كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

مدخل إلى التقليد السرائري

 

لقد عبرنا عبوراً سريعاً على التقليد التعليمي فيما يخص « الكلمة » مسلطين النور على قانون الإيمان الذي يبنى عليه الإنجيل كله بل والكتاب المقدس بعهديه.

والآن نبدأ نهييء ذهن القارىء للدخول في التقليد السرائري أي فيما يخص ممارسة الأسرار المقدسة بحسب التقليد المسلم منذ البدء لكي نعد الذهن لدراسة الأسرار مركز ين على سري الإفخارستيا والمعمودية.

مدخل إلى التقليد السرائري

علاقة التقليد التعليمي بالتقليد السرائري:

إن كان قصد الإيمان وغايته هو أن نقبل سر الحياة الأبدية، فخلاصة الإيمان بالثالوث المقدس وبموت الرب وقيامته إنما يؤدي و ينتهي إلى الحياة الأبدية : « اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كـلـهـا من آمن واعتمد خلص» (مر16: 16)، «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس . » (مت 28: 19)

أمـا كـيـف نؤمن بالثالوث المقدس وبموت الرب وقيامته إيماناً صحيحاً حسب الكتب فهذا وجدناه أنه عمل التقليد التعليمي والتفسيري الذي تسلمته الكنيسة من الرسل وزادته نوراً بمقدار ما وهبها الله من النور في المجامع وبالآباء.

وأما كيف نقبل هذه الحياة الأبدية فينا ونحصل على سر الخليقة الجديدة فهذا ما يضطلع به التقليد السرائري العملي المنحدر إلينا بالتسليم من الرب نفسه.

والرب أعطى المعمودية للميلاد الثاني الذي من فوق أي من السماء لخلقة الإنسان خلقة جديدة للحياة الأبدية وذلك بواسطة الماء والروح القدس.

وأعطى الإفخارستيا لإستمرار هذه الحياة وتقديسها والثبوت فيها وذلك بواسطة الجسد والدم.

فالمعمودية والإفخارستيا هما عمل الله فينا نظير إيماننا به. فالإيمان بالآب والابن والروح القدس والإعتراف بموت الرب الكفاري عنا وقـيـامـتـه لتبريرنا هذا يؤهلنا لعمل الله فينا الذي يتم بصورة غير منظورة حيث نقبل منه نعمة الميلاد الجديد والغفران والتطهير والتقديس والتبرير والثبوت فيه بمعنى الشركة معه في الحياة الأبدية .

[ حيث وجدت الكنيسة فهناك روح الله وحيث روح الله فهناك الكنيسة وكل عمل النعمة.
والذين لا يشتركون في الروح القدس لا يغتذون للحياة من ثدي أمهم ولا يرتوون من النبع الفائض المنبثق من جسد المسيح.] 

إن هذا العمل الذي يعمله الله في الذين يؤمنون به صعب كشفه أو التحدث عنه لأنه غير ملحوظ ولا يتم على مستوى الإنسان بل على مستوى الله لذلك فإدراكه يحتاج إما إلى استعلان خاص أو إلى إيمان مكتوم في القلب ينتظر زمان الإستعلان الكلي الذي يظهر الله فيه فكره و يكشف سرائره في الناس حسب الإنجيل.

فمن ذا الذي يستطيع أن يصور كيف يتم ميلاد الإنسان في المعمودية أو يصف صورته الجديدة؟ أو من ذا الذي يستطيع أن يكشف كيف يتقدس الإنسان بالدم والجسد وكيف تتحد طبيعة الإنسان بطبيعتهما و يصور الإنسان وهو متحد بالمسيح؟

أو من الذي يستطيع أن يصور كيف يدخل الروح القدس في هيكل الإنسان عند لحظة نفخة الفم أو وضع اليد على الرأس ؟ أو يصور الروح القدس وهو داخل الإنسان ؟

لذلك تدعى هذه الأعمال الإلهية التي تجرى داخل الإنسان ولا يستطيع أن يلحظها أو يكشفها بالأسرار الإلهية أو السرائر المقدسة أو أسرار الكنيسة . والمسيحية بحد ذاتها هي كلها «سر الله أو سر المسيح» . «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس . » (1کو 12: 3)

وسر المسيحية ينقسم إلى نوعين : الأول يختص بالتقليد الإيماني والثاني بالتقليد السرائري .

الأول :

نفسه وما صنعه بواسطة عن سر اللاهوت وسر التدبير الإلهي وهما ما أعلنه الله آبنه « ليعرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه» (أف 1: 9). وهذان يشملان استعلان سر الثالوث المقدس وسر التجسد والفداء. وهذه الأسرار استعلنت للعالم أجمع حتى أن كل من يؤمن بها يخلص من الغضب.

والثاني :

 الأسرار الإلهية الموهوبة للكنيسة وهي التي فيها يمنح الله نعمته خاصة للمؤمنين بواسطة الكنيسة لنوال شركة معه في الحياة الأبدية. وهي تشمل الأسرار السبعة ـ التي حددتها الكنيسة مؤخراً ـ مع كافة الأعمال الأخرى التي يمنح فيها الإنسان نعمة من لدن الله بواسطة الكنيسة من عبادة وتسبيح وصلاة، إذ يتم أثناءها حضور الرب سراً حسب وعده ( حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20) . وحيث حضور الرب فهناك عطية وثبات ونعمة بلا أدنى شك . « هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة.» (أف 5: 32) 

والإيمان بسري اللاهوت والتدبير الإلهي أي بالثالوث والتجسد والفداء كان لا يمكن لأي إنسان أونبي أو ملاك أن يحصل عليها لولا أن الله كشف ذاته وأعلن تدبيره وسبق وأعطانا نعمه حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه» (أف 1: 97). لذلك يقول أيضاً بكل تأكيد : «لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم بل هو عطية الله .» (أف 2: 8)

