تفسير سفر إشعياء ٣٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث والثلاثون
الغزو الآشوري والعصر المسياني
بينما يتطلع النبي إلى العصر المسياني كعصر مثمر، فيه يغرس الرب كرمه (الكنيسة) كما على مجاري مياه روحه القدوس، محولاً البرية إلى بستان، إذا به يتطلع إلى الأحداث الجارية في عصره كظلال لهذا العصر. حقًا يرى في الغزو الآشوري على يهوذا وأورشليم هلاكًا للكثيرين لكنه تبقى قلة أمينة مخلصة تنعم بعمل الله وتتمتع ببركاته. ما حلّ من خراب يُشير إلى النفوس الجاحدة للسيد المسيح، الرافضة مملكته غير المتمتعة بعمل روحه القدوس بينما تُشير القلة إلى كنيسته أو إلى ملكوته المفرح المملوء سلامًا وثمرًا روحيًا متزايدًا.
- ويل للمخرّب [1].
- التجاء إلى الله [2-9].
- إدانة آشور [10-14].
- الملك ومملكته [15-24].
- ويل للمخرب:
“ويل لك أيها المُخَرِب وأنت لم تُخَرب، وأيها الناهب ولم ينهبوك، حين تنتهي من التخريب تخرب وحين تنتهي من النهب ينهبونك” [1].
الويل هنا موجه ضد آشور وأيضًا ضد بابل كما ضد كل عدو متشامخ على الله وعلى شعبه[342]. إن كانت خطته للتخريب والنهب تتحقق بلا عائق، دون أن يمسه أذى، لكن هذا العمل يسقط تحت الويل.
يستخدم الله هذا المخرب كعصا تأديب لشعبه إلى حين ليعود فيدينه؛ يتركه يُحقق ما في قلبه من رغبة في التدمير، لكن كما فعل يُفعل به، فيحل به الخراب ويُنهب في الوقت المناسب.
هنا يليق بنا أن ندرك أن كل يد تمتد للتخريب إنما يحل عملها على رأسها، وتشرب من ذات الكأس الذي تملأه للغير. أما شرها فيتحول للخير بالنسبة لأولاد الله، حتى الشيطان نفسه لا يقدر أن يُحطمهم، إنما تصير مقاومته لهم علة نصرتهم وإكليلهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يتزكى الصالحون بالأكثر عندما يكونون في وسط أولئك الذين يريدون أن يصدوهم عن حياة البر، ويجذبونهم نحو الشر، وبالرغم من هذا يتمسكون بالفضيلة. يقول (الرسول) “لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا، ليكون المزكون ظاهرين بينكم” (1 كو 11: 19). لهذا ترك الله الأشرار في العالم حتى يزداد بهاء الصالحين. هل رأيتم عظم الربح؟ لكن هذا الربح مصدره شجاعة الصالحين لا الأشرار… لنُطبق هذا البرهان أيضًا على الشيطان، فإن الله تركه هنا لكي نعود إلى حالٍ أقوى، لكي يجعل المصارع واضحًا والنزاع عظيمًا. فعندما يسألك أحد: لماذا ترك الله الشيطان هنا؟ أجبه بهذه الكلمات: أنه ليس فقط لا يؤذى الشيطان إنسانًا يقظًا وحذرًا، بل ويفيد أيضًا، لا بقصد الشيطان (الشرير) وإنما بسبب شجاعة ذاك الذي يستغل شر الشيطان حسنًا… لتكن نيتك حسنة، فلن يؤذيِك أحد قط بل تنال ربحًا عظيمًا، لا من الصالحين فقط بل ومن الأشرار أيضًا[343]].
هذا وقد أدرك المسيحيون إن الشيطان قد انهار تمامًا بعد الصليب فناله الخارب بعدما كان مخربًا للنفوس.
- الالتجاء إلى الله:
إذ يرى النبي الخراب الذي يحلّ بشعب الله المستحق التأديب، ونهب الأعداء لهم يرفع صلاة من أجل البقية المقدسة معلنا باسمهم انتظارهم للرب، جاء فيها:
أ. طلب مراحم الله وخلاصه: “يارب تراءف علينا، إياك انتظرنا كن عضدهم في الغدوات، خلاصنا أيضًا في وقت الشدة” [2].
باسم الشعب التّقي رفع النبي صلاة من أجل القيادات العسكرية التي صارت في شدة وضيق بسبب سنحاريب وجيشه. “كن عضدهم في الغدوات“؛ الترجمة الحرفية “كن ذراعهم كل صباح”، وهو تعبير رائع يكشف عن دور الله الخلاصي في حياة الناس. إنه لا يتجاهل أذرعتهم، وإن كانت كلا شيء وعاجزة تمامًا عن العمل؛ لكنه يعمل بها كأنها ذراعه هو، يأخذها كما لنفسه ويقدسها بروحه القدوس ويعضدها بقوة سماوية ليُخلص. هو العامل في حياة مؤمنيه لكن دون تجاهلهم أو تحطيم طاقاتهم بل خلال تقديسهم.
v الله يريد أن يظهر العبد وكأنه قد ساهم في شيء حتى لا يسقط في الخجل[344].
v النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا، يسكب عليها غناه بفيض وغزراة تفوق كل طلبته[345].
v يطلب الله منا علة صغيرة لكي يقوم هو بكل عمل[346].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هذا العضد الإلهي هو عمل يومي مستمر في حياة الكنيسة كما في حياة كل عضو، “لأن مرحمة لا تزول، هي جديدة في كل صباح” (مرا 3: 22-23).
ب. طلب التدخل الإلهي، فأنه يكفي أن يتكلم الله فلا يحتمل الآشوريون أو غيرهم الصوت الإلهي فيهربوا. “صوت ضجيج (زئير) هربت الشعوب، من ارتفاعك تبددت الأمم” [3]. مجرد النطق بكلمة إلهية يرتعب الأشرار ويهربون؛ مجرد ظهور الله في المعركة بدد الأمم المعادية.
ما أحوجنا أن تُعلن كلمة الله في القلب فيهرب الشر وتتبدد قوات الظلمة، وأن يتجلى المصلوب داخلنا فتهرب الخطايا وكل الأرواح الشريرة، ليملك الرب وحده في أعماقنا.
أمام ظهور الرب في الساحة ونطقه بكلمة صار الغزاة أشبه باليسروع (يرقات الفراشة) والجراد، يهربون في خزي وعار ويقوم شعب الله بجمعهم [4]. ربما عنى باليسروع الموتى والجرحى من الجيش الآشوري يجمعهم الشعب حتى لا يسببوا وباءً، وبالجراد الهاربين فيركضون وراءهم لاصطيادهم بلا حاجة إلى أسلحة. إنه خزى وعار للعدو الذي خرّب ونهب في قسوة وتجبر!
ج. تقديس المدينة لتصير مدينة الله البارة أو مدينة البر، يسكنها الله نفسه بكونه “حقًا وعدلاً” [5]. تمتلئ سلامًا وأمانًا وخلاصًا مع الحكمة ومعرفه. كنزها الحقيقي هو “مخافة الرب” [6]. هذا الخوف النابع عن الحب، خوف جرح مشاعر الأب وليس خوف العبد من سيده ولا الأجير من صاحب البيت أو العمل[347].
الآن بعدما طلب النبي باسم الشعب من الله أن يتدخل لتحطيم العدو وخلاص الشعب، يستعرض – أمام الله – ما حلَّ بالمدينة، ربما لكي يستدر عطفه الإلهي [7-9].
أ. لم يكن أمام أبطال الحرب أن يتحركوا، إنما توقفوا عند الصراخ في عجز وخوف [7].
ب. بكى رسل السلام بمرارة [7] إذ نكث سنحاريب العهد. فقد دفع حزقيال مبلغًا كبيرًا ليترك الأرض ومع ذلك أرسل جيشه لاقتحامها (2 مل 18: 4، 17).
ج. خلت السكك [8] إذ خشى الكل أن يلتقي بهم العدو في الطريق، فقد جاءت تقارير الرسل تعلن خطورة الموقف، وأحاط العدو بكل المدن.
د. دخلوا في مذلة فصارت المدن مرذولة [8].
هـ. حدوث جدب حتى في أكثر المناطق خصوبة وبهجة لتصير مثل الصحراء… عدم الاثمار والعقم يعتبران عارًا، علامة على غضب الله. من هذه المناطق شارون وباشان والكرمل.
إذ التجأ النبي باسم الأتقياء إلى الله رافعًا الصلاة من أجل تدخله الإلهي، معترفًا بما حلّ بالبلد من خراب ودمار تدخل الله لادانة العدو آشور. وكأن الله مشتاق أن يسندنا ضد العدو إبليس وقادر على خلاصنا لكنه ينتظر منا أن نلجأ إليه ونطلب عمله معنا، فأنه لا يُلزمنا حتى بخلاصنا. أنه يقدس حرية إرادتنا مشتاقًا أن نطلب باختيارنا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يغصبنا الله ولا تُلزم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله يُنادينا وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه[348]].
- إدانة آشور:
إن كان الله يتمهل على الأشرار، لكنه إذ يمتلىء الكيل يدينهم:
أ. الله نفسه يقود المعركة: “الآن أقوم يقول الرب، الآن أصعد، الآن ارتفع” [10]. ما يعجز الإنسان عن فعله يقوم به الرب نفسه من أجل غيرته على الضعفاء والمظلومين، حاسبًا أعداءهم أعداء له، إذ قيل “يقوم الله، يتبدد أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه، كما يذرى الدخان تذريهم… والصديقون يفرحون يبتهجون أما الله ويطفرون فرحًا” (مز 68: 1-3).
ب. ما يحل بهم من إدانة هو ثمر طبيعي لأعمالهم، فإذ يحبلون قشًا لا يلدون حنطة بل قشيشًا [11] يُقدم للنار الآكلة. وإذ يتنسمون عنفًا كالنار يحرقون أنفسهم [11].
أعمالهم قش وشوك لا تصلح لشيء وتهديداتكم نار متقدة، لذا يحملون في داخلهم القش والشوك مع النار ليصيروا أتونًا متقدًا لا للآخرين بل لأنفسهم!
إن كانت شرورهم – خاصة النفاق- نارًا آكلة [1] فهم بهذا يمارسون بإرادتهم عربون الوقائد (النيران) الأبدية [1].
كما أن البر يحمل مكافأته في داخله فيدخل بالنفس البشرية إلى عربون المجد الأبدي، هكذا الشر يحمل مكافأته فيه فيدخل بها إلى عربون نار جهنم الأبدية.
يرى كثير من آباء الكنيسة أن الفضيلة لا تحتاج إلى مكافأة لأنها تحمل مكافأتها في داخلها، وكما يقول الشهيد يوستين: [أما تقود الفضيلة إلى كمال السعادة؟[349] ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [لكي تكون الفضيلة فضيلة لا تكون لها مكافأة[350]]. لعل سر هذا إن الآباء تطلعوا إلى الفضيلة بكونها تمتع بالوحدة مع المسيح، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن الفضيلة هي أن نكون واحدًا مع المسيح، أنه هو الفضائل التي تملأه[351]]، هو العدل والحكمة والحق، فمن يمارس الفضيلة إنما يشترك في الطبيعة الإلهية[352]، وهذا هو كمال المكافأة.
الرذيلة هي تشبيه بعدو الخير واشتراك معه في سماته مع حرمان من التمتع بالمخلص والتشبه به… وهذا فيه ثمر الخطية وجزاؤها.
- الملك ومملكته:
إن كان الله في عدله نارًا آكلة تلتهم الشر الحامل الفساد في داخله وتمجد المؤمنين الحاملين برّ المسيح فيهم، فإنه يُدين الأشرار المصرّين على شرهم ويحمي أبراره من أيديهم.
يُقدم لنا النبي سمات الإنسان البار وهي:
أ. يسلك بالحق والبر، أي يسلك في المسيح يسوع الطريق والحق، وهو برّنا.
ب. يتحدث بالاستقامة [15]، كلماته تعلن عن إنجيله المخفي في قلبه.
ج. يحتقر مكسب المظالم.
د. باستخفاف ينفض يديه عن قبول الرشوة.
هـ. يسد أذنيه عن الاستماع للخطط الدافعة إلى سفك الدماء.
و. يغمض عينيه عن التطلع إلى الشر.
ز. يرتفع بقلبه إلى الأعالي ليسكن مع مخلصه في السمويات [16].
ح. يلجأ دومًا إلى مسيحه كحصون صخور تحميه من الشر.
ط. سخي في العطاء حتى من أعوازه: الخبز والماء.
مثل هذا الإنسان الذي يتقدس بالسيد المسيح ليعيش بكل أحاسيسه طاهرًا، ويرتفع بأعماقه إلى الأعالي، ويمارس حياة الشركة مع الله والعطاء المستمر، يستحق التمتع برؤية السيد المسيح في أمجاده، إذ قيل: “الملك ببهائه تنظر عيناك” [17]. هذه هي أعظم هبة للبار أن يُعاين المسيا في بهائه!
يظن البعض أن الحديث هنا عن الملك حزقيا الذي تمتع ببهاء خاص عندما تهلل في قلبه عند رؤيته هلاك جيش سنحاريب، لكن النص واضح هنا أنه يتحدث بالأكثر عن السيد المسيح الذي تمجد على الصليب جاذبًا إليه الأمم، واهبًا إياهم طبيعة جديدة، عوض العداوة حملوا حبًا وصداقة، وعوض الشراسة صاروا ودعاء، وعوض لغة الشر الغريبة صاروا ينطقون بلهجة سماوية، إذ قيل: صاروا ودعاء، وعوض لغة الشر الغريبة صاروا ينطقون بلهجة سماوية، إذ قيل:
“أين الكاتب؟ أين الجابي؟ أين الذي عدّ الأبراج؟” [18]. أين الكاتب الذي يعدّ الجيش ويسجل أسماء الجند؟ وأين الجابي الذي يُحدد الجزية التي تُدفع للعدو؟ أين الذي يُعد الأبراج لكي يُقيم حراسًا عليها ورقباء يلاحظون العدو وينبهون إلى المعركة؟ لقد تحولت كل هذه الطاقات من العمل للحرب والمقاومة إلى طاقات هادئة مسالمة للعمل لحساب ملكوت الله، خلال قبولهم الإيمان بالسيد المسيح.
“ الشعب الشرس لا ترى” [19]، إذ نُزعت أعمال الإنسان القديم العنيف لنحمل سمات خالقنا بتمتعنا بالإنسان الجديد الذي يتجدد كل يوم.
“الشعب الغامض اللغة عن الإدراك، الغبي بلسان لا يفهم” [19]؛ نالوا لسانًا جديدًا هو لغة الروح، لسان الحب والوحدة مع الفهم والحكمة.
والآن ما هو عمل الملك المسيا في حياة الأمم القادمة إليه بالإيمان به؟
أ. “انظر صهيون مدينة أعيادنا” [20]. عوض الرعب القديم من الكاتب مسجل الجيش والجابي تصير صهيون مدينة أعياد مفرحة، يجتمع فيها الشعب ببهجة دائمة للعبادة الجماعية والالتقاء مع الله نفسه عيدنا غير المنقطع.
ب. “خيمة لا تنتقل لا تُقلع أوتادها إلى الأبد وشيء من أطنابها لا ينقطع” [20]، أي ثابتة وراسخة لا يحطمها حتى الموت إذ تبقى أبدية.
ج. محاطة بالأنهار والترع من كل اتجاه [21] مما يجعلها مثمرة بالروح.
د. لا يمكن الاقتراب إليها أو محاربتها؛ إذ لا تسير في المياه المحيطة بها سفن صغيرة للتجسس عليهاولا سفن عظيمة حربية [21].
هـ. المسيح الرب نفسه هو القاضي والمشرع والملك والمخلص [22]، قدم دستور الإنجيل وملك على الصليب وخلصنا ولا يزال يشفع فينا كفاريًا بدمه الثمين.
و. يصير عدوها كسفينة منكسرة وسط المياه لا يقدر أن يرفع العدو ساريتها ولا ينشر قلعها [23].
ز. يهزمون العدو بقوة حتى أن العرج يستطيعون نهبه نهبًا [23].
ح. ليس فيها مريض [24].
ط. ينال سكانها غفران الخطايا [24].
هذه هي صورة النفس التي ترتبط بالسيد المسيح: تصير صهيون مدينة الله المفرحة، مملوءة بهجة وسلامًا، ثابتة في الرب، يحوط بها روح الله القدوس ليحولها إلى فردوس مثمر، لا يقدر الشيطان أن يهزمها ولا عدو الخير أن يُحطمها، يعلن السيد المسيح مملكته فيها بكونه ملكها والقاضي والمشرع ومخلصها، تغلب عدو الخير وتُحطمه، لا يمكن لمرض روحي أن يصيبها وأخيرًا فإنها تتمتع بغفران الخطايا خلال التوبة الدائمة.