رسائل القديس أنطونيوس – الرسالة السابعة

 

أبنائي “إنّكم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح إنّه من أجلنا افتقر وهو غنى لكي نستغني نحن بفقره” (2 كور 8: 9). أنظروا إنّه قد صار عبدًا، فجعلنا أحرارًا بعبوديّته، وضعفه قد شدّدنا وأعطانا القوّة، وجهالته قد جعلتنا حُكماء. وأيضًا بموته صنع قيامة لنا. حتّى نستطيع أن نرفع صوتنا عاليًا ونقول “وإن كنّا قد عَرَفْنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرِفه بعد كذلك، ولكن إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2 كور 5: 16 – 17).

حقـًّا يا أبنائي الأحبّاء في الربّ، إنّي أخبركم أنّه فيما يخصّ نواحي الحريّة التي تحرَّرنا بها، فلا يزال عندي أشياء أخرى كثيرة لأقولها لكم، ولكن ليس هناك وقت الآن لذلك. الآن أُحَييكم جميعًا يا أبنائي الأعزاء في الربّ، أيّها الأبناء القدّيسون الإسرائيليّون في جوهركم العقليّ (حسب حياتكم الرّوحيّة).

حقـًّا إنّه من المناسب لكم، يا من اقتربتم من خالقكم، أن تطلبوا خلاص أنفسكم بواسطة ناموس العهد المغروس (في الداخل). ذلك الناموس الذي جفّ وتوقّف بسبب كثرة الإثم، وإثارة الشرّ، واشتعال الشّهوات، وانعدمت حواس النّفس، ولذلك لم نعد قادرين على إدراك الجوهر العقلي المجيد (الإنسان الباطن)، بسبب الموت الذي سقطنا فيه. لذلك كما هو مكتوب في الكتب الإلهيّة “كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيَحيا الجميع” (1 كور 15: 22).

لذلك فإنّه هو الآن حياة كلّ طبيعة عاقلة مخلوقة على مثال صورته، وهو نفسه (المسيح) عقل الآب وصورته غير المتغيّرة (عب 1: 3). أمّا المخلوقات المصنوعة على صورته فإنّها من طبيعة متغيّرة لأنّ الشرّ قد دخل فينا، وبه متنا جميعًا، حيث إنّه غريب عن طبيعة جوهرنا العقلي (الرّوحي). ومن خلال كلّ ما هو غريب عن طبيعتنا، صنعنا لأنفسنا منزلاً مُظلمًا ومملوءًا بالحروب. وأشهد الآن لكم أنّنا قد فقدنا كلّ معرفة الفضيلة. ولذلك فإنّ الله أبونا رأى ضعفنا، ورأى أنّنا أصبحنا غير قادرين أن نلبس لباس الحقّ بطريقة سليمة، لذلك جاء لكي يفتقد خلائقه بواسطة خدمة قدّيسيه.

أتوسّل إليكم جميعًا في الربّ، يا أحبّائي، أن تفهموا ما أكتبه لكم، لأنّ محبّتي لكم ليست محبّة جسديّة، بل محبّة روحيّة إلهيّة. لذلك أعدّوا أنفسكم للمجيء إلى خالقكم، “ومزّقوا قلوبكم لا ثيابكم” (يؤ 2: 13)؛ واسألوا أنفسكم ماذا نستطيع “أن نَرُدَّ للربّ من أجل إحساناته لنا” (مز 116: 11)، الذي حتّى ونحن في مسكننا هنا، وفي مذلّتنا، ذكرنا في صلاحه العظيم وحبّه غير المحدود “ولم يصنع معنا حسب خطايانا” (مز 103: 10)، وهو الذي سخّر لنا الشّمس لتخدمنا في بيتنا المظلم هذا، وعين القمر وجميع الكواكب لأجل خدمتنا، وجعلهم يخضعون للبطل الذي سيَبطُل (رؤ 8: 20) وذلك لأجل تقوية أجسادنا. وتوجد أيضًا قوّات أخرى كثيرة قد جعلها لخدمتنا وهي قوّات لا نراها بالعين الجسديّة.

