تفسير سفر إرميا ٣٣ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاحات (30، 31، 32، 33) هي إصحاحات تعزية.
الآيات 1-9:- 1- ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا ثانية وهو محبوس بعد في دار السجن قائلة. 2- هكذا قال الرب صانعها الرب مصورها ليثبتها يهوه اسمه. 3- ادعني فاجيبك واخبرك بعظائم وعوائص لم تعرفها. 4- لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل عن بيوت هذه المدينة وعن بيوت ملوك يهوذا التي هدمت للمتاريس والمجانيق. 5- ياتون ليحاربوا الكلدانيين ويملاوها من جيف الناس الذين ضربتهم بغضبي وغيظي والذين سترت وجهي عن هذه المدينة لأجل كل شرهم. 6- هانذا أضع عليها رفادة وعلاجا واشفيهم وأعلن لهم كثرة السلام و الامانة. 7- وارد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وابنيهم كالاول. 8- واطهرهم من كل اثمهم الذي أخطأوا به إلى واغفر كل ذنوبهم التي أخطأوا بها إلى و التي عصوا بها علي. 9- فتكون لي اسم فرح للتسبيح وللزينة لدى كل امم الأرض الذين يسمعون بكل الخير الذي اصنعه معهم فيخافون ويرتعدون من أجل كل الخير و من أجل كل السلام الذي اصنعه لها.
هنا نبوة معزية لإرمياء بينما هو ما زال في السجن. فلا سجن ولا أي شيء يمنع كلمة الله وعزاؤه لأولاده. بل أنه كلما أغلق العالم وجهه أمام أولاد الله كلما أظهر لهم الله محبته (بولس الرسول ورسالة فيلبي ويوحنا اللاهوتى والرؤيا). وهنا الله يكرر ما قاله سابقًا عن عودة شعبه المسبى لأورشليم فنحن لسنا فقط غير طائعين نحتاج لوصية على وصية بل غير مؤمنين نحتاج وعد وراء وعد. وكان كلام إرمياء ونبواته تشتمل على إنذارات بالخراب، وأيضا وعود بالعودة فهو قد دُعِى ليس فقط للهدم والقلع ، بل للبناء والغرس أي يتنبأ بكلاهما لهذا الشعب. وفي (2) الرب صانعها = الرب صنع السماء والأرض، وهذا إشارة لصلاة النبي في 17:32. وأنه هو الذي أسس أورشليم في البداية وهو الذي حكم بخرابها وهو وحده القادر على بنائها ثانية. وهو الذي خلق الإنسان وهو الذي حكم عليه بالموت بعد خطيته وهو وحده القادر على إعادة تجديده كما جَدد أورشليم وهو سيصنع هذا للإنسان بفداء المسيح، هكَذَا قَالَ الرَّبُّ صَانِعُهَا، الرَّبُّ مُصَوِّرُهَا لِيُثَبِّتَهَا = الله خلق الإنسان خليقة أولى ولما فسد ها هو يهدم الخليقة الأولى ويقيم خليقة جديدة في المسيح يهوه = فهو اسمه يهوه = واسمهتعنى قدراته، ويقول الله عن الخليقة الأولى أنه صانعها ، والثانية يقول أنه مصورها فهي ستكون على صورة المسيح (أف2: 10 + غل4: 19). وهذه الخليقة الجديدة يثبتها (آية2). وهو وَحْدَهُ القادر أن ينفذ حين يَعِدْ فهو اسمه يهوه(خر3:6). ونرى موضوع الخليقتين في (أف2: 10).
