تفسير سفر الجامعة ٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث
شهادة العالم
قدم لنا الجامعة البراهين على بطلان العالم بشهادة الطبيعة نفسها (1: 3-11)، وبطلان الحكمة البشرية (1: 12-18)، وأيضًا بطلان الملذات الحسِّية والغنى والجاه (2)، الآن يُقدم برهانًا آخر وهو شهادة العالم نفسه على بطلانه بتوضيحه أن “لكل شيء زمان“. لا يوجد شيء ما صالح بطريقة مطلقة، إنما إن قُدم في وقت مناسب وفي حدود معينة. ولما كان لكل شيء زمانه، أي يخضع للزمن، فإنه إذ ينحل الزمن، ولا يكون هناك وقت، ينتهي كل شيء وينحل مع الزمن.
- لكل شيء زمان [1-10].
- خطة الله الأبدية (فوق الزمن) [11-15].
- ظلم الإنسان يفسد العالم [16-22].
- لكل شيء زمان:
“لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت” [1].
حياتنا بكل ظروفها وأوضاعها تسير حسب جدول منظم، يحقق مقاصد الله في الوقت المناسب. وعلينا أن نؤدي واجباتنا بأمانة، وإن نتهيأ للمستقبل، لنرى خطة الله من جهتنا. بخطة إلهية خلق الله العالم من أجلنا، وفي الوقت المناسب أرسل الآباء والأنبياء وأعطانا الناموس، وفي الزمن المحدد تحقق الخلاص بالصليب، وبحكمة سماوية يهتم الله بكل صغيرة وكبيرة في حياتك، حتى عدد شعر رأسك لا يفلت من رعايته.
بمعنى آخر تاريخ العالم كله وتاريخ حياتك أنت على وجه الخصوص بكل دقائقها هي حلقات من الأحداث التي يُنسقها الله… عليك أن تعيش بروح الأمانة، تعمل بكل طاقاتك، وتحيا بفرح وسرور واثقًا في الله مدبّر حياتك، فإنك بذاتك لا تقدر أن تفعل شيئًا مهما كانت رغبتك ومهما تكن إمكانياتك… فإن “لكل أمر أوان، ولكل غرض تحت السماء وقت” [1].
أ. يوضح العلامة أوريجينوس كيف أن للناموس وقت ولعهد النعمة وقت، قائلاً:
[“لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت”. يوجد وقت لجمع اللآلئ الحسنة، ووقت آخر بعد جمعها لاكتشاف اللؤلؤة الكبيرة الثمن، حين يليق بالإنسان أن يذهب ليبيع كل ما يملك ليشتري تلك اللؤلؤة. لأنه كما أن إنسانًا يُريد أن يصير حكيمًا بكلمات الحق يلزمه أولاً أن يتعلم المبادئ ثم يعبر بعد ذلك خلال التعليم الابتدائي الذي يقدّره كل التقدير لكن لا يظل قابعًا عند هذا الحد، إنما يوقّره في مستهل الأمر ثم يطلب الكمال. إنه يقر بالجميل من نحو ما تلقنه في بادئ الأمر، لأنه أفاده كثيرًا! هكذا يفهم الناموس والأنبياء بإتقان كامل أنه تعليم ابتدائي لإدراك الإنجيل كاملاً وإدراك معنى كل كلمات المسيح وأعماله[84].
العلامة أوريجينوس
ب. هُوجِم القدِّيس غريغوريوس النزينزي لأنه طلب أن يكون الحديث عن الله مع الغير بحكمة وبطريقة مناسبة وفي الوقت المناسب. وقد دافع عن نفسه، قائلاً: [إنني لا أمنع تذكر الله الدائم وإنما فقط الحديث عن الله، ليس لأن هذا فيه خطأ في ذاته، ولكن حينما يُقدم بطريقة غير معقولة؛ وإنني لا أمنع كل تعليم بل أطلب الاعتدال فيه. وذلك مثل العسل، إذا ما أكثر المرء من تناوله بنهم يسبب قيئًا مع أنه عسل. يقول سليمان: “لكل شيء زمان”، وفي اعتقادي أن ما هو صالح لا يعود صالحًا إن أُستخدم بطريقة غير صالحة. وذلك كمن يقطف زهرة في غير فصل الشتاء، وكما أن ثوب الرجل لا يصلح لامرأة والعكس أيضًا صحيح. كما لا تليق الألعاب الرياضية في موضع نوح، ولا الدموع في موضع طرب، فإننا جميعًا لا نقبل الشيء في غير زمانه، بينما نوقّره إن اُستخدم في الوقت المناسب. أليس الأمر هكذا يا أصدقائي وإخوتي؟[85]].