والآن بماذا سنجيب الله في يوم الدينونة، وأيّ خير ينقصنا، وهو لم يهبنا إيّاه؟ ألم يتألّم رؤساء الآباء لأجلنا ألم يمت الأنبياء لأجل خدمتنا؟ أو لم يُضطهد الرّسل من أجلنا؟ أو لم يمت ابنه المحبوب لأجلنا أجمعين؟ والآن ينبغي أن نعد أنفسنا لملاقاة خالقنا في قداسة. لأنّ الخالق رأى خلائقه – وحتّى القدّيسين – لم يستطيعوا أن يشفوا الجرح العظيم الذي لأعضائهم. لذلك لكونه أب المخلوقات، فإنّه عرف ضعف طبيعتهم جميعًا، وأظهر لهم رحمته، بحسب محبّته العظيمة. ولم يشفق على ابنه الوحيد لأجل خلاصنا جميعًا بل بذله لأجل خطايانا (رؤ 8: 32). وهو مسحوق بآثامنا وبجلداته شفينا (أش 53: 4). وجمعنا من كلّ الجهات بكلمة قدرته، حتّى يصنع قيامة لعقولنا (أرواحنا) من الأرض، معلّمًا إيّانا أنّنا “أعضاء بعضنا لبعض” (أف 4: 25).

لذلك يجب علينا في اقترابنا من الله أن ندرّب عقولنا وحواسّنا لنفهم ونميّز الفرق بين الخير والشرّ، ولكي نعرف تدبير يسوع الذي صنعه في مجيئه، كيف أنّه جُعل مثلنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة وحدها (عب 4: 14). ولكن بسبب إثمنا العظيم، وإثارة الشرّ، وتقلّباتنا المُحزنة، فإنّ مجيء يسوع صار جهالة في نظر البعض، وللبعض عثرة، وأمّا للبعض الآخرين فهو ربح، وللبعض حكمة وقوّة، وللبعض قيامة وحياة (1 كور 1: 23 – 42).

وليكن هذا واضحًا لكم، أنّ مجيئه قد صار دينونة لكلّ العالم. لأنّه يقول “ها أيّام ستأتي يقول الربّ، وسيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، ولا يعلمون كلّ واحد قريبه وكلّ واحد أخاه قائلاً إعرف الربّ؛ وسأجعل اسمي يصل إلى كلّ أطراف الأرض: لكي يسدّ كلّ فم ويصير كلّ العالم تحت قصاص من الله؛ لأنّهم لمّا عرفوا الله لم يمجّدوه أو يشكروه كإله” (إر 31: 43، رؤ 3: 19، 1: 21). وبسبب غباوتهم لم يستطيعوا معرفة حكمته، بل أنّ كلّ واحد منّا باع نفسه لعمل الشرّ بإرادته وصار عبدًا للخطيئة.

لهذا السبب أخلى يسوع نفسه وأخذ صورة عبد (في 2: 7)، لكيما يحرِّرنا بعبوديّته. ونحن قد صرنا أغنياء، وفي غباوتنا وجهالتنا ارتكبنا كلّ أنواع الشرّ، ولذلك أخذ شكل الجهالة حتّى بجهالته نُصبح حُكماء. وقد صرنا فقراء وفي فقرنا افتقرنا إلى كلّ صلاح وفضيلة، لذلك أخذ شكل الفقر لكي بفقره نصبح أغنياء في كلّ حكمة وفهم (2 كور 8: 9). وليس هذا فقط بل إنّه أخذ شكل ضعفنا حتّى بضعفه نصبح أقوياء. وأطاع الآب في كلّ شيء حتّى الموت موت الصّليب (في 2: 8)، لكي بموته يُقيمنا جميعًا. لكي يُبيد ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس (عب 2: 14). فإذا تحرّرنا بالحقيقة بواسطة مجيئه وتشبّهنا بتواضعه فإنّنا نصير تلاميذ للمسيح، ونرث معه الميراث الإلهيّ.

حقـًّا يا أحبّائي في الربّ إنّني منزعج جدًّا ومضطرب في روحي لأنّنا نلبس ثوب الرّهبنة ولنا اسم القدّيسين، ونفتخر بهذا أمام غير المؤمنين. وإنّني أخشى لئلاّ تنطبق علينا كلمة بولس الذي يقول لهم صورة التقوى ولكنّهم ينكرون قوّتها” (2 تي 3: 5). وبسبب المحبّة التي عندي من نحوكم، أصلّي إلى الله من أجلكم، أن تفكّروا بعمق في حياتكم، وأن ترثوا الأمجاد غير المنظورة.

حقـًّا يا أبنائي إنّنا حتّى إذا أكملنا عملنا بكلّ قوّتنا في طلب الله فأيّ شكر نستحقّ؟ لأنّنا نطلب فقط مكافأة لنا؛ نحن فقط نطلب ما يتّفق مع طبيعة حياتنا الرّوحيّة وجوهرنا العقليّ. لأنّ كلّ إنسان يطلب الله ويخدمه بكلّ قلبه، فإنّما يفعل ذلك وفقًا لجوهره وهذا طبيعي بالنسبة إليه. أمّا إن صدرت منّا خطيئة، فإنّما هي غريبة عن طبيعة جوهرنا (الرّوحي).

يا أبنائي الأعزاء في الربّ يا من أنتم مستعدّون لتقديم أنفسكم ذبيحة لله بكلّ قداسة، إنّنا لم نخف عنكم أيّ شيء نافع، بل أظهرنا لكم كلّ ما قد رأيناه: إنّ أعداء الصّلاح يدبّرون الشرّ دائمًا ضدّ الحقّ. وخذوا من هذا كلمة منفعة بأنّ “الذي حسب الجسد يضطهد الذي حسب الرّوح” (غل 4: 29). “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون” (2 تي 3: 12).

ولأنّ يسوع عرف كلّ الآلام والتّجارب التي ستأتي على الرّسل في العالم، وأنّهم بصبرهم سيقضون على قوّة العدوّ، أيّ عبادة الأوثان، لذلك عزّاهُم بقوله “في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو 16: 33). وعلّمهم قائلاً “لا تخافوا من العالم لأنّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا. إن كانوا قد اضطهدوا الأنبياء الذين قبلكم، فسيضطهدونكم، وإن كانوا يبغضونني فسيبغضونكم أيضًا. ولكن لا تخافوا: لأنّكم بصبركم ستبطلون كلّ قوّة العدو” ( مت 5: 12، يو 15: 20، لو 21: 19).

أمّا عن معاني الحريّة التي نلناها فعندي الكثير، ولكن أعط فرصة للحكيم فيصير أوفر حكمة (أم 9: 9). ومع ذلك فإنّنا نحتاج إلى التعزية المتبادلة بكلماتنا البسيطة. ولمحبّتي فيكم كلّمتكم بهذه الكلمات القليلة الرّوحانيّة لتعزية قلوبكم، لأنّي أعلم أنّه إذا كان العقل قد بلغ الإدراك الحقيقيّ فلا يحتاج إلى كثرة الكلام الجسداني. ولكنّني أفرح بكم جميعًا أيّها المحبوبون في الربّ، أنتم الأبناء القدّيسون الإسرائيليّون في جوهركم العقليّ. لأنّ أوّل ما يحتاج إليه الإنسان العاقل هو:
(أ) أن يعرف نفسه.
(ب) ثمّ بعد ذلك يحتاج أن يعرف أمور الله، وكلّ الهبات السخيّة التي تهبها نعمة الله دائمًا وأبدًا للإنسان.
(ج) وبعد ذلك يحتاج أن يعرف أنّ كلّ خطيئة وكلّ إثم إنّما هي غريبة عن طبيعة جوهره العقلي (الرّوحي).
وأخيرًا إذ رأى الله أنّه باختيارنا قد صارت لنا هذه الأشياء الغريبة عن طبيعتنا الرّوحيّة وأصبحت هي سبب موتنا هنا، لهذا السبب تحرّك بالرّحمة نحونا وبصلاحه أراد أن يرجعنا ثانية إلى تلك البداية التي بلا نهاية، (أي حالتنا الأولى التي لا موت فيها) وافتقد خلائقه، ولم يشفق على نفسه لأجل خلاصنا جميعًا. لقد بذل نفسه لأجل خطايانا (غل 1: 4) وصار مسحوقـًا بسبب آثامنا، ولكنّنا بجلداته شُفينا (أش 35: 4).

وبكلمة قدرته جمعنا من كلّ مكان من أقصاء الأرض إلى أقصائها، وعلمنا أنّنا أعضاء بعضنا لبعض (أف 4: 25). لذلك فإن كنّا قد تهيّأنا وعزمنا أن نحرِّر أنفسنا بواسطة مجيئه إلينا، فلنمتحن أنفسنا كأناس عاقلين لنرى ماذا يمكننا “أن نردّ للربّ من أجل حسناته التي صنعها معنا” (مز 116: 11).

