تفسير سفر إشعياء ٦١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي والستون
الحيَاة الجديدة
يقدم لنا السيد المسيح برنامجًا حيًا لعمله الخلاصي فقد جاء من أجل المساكين ومنكسري القلب والمسبيين وكل النائحين ليهب عزاءً ومجدًا خلال التجديد الذي يهبه للمؤمنين به ليقيمهم كهنة وملوكًا له ويختارهم عروسُـًا روحية مقدسة له.
برنامج المسيح الخلاصي [1-3].
يقدم لنا السيد المسيح على لسان إشعياء النبي برنامجًا حيًا عن عمله الخلاصي، يعرضه في إيجاز مع عمق، وهو:
- تمتع البشرية بالروح القدس الذي يُجدد الطبيعة البشرية ويغنيها، ينزع عنها فسادها ويهبها الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع فتنعم بشركة الحياة الإلهية… هذه العطية قُدمت لنا في شخص السيد المسيح القائل: “روح السيد الرب عليّ” [1]. كما سبق فقلنا في تفسير الأصحاح الحادي عشر أن الروح القدس هو روح الابن، ليس غريبًا عن المسيح، لكنه بالتجسد قبل حلوله عليه باسم الكنيسة ولحساب المؤمنون به:
v لقد فارق الروح القدس الإنسان لأنه لم يكن قادرًا على أن يحل في الفساد، ولكن الآن ظهر إنسان جديد بين البشر وهو وحده الذي يجعل عودة الروح ممكنة، لأن هذا الإنسان بدون خطيئة.
v لقد وعد الله أن يعطي الروح مرة ثانية للبشرية… ولم تكن هناك طريقة أخرى يمكن بها إعادة هذه النعمة إلى الإنسانية بدون مفارقة سوى في يسوع المسيح… إنها عودة أبدية سببها حالة الاستقرار والثبات.
v لقد منح المسيح الروح القدس لناسوته، وبذلك جعل الروح يتآلف من جديد مع طبيعتنا.
v إن عودة الروح القدس للإنسان في المسيح، الإله المتجسد، آدم الثاني، عودة أبدية. فالروح القدس حلّ على آدم الثاني لبرِّه. والبرّ في المسيح برّ ثابت، لأن اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح ثابت… وهذا ضمان ثابت للبشرية واستقرارها في الحياة الجديدة.
القديس كيرلس الكبير [649]
v اسم “المسيح” يحمل ضمنًا ذاك الذي يمسح والممسوح والمسحة ذاتها. الآب هو الذي يمسح، والابن يُمسح، والروح هو المسحة.
القديس إيريناؤس [650]
v أضاء الروح القدس في كمال وجوده عليه، فالشبيه يستقر بالشبيه. أما بالنسبة لكم فبعدما صعدتم من جرن المياه المقدسة وُهبت لكم المسحة التي هي رمز لما مُسح به المسيح؛ هذا هو الروح القدس.
القديس كيرلس الأورشليمي [651]
إذ دُفع إلى السيد المسيح سفر إشعياء قرأ هذا الفصل، “ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس… فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم” (لو 4: 17-21).
- جاء السيد المسيح ليُفرِّح قلوب المساكين بإنجيل خلاصه، ويعصب منكسري القلوب ويهب حريته للمسبيين… حاسبًا مجيئه سنة يوبيل حقيقية مقبولة لدى الرب وواهبة عزاء للنائحين (إش 61: 2، لا 25: 9، 40).
- مجيئه “يوم انتقام لإلهنا” [2]، حيث حطّم سلطان قوات الظلمة، إبليس وملائكته وأعماله الشريرة.
- يُقيم الرب المؤمنين كأشجار برّ أو غروس الرب في الفردوس الإلهي [3]، تحمل جمالاً عوض الرماد، ودهن فرح عوض النوح، ورداء تسبيح عوض الروح اليائسة؛ أي يسكب علينا جماله وفرحه وتسبيحه عوض المذلة والنوح واليأس!
الحياة الكنسية الجديدة [4-6].
رسالة السيد المسيح الذي مسحه الآب ليبشر للمساكين هي “تجديد المدن الخربة” التي صارت موحشة عبر الأجيال. لقد صارت الطبيعة البشرية في كل الأجيال أشبه بالمدن الخربة تحتاج إلى هدم وإعادة بناء. هذا هو عمل الله الخالق الذي يُقيم ملكوته فينا، فيحوّلنا بروحه القدوس من مسكن للخطية والشر إلى مقدس للرب. أما الأجانب الذين يرعون غنمنا، وبنو الغريب الذين يقومون بحراسة أرضنا والعمل ككرامين في حديقتنا، فهم طاقات النفس الداخلية ودوافعها التي صارت كمن هي أجنبية وغريبة عن الرب وملكوته. إنها تخضع من جديد فلا تصير عثرة في طريق خلاصنا بل على العكس معينًا للنفس تسندها في جهادها. وذلك كما فعل الشعب العبراني قديمًا حين حملوا الذهب والفضة والثياب الفاخرة من المصريين واستخدموها في إقامة خيمة الاجتماع بدلاً من استخدامها في عبادة الأوثان في مصر[652].
يقول: “تُدعَون كهنة للرب” [6]، ذلك لأننا إذ نحمل الطبيعة الجديدة خلال المعمودية نصير روحيًا كهنة، نرفع أيدينا للصلاة ونقدم أجسادنا ذبيحة حب مقبولة لدى الآب. هذا الكهنوت يدعوه القديس أيرونيموس “الكهنوت الشعبي Laic Priesthood“[653].
الحياة الكنسية المجيدة [7-9].
يهب الله كنيسته فيضًا من المجد الداخلي والتعزيات السماوية والفرح الدائم.