ج. دافع القدِّيس غريغوريوس عن البابا أثناسيوس الرسولي الذي اختفى وقت الضيق، حين حاول الأريوسيون قتله، وظهر في الوقت المناسب، قائلاً: [استحسن مشورة سليمان الحكيمة أن لكل شيء زمان. لهذا اختفى فترة، هاربًا في زمن الحرب، ليظهر في زمن السلم الذي سرعان ما حلّ بعد ذلك[86]]. كما دافع عن هروبه هو حيث أُتهم بالهزيمة إذ يقول: [لكل شيء زمان: هناك وقت للهزيمة (للهروب)، وكما أظن لكل غرض أوان. من الأفضل أن نُهزم بكرامة من أن نكسب ونغلب بنصر خطير غير قانوني[87]].
يُقدم سليمان الحكيم عده أمثلة لتأكيد أن لكل شيء زمان:
أ. “للولادة وقت وللموت وقت” [2]: الله في محبته لنا حدد موعد ولادتنا وأيضًا وقت رحيلنا من هذا العالم؛ هذا لا يعني أننا لا نهتم بحياتنا الجسدية بحجة أن الله قد عيَّن ساعة رحيلنا، وإن اهتمامنا لن يُجدي شيئًا. فقد طلب السيِّد المسيح من تلاميذه أن يهربوا متى اضطهدوا، ليس خوفًا من الموت، وإنما لأجل سلامهم. وقد هاجم الأريوسيون البابا أثناسيوس بسبب هروبه منهم حينما حاولوا قتله. وفي دفاعه قال: [لقد قال الأب إسحق لابنه عيسو: ” إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي” (تك 27: 2). أما ربنا فبكونه الله كلمة الآب، عرف الوقت الذي يعينه هو للجميع، وكان عالمًا بزمان آلامه الذي حدده هو شخصيًا لجسده، ومع هذا فلأنه صار إنسانًا لأجلنا اختفي حينما طلبوا (قتله) قبل حلول الزمن المحدد، وذلك كما نفعل نحن. وحينما كان يُضطهد كان يهرب متجنبًا مخططات أعدائه، وكان يجتاز في وسطهم[88]].
إن كان الرب قد حدد موعد ميلادنا وموعد موتنا، مع هذا يضع على عاتقنا مسئولية الاهتمام بحياتنا الزمنية وصحة جسدنا وسلامته، فإنه أيضًا يُحدد موعد موت إنساننا العتيق وميلاد إنساننا الجديد حيث يتم الأمران معًا في وقت واحد في المعمودية (رؤ 6: 4-6)، ونحن أيضًا ملتزمون بالعمل بروح الله، مجتهدين ألاَّ نعيش حسب أعمال الإنسان العتيق بل حسب الإنسان الجديد.
v في اللحظة عينها قد مُتم ووُلدتم؛ وقد صار ماء الخلاص هذا في الحال هو قبركم وأُمكم، وما تحدث عنه سليمان بالنسبة للآخرين صار يُناسبكم أنتم أيضًا؛ إذ يقول: “للحَبَل وقت وللموت وقت”. أما بالنسبة لكم فيحدث غير ذلك، إذ يكون للوت وقت يعقبه زمن للولادة، ويحدث الاثنان معًا إذ يسير ميلادكم (الروحي) جنبًا إلى جنب مع موتكم[89].
القدِّيس كيرلس الأورشليمي
مادام للميلاد وقت فلنستعد للرحيل، لأننا لا نعرف الوقت الذي يُحدده لنا الله هكذا نعيش في عالم لا استقرار فيه، لا نضمن حياتنا ولو إلى لحظة واحدة قادمة.
v أنت مولود ولهذا تموت: إن هربت من الموت أو تحاشيته أو دفعته عنك فلا يسعك أن ترجئه أو تمنعه عنك. إنه لآت حتمًا، ولو أبيت؛ وفي ساعة لا تعلمها…
طالما أنك لا تستطيع ها هنا أن تتمنى عدم الموت، فاخترْ أن تكون مع الأحياء لئلاَّ تموت إلى الأبد…
يا من تعمل ما بوسعك لترجئ الموت قليلاً، أعمل شيئًا لئلاَّ تموت إلى الأبد[90]…
القدِّيس أغسطينوس
ب. “للغرس وقت ولقلع المغروس وقت” [2]: لغرس الأشجار وقت معين ولاقتلاعها وقت خاص؛ هكذا أيضًا يغرس الله أممًا معينة ويسمح لها بالسلطة والقوة، ويسمح أيضًا باقتلاعها. فقد قامت أممٌ لم يكن ممكنًا أن يظن أحد أنها تنحدر، لكن في لحظات سمح الله بانهيارها، حتى يدرك الإنسان بطلان العالم كله.