وهكذا أنا أيضًا، المسكين البائس الذي أكتب هذه الرسالة، إذ قد نبّه عقلي من نوم الموت بنعمته، قد صرفت معظم زمان عمري على الأرض باكيًا منتحبًا وأنا أقول “ماذا يمكنني أن أردّ للربّ من أجل كلّ حسناته التي صنعها معي”. فليس هناك شيء ينقصنا إلاّ وقد تمّمه لنا وعمله لأجلنا ونحن في مذلّتنا. فقد جعل ملائكته خدّامًا لنا. وأمر أنبيائه أن يتنبّأوا، ورسله أن يكرزوا لنا بالإنجيل. والتدبير الذي هو أعظم كلّ تدبيراته أنّه جعل ابنه الوحيد يأخذ صورة عبد لأجلنا.

لذلك فإنّي أتوسّل إليكم، يا أحبّائي في الربّ، أنتم الوارثون مع القدّيسين، أن تُنهضوا عقولكم في مخافة الله. لأنّه يجب أن تكون هذه الكلمة واضحة لكم، أنّ يوحنّا السّابق ليسوع عمَّد بالماء للتوبة لمغفرة الخطايا ليجتذبنا إلى معموديّة ربّنا يسوع الذي عمَّد بالرّوح القدس والنّار. فلنستعدّ الآن بكلّ قداسة أن نُنَقـّي ذواتنا جسدًا وروحًا لنقبل معموديّة ربّنا يسوع المسيح، لكي نقدّم ذواتنا ذبيحة لله. والرّوح المعزي يعزّينا ليردّنا ثانية، إلى حالتنا الأولى فنستعيد الميراث وملكوت ذلك الرّوح المعزي نفسه.

واعلموا أنّ “كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس ذكر أو أنثى، ليس عبد ولا حرّ” (غل 3: 27، 28). وحينما ينالون تعليم الرّوح القدس تبطل منهم حركات الأفكار الجسدانيّة في ذلك الوقت، حينما ينالون الميراث المقدّس ويسجدون للآب كما يجب بالرّوح والحقّ (يو 4: 24). ولتكن هذه الكلمة واضحة لكم، ولا تنتظروا دينونة آتية عندما يأتي يسوع ثانية، لأنّ مجيئه (الأوّل) قد سبق وصار دينونة لنا أجمعين.

لذلك اعلموا الآن أنّ القدّيسين والأبرار، الذين لبسوا الرّوح، يصلّون دائمًا لأجلنا لكيما ننسحق أمام الله ونتّحد بربّنا ونلبس ثانية ذلك الثوب الذي خلعناه، والذي كان لنا منذ البدء أي صورته الأولى الرّوحيّة التي خلعناها بالمخالفة. لأنّه كثيرًا أيضًا ما جاء ذلك الصوت من الله الآب إلى كلّ الذين لبسوا الرّوح قائلاً لهم: “عزّوا، عزّوا شعبي يقول الربّ. أيّها الكهنة كلّموا قلب أورشليم” (أش 40: 2، 1 س). لأنّ الله دائمًا يفتقد خلائقه ويسكب عليهم صلاحه.

بالحقيقة يا أحبّائي، إنّه يوجد معاني للحريّة التي بها قد تحرّرنا ويوجد أشياء أخرى كثيرة لأخبركم بها. ولكن الكتاب يقول: “أعطي فرصة للحكيم فيكون أوفر حكمة” (أم 9: 9). ليت إله السّلام يُعطيكم نعمة وروح الإفراز، لتعرفوا أنّ ما أكتبه إليكم هو وصيّة الربّ. وليحفظكم إله كلّ نعمة مقدّسين في الربّ إلى آخر نسمة من حياتكم، إنّي أصلّي إلى الله دائمًا لأجل خلاصكم جميعًا، يا أحبّائي في الربّ. نعمة ربّنا يسوع المسيح تكون معكم جميعًا. آمين.

فاصل

كما يمكنك أيضاً قراءة رسائل القديس أنطونيوس

 

زر الذهاب إلى الأعلى