرتنا نحو الحياة الأبدية أننا لا نبرر الذات ولا نجامل أنفسنا ولا ننتحل عذراً لأنفسنا، الفضيلة أن تنتحل العذر لغيرك حتى لا تحقد عليه، وحتى لا تغضب منه، وحتى تزيل الخصومة بينك وبين الآخرين، إنما بالنسبة لنفسك لا تنتحل العذر لها، إعترف بأنك أنت قد أخطات واعترافك بالخطأ أول خطوة في سبيل تصحيح المسيرة.

ما أحرانا أيها الأبناء فقد أشرفنا على نهاية العام، إننا نستغفر الله عما فات وقبل أن نستغفر الله نراجع أنفسنا ونحاسب ذواتنا فيما أخطأنا ولماذا أخطأنا؟

المفروض أن الإنسان السائر في طريق الفضيلة يحاسب نفسه يوماً بيوم، بل يراقب نفسه ساعة بساعة، إلى أن يأتى الزمن والوقت الذي فيه يحسب حساب الكلمة قبل أن ينطق بها، وينتبه إلى واجباته قبل أن يتصرف، ويتجنب الانفعال الضار والغضب والتوتر والإجابات السريعة قبل أن يعي الإنسان الموقف على حقيقته، في كل هذا ينبغي أن يراجع الإنسان نفسه ويحاسب ذاته، وما أحرانا ونحن في هذا اليوم الأخير بل في الساعة الأخيرة . من هذه السنة التي انصرفت أن يراجع الإنسان نفسه، هذه المراجعة في غاية الدقة لأننا لو حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا كما يقول الإنجيل. 

نحن غرباء:

نحن غرباء على هذه الأرض، أرواحنا لم تأت من الأب والأم، الذي يأتي من الأب والأم هو بذرة الحياة الأولى، ولكن كما يقول أباء الكنيسة أنه بعد أربعين يوماً من تكوين بذرة الحياة الأولى تنزل الروح من السماء، لتتحد ببذرة الحياة الأولى ويبدأ الإنسان مسيرته في الدنيا، وهذا مايذكره الكتاب المقدس في سفر زكريا والأصحاح الثامن عشر، «الله باسط السماوات والأرض وجابل روح الإنسان في داخله»، الله جابل روح الإنسان في داخله، فأرواحنا مجبولة، مخلوقة، فنحن أرواحنا ليست من الأرض، ليست من التراب، الجسد من التراب ولكن الروح آتية من فوق، إذن نحن هنا في رحلة، وهذه الرحلة لها نهايتها، وبعد ذلك أرواحنا تعود إلى خالقها مرة أخرى، نحن عائدون، نحن هنا غرباء ونزلاء، ولكننا عائدون أيضاً، ونرجع إلى سيدنا وإلى خالقنا، مانسميه بالموت ليس فناء وإنما هو نهاية هذه المرحلة الأولى من مراحل وجودنا، نحن لم نخلق للموت، خلقنا للحياة، الموت أدخلناه على نفوسنا بالخطيئة، ومع ذلك حوله المسيح ليكون سبيلا إلى خروجنا من رحلة الحياة الدنيا، إلى العالم الآخر الأفضل من هذا، إذن نحن هنا ليس لنا في الأرض إقامة، ليس لنا هنا إقامة، نحن غرباء ونزلاء، والغريب هو الذي ليس له في الوطن إقامة لأنه غريب، والنزيل في الفندق معناه أنه لا يبقى في الفندق طويلاً، إنما لفترة يوم أو أكثر، وبعد ذلك يمر إلى البلد الأخرى التي يقصدها، هذا التعبير جميل، إننا غرباء ونزلاء، وهذا ما يقوله المزمور، «غريب أنا في الأرض فلا تخف عنى وصاياك».