يدرك المؤمن أن لغرس الأفكار المقدَّسة وقت ولاقتلاع الأفكار الشريرة غير اللائقة وقت، حيث يتعلم حياة الصلاة الدائمة والطلبة والمثابرة والاتكال على نعمة الله المجانية منتظرًا تقديس أفكاره وتنقيتها بروح الله القدُّوس.
لنُغرس كزيتونة في بيت الرب ولنقتلع من حقل هذا العالم الزائل!
ج. “للقتل وقت وللشفاء وقت” [3]: ربما عنى بذلك قتل الإنسان العتيق وشفاء الإنسان الجديد، الأمر الذي يتحقق في مياه المعمودية (رو 6: 4-6).
ولعله يقصد أن الحاجة تستلزم أحيانًا الحزم الشديد في القضاء، حيث يصدر أحيانًا الحكم بالإعدام لبُنيان الجامعة وإنقاذها ممن يمثلون خطرًا شديدًا عليها، وقد يحتاج الأمر إلى العفو والترفق.
يلاحظ هنا أنه يبدأ بالقتل ثم يليه الشفاء ليُظهر أن الحزم لا يحمل روح الانتقام والغيظ، وإنما لأجل البنيان والشفاء.
لا نخف من بطلان العالم فإننا وإن كنا نراه قتلاً لحياتنا الزمنية لكنه يحمل شفاء لحياتنا الأبدية. لنمت كي نحيا في الرب إلى الأبد!
د. “للهدم وقت وللبناء وقت” [3]: يلزم ألاَّ نقف عند الجانب السلبي: هدم الإنسان العتيق بأعماله وأفكاره، وإنما نمتد إلى الجانب الإيجابي وهو بناء الإنسان الجديد الداخلي وفضائله. فلا يكفي مثلاً هدم الكراهية وإنما يلزم قيام المحبة.
يبدأ بالهدم لأننا لا نستطيع إقامة بناء شامخ ما لم نحفر الأساسات، وكما يقول القدِّيس أغسطينوسإننا بالاتضاع نهدم كبرياء تشامخنا، ونقيم أساسات بناء الروح الذي يرتفع إلى السموات!
يقول أيضًا: [دواء مرضك تواضع المسيح… لا ترتفع بل اتضع إذا شئت أن تُشفي. وإذا شئت أن تبلغ إلى سمو الله فابحث عنه أولاً في تواضعه… حين تأخذ تواضعه فترتفع معه… اُنظر إلى الشجرة كيف يبدأ النمو من أسفلها ثم ترتفع في الجو. جذورها في الأرض وفروعها إلى السماء. وهل تستطيع الشجرة أن ترتفع في الجو إذا لم تعتمد على جذورها في الأرض؟ إن شئت أن تبلغ السموات، بمعزل عن التواضع والمحبة، فلا أصل لك. حينذاك تطلب الهلاك لا النمو[91]…].
لقد حان وقت الهدم، لأن خالق العالم كله يعلن: السماء والأرض تزولان (مت 5: 8)، ويحل وقت البناء حيث توجد سماء جديدة وأرض جديدة (رؤ 21: 1) ومدينة جديدة (رؤ 21: 2).
هـ. “للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت” [4]: إذ نمارس البكاء على نفوسنا بصلبنا مع ربنا يسوع المسيح، والنوح على خطايانا، نتمتع بفرح القيامة وبهجة (ضحك) السمائيين، ورقصات النفس، متهللين بعمل المسيح القائم من الأموات فينا. يقول المرتل: “في المساء يحل البكاء، وفي الصباح السرور (الترنم)” (مز 30: 5).
للبكاء وقت، فإننا مادمنا في هذا العالم – وادي الدموع – يليق بنا أن نقدم توبة دائمة عن خطايانا وضعفاتنا اليومية، حتى متى جاء يوم الرب لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع (رؤ 21: 4).
v إذا بكيت هنا تنال راحة مع كل تعزية، وهناك إذا بكيت تذهب إلى العذاب…
v إِبكِ هنا قليلاً، لئلاَّ تبكي هناك الدهر في الظلمة الخارجية…
v إبكِ إذا صليت، لتجد نياحًا…
v بالدموع، حنة أخذت من الله صموئيل النبي[92]…
مار إفرام السرياني
v طوبى للباكين من أجل الحق، لأنه من خلال دموعهم يرون باستمرار وجه الله.
v من يرى نفسه ميتًا بالخطايا، لا يحتاج أن يتعلم كيف يبكى.
v توجد دموع تحرق وتلهب، وأخرى تبهج وتزهر[93]…
مار إسحق السرياني
و. “لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت” [5]: تفريق الحجارة أو دحرجتها على الأرض (حسب الترجمة السبعينية) تُشير إلى قبول الأمم الوثنية، وكما يقول القدِّيس جيروم: [أقام الله من حجارة الأمم الصلدة أولادًا لإبراهيم، فصاروا حجارة مقدسة تدور على الأرض (زك 9: 16 ( LXX)[94]]. إن كان الوقت قد حان لقبول الأمم الوثنية الإيمان والشهادة للسيِّد المسيح على الأرض… فسيأتي الوقت التي تتجمع كل الحجارة الحيَّة ليُعلن هيكل الله السماوي الذي قيل عنه: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مُركَّبًا معًا، ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب” (أف 2: 20-21). “من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي” (رؤ 3: 12). بالإيمان بدأ البناء الروحي لهيكل الرب بحجارة حيَّة لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1 بط 2: 5)، ويتحقق كمال البناء بإعلانه في يوم الرب بناءً سماويًا باقيًا إلى الأبد. بمعنى آخر لينهدم العالم فإنه بهدمه لا ينهدم بناؤنا الداخلي بل يُعلن في أعظم قوة بمجيء الرب على السحاب ودخولنا إلى مجده السماوي.
يُشير تفريق الحجارة وتجميعها إلى هدم مبنى قديم وإحلاله بآخر جديد… فإن كان العالم ببطلانه ينهار، لا نضطرب فإننا ننعم بعالم جديد، المدينة الباقية التي لها الأساسات التي صانعها وباركها الله (عب 11: 1).
تفريق الحجارة أيضًا يُشير إلى ردم الحقول بإلقاء الحجارة فيها تطمرها (2 مل 3: 19، 25)، وجمعها يُشير إلى إصلاح الحقول وجعلها صالحة للزراعة.
ربما يعني هنا هدم مبنى العهد القديم ليحل محله كنيسة العهد الجديد، وهدم حقل الشعب القديم ليقوم حقل العهد الجديد الممتد إلى أقاصي المسكونة… لكن لن تبقى الكنيسة محصورة بهذا العالم الزمني إنما تترقب انهيار العالم المادي وزوال ما هو منظور لننعم بما هو سماوي ونتمتع بالله غير المنظور… عندئذ نراه وجهًا لوجه.
تُجمع الحجارة أيضًا لعمل نصب تذكاري إشارة إلى إقامة عهدٍ بين فريقين، أو كتذكار لأحداث جسام، كالعمود الذي نصبه يعقوب (تك 28: 18؛ 31: 52)، وأكوام الحجارة فوق عخان وأبشالوم، أو لإقامة أقواس نصر علامة الغلبة، وتفريق الحجارة يُشير إلى نقض العهد أو إزالة أقواس نصر تذكارية.
إن كانت بالخطية تتفرق حجارة عهدنا مع الله وتنهدم أقواس النصر ضد عدو الخير، فلنسرع ونجمع الحجارة بروح الله ونجدد العهد في استحقاقات الدم، ونقيم أقواس النصر سريعًا، لأن الوقت مُقصّر والأيام شريرة، والعالم ينتهي ويزول.