وهذه الأخبار لهى معزية حقًا، والله عندهُ منها الكثير ولكن كيف نحصل على هذا العزاء؟ إدعنى فأجيبك (3) وبالصلاة يكشف الله محبته أكثر فأكثر ومن يريد عزاء مستمر من الله عليه أن يصلى دائمًا بلا انقطاع، والله سيكشف لمن يصلى عوائص = أي أشياء محتجبة عن المعرفة البشرية وإستعملت في وصف المدن المحصنه المُسوَّرة (عد28:13) + (تث28:1) + (تث5:3) + (2صم6:20) + (إش15:2) وتترجم في هذه الآيات مسيجة أو مسورة. وهكذا الحقائق الإلهية لا يستطيع أن يصل إليها الناس بعقولهم الخاصة. والطريقة الوحيدة لإعلانها هي أن يعلنها الله لمن يحب. وهذا لن يأتي إلا بالصلاة. والعوائص التي يتكلم عنها في هذه الآيات هي أن الله سيرُّد الملك لداود (أي المسيح). ويرد السبي (أي الحرية في المسيح): وقارن هذا بـ (1كو9:2-12) فالروح القدس يُعلِنْ لنا كل شيء فهو وحده الذي يفحص حتى أعماق الله ، ونحن حصلنا على الروح القدس. وفي (5،4) الله هو الذي سلَّط بابل على أورشليم وحينما حاول شعب اليهود أن يحاربوا الكلدانيين أثاروا الكلدانيين بالأكثر، وكان هذا مدعاة لأن يلحق الكلدانيين أكبر الضرر بأورشليم وشعبها وهيكلها، وكانت البيوت تبنى بالحجارة، فهدم اليهود بيوت المدينة ليستعملوا الحجارة في المنجنيقات (مدافع ذلك الزمان وكان المنجنيق يلقى بالحجارة من داخل أورشليم فتنزل على رؤوس البابليين المحاصرين للمدينة). وبهذا حطم اليهود بيوتهم بأيديهم حتى قبل أن يدخل البابليين إلى المدينة ويكملون هدمها ويحرقونها بالنار، وهذا يشير لفشل كل محاولة لمقاومة الخطية وإبليس قبل المسيح، بل تدمير الإنسان بالكامل حتى الموت إلى أن أتى المسيح ليجدد طبيعتنا. ولكن في (6) بعد أن وصلت أورشليم لهذه الحالة المتعذرة، فالله هو وحده الذي يستطيع شفاؤها من مرضها الذي هو الخطية وذلك بأن يتوبها فتتوب. فلا شفاء لنا سوى بالتوبة. وإذا قدمت أورشليم توبة سيُعلن الله لها السلام والأمانة = والأمانة هي الحق. فكنيسة المسيح هي كنيسة الحق. فالحق يقودنا والسلام يريحنا “أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا “. وفي (7) سيرد المسيح سبى هؤلاء المشتتون الضالون بعيدًا عن المسيح، بعيدًا عن الحق والسلام. وحدث هذا بعد السبي أن إجتمع في أورشليم يهوذا مع إسرائيل، فمع أن الذين عادوا مع زربابل كانوا من أهل يهوذا وبنيامين ولاوى فقط، إلا أنه بعد هذا إجتمع لها من كل الأسباط شعب كثير. وهذا ما عمله المسيح الذي جمع الكل في كنيسته. وفي (8) وأطهرهم من كل إثمهم = كانوا في العهد القديم يتطهرون بماء مقدس ” تنضح على بزوفاك فأطهر”. ولكن ما يطهرنا الآن فهو دم المسيح “الذي يطهرنا من كل خطية” فالله ما كان ليقبلنا إلا لو تطهرنا. وكان هناك إستحالة أن نتطهر بذواتنا. وفي (9) فتكون لي اسمفرحٍ للتسبيح = كما كانت خطاياهم إهانة لله ستكون توبتهم مجدا لله. فالله سيعود ويسكن أورشليم ويغمرها بعطاياه وإحساناته، وستقابل أورشليم كل هذا بطاعتها لله وسيكون في هذا مجد لله. وسترتعب الأمم منها = بسبب وجود الله في وسطها. وسترتعب الشياطين منها، فهي “مرهبة كجيش بألوية” وفي القديم كان الشعب في أرض مصر مستعبدًا للمصريين ولكن الله كان في وسطهم، وربما أن الشعب لم يشعر بهذه النعمة ولكن المصريين شعروا بهذا وإختشوا منهم (خر 12:1) حقًا فإن إرمياء لم يتنبأ فقط بالهدم والقلع بل للبناء والغرس.
الآيات 10-16:- 10- هكذا قال الرب سيسمع بعد في هذا الموضع الذي تقولون أنه خرب بلا إنسان وبلا حيوان في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم الخربة بلا إنسان ولا ساكن ولا بهيمة. 11- صوت الطرب وصوت الفرح صوت العريس وصوت العروس صوت القائلين احمدوا رب الجنود لأن الرب صالح لأن إلى الابد رحمته صوت الذين ياتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب لأني ارد سبي الأرض كالاول يقول الرب. 12- هكذا قال رب الجنود سيكون بعد في هذا الموضع الخرب بلا إنسان ولا بهيمة وفي كل مدنه مسكن الرعاة المربضين الغنم. 13- في مدن الجبل ومدن السهل ومدن الجنوب وفي ارض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهوذا تمر أيضًا الغنم تحت يدي المحصي يقول الرب. 14- ها أيام تاتي يقول الرب واقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلى بيت إسرائيل والى بيت يهوذا. 15- في تلك الأيام وفي ذلك الزمان انبت لداود غصن البر فيجري عدلا و برا في الأرض. 16- في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم امنة وهذا ما تتسمى به الرب برنا.
خلق الله الإنسان في جنة عدْنْ أي مكان جميل جدًا ليفرح، عَدْنْ كلمة عبرية معناها فرح، وبالخطية فقدنا الفرح = وهذا معنى الطرد من الجنة. وهنا نرى وعد بعودة الفرح للبشر بدلا عن الحزن (10، 11). وهذا نفس ما قاله الرب يسوع “الآن عندكم حزن، ولكن أراكم فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو16: 22).
هنا ينتقل الكلام في منتهى الوضوح إلى المسيح وخلاص المسيح ففي (15) أنبت لداود غصن البر = فبعد أن إنتهى كرسى داود بسقوط صدقيا الملك وظهر لكل إنسان ان هذا الكرسى إنتهى، والشجرة الملكية ذَبُلَتْ. فها هو المسيح كغصن ينبت لهذه الشجرة. وكلمة غصن= بالعبرية يعنى ناصرة، لذلك دُعِىَ المسيح ناصريًا فهو المسيح الغصن أو الناصرى ، وهو غصن نما كغصن بر لينشر البر في كنيسته فنحن نتبرر بدمه. ويكون هذا خلاصًا للكنيسة في تلك الأيام يخلص يهوذا= فإسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت21:1) ويفيض عليهم من سلامه = وتسكن أورشليم آمنة = “سلامى أترك لكم سلامى أنا أعطيكم” (16) وهذه الأيامهي التي يقيم فيها الرب = أي ينفذ ويحقق الكلمة الصالحة أي وعود الخلاص بالمسيح التي تكلم بها لإسرائيل أي لشعبه (14) والعالم . والإنسان الذي كان خَربًا لأنه إنفصل عن الله (10) سيعود ويمتلىء بالروح القدس فيفرح ويسبح فهذه من ثمار الروح القدس. وتمتلىء الأرض غنمًا أي مؤمنين (12) . وفي أفراحهم يقدمون ذبيحة الشكر = التناول (11) وفي (13) يدي المحصى = هناك من يحصى القطيع حتى لا يكون هناك خروف ضال شارد “فالذين أعطيتني لم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك”. والأيات تنتقل أيضًا من الرعاة المربضين الغنم (12) إلى المسيح راعى الرعاة الذي يجرى عدلًا وبرًا في الأرض. حقًا هذا هو عمل الخلاص فبعد أن علَّق الناس قيثاراتهم على الصفصاف غير قادرين أن يسبحوا الله في أرض غريبة (مزمور 137) فهذا حال كل مسبى في بابل أو مسبى للخطايا ولإبليس. عادوا الآن بعمل المسيح الخلاصي لأصوات الفرح في الكنيسة يقدمون ذبيحة الشكر.
16:- الرب برنا = “صرنا بر الله فيه” (2كو5: 21). وهذه نبوة عن المسيح يفهم منها الإشارة للاهوته فهو الرب الذي نتبرر فيه.
الآيات 17-26:- 17- لأنه هكذا قال الرب لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل. 18- ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من امامي يصعد محرقة ويحرق تقدمة ويهيئ ذبيحة كل الأيام. 19- ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة. 20- هكذا قال الرب أن نقضتم عهدي مع النهار وعهدي مع الليل حتى لا يكون نهار ولا ليل في وقتهما. 21- فان عهدي أيضًا مع داود عبدي ينقض فلا يكون له ابن مالكا على كرسيه ومع اللاويين الكهنة خادمي. 22- كما أن جند السماوات لا يعد ورمل البحر لا يحصى هكذا أكثر نسل داود عبدي و اللاويين خادمي. 23- ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة. 24- أما ترى ما تكلم به هذا الشعب قائلًا أن العشيرتين اللتين اختارهما الرب قد رفضهما فقد احتقروا شعبي حتى لا يكونوا بعد امة امامهم. 25- هكذا قال الرب أن كنت لم اجعل عهدي مع النهار والليل فرائض السماوات والأرض. 26- فاني أيضًا ارفض نسل يعقوب وداود عبدي فلا اخذ من نسله حكاما لنسل إبراهيم وإسحقويعقوب لأني ارد سبيهم وارحمهم.
أثناء السبي كان يبدو أن ثلاث عهود من عهود الله قد كُسِرَت وهي:
- ملك داود ونسله.
- كهنوت هارون ونسلُه.
- كون إبراهيم ونسله لهم وضع خاص.
ولكن معنى هذه الآيات أن الله يقول: قد تكون هذه العهود قد توقفت لفترة ولكنها لم تكسر ولن تتوقف للأبد بل ستعود لها قوَّتها في بركات العهد الجديد وكرمز لها بركات العودة من سبي بابل. ونرى في هذه الآيات.
- ملك داود ونسله:- وهذا سيتحقق في المسيح ابن داود ولن يملك على كرسى زمنى “فملكه ليس من هذا العالم” ولكنه يملك على قلوب محبيه من المؤمنين به. وطالما جلس المسيح عن يمين الآب ليحكم كنيسته فلن يُعْدَم داود نسلًا يجلس على كرسيه (لو33، 32:1). ووعد الله لداود ثابت كشرائع السماوات، تعاقب الليل والنهار (25،4. 20) فالليل والنهار هما إحدى عناصر نظام الكون والسماوات من حين فصل الله بين النور والظلمة. وهما نظام أبدى لذلك في (21) عهد الله مع داود عهد أبدى. وهذا تحقق في المسيح وكنيسته الأبدية. وفي تأمل عن الليل والنهار فهذا هو حال الكنيسة فهناك ليل إضطهاد يعقبه نهار فرح وخلاص وسيكون شعب الله كنجوم السماء = أي عدد المؤمنين. ونسل داود هنا هم المؤمنين بالمسيح، وهؤلاء جعلهم ملوكًا وكهنة “وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً لِلهِ أَبِيهِ” (رؤ1: 6).
- عهد الكهنوت:- كان يبدو أنه توقف بهدم الهيكل وسبى الكهنة، ولكنه عاد بعد السبي . ولكنه سرعان ما تلوث ثانية بل وصلبوا المسيح فإنتهى هذا الكهنوت نهائيًا على يد الرومان . ولكن هذا الوعد تحقق في الكهنوت المسيحي الذي يقدم لله ذبيحة الشكر (الإفخارستيا) في كنيسته للأبد وهذا معنى (18) فذبيحة الشكر (الجسد والدم) هي المحرقة والذبيحةوستقدم كل الأيام. وهو كهنوت دائم أبدى على طقس ملكى صادق “أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلْأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ” (مز110: 4).
وفي (21) ارتباط الوعد بمُلك المسيح، بالوعد بالكهنوت فالمسيح هو رئيس كهنتنا وهو نفسه الذبيحة المقدمة بواسطة خادمىَّ = أي الكهنة، والارتباط واضح أيضًا في (22) فنسل داود عبدى(المؤمنين) واللاويين خادمىَّ = الكهنة.. سيزيد عددهم. وعلى من يقول ان جميع المؤمنين كهنة بالمفهوم العام والخاص، وأنه لايوجد كهنة لتقديم ذبيحة الشكر أن يفسروا لنا لماذا لم تجمع هذه الآية بين نسل داود والكهنة خادمىَّ= أي لماذا لم يقل نسل داود وسكت.
(3) كون ان إبراهيم ونسله لهم وضع خاص:- فان هذا قد تحقق في الكنيسة وشعبها وهم أولاد إبراهيم بالإيمان (غل3: 7 + يو8: 39). وهنا رد على الذين إحتقروا شعب يهوذا وإسرائيل = العشيرتين(24) بسبب السبي، فيقول الله لإرمياء النبي أَمَا تَرَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ هذَا الشَّعْبُ= الشعب هنا قد يكون الشعب البابلى الذين إحتقروا اليهود، وقد يكون من ردد هذا الكلام هم الشعب غير المؤمن الذي تصور أن الله قد رفضهم. وقد يكون هذا رد على الشياطين التي تصورت أن الله رفض شعبه للأبد حتى لا يكونوا بعد أمة أمامهم. ولكن في (26،25) أن وعد الله لشعبه قائم كما أن فرائض السموات والأرض قائمة.
مرة أخرى، حقًا هذه الآيات هي آيات إنجيلية تشير للكنيسة التي يؤسسها المسيح التي هى جسده. ولكن أيضًا هي تشير لكل اليهود من أسباط إسرائيل الذين سيجمعهم الله إليه بعد أن يؤمنوا بالمسيح. فالله أمين في وعوده لإبراهيم وإسحق ويعقوب ونسلهم، ولكن عينه على من يؤمن منهم بالمسيح.