تفسير سفر دانيال ٢ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاح الثاني
جرت أحداث هذا الإصحاح سنة 603ق.م ولقد قيل في الإصحاح الأول عدد (17) أن دانيال كان فهيماً بالأحلام. وفي هذا الإصحاح نرى مثلاً بارزاً لذلك، ولقد ظهر هذا مبكراً. وهذا جعله معروفاً في بلاط بابل كما كان يوسف مشهوراً في بلاط مصر لنفس السبب. وبينما كان حلم فرعون وتفسير يوسف له متعلقين بسنوات الشبع والجوع فقط، جاء حلم نبوخذ نصر هنا وتفسير دانيال له متعلقاً بممالك العالم ثم مملكة المسيا التي سيؤسسها. ونرى في حلم نبوخذ نصر أن الممالك العظيمة في جبروتها لابد أن يكون لها نهاية، هي تبدأ بالذهب وتنتهي بالخزف ثم تباد، أما مملكة المسيح فهي حجر يبدأ صغيراً ثم يكبر إلى ما لا نهاية. ممالك العالم لها منظر بهي جداً آية (31) ولكن نهايتها الفناء. أما ملكوت المسيح فيبدأ صغيراً ثم ينمو ويستمر للأبد. ونرى في هذا الحلم أن الله يتحكم في التاريخ ويدير دفته لمجد اسمه وتنفيذ خطة أزلية فهو ضابط الكل وضابط التاريخ.
آية (1): “وفي السنة الثانية من ملك نبوخذناصّر حلم نبوخذناصّر أحلاماً فأنزعجت روحه وطار عنه نومه.”
في السنة الثانية من ملك نبوخذ نصر = يبدو أن هناك تعارض بين هذه الآية وبين (5:1) التي أشارت إلى أن الملك عَّين لدانيال والثلاثة فتية مدة 3 سنين للتعليم يقفون بعدها أمامه. إلا أن هناك أراء متعددة لحل هذا الإشكال البسيط:
- كان البابليون يحسبون السنة الأولى للملك أنها هي السنة التالية الفلكية لتوليه الحكم وبهذا تكون السنة الثانية لنبوخذ نصر هي فعلاً بعد ثلاث سنوات من تدريبهم ليقفوا أمام الملك.
- قد تكون هي السنة الثانية لحكم نبوخذ نصر منفرداً بعد موت أبيه ولكنها الخامسة أو السادسة لملكه بالاشتراك مع أبيه.
- كانت المدة المعينة لتعليم هؤلاء الفتيان هي 3 سنوات ولكن يبدو أن دانيال كان متقدماً بدرجة واضحة، وذلك مبكراً بدرجة أهلته لأن يقف أمام الملك قبل نهاية هذه السنوات الثلاث.
أحلاماً= يبدو أن الحلم كان يتردد عليه عدة مرات بصورة ملحة أو لعدة أيام وهو نفس الحلم. وكانت يد الله واضحة فهو حلم لم ينساه الملك بعد أن استيقظ بل كانت يد الله شديدة عليه. حتى طار عنه نومه. ولنقارن مع الله يعطي لأحبائه نوماً. فأحباء الله قد يكونون في ظلم واضطهاد أو فقر أو مرض لكنهم في سلام يفوق كل عقل، وهذا يحفظ قلوبهم وأفكارهم في المسيح يسوع (في7:4) فينامون في سلام. بينما أن الملك والسلطان والغنى.. الخ فهم غير قادرين أن يعطوا هذا السلام وهذا النوم الهادئ كما نرى في هذه الحالة.
أنواع الأحلام: هناك أحلام من الله مثل حلم يوسف النجار وحلم فرعون الذي فسَّره يوسف وايضاً هذا الحلم الذي لنبوخذ نصر هو من الله. ولذلك فهي أحلام موجهة أو منبئة بشئ يحدث في المستقبل. وهناك أحلام من الشياطين بها يخدعون الإنسان ويضللونه ليسير في طريق خاطئ، أو ليزعجونه.وهناك أحلام من ترسيبات العقل الباطن وهو ما جمعه الفكر والحواس وترسب وتم تخزينه في العقل الباطن، ويظهر ليلاً بدون ضابط.