ز. “للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت” [5]. في الأمثلة السابقة غالبًا ما يبدأ بالحديث المؤلم يليه الحديث المفرح، يبدأ بالولادة يليها الموت (بكون يوم الرحيل أعذب من يوم الولادة)، يبدأ بالقتل ويليه بالشفاء؛ الهدم يليه البناء، البكاء يليه الضحك، النوح يليه الرقص، تفريق الحجارة يليه جمعها، فلماذا يبدأ هنا بالمعانقة يليها الانفصال؟ هل الانفصال أفضل وأعذب؟ يرى بعض الآباء هنا إشارة إلى سمو الحياة البتولية، فقد قدّس العهد القديم الزواج وحث عليه كمعانقة حب… وكان الكل يترقب مجيء المسيَّا مولود المرأة لعله يأتي من نسله حسب الجسد؛ وقد جاء العهد الجديد الذي وإن قدّس الزواج لكنه يحث بالأكثر على البتولية بكونها انفصال عن المعانقة ليكرس المؤمن كل طاقاته للعبادة وللشهادة لملكوت الله المفرح. إنها دعوة ليست للجميع، وإنما من يقبل فليقبل. يقول الرسول بولس: “لأنيّ أُريد أن يكون جميع الناس كما أنا؛ لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله؛ الواحد هكذا والآخر هكذا… فأُريد أن تكونوا بلا هم؛ غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يُرضي امرأته ” (1 كو 7: 7، 32).
v كيف أشرح الاستحقاق العظيم والكرامة العالية التي للمؤمنين والبتولية المقدسة في نظر الله؛ فقد حان الوقت للإمساك عن المعانقة. حين يوجد حشد عظيم من كل الأمم يملأ عدد القدِّيسين، هل توجد حاجة لممارسة متعة الجسد الأرضية لإعطاء نسل؟![95].
v قديمًا كان وقت للعناق، وأخيرًا فإنه وقت للإمساك عن العناق[96].
v بالنسبة لمسيحيّ عصرنا وقد تحرروا من رباط الزواج، إذ توفرت لديهم قوة الامتناع عن أية علاقات جسدية يرون أنه قد جاء الوقت الذي كتب عنه “للإمساك عن العناق وقت” وأنه ليس زمن المعانقة، ألا يختارون بالحري أن يحافظوا على بتوليتهم أو ترملهم؟![97].
القدِّيس أغسطينوس
هذا عن المفهوم الرمزي أما التفسير الحرفي فيعني أن الذين يتعانقون، أي أن المتزوجين ستنحل حياتهم الزوجية حتمًا في هذا العالم بوفاة أحد الطرفين، فيصير من تزوج كمن لم يتزوج… هذه طبيعة العالم الباطل، كما يقول الرسول إن الذين يستعملونه كمن لا يستعملونه، والذي يتزوجون كمن لم يتزوجوا.
ح. “للكسب (للبحث) وقت وللخسارة وقت” [6]: إن نال إنسان ما بركات زمنية يشكر، وإن فقدها يبارك الله الذي أعطى وأخذ، قائلاً مع أيوب البار: “الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركًا ” (أي 1: 21).
ربما يُشير الكسب إلى العهد القديم حيث الوعود بالبركات الزمنية الكثيرة (تث 28)، والخسارة إلى العهد الجديد حيث يتهلل المؤمنون بالصليب ويفرحون بالتخلي بإرادتهم عما لديهم، حاسبين كل شيء نفاية لكي يربحوا المسيح (في 3: 8).
إن كان مجيئنا إلى العالم هو مكسب كعطية إلهية، فإن خروجنا منه خسارة لنربح ما هو أعظم: السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ 21: 1)!
ط. “للصيانة وقت وللطرح وقت” [6]: يوجد وقت يُحتفظ بالشيء ويحاول الإنسان صيانته، لكن متى شعر أن إصلاحه يكلفه الكثير يطرحه ويتخلص منه ليقتني ما هو أحدث منه. هكذا نقتني نحن حياتنا الزمنية ونصونها بروح الله القدُّوس الذي يجددها ويقدسها، لكنه في الوقت المناسب تُطرح حياتنا الزمنية لنقتني حياة أسمى وأبقى!
هكذا أيضًا عاش الإنسان قديمًا تحت ظلال الناموس ورموزه، يحفظه حرفيًا كمن يصون لآلئ، أما وقد جاء السيِّد المسيح اللؤلؤة الكثيرة الثمن فإنه يطرح حرفية الناموس ويترك الظلال ليحيا في كمال الحق، مقتنيًا الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا.
ك. “للتمزيق وقت وللتخييط وقت” [7]: ربما يُشير التمزيق إلى شدة الحزن، حيث اعتاد القدماء تمزيق ثيابهم عند حدوث كوارث قاسية، كما فعل رأوبين حينما رجع ولم يجد يوسف في البئر (تك 37: 29). وكما فعل أيوب عندما اشتدت به التجربة (أي 1: 20). ويُشير التخييط إلى الفرح وعودة السلام، ففي الأفراح يهتم كل أعضاء الأسرة بتخييط ملابس جديدة تليق بالفرح.
يُشير التمزيق أيضًا إلى انفصالنا عن العادات الشريرة، والتخييط إلى ارتباطنا بالحياة الفاضلة المقدسة في الرب. يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [اعتقد أن معنى القول: “للتمزيق وقت وللخياطة وقت” أنه ينبغي أن ننفصل تمامًا عن كل ما ارتبطنا به في شرورنا وإن نلتصق بما هو خير[98]].
ربما يُشير التمزيق إلى اعتزالنا الأشرار المعثرين، والخياطة إلى شركة السمائيين والقدِّيسين في المسيح يسوع رأس الجميع.
ل. “للسكوت (الصمت) وقت وللتكلم وقت” [7]: يبدأ بالسكوت حيث لا يليق النطق بكلمة إلاَّ بعد الصمت والتفكير الجاد.
يُشير السكوت إلى حياة التأمل الخفية، ويُشير التكلم إلى الشهادة للمخلص أمام الغير وخدمتهم، فإنه لا يكفي الصمت المقدس إنما يلزم التكلم أيضًا بكلمة الرب البنَّاءة.
v يذكر الجامعة أولاً الوقت اللازم للصمت، ثم يسمح بعد ذلك بوقت للكلام.
فمتى وما هي الموضوعات التي يكون فيها الصمت أفضل؟
يقول المهتمون بالسلوكيات إن الصمت دائمًا هو أفضل من الكلام. ويميز بولس الأوقات اللازمة للكلام وتلك اللازمة للصمت. أحيانًا يوصي بالصمت وأحيانًا أخرى بالكلام.
إذ يأتي وقت الكلام يقول: “لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم” (أف 4: 29).
ويوصي بالصمت قائلاً: “لتصمت نساؤكم في الكنائس… ولكن إن كُنَّ يردن أن يتعلَّمن شيئًا فليسألن رجالهن في البيت” (1 كو 14: 34-35).
يكشف لنا عن الوقت الملائم للكلام، قائلاً: “لا تكذبوا بعضكم على بعض” (كو 3: 9…) “تكلموا بالصدق كل واحِد مع قريبه” (أف 4: 25)[99].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
v حينما يتطرق العقل إلى أمور تفوقه يكون وقت للصمت العميق، إذ بالأحرى يلزمه أن يحتفظ بالإعجاب أو الدهشة بتلك القوة غير المدركة ولا مفحوصة في أعماق ضمائرنا. وإذ يدرك أن هؤلاء الرجال العظماء يتحدثون لا عن (طبيعة) الله بل عن أعماله يقول: “من يتكلم بجبروت الرب؟!”، “أُحدِّث بجميع عجائبك”، “دور إلى دور يسبح أعمالك” (مز 106: 2؛ 9: 1؛ 145: 4)… هكذا يكون الحديث عن (أعمال) الله؛ أما عن التطرق إلى جوهره فيكون وقت للصمت[100].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
يلزمنا أن نصمت لنتأمل في الله وننعم بإشراقاته علينا، عندئذ ننطلق بكلمات النعمة، ونشهد لعمله في حياتنا ونعمته الغنيَّة وانفتاح باب ملكوته لكل بشر. هذا ويليق بنا ألا نتحدث كثيرًا فيما يفوق العقل من أمور إلهية لا يُعبَّر عنها.
يوصينا الآباء خلال الفكر الإنجيلي أن نحفظ السكون ونهرب من كثرة الكلام الباطل، الذي يُفقد النفس هدوءها وشركتها مع الله.
كما يُحذرنا الآباء من الكلام الباطل المفسد لسلام النفس. هكذا يحذوننا من الصمت الباطل أيضًا، الذي لا يصاحبه صلاة وشركة مع الله وسهر من أجل الملكوت.
يقول القدِّيس يوحنا الذهبى الفم بأنه يوجد كلام صالح وكلام بطّال، كما يوجد صمت صالح وصمت بطال… يلزمنا أن نعرف متى نصمت ومتى نتكلم، وكيف نصمت وبماذا نتكلم.
v كلما أكثر الإنسان من الهرب من الثرثرة بلسانه استنار ذهنه بالأكثر، فيستطيع أن يفرز الأفكار العميقة ويُقيِّمها، لأن العقل يرتبك بالثرثرة[101].