ولكن الإيمان العقلي بسري اللاهوت والتدبير الإلهي أي الثالوث والتجسد والفداء وإن كان يخلّص من الضلالة لكن لا يلد الإنسان ميلاداً جديداً للحياة الأبدية فالمعرفة على العموم تحرر ولكن لا تخلق «تعرفون الحق والحق يحرركم » (يو 8: 32) ، لذلك قطع الرب في هذا الأمر بضرورة تتميم الأسرار الكنسية: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.» (يو 3: 5)

وهذا أيضاً يشرحه القديس أغسطينوس :
[ الإنسان يبتدىء يقبل النعمة منذ اللحظة التي يؤمن فيها بالله ، ولكن تكميل ملء فاعلية النعمة يعتمد على الأعمال التي يقوم بها في الحاضر مع ممارسة الأسرار. كـرنيليوس لم يكن مؤمناً بالله ولكن بسبب صلواته وصدقاته أثبت أنه مستحق أن يُرسل له ملاك ، فأعماله الطيبة كانت ستصير عديمة الأثر لو لم يكن قد آمن ، وهو لم يكن مستطيعاً أن يؤمن لو لم يكن قد توبخ سراً. فالإيمان يوجد عند بعض الناس كنعمة ولكن لا يكفي أن ينال به الإنسان ملكوت السموات مثل كرنيليوس لولم يتحد بالكنيسة بالإشتراك في الأسرار.]

واضح إذن أننا بالإيمان نقبل المسيح بالقلب والفكر، وبالأسرار نقبل المسيح بالفعل. فالمسيح يحل في القلب بالإيمان « ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف 3: 17)، ولكنه لا يتحد بنا إلا بالأسرار «من ياكل جسدي و يشرب دمي يثبت في وأنا فيه . » (يو 6: 56)

ولذلك لا يمكن الفصل بين الإيمان والأسرار لأنهما يكملان معاً سر المسيح الواحد وذلك بقبوله في القلب والإتحاد معه بالروح «فقال آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك، وكلماه وجميع من في بيته بكلمة الرب، واعتمد في الحال هو والذين له أجمعون . » (أع 16: 31-33)

لذلك نجد أن المعمودية تسمى في التقليد الرسولي بـ «الإستنارة» أي أننا لو حسبنا المعرفة المتولدة من الإيمان بالمسيح أنها نور فالمعمودية هي اشتراك في هذا النور أي استنارة، فالإيمان ينير لنا ( بالقلب و بالفكر) والأسرار توحدنا بهذا النور (سراً و بالروح).

وكذلك نجد أن في سر الإفخارستيا يقول الرب أن كل مرة تأكلون من هذا الخبز (السمائي) وتشربون من هذه الكأس ( الخلاص) تبشرون بموتى وتعترفون بقيامتي، أي أن نوال نعمة سر الإفخارستيا ينتهي إلى الكرازة والشهادة العلنية.

وهكذا يرتبط الإيمان بالأسرار، وكل منهما ينير الطريق أمام الآخر و يعمق أصوله.

والرب حينما أسس سر المعمودية أسسه على الإيمان بالثالوث عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس بمعنى أن السر لا يتم إلا على أساس الإيمان الصحيح بالله . كما أنه أسس سر الإفخارستيا على الإيمان بموته وقيامته «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1کو11: 26). بمعنى أن السر لا يتم إلا على أساس الإيمان بالتجسد الحقيقي والفداء (الموت)، والتبرير والخلاص (القيامة).

إذن فقانون الإيمان الرسولي يتحقق هنا في الأسرار تحقيقاً فعلياً كاملاً. وكل ما أؤمن به بالقلب واللسان في ذلك القانون ينبغي أن أحصل عليه بالروح في الأسرار.

طبيعة الأسرار:

بخصوص طبيعة الأسرار في تسليمها الأول كما يسردها الإنجيل كانت لا تحتمل الفحص العقلي أو النظري كما يحتمل قانون الإيمان، بل كانت تؤخذ قضية مسلمة تحمل حقيقتها و برهانها في أعماقها، مثل المعمودية : فالرب يقرر ضرورتها المطلقة ولكنه لا يفسر قوتها أو عملها ، « إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يو 3: 3). فلما ابتدأ نيقوديموس يسأل و يفحص ليستقصي كيفية عمل السر: كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ ؟ كان رد المسيح أن الميلاد الذي يتم في المعمودية يتم بعمل الروح ولا تستطيع أن تفحصه فأنت ترى عملاً ظاهر ياً ولكن قوته ومصدره ونتيجته لا يمكن أن تدركها .

فلما حاول نـيــقــوديموس مرة أخرى أن يستفسر عن كيفية هذا الأمر العجيب كيف يمكن أن يكون هذا ؟ كان جواب المسيح أنه ينبغي للإنسان الذي درس في كلمة الله وقرأ الأسفار المقدسة أن يعرف هذا من نفسه أو في نفسه : « أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا ؟ أي أن الأمر لا يحتاج إلى تعليم ولكن يحتاج إلى بصيرة وإيمان…

إذن فالإيمان بالله والإيمان بكلمته كفيل من ذاته أن يقنع الإنسان بعمل السر، فـالـذي يـؤمـن بالآب كخالق والإبن كفادي والروح القدس كمقدس يستطيع أن يؤمن بالخلق الجديد وبالميلاد في المعمودية بعمل الآب والابن والروح القدس كوعد الرب .

أي أن الأسرار هي عمل الإيمان وفي نفس الوقت هي ثمرته و برهان فاعليته.

التقليد الرسولي حسب الفكر السكندري

كتب القمص متى المسكينمقدمة عامة
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى