تفسير سفر إشعياء ٤١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي والأربعون
خلاص من المشرق
قدم لنا الأصحاح السابق تصويرًا رائعًا لعمل الله الخلاصي، كعمل رعوي يصدر عن الله الكلي القدرة والكلي العلم والحكمة والكلي الحب… الآن يدعو الله الأرض كلها حتى الجزائر التي كانت في ذلك الوقت تمثل الغرب الأقصى لكي تقف في محاكمة مع الله، خلالها يظهر الحق من الباطل. إنه لا يطلب نزول نار من السماء كما فعل إيليا لإظهار الله والحق والكشف عن بطلان البعل، إنما يسألهم أن يطلبوا من الأوثان أن تخبر عن المستقبل إن كانت تقدر! أما الله فيكشف لإشعياء عن المستقبل، عن مجيء كورش الذي من المشرق لخلاص شعبه، مؤكدًا أنه رب التاريخ وإله كل الأمم يستخدم كل الطاقات حتى الوثنية لتحقيق رعايته لأولاده المقدسين في حقه. هذا الخلاص إنما هو صورة رمزية وتهيئة لخلاص أعظم يحققه المسيا المخلص… الذي هو مركز السفر كله، بل ومركز الكتاب المقدس كله.
- نصرة من المشرق [1-7].
- عبدي الذي أخترته [8-12].
- الدودة تصير نورجًا [13-16].
- البرية تصير بستانًا [17-20].
- الله رب المستقبل [21-29].
- نصرة من المشرق:
يقدم إشعياء النبي تصويرًا شاعريًا رائعًا للنصرة التي ينالها إسرائيل خلال كورش الذي يسمح لهم بالعودة من السبي.
يؤكد النبي أن ما سيحدث بواسطة كورش ليس من عندياته إنما هو بتدبير إلهي.
“أنصتي إليّ أيتها الجزائر، ولتتجدد القبائل قوة، ليتقربوا (ليصمتوا) ثم يتكلموا، لنتقدم معا إلى المحاكمة” [1]. يطلب من الجزائر البعيدة التي تُحيط بها المياه من كل جانب. إشارة إلى إسرائيل المسبي في بابل بعيدًا عن بلده وقد أحاطت به مياه التجارب لتغرقه… يطلب منه أن ينصت أولاً ثم يصمت وعندئذ يتكلم ويحاور الله كما في
محاكمة بين نَدَّين أو طرفين.
الإنصات والصمت لا يعنيان السلبية، إنما يعنيان رفع القلب إلى الله والتأمل في أعماله العجيبة، منتظرين خلاصه المستمر لشعبه وكنيسته. الصلاة الصامتة تحرك السماء ذاتها، يسمعها الله ويستجيب لها، كما حدث مع موسى الصارخ في قلبه (خر 14: 15) ومع حنة في الهيكل (1 صم 1: 13).
v لنأتِ الآن إلى صلاة حنة أم صموئيل الصامتة، كيف كانت موضعٍ سرور أمام الله، فتحت الرحم العاقر، ونزعت عارها، حيث أنجبت نذيرًا وكاهنًا.
الأب افراهات[415]
v صلى يونان صلاة بلا صوت (يو 2)؛ صمت الراعي في بطن السمكة، من جوف الخليقة العجماء زحفت صلاته فسمعها الله في الأعالي، إذ كان صمته صراخًا.
مارافرام السرياني[416]
v إن كان فمك ساكتًا بهدوء فقلبك يشتعل دومًا بحرارة الروح!
إن كنت تتكلم بلسانك وقلبك لا يتحرك بالصلاة، فكلامك هو خسارة!
سكِّت لسانك ليتكلم قلبك… وسكت قلبك ليتكلم الله!
الشيخ الروحاني
v السكون يجعلك تنير كالشمس وينقيك من عدم المعرفة.
v إن أردت أن تعرف رجل الله، استدل عليه من دوام سكونه.
مار إسحق السرياني
v أولئك الذين يقفون في حضرة المسيح، الذين يصبون كل اهتمامهم في الإلهيات، ويتحررون من كل ارتباكات العالم، يحفظون على الدوام صلاة القلب الخفية وأفكار العقل الروحية، رافضين كل فكر زمني يظلم النفس وطاردين إياه فلا يشغلهم عن التفكير في الله…
v ليتنا أيها الأحباء ننزع عنا ثقل الاهتمام الزمني لنقضي كل أوقاتنا في أفكار الله، بهذا
تتنقى نفسنا وتحلق في السمويات نحو الله. فان الكلمات الإلهية تنزع الصدأ عن العقل وتزيل عنه ثقل الزمنيات، وترفعه إلى رؤية اللاهوت…
v لنصلِّ بطريقة خفية مع إتضاع القلب دون أيه رغبة في الانتفاخ في كبرياء بخصوص مظاهر الصلاة التي تفقدنا المكافأة.
الأب مرتيروس[417]
يلزم أن يرافق الصمت حوار الحب الداخلي بين الله والنفس، ففي بداية هذا السفر يُطالبنا الله أن ندخل معه في حوار لكي نغتصب مغفرة خطايانا (إش 1: 18)، أما هنا فيُريدنا أن نقترب إليه ونتحدث معه عن قرب خلال لغة السكون، نسمعه باذاننا الداخلية ونحاوره بلساننا القلبي وتنفتح بصيرتنا الروحية لندرك عن قرب أسرار الله الخلاصية… هذا ما عناه بقوله: “ليقتربوا ثم يتكلوا” [1].
يقول الأب مرتيروس: [لنتمثل بمريم أخت لعازر التي جلست عند قدميّ ربنا تنصت لكلماته (لو 10: 39، يو11: 1)، فبحبها ارتفعت نفسها إلى السماء عند كلماته. لهذا السبب قدم ربنا شهادة حسنة عنها: “مريم اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع عنها” (لو 10: 42). لنتمثل بهذه المرأة الطوباوية في نصيبها الصالح الذي اختارته، فان ربنا إلى الآن قريب منا[418]…].
ماذا رأى إشعياء النبي وماذا سمع خلال الاقتراب بسكون نحو الله؟
“من أنهضَ (البار) مِنَ المشْرِق الذي يُلاقيه النَّصْرُ عندَ رجْلَيْه؟! دَفعَ أمامَهُ أُممًا وعلى مُلوكٍ سَلَّطَهُ، جعلهم كالتُراب بسَيْفه وكالقشِّ المُنْذَري بقَوْسِه” [2]. من الجانب الحرفي يقصد كورش الذي انهضه الرب من المشرق، واهبًا إياه نصرة عند رجليه، بمعنى أنه يهبه سرعة الحركة؛ أينما حَلَّ بجيشه تحققت له النصرة. هذا ويرى أغلب الدارسين أن كورش محطم بابل عُرف بالعدالة، وإن كان جيشه ورجاله عُرفوا بالعنف والشراسة. صار رمزًا للسيد المسيح في خلاصه لا من سبي بابل أو غيرها وإنما من سبي إبليس والخطية.
دُعى في بعض الترجمات كالسبعينية “بارًا”، وقد رأى بعض حاخامات اليهود أن الحديث هنا عن إبراهيم أب الآباء الذي قدم من المشرق ليملك خلال نسله أرض كنعان. أما آباء الكنيسة عبر العصور مثل القديس جيروم والقديس كيرلس ويوسابيوس القيصري وثيؤدورت وبروكوبيوس فيروا أن الحديث هنا خاص بالمسيا[419].
جاءت الكلمة العبرية للنصر هنا “Sedek“، وتعني “البر أو الحكم الإلهي أو النصر الخ…[420] “. فقد جاء السيد المسيح الذي بلا خطية البار وحده يلتقي بالبر الذي من عندياته ليهبنا إياه. نصرته ليست خلال حروب ومقاومة حسية وإنما تثبيتنا في بره.
سيف المسيح وقدسه هما كلمته الإنجيلية التي تحوّل الشر إلى تراب وقش أما النفوس فتتنقى من كل شائبة، بهذا ملك على الأمم محطمًا كل شر فيهم.
“طردهم مرّ سالمًا في طريق لم يسلكه برجله” [3]، كأن كورش قد جاء مسرعًا جدًا حتى بدى كمن لا يلمس الأرض برجليه. أشار هذا أيضًا إلى سرعة انتشار الكرازة بإنجيل الخلاص، أو عمل المسيح الخلاصي.
هذا الخلاص يتحقق خلال الله نفسه الذي هو “الأول” عمل ويبقى عاملاً في حياة شعبه من البداية حتى النهاية [4].
قدم الرب تساؤلاً في محاكمة الشعوب، وإذ لم يجب أحد أجاب هو: “من فعل وصنع داعيًا الأجيال من البدء؟ أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو” [4]… هو الذي دعا الأجيال منذ البدء للاقتراب إليه والتمتع بخلاصه، ويبقى حتى مع الآخرين (ظهور آلهة وثنية) هو هو لا يتغير في حبه عبر الأجيال.
لقد دعا البشرية منذ البداية لتعيش معه لكنها رفضت الخالق وصنعت لنفسها آلهة عاجزة حتى عن حماية نفسها، هي من صنع النجّار والصائغ والصاقل بالمطرقة واللحام… كل يشدد الآخر ليخرج التمثال متقنًا تشدده المسامير “حتى لا يتقلقل” [7].
ليس هناك وجه مقارنة بين أوثان تحتاج إلى من يصنعها ومن يحرسها ومن يُرممها حتى لا تخرب وبين مسيح خالق يتحرك بالحب العملي ليُجدد طبيعتنا المتقلقلة الفاسدة.
بكشفه عن بطلان الأوثان يعلن عن ضعف الأمم ليدعوها إلى عظمة المسيح القادرة وحده أن يخلص!
- عبدي الذي اخترته:
يكشف عن ضعف الأمم واضطرابها، ويعلن عنها إنها تراب وقش [2]، يدعوهما للدخول إلى إسرائيل الجديد للتمتع – خلال عمل المسيح الخلاصي – بالصداقة الإلهية التي اختبرها إبراهيم أب المؤمنين، إذ يقول:
“وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي (صديقي)” [8]. لقد اختار الله إبراهيم خليلاً له، دعاه من أمة وثنية لا تعرف الله، ليصير بارًا، ينهضه من المشرق ويلاقيه النصر عند رجليه [2]. الله لم يتغير فلا يزال يطلب أن يبرر ويصادق أبناء له، يدعوهم من وسط أناس غير مؤمنين ليقبلوا الإيمان به ويصيروا أحباءه.
v إبراهيم الملقب بالخليل، وُجد مؤمنًا، لأنه أطاع كلمات الله.
القديس اكليمندس الروماني[421]
من هو العبد المختار إلاَّ السيد المسيح الذي احتل مركز العبد، ليمثل البشرية الضعيفة، فيقيم عهدًا باسمها لدى الآب، يختمه بالدم الثمين. وكما يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [دُعي عبدًا ليخدم الكثيرين بالحق… جاء عبدًا في الجسد وحسب الميلاد لأجل حياتنا كي يحررنا مخلصًا إيانا من عبودية الخطية[422]].
صار كلمة الله المتجسد عبدًا لكي إذ نثبت نحن العبيد فيه نسمع الصوت الإلهي يُنادينا:
“يا إسرائيل عبدي“: لقد صرتم أنتم الغرباء والبعيدون إسرائيل الجديد، كنيسة مقدسة وشعبًا مبررًا، عبيدًا صالحين متحدين بالابن الوحيد الذي صار عبدًا.
“يا يعقوب الذي اخترته“، وكما قال السيد المسيح لتلاميذه: “لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم”.
“نسل إبراهيم خليلي“: صرتم أبناء إبراهيم روحيًا، أبناءه في الإيمان فحسبتم أحباء ليّ كما كان أبوكم خليلاً ليّ.
“الذي أمسكته من أطراف الأرض ومن أقطارها دعوته” [9]، جئت بكم من أقاصي المسكونة ودعوتكم من بين الأمم…
“لا تخف لأني معك“: هذا هو موضوع دعوتي، وسّر اختياري لكم، وغايتي من الخلاص أن أكون معكم…
“وقد أيَّدُتَك وأعنتك وعضدتك بيمين بري” [10]، أكون لك عونًا وعضدًا لأني بررتك بدمي، فصرت بارًا بيّ تستحق كل عون وتعضيد ضد مقاوميك الذين يبيدون، وضد منازعيك الذين تبحث عنهم فلا تجدهم، إذ صاروا كلا شيء [11، 2].
في القديم كنت تبحث عن مسامير لكي تمسك صفائح الذهب والفضة في التماثيل الخشبية حتى لا تسقط [7] وكي تكسبها جمالاً خارجيًا وتعطيها قيمة ثمينة، أما الآن فأنا أمسك بيمينك فلا تتزعزع، أسكب مجدي فيك واهبك بري فتتمجد: “لأنيّ أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك: لا تخف أنا أعينك” [3].
كثيرًا ما يكرر في هذا السفر عبارة: “لا تخف“… إذ يعرف الله حقيقة مرض الطبيعة البشرية أو ميكروبها الخطير ألا وهو الخوف المحطم لسلامنا وفرحنا ومجدنا الداخلي. سّر هذا الخوف شعورنا بالعزلة والوحدة، ليس من رفيق ولا من معين ولا من يدرك حقيقة مشاعرنا ولا من يُشاركنا أعماق أحاسيسنا الداخلية. لذا يتقدم المخلص بنفسه ليُرافقنا لا من الخارج بل بسكناه في أعماقنا، فيملأ الفراغ الداخلي، ويكون هو الرفيق والمعين والمشبع لكل احتياجاتنا الداخلية، الذي يُشاركنا مشاعرنا الخفية.
في اختصار ماذا يقدم الله مخلصنا؟ يقدم نفسه لنا فيهبنا: المعية معه، العون، القوة، يرفعنا إليه! بمعنى آخر ينزل إلينا لكي نقبله في حياتنا، فيسندنا بنعمته ويكون لنا المعين الخفي، ويحملنا إليه فنشاركه أمجاده الأبدية السماوية.
- الدودة الضعيفة تصير نورجًا جديدًا:
تتكرر الكلمتان “لا تخف” ثلاث مرات في الأعداد [10-14]؛ وكان ذلك ضروريًا لنفوس مسكينة يُحطمها اليأس أثناء السبي والشعور بالمذلة والعبودية. لكن الله يُطمئن بكل وسيلة مؤمنيه المخلصين الذين يقبلون الدخول معه في عهد حتى لا يخافوا ولا يرتعبوا. أما سّر رجائهم وقوتهم فهو تمتعهم به كملك لهم، يقدم ذاته لهم لينعموا به، قائلاً: “لأنيّ أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك: لا تخف أنا أُعينك” [13].
هكذا ينسب الله نفسه إليهم: “أنا الرب إلهك” يلتجئوا إليه لا كغريب عنهم وإنما بكونه “إلههم” الخاص بهم المشتاق أن يضمهم إليه ويحفظهم فيه. يليق بهم ألا يتباطئوا في طلب معونته فإنه ممسك بيمينهم مشتاق إلى خلاصهم أكثر من اشتياقهم هم إلى خلاص أنفسهم، لذا لا يكف عن القول: “لا تخف أنا أُعينك“.
يلاحظ أن الله يدعو نفسه “أنا الرب إلهك“، فإن كان قد دعى نفسه “يهوه” (خر 3: 14؛ 15؛ 6: 2) عندما دعى موسى لخلاص الشعب من عبودية فرعون، فقد أوضح له سرّ اسمه وهو: “أهيه الذي أهيه” (3: 14) مؤكدًا أنه كائن على الدوام، يحل وسط شعبه دون أن تتغير محبته أو رعايته. هكذا يُقدم الله اسمه بألقاب كثيرة ليطمئن مؤمنيه، من ذلك[423]:
“يهوه يرأه” (تك 22: 14)، وتعني “الرب يُرى”، فقد رأى إبراهيم بعيني الإيمان ذبيحة المسيح الفريدة الواهبة قوة القيامة.
“يهوه شلوم” (قض 6: 24)، وتعني “الله السلام”، فإن المسيح كلمة الله هو سلامنا (أف 2: 14)، به نتمتع بالمصالحة مع الله كسّر سلامنا الداخلي وسلامنا مع الغير.
“الرب شافيك” Jehovah ropheka (خر 15: 26)، يشتاق أن يشفي نفوسنا وأجسادنا كطبيب حقيقي للبشرية.
“الرب برنا” Jehovah-Zidkenu (إر 23: 6)؛ في المسيح صرنا أبرارًا (1 كو 1: 30)، إذ نحمل شركة طبيعته ونتمتع ببره فينا.
“يهوه نسى” Jehovah- nissi (خر 17: 15) (الرب رايتي)؛ فقد صار الله رايتي يتقدم خطواتي في المعركة الروحية، هو سرّ نصرتي وعلامة غلبتي على عدو الخير.
“ياه يهوه” Jehovah-yah (إش 12: 2)، تعني “أهيه الذي أهيه” “أنا كائن الذي هو أنا كائن”، بكونه حاضرًا وسط مؤمنيه لا تتغير محبته نحوهم.
“يهوه شمه” Jehovah- Shammah (حز 48: 35)، أي “الرب هناك” تُشير إلى الإعلان عن حضرة الرب في كنيسة العهد الجديد، وسط إسرائيل الجديد، إذ صارت أيقونة السماء التي هي “مسكن الله مع الناس” (رؤ 21: 3).
يعلن الله حبه لشعبه الذي دعاه “دودة إسرائيل” ليقيم منها نورجًا محددًا جديدًا قادرًا أن يدرس الجبال ويسحقها ويذريها لتبددها العواصف، إذ يقول: “لا تخف يا دودة يعقوب، يا شرذمة إسرائيل، أنا أعينك يقول الرب وفاديك قدوس إسرائيل. هأنذا قد جعلتك نورجًا محددًا جديدًا ذا أسنان، تدرس الجبال وتسحقها، وتجعل الآكام كالعالصفة، تذريها فالريح تحملها والعاصف تبددها وأنت تبتهج بالرب، بقدوس إسرائيل تفتخر” [14-16].
هذا هو عمل الله المخلص في حياتنا، إذ يحولنا من دودة محتقرة تعيش في طمي هذا العالم نُداس كما بالأقدام ليقيم منا نورجًا ذا أسنان حادة يقدر أن يدرس الجبال ويسحقها أو كمذراة تفصل الحنطة عن التبن… هكذا يُريد الله مصادقة الدودة المحتقرة ليجعلها أداة للتمييز وعزل الحنطة النافعة عن التبن الذي بلا ثمن.
دعى الله شعبه “دودة يعقوب“، فإنها تعيش في الطين محتقرة بلا قوة ولا جمال ولا مجد، تطأ عليها الأقدام دون اهتمام أو مبالاة. لقد وطأ فرعون على الشعب كما على دودة، لكن فرعون مات وأما الشعب فتمتع بمواعيد الله وخلاصه. وطأ سنحاريب ونبوخذنصَّر أيضًا على هذه الدودة وانتهت دولة آشور باكملها وأيضًا انهارت بابل بملوكها الجبابرة وبقيت الدودة حية ومجيدة. وهكذا قام جبابرة عبر الأجيال مثل نيرون ودقلديانوس وأيضًا هراطقة مثل أريوس ونسطور… ومات الكل وبقيت الدودة حية تنمو وتتمجد. أما سّر حياتها فهي أن كلمة الله الذي صار جسدًا هو أيضًا من أجلنا صار دودة كقول المرتل “أما أنا فدودة لا إنسان” (مز 22: 6)، أي يتنازل ليصير إنسانا محتقرًا حتى حُسب كدودة، فيرفعنا نحن باتضاعه إلى مجده.
v “أما أنا فدودة لا إنسان” (مز 22: 6).
لكنني أتحدث الآن لا في شخص آدم، وإنما أتحدث بالأصالة عن نفسي- أنا يسوع المسيح – وُلدت بدون زرع بشر حسب الجسد، حتى أصير أنا كإنسان وراء كل بشر، لكيما يتمثل الكبرياء البشري باتضاعي. “عار عند البشر ومحتقر الشعب” (مز 22: 6). بالاتضاع صرت عارًا عند البشر، حتى يُقال بطريقة تهكمية: “أنت تلميذ ذاك” (يو 9: 28)، ويحتقرني الشعب.
القديس أغسطينوس[424]
بالتصاقنا بالرب يحولنا من دودة ضعيفة عاجزة عن العمل إلى نورج قادر على سحق الجبال التي تمثل أعمال الإنسان القديم ليتمتع ببركات الحياة الجديدة.
إن كان إنساننا القديم قد صار كالجبال بأعماله الشريرة الصلبة وكالآكام ليس من يقدر أن يحركها فإن الله وحده الذي يلمس الجبال فتدخن (مز 104: 32). يجعلنا بالمسيح يسوع ربنا نورجًا جديدًا محددًا، ندرس الجبال ونسحقها ونذري الآكام كالعصافة، دون أن يصيبنا القدم ولا نفقد قوتنا أو تضعف إمكانياتنا مع الزمن. هذا ما يبهج نفوسنا بالرب مجدد حياتنا فنفتخر بقدوس إسرائيل الجديد[425].
- البرية تصير بستانًا:
إذ يتطلع إشعياء النبي إلى العصر المسياني كعصر مياه الروح القدس، يرى البرية تتحول إلى واحة تفيض ماءً فتتحول من قفر إلى بستان إلهي مثمر.
تكرر هذا التشبيه عدة مرات (إش 35: 1-10؛ 43: 18-21؛ 49: 9-11؛ 48: 21؛ 55: 13).
في القديم أخرج الله من الصخرة ماءً لشعبه الظمآن (خر 17: 1-7؛ عد 20: 1-13؛ إش 48: 21). وفي الخروج الثاني يفعل ما هو أعظم، يُفجر أنهارًا على المرتفعات العالية القاحلة وينابيع في الوديان؛ إذ يقدم السيد المسيح ماء جديدًا يغير وجه الأرض، محولاً قفر قلوبنا إلى فردوسه الروحي، وبريتنا الداخلية إلى واحة إلهية فتنمو فينا أشجار روحية تأتي بثمار روحية شهية: “اجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجر الزيت…” [19].
ما أجمل العبارة: “لكي ينظروا ويعرفوا ويتنبهوا ويتأملوا معًا أن يد الرب فعلت هذا وقدوس إسرائيل أبدعه” [20]… ننظر عمل الرب فينا، ونتعرف على أسراره، ونتأمل الأمور الفائقة ونفهم ما لا يدرك لأن هذا كله من يد المخلص القدوس ومن ابداعه.
يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان المخلص قائلاً:
[من يستطيع أن يُعادلني في الجود؟ إني أب وأخ وعريس وبيت وطعام ولباس وأصل كل ما تشتهي، لا اتركك محتاجًا إلى شيء.
سأكون أيضًا خادمًا لك، فقد جئت لا لكي أُخدم بل أخدم.
أنا أيضًا صديق وعضو ورأس وأخ وأخت وأم؛ أنا كل شيء، فقط كن صديقًا ليّ!
من أجلك افتقرت، ومن أجلك كنت أشخذ.
من أجلك صليت، ومن أجلك دُفنت.
في السماء أسأل عنك الآب.
أنت كل شيء بالنسبة ليّ: الأخ والشريك في الميراث والصديق والعضو.
ماذا تُريد أكثر من هذا؟
لماذا تنصرف عن من يحبك، وتتعب من أجل العالم؟[426]].
- الله رب المستقبل:
لكي يعطي الرب طمأنينة لشعبه ويهبهم ثقة فيه، يؤكد لهم أن المستقبل كله في يديه دون سائر آلهة الأمم، طلب منهم أن يسألوا الأوثان إن كانت تقدر أن تخبر بالأمور المستقبلة، وبقصد التنبؤ بخصوص قيام كورش، إذ كان ذلك غير متوقع.
يعلن الله عن نفسه أنه أول من يُبشر شعبه بقيام كورش [27].
كورش – من جهة والده – فهو مادي، ومن جهة أمه فهو فارسي، وقد ضم جيشه رجالاً من مادي جاءوا من الشمال [25]؛ ورجالاً من فارس جاءوا من الشرق [25]. السيد المسيح أيضًا جاء من الناصرة في الشمال وهو شمس البر المشرق من الشرق.
لقد عرف كورش الله (عزر 1) واحترم كل الأديان بما فيها عبادة الله الحيّ، لذلك قيل: “من مشرق الشمس يدعو باسمي” [25]؛ ربما أيضًا دعى باسم السيد المسيح بكونه رمزًا له، يُحقق خلاصًا للعالم كله. شُبه كورش بالخراف الذي يدوس الطين، اشارة إلى السيد المسيح كديان تخضع له كل الأمم كالطين بين يدّي الخراف… (كورش أتى على ولاة بابل كما على الملاط [25].