مار إسحق السرياني
v إن كنا سنعطي حسابًا عن كل كلمة بطَّالة، فلنتوخَّ الحذر لكي لا ننطق بها، أيضًا لنحذر الصمت البطال!
لكن يوجد صمت فعَّال، كصمت سوسنة التي فعلت بصمتها أكثر مما لو تكلمت. لأن بصمتها أمام الناس، تكلمت مع الله، ولم تجد دليلاً على عفتها أقوى من الصمت. نطق ضميرها عندما لم تجد كلمة تتفوه بها، ولم تطلب حكمًا من الناس، إذ كان لها شهادة الرب. لهذا اشتاقت أن يُبرِّأها الله نفسه، وهي تعلم أنه لا يمكن أن يُخدع بأية وسيلة.
كان الرب نفسه أيضًا يعمل في صمت ليتمم خلاص البشر.
سأل داود ألاَّ تنشغل نفسه بالصمت الجامد بل بالسهر والتدقيق[102].
القدِّيس أمبروسيوس
v مع ذلك يوجد وقت للكلام عن تلك الأمور التي بها نتقدم في الفضيلة في حياتنا[103].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
م. “للحب وقت وللبغضة وقت” [8]: في وداعة الحب كانت القدِّيسة دميانة تخضع لوالدها مرقس والي البرلس، وإذ أنكر الإيمان ففي حزم أشبه بالبغضة قالت له أنه إن لم يرجع إلى الإيمان بالتوبة لن تحسبه والدها، ولا هي ابنته.
لنُحب الكل في الرب، ولنكن حازمين فنبدو كمبغِضين لأجل خلاصنا وخلاصهم.
ن. “للحرب وقت وللصلح وقت” [8]؛ يحتاج الأمر أحيانًا إلى الحزم الذي يُشبه حربًا، عندئذ يلزمنا أن نعرف كيف نُصالح ونضمد الجراحات، لهذا ذَكر الصلح بعد الحرب، حتى لا نتوقف عند الحزم والشدة ما استطعنا. حتى إن أدبت الكنيسة الهراطقة فهي تترقب بشوق رجوعهم إلى الحق ومصالحتهم.
لعل أروع مثل في هذا هو القدِّيس كيرلس الكبير الذي للأسف يُهاجمه بعض الدارسين كقائد عنيف ضد نسطور؛ نقرأ في إحدى رسائله لنسطور أنه لا يوجد من يحبه مثله.
- خطة الله الأبدية (فوق الزمن):
واضح من الأمثلة السابقة الآتي:
أ. إن لكل شيء زمان… وكأنه ليس شيء صالحًا بذاته، إنما حسب استخدامنا له بالقدر اللائق وفي الوقت اللائق به.
v الأمور التي نستخدمها في ظروف معينة وأوقات مناسبة فتقدسنا… هي أمور ليست صالحة ولا شريرة، وذلك مثل الزواج والزراعة والثروة والاعتزال في الصحراء والأسهار وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه والصوم… فإن هذه الأمور أو بعضها أمرنا أسلافنا أن ننفذها بتبصر، وإن نهتم بالدافع لها ومكان التنفيذ والوسيلة والزمن. لأننا متى نفذناها بطريقة مناسبة تصير صالحة وملائمة، وإن استخدمناها بانحراف تصير شريرة ومؤذية… فالصوم يعتبر شرًا بالنسبة للذين يترقبون به مديح الناس[104]…
الأب ثيوناس
ب. إن لكل شيء زمان… فليس شيء ما يبقى أبديًا!
ج. إن لكل شيء زمان، يعجز الإنسان عن إدراك مقاصد الله وتدابيره الفائقة وتغييرها.
د. تُشير الأمثلة السابقة إلى عمل الله معنا، فقد جاء الزمن الجديد الذي فيه انتقلنا من عهد الناموس إلى عهد النعمة، من مرحلة الطفولة الروحية إلى النضوج، من الظل والحرف إلى الحق والروح، من وقت المكاسب الزمنية إلى الخسارة المفرحة من أجل من قدَّم حياته مبذولة لأجلنا، من أوان الخصومة والعداوة مع الله إلى المصالحة معه كأهل بيته!
هـ. الله الذي خلق الزمن ولا يخضع له، من أجل تدبير خلاصنا خضع بإرادته للزمن، إذ أخذ طبيعتنا وقبل الموت في جسده عنا.
و. إن كان الله كخالق محب للبشر “صنع الكل حسنًا في وقته” [11]. وكل ما خلقه صالح وبتدبير حسن، إلاَّ أنه يرفعنا إلى ما فوق الزمن... خضع للزمن لكي يرفعنا نحن إلى ما فوق الزمن، فقد “جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يُدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية” [11].
لفظة “الأبدية” هنا هي من أكثر الكلمات التي ثار حولها جدل في سفر الجامعة. اقترح البعض أنها “الكون” والبعض “سرّ” أو “نسيان”، والبعض حسبها مشتقة عن الأصل الأوجاريتي Ugaritie “glm” تعني “يصير مظلمًا”، قائلين بأن الله صنع كل شيء جميلاً وملائمًا لكن الإنسان عاجز عن إدراك أسرار خطة الله وحكمته لأن الظلام قد خيَّم على فكره وفي قلبه.
ز. لئلاَّ يظن أحد أن ارتفاع القلب إلى السموات أو إلى الأبدية يدفعنا إلى الغم أو الاستهتار بالحياة الزمنية، يعود فيؤكد أن كل ما نناله أو نمارسه بحكمة إنما هو هبة إلهية: “عرفت أنه ليس لهم خير إلاَّ أن يفرحوا ويفعلوا خيرًا في حياتهم؛ وأيضًا أن يأكل كل إنسان ويشرب ويرى خيرًا من تعبه فهو عطية الله” [12-13].
لا يمكن اتهام الجامعة بأية اتجاهات مادية أو مُتَعيَّة hedonistic، أي أن المتعة أو اللذة هي الخير الأوحد في الحياة الدنيا، إنما كما سبق فقلنا يحمل اتجاهًا تسبيحيًا خلاله يشعر المؤمن أن كل ما بين يديه هو هبة الله، حتى الأكل والشرب، فيجد متعة في الحياة لأنها تحمل بصمات حب الله الفائق. يشعر أن الظروف التي يعيشها والإمكانيات التي بين يديه هي أفضل ما تناسبه في هذه الحياة كتهيئة للحياة الأبدية، فيمارس حياته بروح التسبيح والفرح.
ح. “لكل شيء زمان” كان الله يتعامل مع رجال العهد القديم كأطفال في الإيمان يحثهم على القداسة بالبركات الزمنية، بينما مع رجال العهد الجديد يحثهم كرجال على القداسة بحمل الصليب وشركة الآلام معه؛ مع هذا ففي معاملاته وعهوده وحبه لم يتغير. نحن نتغير ونُغير وضعنا بالنسبة له، لذا قيل: “قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد؛ لا شيء يُزاد عليه ولا شيء يُنقص منه” [14].
ولئلاَّ يظن أن معاملات الله مع كنيسة العهد الجديد هي على حساب رجال العهد القديم يقول: “الله يطلب ما قد مضى” [15].
- ظلم الإنسان يُفسد العالم:
إن كان لكل شيء زمان [1]، وإن الله الصالح قد صنع كل شيء حسنًا أو جميلاً في وقته [11]، فإن ما حلَّ بالعالم من فساد ليس هو عن طبيعة العالم ذاته، وإنما خلال ظلم الإنسان وجوره لأخيه الإنسان.
أية شهادة عن بطلان العالم مثل احتلال الظلم موضع الحق، والجور موضع العدل [16]؟ ينتشر الفساد في عمق ساحات العدل! لكن الجامعة يؤمن بقضاء الله العادل. فساد العالم لا يعني أن الأمور تسير بطريقة اعتباطية بلا ضابط، إنما ينتظر الله الوقت المناسب ليدين الصدِّيق والشرير [17]. “لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقتًا هناك” [17]. بمعنى آخر إن كان الإنسان بفساده أساء إلى العالم إذ لم يضع كل شيء في زمانه المناسب وفي نصابه، فاحتل الظلم موضع العدل… مع هذا فإن الله يتدخل ليُصلح الموقف، لكن أيضًا في حينه.
يظن الإنسان الطبيعي أن الإنسان كالبهيمة يخضعان للموت بلا تمييز بينهما، فهل تصعد روح الإنسان إلى فوق وتنزل روح البهيمة إلى أسفل تحت الأرض؟
إن كان الموت يحل بالصدِّيق والشرير، بالإنسان والحيوان، لكن البار وقد التصق بخالقه لا يخشى الموت الذي هو آخر باب يفصله عن إلهه.
سفر الجامعة: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12
تفسير سفر الجامعة: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12