لننبذ المخاصمات:

إذن لماذا نتصرف في الحياة الدنيا كما لو كنا سنحيا فيها إلى الأبد؟ لماذا نتخاصم ونتغاضب؟ ويغاضب أحدنا الآخر من أجل مطامع الدنيا، إذا كنا نعامل هذه الحياة على حقيقتها كغرباء ونزلاء، فليس هناك ما يبرر خصومتنا مع بعضنا البعض، من أجل أمور زائلة تافهة، حرام أن تضيع محبتنا بعضنا لبعض من أجل أمور زائلة فانية، مع بالغ الأسى والأسف يحدث في العائلة الواحدة مغاضبة وخصومة بين الأخ وأخيه، بين الأخ وأخته، بين الرجل وزوجته، بين الأم وابنها، وهكذا كما نعرف كم من الخصومات تنشأ في العائلات بسبب الأمور الزائلة، لكن لو أدركنا أننا نحن غرباء وأننا راحلون فلا يستحق الأمر أن نتخاصم من أجل هذا.

قيل عن الأنبا بولا السائح الأول الذي نحن نعرف قصته ونتشفع بصلواته، كانت له أخت وهذه الأخت متزوجة، وحدث نزاع بين زوج الأخت وبين الأنبا بولا على إرث، على المال، على الشيء الذي ورثاه من الوالدين، وذهب الأنبا بولا إلى الكنيسة، وبعد القداس رأى أن هناك إنساناً صلوا عليه صلاة المـوتى وودعـوه وحملـوا جثمـانه في تابـوت، وحينئذ سـأل الأنبا بولا وهو كان لا يزال شاباً في هذا الوقت، هذا الرجل الذي مات هل حمل إلى قبره شيئاً؟ ما معنى هذا السؤال؟ هل يوجد إنسان يأخذ أكثر من 150سم أو 160سم يرقد فيها، هو طبعاً يعلم الإجابة، ولكنه يرغب في أحد آخر يوصل إليه هذا الكلام، هو يعرف الإجابة لكن أحياناً يحب الإنسان أن يسمع صوتاً آخر، قد يكون في هذا الصوت رسالة له، المهم رجع إلى المنزل وتراضي مع زوج اخته، قال له يا فلان لا يمكن أن تقوم بيني وبينك خصومة على هذا المال، أبدا أبدا، خذ ما يحلو لك، خذ ماتريد ولا يمكن أن نتخاصم ونفقد محبتنا بعضنا لبعض من أجل هذه الأمور التافهة الزائلة، وفعلاً زوج أخته أخذ ما أراد أن يأخذه من هذا الإرث، وأما الأنبا بولا فما تبقى له باعه وأعطاه للفقراء والمساكين وذهب متوحدا سائحاً في طريق الفضيلة وطريق السماء.

هذه القصة تتكرر في حياتنا وفي عائلاتنا، خصومات تنشأ ، أبين الأخ وأخيه، بين قايين وهابيل منذ القديم على أمور زائلة، لو كان الإنسان منا يحتكم بحكمة السماء ويعرف أنه غريب ونزيل وأنه عابر، يجد أنه يخطىء لو يغضب مع قريب له بسبب هذه الأمور الزائلة، ويفقد محبته لأخيه أو لأخته أو لأبيه أو أمه في سبيل الاحتفاظ والتكالب على المادة.

لو عرف الإنسان أيضا أنه غريب ونزيل لما كان يسرق ويغتصب، ويتعدى الحدود في سبيل أن يغتنى، أو في سبيل أن يحصل على أي شيء ليس من حقه، إحساسه بنهاية حياته وأنه غريب يعصمه من أن يقع في هذا الخطأ ويعقله، لأن العقل هو الرباط، لماذا سمى العقل بالعقل؟ لأنه رباط، عقل الناقة أي ربطها، فعقل الإنسان هو رباطه الذي يشكم شهواته ونزواته، يربطه، يحكمه، هذا هو العقل، لو كان الإنسان يتحكم بعقله ويضبط تصرفاته، لما كان أبدا يرتكب السرقة والخيانة والتعدي ويغتصب حقوق الآخرين، ويطمع طمعاً مادياً في شيء من شئون الدنيا أو فيما هو ملك لأهله، أو كما تقول الوصية العاشرة «لا تشته بيت قريبك ولا إمرأته ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك»، هذه الشهوة هي شهوة . الإنسان الذي يطمع في هذه الأمور الدنيوية ويتكالب عليها، وفي سبيل هذا التكالب يرتكب أخطاء ضد نفسه وضد إلهه وضد الآخرين، من أقاربه وأصدقائه والمعايشين له.