الآيات (2-13): “فأمر الملك بان يستدعى المجوس والسحرة والعرّافون والكلدانيون ليخبروا الملك بأحلامه فأتوا ووقفوا أمام الملك. فقال لهم الملك قد حلمت حلماً وإنزعجت روحي لمعرفة الحلم. فكلم الكلدانيون الملك بالآرامية عش أيها الملك إلى الأبد.أخبر عبيدك بالحلم فنبيّن تعبيره. فأجاب الملك وقال للكلدانيين قد خرج مني القول أن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره تصيرون إرباً إرباً وتجعل بيوتكم مزبلة. وان بيّنتم الحلم وتعبيره تنالون من قبلي هدايا وحلاوين وإكراماً عظيماً فبيّنوا لي الحلم وتعبيره. فأجابوا ثانية وقالوا ليخبر الملك عبيده بالحلم فنبين تعبيره. أجاب الملك وقال أني اعلم يقيناً أنكم تكتسبون وقتاً إذ رأيتم أن القول قد خرج مني. بأنه أن لم تنبئوني بالحلم فقضاؤكم واحد.لأنكم قد أتفقتم على كلامٍ كذب وفاسد لتتكلموا به قدامي إلى أن يتحول الوقت.فأخبروني بالحلم فأعلم أنكم تبيّنون لي تعبيره. أجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبيّن أمر الملك.لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوسي أو ساحر أو كلداني. والأمر الذي يطلبه الملك عسر وليس آخر يبيّنه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر. لأجل ذلك غضب الملك واغتاظ جداً وأمر بإبادة كل حكماء بابل. فخرج الأمر وكان الحكماء يقتلون فطلبوا دانيال وأصحابه ليقتلوهم.”
ذهب المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون (أي فئة الكهنة) وهؤلاء يدعون معرفة المستقبل. وكانت الأحلام في بابل الوثنية تفسر كالنبوات ولها قواعد للتفسير. أما كل هؤلاء فكانوا خداماً للشيطان في شخص هذه الآلهة الوثنية (بيل ومرودخ) وابتداء من آية (4) حين قال النبي “فكلم الكلدانيون الملك بالآرامية بدأ دانيال يكتب بالآرامية حتى نهاية الإصحاح السابع وكان المتبع أن يخبر الشخص بحلمه هؤلاء السحرة وهم يخبرونه بالتفسير ولكن الملك اتبع هنا أسلوباً جديداً وطلب منهم أن يقولوا له الحلم أولاً ثم التفسير، وذلك لأنه خاف أن يطمئنوه ويخدعونه بكلامٍ ملق، فبدأ بتهديدهم بقسوة عنيفة ثم بدأ يستلطفهم ويعطيهم وعود بأنهم لو فعلوا سيعطيهم هدايا وحلاوين = أي هدايا ومكافآت وقوله في آية (9) إلى أن يتحول الوقت يعني إما أن ينسى الملك الحلم، ومن ثم يقتنع بأي كلام يقوله السحرة أو ينسى الملك وعيده لهم ويشفق عليهم فلا يقتلهم. وكان قصد الله من كل هذا أن يكشف لملك بابل كذب وبطل هذه الآلهة وأن إله دانيال هو الإله الحقيقي.
الآيات (14-23): “حينئذ أجاب دانيال بحكمة وعقل لأريوخ رئيس شرط الملك الذي خرج ليقتل حكماء بابل. أجاب وقال لأريوخ قائد الملك لماذا أشتد الأمر من قبل الملك.حينئذ أخبر أريوخ دانيال بالأمر. فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتاً فيبيّن للملك التعبير. حينئذ مضى دانيال إلى بيته وأعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر. ليطلبوا المراحم من قبل اله السموات من جهة هذا السر لكي لا يهلك دانيال وأصحابه مع سائر حكماء بابل. حينئذ لدانيال كشف السر في رؤيا الليل.فبارك دانيال إله السموات. أجاب دانيال وقال ليكن أسم الله مباركاً من الأزل والى الأبد لأن له الحكمة والجبروت. وهو يغيّر الأوقات والأزمنة يعزل ملوكاً وينصب ملوكاً.يعطي الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهماً. هو يكشف العمائق والأسرار. يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور. إياك يا إله آبائي أحمد وأسبح الذي أعطاني الحكمة والقوة وأعلمني الآن ما طلبناه منك لأنك أعلمتنا أمر الملك.”
واضح أن دانيال لم يُطلب ليحضر مع المنجمين والسحرة أولاً. وهذا بتدبير من الله فإرتباك السحرة جعل حكمة دانيال ظاهرة جداً، بل هم شهدوا أن مطلب الملك لا يقدر عليه سوى الآلهة، وتمجد الله في كل هذا. ونلاحظ أن دانيال يتكلم بحكمة مع آريوخ فالله يعطي لأولاده حكمة. وأيضاً نلاحظ اعتماد دانيال المطلق على الله في حل كل مشاكله وأنه كان رجل صلاة. وصلاته جعلت له تأثيراً على قلب آريوخ. ولاحظ كلمات دانيال الرقيقة لماذا اشتد الأمر بالملك = أي لماذا هو في ضيقة شديدة حتى يأمر بهذا. فحتى وهو مقبل على الإعدام بأمر ظالم من الملك لم يهاجم الملك أو ينسب له ظلماً (لا يمكن اكتساب رقة الطبع والمحبة والحكمة إلا بالاتصال المستمر بالله) وطلب دانيال من الفتية الثلاث أن يشاركوه الصلاة نرى فيه صورة للصلاة الجماعية. فهناك صلاة فردية وهناك أيضاً صلاة جماعية وطلب دانيال مراحم الرب. ثم بعد أن كشف الله له السر بدأ يسبح ويشكر الله وهذه العناصر هي عناصر أساسية للصلاة (طلب الرحمة والشكر) لذلك فكنيستنا بإرشاد الروح القدس تضع في بدء صلوات الأجبية صلاة الشكر والمزمور الخمسون (ارحمني يا الله..) ودانيال لم يذهب ليتشاور مع أحد ولا ذهب ليدرس كتب تفسير الأحلام بل ذهب ليصلي؟ وهو يطلب من الله شيئاً صعباً حقيقة ولكن هل يستحيل على الرب شئ. وفي آية (19) رؤيا الليل= هذا يعني غالباً أن الله جعل دانيال يحلم نفس الحلم ثم أرسل له الله ملاكاً يفسره له “اقرعوا يفتح لكم” + “صلاة البار تقتدر كثيراً في فعلها” ودانيال قدَّم الشكر لله حتى قبل أن يذهب للملك ويرى النتيجة، فعمل الله دائماً كامل.
الآيات (24-30): “فمن أجل ذلك دخل دانيال إلى أريوخ الذي عيّنه الملك لإبادة حكماء بابل.مضى وقال له هكذا.لا تبد حكماء بابل.أدخلني إلى قدام الملك فأبيّن للملك التعبير. حينئذ دخل أريوخ بدانيال إلى قدام الملك مسرعاً وقال له هكذا.قد وجدت رجلاً من بني سبي يهوذا الذي يعرّف الملك بالتعبير. أجاب الملك وقال لدانيال الذي أسمه بلطشاصر هل تستطيع أنت على أن تعرّفني بالحلم الذي رأيت وبتعبيره. أجاب دانيال قدام الملك وقال.السر الذي طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبيّنوه للملك. لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار وقد عرّف الملك نبوخذناصّر ما يكون في الأيام الأخيرة.حلمك ورؤيا رأسك على فراشك هو هذا. أنت يا أيها الملك أفكارك على فراشك صعدت إلى ما يكون من بعد هذا وكاشف الأسرار يعرّفك بما يكون. أما أنا فلم يكشف لي هذا السر لحكمة فيّ أكثر من كل الأحياء. ولكن لكي يعرّف الملك بالتعبير ولكي تعلم أفكار قلبك.”
لم يطلب دانيال هلاك المنجمين والسحرة بالرغم من أنهم يستحقون ذلك حسب الشريعة وذلك [1] هم لا يعرفون شريعة الله. [2] يعطيهم فرصة أن يكتشفوا جهلهم فيخجلوا من أوثانهم [3] يكتشفوا قوة إله دانيال. وفي (26) هل تستطيع أنت= فيه استغراب أن دانيال صغير السن لكن له معرفة أكثر من كل حكماء بابل. وفي (28) يوجد إله في السموات = هنا دانيال ينسب كل شئ لله. ولنلاحظ أنه حينما نعطي المجد لله يمجدنا الله وسط الناس وحينما ننسب المجد والنجاح لأنفسنا يختفي عنا. والله الذي يكشف لدانيال السر هو “الذي يعلنها للأطفال الصغار ويخفيها عن الحكماء” ورؤيا رأسك على فراشك = فهي تعني أن نبوخذ نصر الملك العظيم الذي جعل من بابل إمبراطورية عظيمة كان قبل أن ينام يحلم ويفكر في المستقبل.. ماذا بعد كل ما عمله حتى الآن. وأجابه الله بان أعلن له المستقبل ليعطي لهذا الملك الوثني أن يتعرف على الله الإله الحقيقي ويكون هناك خير لعبيد الله الأمناء مثل دانيال والثلاثة فتية. والأيام الأخيرة = هذه تشير لمملكة المسيح بعد مجيئه وصليبه وصعوده (عب1:1).
الآيات (31-45): “أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم. هذا التمثال العظيم البهي جداً وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيد.صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس. ساقاه من حديد. قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فأنسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها. هذا هو الحلم. فنخبر بتعبيره قدام الملك. أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتداراً وسلطاناً وفخراً. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلطك عليها جميعها. فأنت هذا الرأس من ذهب. وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض. وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسّر كل هؤلاء. وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قوياً والبعض قصماً. وبما رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين فأنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفني كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب. الله العظيم قد عرّف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق وتعبيره يقين.”
كان نبوخذ نصر مفتوناً بالتماثيل، ملأ قصره منها وعبد تماثيل كثيرة. فالله يخاطب هذا الملك باللغة التي يفهمها. والملك رأى التمثال هنا عظيم وبهي جداً = وهو يشير لممالك العالم. والله هنا يهتم بالممالك التي لها علاقة بشعبه وتؤثر فيه من خلال سلطانها الزمني. وهذه الممالك في نظر الناس عظيمة وبهية جداً. فالبشر يحكمون حسب المظاهر، فهذه الممالك تحكم وتتسلط وهي غنية جداً. ولكن في نظر أولاد الله، وفي نظر الله فهذه الممالك كما رآها دانيال في إصحاح (7) ما هي إلا وحوش، هي قوى أرضية جسدانية وقوى طغيان، فيها من طبع الوحوش أكثر من طبع الإنسان. ونلاحظ أن هذه القوى تمثلت بشكل تمثال واحد وليس بعدة تماثيل فكلها قوة واحدة ضد الله وكنيسته. وحين يتحرك الملوك ضد الكنيسة ويضطهدون شعب الله فالشيطان هو الذي يحركهم. والشيطان قد أسماه دانيال أو الملاك الذي يكلمه “رئيس فارس” ثم “رئيس اليونان” (دا 20:10) والمعنى الشيطان الذي يحرك ويهيج هؤلاء الملوك ضد شعب الله. والمسيح أطلق على الشيطان “رئيس هذا العالم” (يو30:14) إذاً هو الشيطان وقد سكن في أربع أمم مختلفة عبر التاريخ ولاحظ أن رقم أربعة يشير للعمومية، أي لكل العالم.
- رأس الذهب: هو نبوخذ نصر ملك بابل وأسماه دانيال ملك ملوك أي أعظم ملك، كما يقال عبد العبيد أي أحقر عبد. ولقب ملك الملوك استعمله ملوك بابل وملوك فارس (عز12:7 + حز7:26) وبابل رأس فهي مشهورة بالحكمة والقوة، وهي ذهب لأنها غنية. مملوءة ذهباً. وهي قديمة جداً فبابل بدأت بنمرود، أي استمرت ما يقرب من 1600سنة وفي وقت دانيال كانت كما لم تكن من قبل، وكان نبوخذ نصر في ذلك الحين أقوى ملك عرفه التاريخ حتى هذا الوقت وهو يُمَثَّلْ هنا بالذهب فسلطانه مطلق، وهذا لم يكن لأي ملك في أي مملكة بعده (راجع صفحة 31 لمزيد من التفاصيل).
- الصدر والذراعان الفضة: واضح التسلسل الزمني، فمادي وفارس أعقبت بابل زمنياً. فمعني مجيء الصدر والذراعان تحت الرأس، أن مملكة مادي وفارس ستعقب بابل. وفي آية (39) كلمة أصغر منك = تعني منخفض عنك، فهو يأتي تحته في التمثال. وهذا هو الأصح فإن مملكة فارس لم تكن أصغر من بابل ولكنها تليها زمنياً في التاريخ. وهي في موقعها على التمثال تليها مكانياً. فالصدر يجئ تحت الرأس. ولأن الدولة كانت تتكون من مادي وفارس فقد تم تمثيلها بذراعين.
بل أن كورش نفسه كان أبوه من فارس، وأمه من مادي وكذلك خاله داريوس الذي حكم بابل بعد سقوطها في أيديهم. ونلاحظ أن دانيال هنا لم يعط وصفاً لمملكة فارس بينما أعطى وصفاً لليونان بأنها تتسلط على كل الأرض وقال عن الرومان مملكة رابعة صلبة، وذلك غالباً لأن نبوخذ نصر سيكون شديد الحساسية لمن سيأتي بعده ويحطم مملكته. وبحكمة أيضاً استخدم دانيال كلمة أصغر منك التي تحتمل معنيان “أصغر منك” وتأتي تحتك (هذه كما نقول بالعامية أوطى منك) وبذلك لا يسئ لمشاعر الملك الحالي.
- البطن والفخذان النحاس: هي دولة اليونان التي أسسها الإسكندر الأكبر حين هزم ملك الفرس داريوس كودومانوس آخر أباطرة الفرس. وهذا فتح كل العالم المعروف تقريباً. وبكى حين لم يجد ما يغزوه بعد ذلك. واليونان اهتموا بنشر اللغة اليونانية في العالم كله، مما مهد للكتاب المقدس أن ينتشر سريعاً إذ كُتِبَ العهد الجديد باليونانية وكانت قد تمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية قبل هذا فيما يُعرف بالترجمة السبعينية(وكان ذلك في القرن الثالث ق.م).
- الساقان الحديد: هي الدولة الرومانية التي جاء المسيح في أيامها ليؤسس مملكته. وكانت الدولة الرومانية دولة قوية كالحديد سادت لعصور طويلة بعد أن حطمت الدولة اليونانية. ولكنها لم تستطع أن تغير الثقافة اليونانية ولا اللغة اليونانية لقرون عديدة. وهي التي أنهت الدولة اليهودية وأحرقت أورشليم والهيكل، وهي التي عذبت المسيحيين لعدة قرون. وفي نهايتها بدأت تضعف وتنقسم فصارت كأصابع القدمين، وبعض هذه الأقسام كان قوياً وبعضها كان ضعيفاً كالخزف. والإمبراطورية الضخمة نظراً لأنها جمعت فيها دولاً متحضرة وقبائل برابرة، كان الظن أن يجتمعوا في دولة واحدة، ولكنهم لم يجتمعوا أبداً بل صاروا سبباً في إنهيار الإمبراطورية كلها، فلم تستطع أن تقف في وجه العرب بل هم قد حطموها.
- الحجر الذي قطع بغير يدين: هو المسيح الذي وُلِدَ بغير زرع بشر، وهو الذي حطَّم مملكة الشيطان الذي سكن هذه الممالك أو هذا التمثال. فالروح القدس هو الذي هَيَّاَ بطن العذراء لتلد عمانوئيل إلهنا وملكنا. هذا هو الحجر الذي رذله البناؤون وهو رأس الزاوية وهو حجر العثرة لليهود (مز22:118 + أش14:8) والمسيح وُلِدَ في أيام هذه الإمبراطورية التي سادت العالم وأمر إمبراطورها بالاكتتاب (لو1:2)
كل هذه الإمبراطوريات الضخمة التي كانت ضد الله وملكوته خربت رمزاً لخراب هذا العالم النهائي أما ملكوت المسيح فهو أبدي وكنيسته مؤسسة على صخرة ولن تقوى عليها أبواب الجحيم. وسيأتي يوم النهاية ليضع الله أعداؤه عند موطئ قدميه (1كو24:15،25) ونلاحظ أن نبوخذ نصر لم يقاطع دانيال مرة واحدة، فهو مأخوذ بهذه القوة الإلهية، فالله وحده هو الذي يستطيع أن يخبر بالمستقبل (أش23:41،26) وقول دانيال الحلم حق وتعبيره يقين = أي أنه من الله وتفسيره من الله، وهو تفسير مؤكد بسبب هذا. والله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، هو أوحي به ولذلك سيتم تنفيذه.
معنى الذهب والفضة والنحاس والحديد والخزف:
- شبهت بابل بالذهب: يسجل هيرودوتس أن معابد بابل امتلأت بكميات خرافية من الذهب، وفي كثير من هياكلها موائد من الذهب الخالص وتماثيل ذهبية (دا 1:3) وفيه نجد نموذجاً لهذه التماثيل الذهبية العملاقة (تقريباً 30متراً 3 ×أمتار) قد يكون من الذهب الخالص أو مغطى بقشرة ذهبية) وكانت بعض الآلهة الذهبية تجلس على عروش ذهبية ومذابحهم ذهبية وقد رأى هيرودوتس هذا بعينيه بعد 90سنة من نبوخذ نصر وقال أنه لم يرى في أي مكان ذهباً بهذا المقدار. وكانت القصور هكذا مغشاة بالذهب. كان نبوخذ نصر عاشقاً لبابل ولألهتها مرودخ وبيل. ولم يسجل في تاريخه كثيراً عن انتصاراته بل ما صنعه لبابل من عظمة وجعلها مدينة ذهبية. وسجل نبوخذ نصر أنه أتى لبابل حبيبته ولهياكل آلهته بأعظم الأحجار الكريمة والذهب من كل مكان. وكانت حوائط هياكله وقصوره تلمع وتبرق كالشمس فهي مغطاة بالذهب. إذن فهذه المملكة كانت تميل للاستعراض، استعراض القوة والغني للملك وآلهته ليلقي الروع في قلوب شعبه. كانت بابل مغشاة بالذهب.
- وشبهت مملكة مادي وفارس بالفضة: : الفضة في الكتاب المقدس تشير للنقود، فالمسيح باعه يهوذا بثلاثين من الفضة (مت15:26) وكان ذلك حسب نبوة زكريا (12:11) والفضة تشير للنقود في كل اللغات السامية. وكان الفرس في بدايتهم لا يهتمون بالمال (أش17:13) بل بالسيادة، لكن مع تقدم الوقت اهتموا بتكوين جيوش ضخمة وهذه احتاجت لكثير من النقود للصرف عليها. ومن هنا اهتمت الدولة بالضرائب وجمعها وكان المرازبة المذكورين في (دا 2:6) هم المسئولين عن جمع هذه الضرائب. ويسجل التاريخ أن نظام جمع الضرائب في فارس وصل للكمال أيام داريوس هستاسبس. وراجع سفر عزرا (7:4-22) فالملك ارتحشستا منع البناء حتى لا تحصل خسارة للملك أي أن يمتنع اليهود عن دفع الجزية. ولذلك كانت صورة فارس في دانيال (7) أنها تأكل لحماً كثيراً وهذا معناه الشره والطمع والنهب أكثر من كونه احتلالاً وإخضاعاً للأمم. ولذلك صار ملوك الفرس أغنياء جداً (دا 2:11) حتى أنهم أثاروا اليونان بغناهم. بل لسعيهم وراء النقود لم يتردد أحد ملوكهم من أن ينقب مقبرة الملكة البابلية نيتوكريس بحثاً عن كنوزها. وقطعاً فهذه المملكة كانت أقوى من بابل. ولاحظ أن التمثال يتدرج في القوة فالفضة أقوى كمعدن من الذهب.
- وشبهت مملكة اليونان بالنحاس: ومملكة اليونان كانت أقوى من الفرس كما أن النحاس أقوى من الفضة. وكان رجالها وجيشها أقوى، وفرسانها قد اشتهروا بالشجاعة. وثبت أن الشجاعة أفضل من الثروة. وكان الجيش اليوناني متسلحاً بالنحاس. ويلبسون دروعاً نحاسية. وكان اللباس الحربي اليوناني أقوى من مثيله الفارسي الذي كان يهتم بالمنظر والفخامة، بل أن اليونانيون كان يطلق عليهم الرجال النحاسيون. وفي (حزقيال 13:27) ينسب لليونان تجارة النحاس، وكان هذا يشمل الآنية النحاسية والأسلحة النحاسية.
- شبهت الدولة الرومانية بالحديد: والحديد هو أقوى المعادن الأربعة. ولقد انتقلت الدولة الرومانية من عصر النحاس والبرونز إلى عصر الحديد. وَوُجِدَ أن شعراء الرومان كانوا يطلقون على عصر النحاس (الأيام القديمة) ولقد أصبحت أسلحتهم من الحديد. ولكن في بداية أيام الرومان كانت الأسلحة المستخدمة خليط من الأسلحة الحديدية والأسلحة النحاسية ودروعهم كانت خليط من النحاس والحديد، ولاحظ وصف الحيوان الرابع في (دا 19:7) الذي يصف الرومان بأن له أسنان حديد وأظافر نحاس. وكانت هذه الإمبراطورية رهيبة في التدمير وخراب أورشليم شاهد على ذلك. وقوة هذه الدولة يدل عليها امتداد فترة حكمهم لحوالي 500سنة قبل أن تنقسم، ثم انقسمت لدولتين، شرقية وغربية، واستمرت بهذه الصورة المقسمة (رجلين حديد) حتى سنة 1453م عندما استولى الأتراك على القسطنطينية واستمر الجزء الغربي يتبع أوروبا. ولاحظ أن التمثال يتدرج من فوق إلى أسفل زمانياً، لذلك فالرجلين حديد ثم تأتي الأصابع من حديد وخزف فالقدمين يشيروا لمرحلة أولية لهذه الدولة والأصابع لمراحلها النهائية.
- الأصابع بعضها حديد وبعضها خزف: نبوات دانيال ونبوات كثيرين غيره لها تطبيقين في نفس الوقت، التطبيق الأول في القريب والثاني ينظر إلى بعيد لذلك يمكننا تفسير الحديد…. على أنهم الأجزاء أو الدول القوية المتحضرة داخل الدولة الرومانية والخزف تشير لقبائل البرابرة التي حاولت الإمبراطورية الرومانية ضمها وتوحيدها في جسد الإمبراطورية بلا فائدة. فالحديد لا يمكن دمجه مع الخزف، بل كان سبباً في إنهيار الإمبراطورية هذا هو التفسير القريب. ولكن هناك تفسيراً أبعد يصعب أن نعرفه الآن ولكن هناك محاولة للفهم، فقد يشير هذا لانبعاث الدولة الرومانية من جديد وبشكل جديد، متكونة من كتلتين، الأولى تتكون من دول قوية ومتحدة (هذه هي الأصابع الحديد) لكن لكل منها شخصيتها كالأصابع المتفرقة ولكن تجمعها قدم واحدة (كما يحدث مثلاً الآن في الاتحاد الأوروبي) وكتلة أخرى تتكون من دول ضعيفة (أصابع الخزف) لكنها متحدة بصورة ما، فهناك ما يجمعها ولكن لكل منها شخصيتها. ولاحظ أنه لا يذكر عدد الأصابع (فنحن لا نعرف عدد الدول في كل كتلة).
وإذا فهمنا أن عدد الأصابع بالطبيعة هو عشر فهل تكون هذه الأصابع هم العشر الملوك الذين يساندون الوحش في الأيام الأخيرة (رؤ12:17)؟. ولاحظ أن المسيح ولد في أيام عظمة الدولة الرومانية (الأرجل الحديد) ولكنه ضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. ففي مجيء المسيح سيبيد العالم وسيكون هذا في أيام الكتلتين الحديد والخزف أي في الصورة الجديدة التي تظهر بها الدولة الرومانية. وفي مجئ المسيح الثاني سيبيد الأثيم بنفخة فمه (2تس8:2) ومعه هؤلاء الملوك الذين ساندوه. وبمجيء المسيح الثاني ستنتهي هيئة هذا العالم وتزول السماء والأرض، وهذا هو التطبيق الكامل لهذه النبوة أي زوال كل ملك عالمي والخضوع الكامل لله الملك الوحيد الحقيقي، أي أن الله سيؤسس مملكته على أنقاض التمثال أي كل الدول التي حركها الشيطان لمقاومة الله.
ويتفق قول دانيال فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان (35:2) مع (2تس8:2) “يبيد الأثيم بنفخة فمه”.
وكون الأصابع تشير لملوك فهذا يتضح من (دا 44:2) أي أنه في أيام العشرة ملوك يبيد الله صورة هذا العالم ليؤسس ملكوته الأبدي بعد أن يأتي في مجيئه الثاني. فمجيئه الأول وتجسده كان في أيام مجد الدولة الرومانية وهي على صورتها القديمة. ومجيئه الثاني سيكون في أيام الشكل الجديد للدولة الرومانية أي التي تتكون من نفس دول الدولة الرومانية القديمة ولكن بشكل جديد. فهي ستكون من كتلتين، كل كتلة متحدة بصورة ما، هذه هي الأرجل الاثنين، لكن الدول لها شخصيتها المتفردة داخل هذا الاتحاد.
ما بين التمثال ووجوه الكاروبيم
(راجع شرح الكاروبيم في حز 1)
ظهر التمثال في هيئة إنسان ليشير لملوك، فالله خلق الإنسان ليكون ملكاً حراً لا تستعبده شهوة أو خطية أو شيطان. وظهر التمثال على هيئة أربع ممالك، ورقم 4 يشير لكل العالم. ولما سقط الإنسان فداه المسيح ليعيده حراً وملكاً (يو36:8 + رؤ5:1،6) وهذا صار متاحاً لكل إنسان في كل العالم. ولكننا رأينا للأسف أن التمثال سكنه إبليس، أي أن الإنسان بكامل حريته يسلم نفسه للشيطان فيفقد حريته ولا يصير بعد ملكاً بل عبداً وفي هذه الحالة سيباد حينما يبيد الله الشيطان ومن يتبعه (2تس8:2 + رؤ10:20،15 + مز4:1-6)
أما الكاروبيم فهم عرش الله، أي أن الله يرتاح فيهم فهم مملوؤون من معرفة الله (مز10:18) وهم لهم أربعة وجوه، ولأن رقم 4 هو رقم العمومية، فهو يشير لأنهم يشفعون في كل العالم. فوجه الأسد يشفع في الحيوانات المتوحشة، ووجه الثور يشفع في الحيوانات الأليفة ووجه النسر يشفع في الطيور ووجه الإنسان يشفع في البشر. هم المركبة الكاروبيمية التي يركبها الله (حزقيال 1) فهل يمكن للإنسان أن يتحول إلى مركبة كاروبيمية يرتاح الله عليها ويسكن في داخله، بل يتحول الإنسان ليشفع في الخليقة مثل الكاروبيم. طبعاً هذا ممكن لو تقدس الإنسان أي يتكرس لله، ويعرف الله بنقاوة قلبه فيصير مملوءاً معرفة مثل الكاروبيم. والإنسان يتقدس
وعمل المسيح الفدائي يمثله وجوه الكاروبيم. فوجه الإنسان يشير لتجسده ووجه الثور يشير لأنه قدم نفسه ذبيحة على الصليب ووجه الأسد يشير لقيامته، ووجه النسر يشير لصعوده. بهذا العمل قدس المسيح البشرية.. ولكن من الذي يتقدس ويستفيد من عمل المسيح؟ هو من يقدس طاقاته لحساب المسيح. ومرة أخرى نعود لوجوه الكاروبيم فوجه الأسد يشير لقوى الإنسان العضلية ووجه الثور يشير لقواه الشهوانية ووجه الإنسان يشير لقواه العقلية ووجه النسر يشير لقواه الروحية، وحين يقدس الإنسان كل هذه القوى يسكن الله فيه ويصير مركبة كاروبيمية ويطير ويحلق في السماويات، وتصير أبديته سماوية. ولنقارن بين أجزاء التمثال ووجوه الكاروبيم.
v فالإنسان له الحرية أن يقدس قواه العقلية، كما يقول الكتاب مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح (2كو5:10) وقد يترك فكره للفلسفات والغرور الباطل “أنظروا أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة وبغرور باطل (كو8:2) ومن يقدس قواه الفكرية يسمع “كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون أذهانكم” (أف17:1).
v والإنسان له الحرية أن يقدس قلبه وتكون سيرته في السماويات (في20:3) ولذلك يطلب الله قائلاً يا ابني أعطنى قلبك (أم26:23) ويقول الكتاب تحب الرب إلهك من كل قلبك. (تث4:6-6) وقد يترك الإنسان قلبه وعواطفه وقدراته للعالم، وحيث يكون كنزه يكون قلبه أيضاً (مت21:6) وكل من يسلك بالروح يتقدس قلبه.
v والله خلق للإنسان شهوة حين يقدسها الإنسان يقول مع بولس الرسول لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح (في23:1) ويقول مع داود النبي واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس في هيكله (مز4:27) ولكن قد تنحرف شهوة الإنسان فيشتهي امرأة قريبه (أر7:5-9).
v والله قَدَِّم للإنسان قوة جبارة هي النعمة بها يستطيع أن يقدس كل قواه العضلية ويكرسها لحساب مجد الله. وتتحول أعضائه لآلات بر عوضاً عن أن تكون آلات إثم. ولو لم يجاهد الإنسان تتحول كل قواه لخدمة الخطية إذ يفقد النعمة الممنوحة له من الله (رو13:6).
v وباختصار أما تتقدس قوى الإنسان فيملك الله عليه، ويصير مركبة كاروبيمية وينطلق للسماويات، أو ينجرف وراء شهواته ويصير جسداً مستعبداً لشهواته، يصير جسدانياً تقوده شهواته فيهلك مع التمثال.
الجبل العظيم وكيف فهم البابليون الحلم وتفسيره:
كان البابليون يؤمنون أن الآلهة تسكن في جبل مقدس كانوا يسمونه جبل الأراضي وبالذات للإله مرودخ. وبهذا المعنى كانت الآية (35). وكانت الكلمة التي استخدمها دانيال جبلاً كبيراً هي نفسها التي يستعملها الكهنة. بل أن الكهنة كانوا يسمونهم “كهنة شادوراب” أي كهنة جبل الرب. والآن هؤلاء الكهنة يسمعون الكلمة نفسها من دانيال الذي يؤمن بالإله الواحد. وهم قطعاً فهموا من كلامه أن السيادة ستنتقل من ملكهم إلى ملك ثانٍ ثم ملك ثالث ثم رابع ثم يحكم إله دانيال “إله السماء” على الأرض، وستكون بداية مملكته بسيطة ولكن سريعاً ما ستملأ الأرض.
الريح التي ذرت العصافة وكيف فهمها البابليون:
كان للبابليين إله يدعى إنليل وهو إله العاصفة الشديدة. وهو في صراعه مع الحية إله الخراب أرسل عليها عواصف مدمرة ليدمرها ولكن مرودخ هو الذي انتصر الإنتصار النهائي على إله الخراب فأعطى إنليل اسمه لمرودخ أي صار اسم مرودخ إله العاصفة. إذاً فالعاصفة هي عمل إلهي أيضاً. والحجر الصغير قطع بعمل إلهي لأنه بغير يدين أي ليس بعمل بشر. ولأن البابليين كانوا يسمون مرودخ ملك الآلهة أطلق نبوخذ نصر على إله دانيال إله الآلهة (47:2) وهكذا فالله يكلم كل واحد بلغته. وما فعله دانيال جعله يشتهر بالحكمة.
الآيات (46-49): “حينئذ خرّ نبوخذناصّر على وجهه وسجد لدانيال وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور. فأجاب الملك دانيال وقال. حقاً أن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار إذ أستطعت على كشف هذا السر. حينئذ عظّم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة عظيمة وسلطه على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشحن على جميع حكماء بابل. فطلب دانيال من الملك فولّى شدرخ وميشخ وعبد نغو على أعمال ولاية بابل. أما دانيال فكان في باب الملك.”
كان من المتوقع أن يغتاظ نبوخذ نصر مما سمعه بأن مملكته ستنتهي، ولكن هذا لم يحدث فدانيال كان يتكلم بسلطان إلهي لا يستطيع أحد أن يقاومه، بل نجد في آية (46) أن الملك يعامل دانيال كإله. وغالباً مع أن هذا لم يذكر، أن دانيال رفض هذا كما رفضه بولس الرسول بعد ذلك، ونسب الفضل لله. ونستنتج ذلك من آية (47) التي فيها يعترف نبوخذ نصر بعظمة إله دانيال. ولنلاحظ أن المال والملك لا يعطيان للإنسان عظمة أن لم يعطه الله. وكما إعتلى يوسف العبد مكاناً بارزاً في مصر هكذا حدث مع دانيال المسبي في بابل. دانيال كان في باب الملك = هذه تساوي رئيس للمجلس أو رئيس وزراء فالباب يجلس عنده القضاة والأمراء والرؤساء. ولم ينس دانيال أصدقائه الذين شاركوه صلاته فأشركهم في مجده. ولنلاحظ في قصتي دانيال ويوسف كيف أن الله يسمح بالضيق “(عبودية وسبي) لبعض الوقت ليمجد أولاده. فإن كنا نتألم معه فلكي نتمجد أيضاً معه (رو17:8) وإن لم نتمجد على الأرض مثل يوسف ودانيال لكننا سنتمجد قطعاً في السماء (رو18:8).
سفر دانيال: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14
تفسير سفر دانيال: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12