أ. مكافأة مضاعفة عوض المتاعب القديمة: “عوضًا عن خزيكم ضعفان، وعوضًا عن الخجل يبتهجون بنصيبهم، لذلك يرثون في أرضهم ضعفين” [7].
ما هي المكافأة المضاعفة التي نتمتع بها عوضًا عن خزينا؟ التمتع بغفران خطايانا، ونوال برّ المسيح؛ بمعنى آخر نزع خزى الخطية والتمتع بمجد المسيح فينا؛ العفو عنا كعبيد عصاة وقبولنا كأبناء لله في المسيح يسوع الابن الوحيد الجنس.
لم يقف عمل المسيح الكفاري عند إيفاء الدين الذي أثقل كاهلنا، وإنما قدم لنا بره لنشاركه مجده؛ يقول الرسول: “لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 3-4).
لعله أيضًا يقصد بالميراث المضاعف القيامتين: القيامة الأولى التي ننالها هنا في حياتنا الزمنية إذ ننعم بالحياة المقامة، والقيامة الثانية حين يأتي رب المجد على السحاب لنقوم معه ونوجد معه في المجد. وكما يقول القديس أغسطينوس: [نحن الذين متنا موتًا مزدوجًا (موت النفس والجسد)، نقوم قيامة مزدوجة. حتى الآن نحن قمنا قيامة واحدة، وهي القيامة من الخطية، لأننا دُفنا معه في المعمودية، وقمنا معه خلال المعمودية بالقيامة. هذه القيامة هي الخلاص من خطايانا؛ وأما القيامة الأخرى فهي قيامة الجسد. هو أعطانا القيامة العظمى، وها نحن ننتظر الأقل! القيامة الأولى أعظم من الثانية، إذ خلاصنا من خطايانا أعظم من قيامة الجسد[654]].
إن كانت سمة مملكة إبليس الأنانية التي تجلب الكراهية فأن خزينا الذي سقطنا فيه هو اتسامنا بالأنانية القاتلة، عوض هذا الخزي صار لنا الميراث المضاعف أي الحب من جانبيه المتكاملين، حب الله وحب القريب. وكأن عمل المسيح فينا أن يُحطم الأنا ليهبنا حبًا فائقًا لله ولخليقته.
ب. “بهجة أبدية تكون لهم” [7]؛ مادامت الحياة الكنسية هنا هي عربون الحياة السماوية، تتسم بالمجد المضاعف عوض الخزى، وبالحب عوض الأنانية… فإنها تحمل بهذا طبيعة الفرح والبهجة! سرّ فرحنا أننا نحمل مسيحنا فينا، ليُقيم ملكوته السماوي المفرح في أعماقنا.
ج. “وأقطع لهم عهدًا أبديًا” [8]… كثيرًا ما يكرر سفر إشعياء الحديث عن هذا العهد بين الله وكنيسته المعلن في جسد المسيح المصلوب كسرّ مصالحة أبدية.
د. بركة في ثمارهم الروحية كما نسلهم: “ويُعرف بين الأمم نسلهم، وذريتهم وسط الشعوب، كل الذين يرونهم أنهم نسل باركه الرب” [9]…
ما هو هذا النسل المبارك الذي يعرفه الأمم؟
لا يقصد أولادنا حسب الجسد، وإنما بالأكثر الذين يتتلمذون للرب خلالنا، والذين يتعرفون على الخلاص وينالون الميلاد الجديد خلال شهادتنا الحية لإنجيل خلاصنا.
وربما عنى بالنسل والذرية الأعمال المقدسة التي هي ثمار روح الله القدوس فينا، وعطية نعمته المجانية في حياتنا.
حياة زوجية مفرحة [10-11].
الحياة الكنسية الحقة هي حياة عرس دائم مملوء فرحًا وبهجة بلا انقطاع، خلاله نرتدي ثوب الخلاص كثوب العرس الأبدي، أو كثوب كهنوتي عام…
“فرحًا أفرح بالرب، تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ مثل عريس يتزين بعمامة (تاج) ومثل عروس تتزين بحُليها” [10].
في بعض الكنائس التقليدية يردد الكاهن العبارة السابقة عند ارتدائه الثياب الكهنوتية للاشتراك في قداس الأفخارستيا، حاسبًا أنه يتقدم لسرّ الأفخارستيا كما إلى عرس مفرح، يحتاج إلى ارتداء ثياب الخلاص الخفية ورداء البر وزينة الروح… ما هو هذا الثوب إلاَّ السيد المسيح نفسه؟! يلبسه المؤمنون عند تمتعهم بمياه المعمودية (غل 3: 27).
v حقًا المسيح هو زينة العروس، هذا الذي هو الكائن والذي كان والذي يأتي، المبارك الآن وإلى الأبد، أمين.
القديس غريغوريوس النيسي[655]
v الآن (بعد العماد) إذ خلعتم ثيابكم القديمة ولبستم الثياب البيضاء روحيًا، يليق بكم أن تستمروا في ارتداء ما هو أبيض. بالطبع لا نقصد بهذا أن تلبسوا ثوبًا أبيض على الدوام، إنما أن تلتحفوا بثياب بيضاء بالحق، مضيئة روحيًا، فتقولون مع الطوباوي إشعياء: “تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص…”[656].
v احفظوا اليوم المقدس، مرتدين ثوب الخلاص، يسوع المسيح[657].
القديس كيرلس الأورشليمي
لقد أوضح النبي ماذا يعني بثياب الخلاص، قائلاً: “لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها، وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًّا وتسبيحًا أمام كل الأمم” [11]، وكأن ثياب الخلاص هو برّ المسيح وتسبيحه الذي يهبه لنا عطية مجانية من عندياته.