 إذن لو أدركنا وأدرك الإنسان منا أنه غريب في الأرض وأنه راجع إلى خالقـه بعد نهاية رحلته، نحن راجعون «ارجعی یا نفسي إلى موضع راحتك» رجوع، لأن أصلنا من السماء، هذه الأرواح ليست من الأرض فهي من السماء نازلة، فبعد رحلة الحياة الدنيا ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها.

وهذا ما يقوله سفر الأمثال والجامعة «بالموت يرجع التراب إلى التراب كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» ، نفس المعنى يتكرر يرجع التراب إلى التراب، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها.

إذن أرواحنا آتية من فوق ووجودنا في الدنيا فترة مؤقتة، رحلة وبعد ذلك نرجع، ترجع أرواحنا إلى خالقها مرة أخرى، وطبعاً ترجع ومعها تقريرها عن حياتها، ترجع ومعها تقريرها عن رحلتها، ماذا صنعت يا إنسان، ماذا صنعت في رحلتك؟ ماهي الأمور التي أنجزتها؟ وماهي الأمور التي لم تنجزها؟، ماهي النجاحات التي صنعتها في حياتك؟ وماهو الفشل الذي تسببت فيه. وأخطاؤه؟ كل هذه يحملها الواحد منا في نهاية هذه الحياة، وفي نهاية هذه الرحلة، عندما يرجع إلى سيده، عندما يرجع لخالقه، يحمل تقريراً عن نفسه ويوضع على الميزان!! نعم يوضع على الميزان، ميزان العدل الإلهي، فطوبی للإنسان الذي إذا وضع على الميزان، يشهد الميزان له بأنه صنع خيراً في حياته، واستغل وقته ومواهبه في أعمال صالحة، أما إذا الواحد منا لم يعمل العمل الذي ينبغي عليه أن ينجزه في رحلته على الأرض، فسيظهر هذا حينما يعود ويوضع على الميزان وحينئذ يسمع الكلمة القائلة وزنت بالموازين فوجدت ناقصا.

كن وكيلاً أميناً:

هنا السؤال ماذا لو انتهت حياتي الآن؟ وهذا أمر ممكن، وعشرات من الناس ومئات من الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم انتهت حياتهم، وأنا لو انتهت حياتي اليوم في أي ساعة أو في أي دقيقة، فأنا إنسان معرض في أي وقت تنتهي حياتي، ترى عندما أرجع لسيدي لأننا نحن راجعون وأوضع على الميزان، ماذا يكون وزنی؟ وازن الأرواح، نعم، ترى عندما يذهب الإنسان إلى هناك، فيجد نفسه غريباً أو معروفا بالوجه، سيدنا له المجد يقول: «اصنعوا لكم أصدقاء بالمال الذي لا حق لكم فيه، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية»، بعض الترجمات وضعوها «مال الظلم»، هو ليس مال الظلم، بمعنى أن الإنسان يظلم، لا… المال الذي لا حق لك فيه، يعني مثلاً العشور ليست من حقك أنت، العشور حق الله، البكور، النذور، وأيضاً عندما تكون أنت إنسان رب عائلة زوجتك وأولادك لهم حقوق في مرتبك أيضاً، لو كنت مدير عمل، أيا كان في أي وظيفة، كل العمال الذين معك لهم حقوق، إذن كلمة اصنعوا لكم أصدقاء بالمال الذي لاحق لكم فيه، ليس معناه أن الإنسان يرتكب الظلم ويكون له أصدقاء!! لا.. يوجد أموال أنا مؤتمن عليها باعتبارى رب عائلة أو باعتبارى رب أسرة أو مدير عمل، هذا المال فيه جزء منه يخصك، ولكن هناك أجزاء أخرى هي حقوق للآخرين، أنت مؤتمن عليها، أنت أمين مخازن، هذه المخازن ليست ملكك، أنت فقط مؤتمن عليها، فأنت وكيل ولست الأصيل، فالوكيل لابد أن يحاسب أمام الأصيل، فكلنا يا أولادنا وكلاء، وكلاء على مسئوليات، إن كنت أبا أو إن كنت أماً، إن كنت موظفاً، إن كنت عاملاً، إن كنت خادماً من أي نوع ، فأنت وكيل، وكيل على وزناتك، مواهبك المادية وأيضاً العقلية وأيضاً الروحانية، كل هذا أنت مؤتمن عليه، لأن مثل مايقول الرسول أي شيء لك لم تأخذه، كل شيء أنت أخذته من عند ربك فأنت مؤتمن، ماذا صنعت يا إنسان، وأنت أمين مخازن وأنت مؤتمن وأنت وكيل ولست أصيل، يقول سيدنا له المجد لوكيل الظلم أعطى حساب وكالتك لأنك لا تقدر أن تكون أمينا بعد، ولاتقدر أن تكون وكيلاً بعد.

هكذا يا أولادنا بعدما نرجع سنحاسب أمام سيدنا، توضع على الميزان هناك، الأصيل ماذا يكون حكمه، أنا وكيل لكن سأحاسب أمام الأصيل، ماذا صنعت بالمسئولية التي أنا مسئول عنها، إن كان لي أولاد، إن كان لى زوجة، والمرأة إذا كانت أماً وأيضاً الإنسان في أي عمل من الأعمال، في أي مسئولية من المسئوليات، مسئولية علمية أو إدارية أو مالية أو أي عمل، كل هذا سيكون فيه حساب، مجرد وكيل وأمين مخازن لكن المسألة غير متروكة ومهملة، هناك حاكم الكون. ياترى ماذا يكون التقرير لروحك، هل يقال عنك أنك أمين أم يقال وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً!!

ماتزرعه إياه تحصده:

هو فيه قصة يا أولادنا جاءت في السنكسار تعطينا وسيلة إيضاح أو تشرح لنا كيف أن الذي يعمله الإنسان هنا يصل هناك إلى فوق، مثل ما تلقى بخطاب في صندوق البريد، أنت تضعه وأنت تعلم أن الدولة لها وسائلها أن هذا الخطاب يصل للشخص الذي تريده، فعمل الخير الذي تعمله يصل إلى الله، فأنت تعطى الله «من يعطى الفقير يقرض الرب» أنظروا هذا التعبير، الذي يعطى الفقير يقرض الله، ماذا يعني هذا التعبير؟ أنا أقرض ربنا، لما أعطى الفقير أقرض الله ماذا يعني؟ يعني أ أنه الذي سيدفع لك المقابل، عمل الخير الذي أنت تصنعه يصل لسيدك فوق.

فهنا يوجد قصة جميلة في السنكسار، كان واحد اسمه ابراهيم العابد، هو سمى أخيراً إبراهيم العابد، لكن هو كان أصلاً رجل غني، وغني جداً، وكثير من الأغنياء يكونون بخلاء، ويكون عندهم نوع من التكالب والحرص الشديد على المال، ولذلك يغتنى أكثر فأكثر، فهذا الرجل كان غنياً جدا ولكن أيضاً كان بخيلاً، فعندما كان أحد يحضر إليه يطلب صدقة يرفض أن يعطى له، ويغضب عليه ويشتمه وقد يضربه أو يطرده على الأقل، المهم يروي السنكسار أن هذا الرجل الغني كان الخادم أحضر له الفطار، وفي هذه الأثناء حضر رجل مسكين يطلب صدقة فنكد عليه، واغتاظ غيظاً شديداً، وأخذ لقمه وضربه بها وطرده، ولكن يبدو أن هذا الإنسان على الرغم من بخله أنه كان عنده طيبة، وهذه مهمة يا أولادنا في علاقتنا بربنا، الإنسان الذي عنده شيء من الطيبة الله يفرح به، مثلاً واحد مثل بولس الرسول لما كان يضطهد المسيحية، لم يكن يضطهدها عن خبث، ولكن ببساطة لأنه يؤمن أن الديانة الصحيحة هي الديانة اليهودية، فالديانة المسيحية يرى أنها بدعة وكان يقاومها، وكان يحل لنفسه أنه يقتل ويجر إلى السجون رجالاً ونساء، لكن لأن قلبه فيه طيبة الله لم يتركه، لم يجد أحداً يقنعه، فالمسيح ظهر له بنفسه في الطريق، وهو لم ينس فضل المسيح عليه، أحياناً كان يشعر بتأنيب الضمير عن حياته الأولى، فيقول أنا لست مستحقاً أن أدعى رسولا لأنى اضطهدت كنيسة الله، ولكني رحمت، أي ربنا رحمني لأنى فعلت ببساطة في جهل وفي عدم إيمان، ربنا رحمه لأنه لما كان يصنع هذه الشرور، كان يصنعها ببساطة وليس عن خبث ولا عن طمع مادي.

فهذا الرجل ابراهيم العابد، كان غنياً ولكن كان يكره أن يعطى الفقراء والمساكين، أقول قد يكون أن الله وجد في هذا الإنسان طيبة، فالمهم أنه في الليل رأى رؤيا، رأى نفسه في يوم الحساب، يوم الدينونة ورأى ميزاناً ورأى كل واحد الملائكة تحضر أعماله وتضعها في الميزان، فجاء الدور عليه فرأى الملائكة واقفين وقالوا هذا الرجل لم يصنع شيئاً حسناً، فجاء ملاك صغير وقال لا.. هذا الرجل بالأمس رمى لقمة خبز لواحد مسكين وأحضر هذه اللقمة ووضعها في الميزان، الرجل استيقظ من النوم وأخذ يبكي بكاءا مراً، وقال أنا وصلت لهذه الدرجة من الشر، حتى اللقمة التي رميتها بدون رضی قلبی، الله لم ينسها، وبدأ يكفر عن ماضيه ويعطى باستمرار عطاءا متواصلاً لدرجة أنه أخيراً أعطى الثوب الذي عليه، وبعد ذلك سار في طريق الكمال وذهب للرهبنة وأصبح اسمه ابراهيم العابد. يوم فهناك إله رقيب وخصوصاً الأمور التي أنت تعملها في الخفاء، والتي تعملها لا من أجل أن تنال عنها الجزاء أو مدح من الناس لا تنسى أبدأ. إرمي خبزك على وجه المياه تجده بعد أيام كثيرة. ربنا لا ينسى، هو العين الساهرة، في اليوم الأخير المسيح الديان يقول في الدينونة في المجيء الثاني للذين على يمينه «تعالوا أيها المباركون من أبي لترثوا الملكوت المعد لكم، لأنى كنت جائعاً فأطعمتموني، عطشاناً فسقیتمونی، عریاناً فكسوتمونی ، غريباً فآويتموني، مريضاً فزرتموني، فيقول الأبرار له متى رأيناك يارب جائعاً فأطعمناك!! متى رأيناك عطشانا فسقيناك»، هم لا يكذبوه، ولكنهم نسوا، ولكنه لم ينس، ممكن أنت تنسى عمل الخير الذي تعمله، أو كنت تعمله في الخفاء ولا يراك أحد، ومثل ماقال المسيح لا تعرف شمالك ماتفعله يمينك، كل هذا محسوب أمام سيدك، هو الرقيب وهو ناظر الكون، وعيناه تخترقان أستار الظلام.

يوجد قصة جميلة أيضاً عن يوسف الصديق المعروفة، المرأة زوجة فوطيفار عندما أرادت أن تخطىء مع يوسف فيوسف قال لها كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله، هي لم تكن تعرف الله الحقيقي، فكان عندها أصنام في المنزل وهي التماثيل التي تمثل الآلهة، فوضعت التماثيل بجوار بعضها وأحضرت ستراً كبيراً وغطت به التماثيل، وقالت له يا يوسف كن مستعداً لن يرانا أحد لقد غطيتها، تعالى يايوسف، قال لها أما إلهي فعيناه تخترقان أستار الظلام، أنت تقدري أن تغطى آلهتك، تقدري أن تغطى بهذا الستر عيون هذه التماثيل والأصنام، التي لا ترى ولا تسمع، أما إلهى فعيناه تخترقان أستار الظلام.

فيا بني وأنت على الأرض لا تنسى أن سيدك فوق ويراك وناظر إليك، لا يمكن أن يغفل، فهو حاكم الكون، فصنع الخير الذي أنت تصنعه ولا يدرى به أحد الله يراه، لا ينسى ليس ضعيف الذاكرة، الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة، الله ليس بظالم الله عادل، فأنت أيها الإنسان أنت صانع مصيرك ولكن اطمئن أن كل شيء تعمله إن كان خيراً سيدك لن ينساه، وإن كان شراً سيدك يتذكره، وستحاسب عن هذا وعن ذاك، نحن هنا في رحلتنا على الأرض هذه مرحلة أولى، وراجعين لسيدنا، وسنحاسب أمام سيدنا، إن صنعت خيراً فلك الجزاء وإن صنعت شراً لا ينسى أبدأ، إن ظلمت غيرك، فهذا الإنسان المظلوم لابد لسيدك أن يأخذ حقه منك، خصوصاً إذا كنت إنساناً كبيراً أو متكبراً أو مركزك يسمح لك أنك تتحكم في غيرك، لا تنسى أن فيه إله، فوق العالي عاليا والأعلى فوقهما.

فأنت إذا كان وظيفتك أو عملك أو مركزك في الدنيا يسمح لك أنك تتحكم في غيرك، أو أن تظلم غيرك، هذا المظلوم لابد أن يرد إعتباره، إذن أيها الظالم راجع نفسك وحاسب نفسـك، وقـل أنا ماذا صنعت وقبل أن تحاكم ويحكم عليك أنت احكم على نفسك وأنت في الحياة.

يا أولادنا.. رجاؤنا في الله أن يقبل استغفارنا وأن تمحى خطايانا، ونشكر الله أنه أعطانا عمراً وعشنا إلى هذه الساعة، كثيرون غيرنا ذهبوا، أنا باق إلى اليوم ليس فضلا منى ولكن رحمة من ربنا، أعطاني فرصة أكثر من غيرى، كثيرا ما تعرض الواحد فينا أحياناً لبعض أخطار من السيارات أو من أتوبيسات أو من الطائرات أو من المرض أو أى شيء من هذا القبيل، ويجد نفسه أخيرا يكمل حياته، فمن فضل ربنا يعطينا فرصة أكبر، فنحن نشكر الله إننا بقينا إلى هذا اليوم، يوجد غيرنا ذهبوا وضاعت منهم الفرصة، فأنت يا إنسان أمامك الفرصة، أن تستغفر وتجدد عهودك مع الله، وتقول له يارب سامحنى على الماضي، سامحنى على تقصیراتی، سامحنى على الخطايا التي أنا صنعتها، لي رغبة أن أتوب عنها، ولكن أرجوك أن تساعدني حتى أنى أبدأ بداءة جديدة وأدرك أهمية الأعمال الصالحة والعبادة الصادقة، لأنى أنا راجع ثاني إليك يا سيدي، فأرجو أن أرجع إليك رجوعاً حسناً.

ربنا يسوع المسيح يحافظ عليكم جميعاً ويبارككم بكل البركات السمائية له الإكرام والمجد إلى الأبد آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى