تفسير سفر إرميا اصحاح 51 للعلامة أوريجانوس

عظة L. II

تفسير للآيات من: “اهربوا من وسط بابل” (إر 51: 6). إلى: “لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب” (إر 51: 9).

1. كما أن جسدنا يسكن في مكان معين من الأرض، كذلك أيضا نفسنا تسكن بحسب حالتها في المكان أو البلد الذي يحمل نفس اسمها (صفاتها). أو بطريقة أكثر وضوحا: جسدنا موجود إما في مصر أو بابل أو فلسطين أو سوريا أو في أي مكان آخر من الأرض. وأيضا نفسنا توجد إما في بابل أو في مصر أو في أي بلد أخرى تحمل الاسم الذي يتناسب كل نفس. النفس تقطن بابل عندما تكون قلقة ومضطربة، حينما يذهب من عندها السلام، فتكون مضطرة للمصارعة مع الخطية ومواجهة حرب الشهوات والوقوف بمفردها في وسط ضجيج الأسلحة التي تحاصرها من كل جهة؛ إلى مثل تلك النفس يوجه النبي كلماته قائلاً: “اهربوا من وسط بابل، وانجوا كل واحد بنفسه”.

طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد قائلا: “كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟” (مز137: 4).

طالما نحن في بابل لن نستطيع ان نسبح الرب، لأن الآلات التي تستخدم في توصيل النغمات للرب، معلقة دون استخدام، لذلك يقول النبي: “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثارتنا)”. طوال وجودنا في بابل، تظل قيثارتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث “رؤية السلام”، فإن القيثارات التي كانت قبلاً معلقة بلا استخدام، ترجع مرة أخرى إلى أيدينا ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله. كما قلنا في البداية، إن النفس دائما موجودة في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية. ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في “دان” التي يشغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم. من جهة أخرى، الإنسان الخاطئ الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر. كما أن الموجودين في اليهودية لا يسكنون كلهم في مكان واحد، إذ أن واحدا منهم يسكن في أورشليم، وآخر في دان، وأخر في نفتالي، وآخر في أرض جاد؛ كذلك أيضا الذين في مصر لا يسكنون كلهم في أماكن سيئة بنفس الدرجة: منهم من يسكن في تانيس، ومنهم من يسكن في نوف أو في سين أو في فيبستة (حز 30: 13-18). إذا كان القارئ إنساناً روحياً يحكم في كل شيء دون أن يحكم فيه من أحد (1كو2: 15)، يستطيع أن يجد تفسيراً رمزياً لأسماء المواقع الموجودة في مصر والتي ذكرها حزقيال النبي في نبوته، فلا يكتفي فقط بمعرفة تفسير أسماء البلاد الكبيرة مثل بابل ومصر واليهودية، وإنما يهتم أيضا بمعرفة ما هو المقصود من خلال تلك الأسماء الصغيرة.

“من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور وفهيم حتى يعرفها؟” (هو14: 9).

2. هناك تساؤل آخر: لماذا تعطي كلمة الرب للذين في بابل هذا الأمر: “اهربوا من وسط بابل”؟ لا تتركوها بالتدريج، بل اهربوا منها بسرعة، الهروب يعني الجري أثناء الخروج.

اهربوا من وسط بابل” هذه الكلمات موجهة إلى كل النفوس “المضطربة” بأمور هذا العالم وشهواته الرديئة المختلفة. ماذا إذا كان أمر الرب؟ لم يقل: “اخرجوا من وسط بابل” لأن الخروج يمكن أن يحدث بالتدريج، بل قال: “اهربوا من وسط بابل“، في الواقع إن قوله: “من وسط” بابل، دفعني للبحث عن المقصود بتلك الكلمة. قد يحدث أن يكون إنسان موجودا في أطراف بابل، وبالتالي يكون بطريقة أو بأخرى خارجها. أما الوجود في وسط بابل فهو شيء آخر، لأن المسافة من الوسط إلى أي طرف من أطراف بابل تكون متساوية: أي أن الوجود في مركز بابل هو مثل وسط قلب أي حيوان. فإنه في الواقع أن الجزء المتوسط في جسم أي حيوان يكون هو قلبه، كما أن وسط الأرض يسمى في إنجيل متى “قلب الأرض” (مت12: 40). إذا يلزم على الخطاة أن يهربوا من وسط بابل أي من قلبها. اهربوا إذا من وسط بابل لكي إذا ما تركتم وسطها تصبحون بعد ذلك في أطراف أرضها. حتى لا يكون ذلك الكلام غامضا أوضحه أكثر: إن الإنسان الغارق في الشرور والخطايا هو في وسط بابل؛ أما الذي يبتدئ تدريجيا في ترك الخطية متجها نحو الخير، لم يحصل بعد على الفضائل وإنما بدأ في الحصول على الاشتياق للفضائل. بالرغم من هروبه من وسط بابل إلا أنه لم يتركها كلية.

3. “اهربوا من وسط بابل” ثم أضاف قائلا: “وانجوا (من جديد) كل واحد بنفسه”. يجب أولا أن نهرب من وسط بابل، ثم بعد ذلك ننجو من جديد كل واحد بنفسه. لم يتحدث هنا عن النجاة فقط، بل عن النجاة من جديد، هذه الإضافة تحوي سراً: تعني أننا قد ذقنا الخلاص قبل ذلك، لكن إذ حرمنا منه بعد ذلك بسبب خطايانا، أدي هذا إلى مجيئنا إلى بابل. لهذا يجب أن كل واحد منا ينجو بنفسه من جديد، لكي نبدأ في استعادة ما قد فقدناه بحسب كلمات بطرس الرسول: “نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم” (1بط1: 9-10).

الفارق بين الطرد والرفض

4. يوجد أمر ثالث: “لا تطردوا بإثمها“.

إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يكون “هلاكه” أمراً طبيعيا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جيداً في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حد كبير. فلقد قال على سبيل المثال: “اخترت أن أصير مرفرضاً (مطروحا – ملقى) في بيت إلهي… الخ” (مز 84: 10). فهو لم يقل: “اخترت أن أصير مطرودا”. ونفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل “لا تصيروا مرفوضين بإثمها” بل: لا تصيروا مطرودين (لا تطردوا) بإثمها”. الطرد شيء والرفض شيء آخر. الإنسان المحتقر من الناس والمهمل منهم، ليس مطرودا وإنما مرفوضا. وأيضا الإنسان الذي يوجد باستمرار خارج دائرة الخلاص مطرود لأنه لا ينعم بالتطويب الإلهي. لكي تفهم الفرق بين الكلمتين، يمكنك تجميع كل النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تحتوى على هاتين الكلمتين، والمقارنة بينهما.

5. “لأن هذا زمان انتقام الرب“. يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات توقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر في احتمالها. فعندما لا يعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: “لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن” (هو4: 14). الله لا يعاقب الخطاة غضبه عليهم، كما يظن البعض، أو بمعني أخر إن الله عندما يوقع عقابا بإنسان خاطئ، فإنه لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن علامة غضب الله على الإنسان تتمثل في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أنه القصد هو إصلاحه وتقويمه. بقول داود: “يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك” (مز6: 1). لو أرادت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: “أديني يا رب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني” (إر10: 24). كثيرون أصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، إن أبناء السيد المسيح حينما يخطئون يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب : “إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم” (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يعاقب حتى الآن يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد.

6. “هو يؤدي لها جزاءها”.

لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدي لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئا على ذلك، وهو أن الله لا يعاقب الجميع بنفسه، لكنه أحيانا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم، كما نرى في المزامير: “أرسل عليهم حمو غضبه سخطا ورجزا وضيقا” (عن طريق) جيش ملائكة أشرار” (مز78: 49). بالنسبة لهؤلاء لم يؤدي لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب. قد يستعين الرب كذلك بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال بالنسبة لبابل.

عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده وعن طريقه يعالج المريض. قد يحدث أحيانا أن المريض يكون محتاجا لبتر أحد أعضائه ولاستخدام المشرط، مع ذلك أيضا لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدا من مساعديه قادرا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض. لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، يكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يدي التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى يدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت، بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جداً كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه.

بين كأس الذهب والإناء الخفي.

. “بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرضي، من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جنت الشعوب (اختل عقلها)، سقطت بابل بغتة وتحطمت”.

نبوخذنصر، الذي كان يريد أن يغوي الناس ويجذبهم من خلال كأس بابل المضل والمخادع، لم يضع المشروب الذي أعده في أوان خزفية (2كو4: 7)، ولا حتى في أوان أخرى أحسن نوعا كالحديد أو النحاس أو حتى ما هو أفضل مثل الأواني الفضية؛ لكنه اختار إناء من ذهب ليعد فيه مشروبه، حتى يجتذب بريق الذهب عيون الناس، فيركزون كل اهتمامهم وأنظارهم على جمال الإناء الخارجي دون أن يلتفتوا إلى ما في داخله، بهذا يمسكون بالكأس ويشربونها وهم غير عالمين ماذا يعني كأس نبوخذنصر. تفهم ماذا يقصد كأس الذهب المذكورة هنا إن نظرت إلى الجمال الخارجي الذي يغلف الكلمات القاتلة التي للعقائد الفاسدة، وإلى بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحد من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهب، وضع في هذه الكأس سموم الزنا، وسموم الكلمات القبيحة، وسموم العقائد التي تقتل نفس الإنسان. أما مسيحنا ففعل العكس: فإنه إذ يعرف أن كأس الشيطان مصنوعة من الذهب، لم يشأ أن يجعل الإنسان الذي يدخل في الإيمان يظن أن كأس السيد المسيح مشابهة للكأس التي تركها (أي لكأس الشيطان التي تركها الإنسان حينما أمن بالرب)، ولم يشأ أن يصنع کاسه من الذهب حتى لا يقع المؤمنون في حيرة حينما يرون أن كأس الرب وكأس الشيطان مصنوعتان من نفس المادة، فمن أجل ذلك حرص السيد المسيح على أن يكون لنا هذا الكنز في أوان خزفية (۲کو 4: 7). 

8. “بابل كأس ذهب بيد الرب”. بابل ليست كأس ذهب إلى الأبد، بل يأتي يوم تسقط فيه من يدي الرب حيث يقوم هو بنفسه بتوقيع العقاب عليها. “تسكر كل الأرض”، كأس الذهب هذا، أي بابل، تسكر كل الأرض. فكيف تسكر كل الأرض؟ تفهم ذلك حينما تدرك أن كل الناس أصبحوا سكارى؛ لقد سكرنا من الغضب، ومن الحزن، ومن الحب الفاني ومن الشهوات الشريرة ومن كل ما هو باطل. كم من مشروبات أعدتها لنا بابل؟ وكم من كأس ذهب أسكرتنا بها؟

9. “بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرض” (إر28: 7).

 إن أردت أن تعرف كيف أن كل الأرض أصبحت سكرى بفعل كأس بابل، أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها، لكنك قد تقول لي إن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضا (ترابا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط أي الخطاة وحدهم هم الذين يسكرون. ، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن سكناهم في السماوات (في3: 20). بالتالي لا يليق أن يقال للإنسان البار: “أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود”، بل سيقول له الرب، طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1کو15: 49): “أنت سماء وإلى السماء تعود”. لذلك فإن كأس بابل لن يسكر إلا الذين مازالوا أرضا.

10. “من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جُنت الشعوب“.

الذين يشربون الخمر العادي، عندما يشربون منه أكثر من حاجتهم ويُكثرون من شربه بدون عقل نري فيهم صورة إنسان سكران مختل الجسد، ذي أرجل متراخية ورأس مثقلة، ولسان ثمل ينطق بكلمات غير مفهومة تخرج من خلال شفتين مضمومتين. بذلك يمكننا أن ندرك كيف أن الذين شربوا من خمر بابل جنوا واختل عقلهم، صارت خطواتهم غير ثابتة، وبسبب عقولهم الواهية وأفكارهم المترددة يعيشون دائماً في قلق واضطراب ويملأ الشك حياتهم باستمرار. يقول الكتاب عن مثل هؤلاء الناس: “لذلك أخذتهم الرعدة” (مز48: 6).

دعونا نتوقف قليلاً عند بعض الكلمات الغامضة: لماذا قيل عن قايين الخاطئ إنه حينما خرج من لدن الرب، سكن في أرد نود شرقي عدن (تك4: 16)؟ إن كلمة “نود” تترجم في اليونانية: “اختلال” أو “رعدة”. الإنسان الذي يترك الله، والذي لا توجد عنده القدرة على التفكير في الرب يكون موجودا في أرض نود، أي يعيش في القلق واضطراب قلبه الرديء وفي اختلال الفكر والعقل.

11. “سقط بابل بغتة وتحطمت“. متى سقطت بابل بغتة؟

أعتقد أن المقصود بتلك الكلمات هو أن نهاية العالم سوف تجيء بغتة. ستكون مثل أيام الطوفان حين كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع” (مت24: 37-38)، وكما حدث في أيام لوط (لو ۱۷: ۲۸). نفس الشيء سيحدث في نهاية العالم، لن تجيء بالتدريج وإنما بغتة. وفي رأيي أن هذا أيضا يتشابه مع ما جاء في سفر يشوع عن مدينة أريحا التي سقط “بغتة” بمجرد حدوث صوت الأبواق، يحدث نفس الشيء أيضا مع مدينة بابل في نهاية العالم تسقط بغتة وتتحطم. هذا إذا اعتبرنا إن العبارة السابقة تتحدث عن وقت انتهاء العالم؛ أما تأملنا ماذا حدث في وقت السيد المسيح، ونظرنا إلى عمله العجيب، كيف أنه أفسد جميع التعاليم الوثنية المتعلقة بالأصنام وعبادتها، لكي يحرر المؤمنين من ثقل الخطية، عندئذ تدرك أن في ذلك الوقت سقطت بابل بغتة وتحطمت. ليفحص كل واحد نفسه ليري هل سقطت بابل من داخل قلبه أم لا. إذا كانت مدينة الإضطراب (بابل) لم تسقط بعد من قلبه، هذا دليل على أن السيد المسيح لم يأت بعد إلى هذا القلب، لأنه بمجرد دخوله إلى القلب تنهار بابل وتتحطم في الحال. فمن أجل ذلك حينما تصلون، اجتهدوا أن تطلبوا مجيء السيد المسيح في قلوبكم حتى يحطم بابل ويسقط كل شرها وخبثها ومكرها، يقيم على أنقاضها أورشليم مدينة الله المقدسة، يقيمها في داخل قلوبنا.

12. “ولولوا عليها، خذوا بلسانا (بلسم- مرهم) لجرحها لعلها تشفى“.

بما أن كل نفس يمكنها أن تحصل على الخلاص، لا توجد نفس واحدة غير قابلة للشفاء بالنسبة للرب، لذلك ينصح الله الذين يستطيعون أن يعبروا إلى أورشليم وأن يحصلوا على بلسم العهد الجديد، أن يحاولوا بقدر استطاعتهم أن يستخدموا هذا العلاج مع بابل لكي تشفي وتستعيد صحتها.

ليتنا نحاول نحن أيضا. أن نفعل ذلك، فنطلب من الله أن يعطينا البلسم الروحي، لكي نتعلم كيف نعصب جراحات بابل، مقتدين بالسامري الصالح؛ وبالتالي تشفى هذه المدينة البائسة، فلا تعود بعد إلى حالتها الأولي. أين هم الهراطقة الآن؟ أين الذين يؤمنون بتعدد أنواع النفوس، ويؤكدون وجود نوع من النفوس لا رجاء له، والأمل في خلاص مفقود؟ كانت هناك نوعية من النفوس لابد أن تهلك، أفما كانت بابل أول تلك النفوس التي يجب أن تهلك؟ ذلك، فإنه حتى بالنسبة لبابل، لم يحتقرها الله، يأمر الأطباء أن يضعوا بلسما لجرحها لعلها تشفي. إذا هؤلاء الذين صدر الأمر إليهم بمعالجة بابل، حينما علموا بإمكانية شفائها واستعادة صحتها، قاموا بالفعل بتنفيذ الأمر، ووضعوا بلسما على جرحها. لكن إذ وجدوا أنهم لم يحصلوا على نتيجة التي كانوا ينتظرونها، لأن بابل ظلت في شرورها ولم ترد أن تشفي، قالوا بعد أن أثوا مهمتهم وأخلوا مسئوليتهم: “داوينا بابل فلم تشف، دعوها”. 

أفلا يحدث معك هذا أنت أيضا أيها الإنسان؟ يحدث أحيانا أن الله يرسل لك الملائكة ويأمرهم بوضع المراهم عليك لعلاجك من مرض النفس “لعلك تشفي”، فتكون النتيجة أن هؤلاء الملائكة يجيبون الرب قائلين: “داوينا بابل، التي هي نفسك المضطربة بشهوات هذا العالم، فلم تشف”. سبب عدم الشفاء لا يرجع إلى قلة معرفتهم وخبرتهم الطبية ولا إلى رداءة نوع البلسم، بل أن السبب أولا وأخيرا يرجع إليك أنت، لأنك لم تشأ أن تشفى، فلم تتبع تعليماتهم وعلاجهم. “دعوها”؛ إن الملائكة هنا كانوا يمثلون أطباء مهمتهم تنفيذ أوامر الله الطيب الأعظم لقد أرادوا معالجة ضعفاتنا وتحرير نفوسنا من الرذائل، أما نحن فإننا نبعدهم عنا بعيدا برفضنا أتباع نصائحهم. لذلك فإن هؤلاء الملائكة، إذ يرون أن تعبهم يذهب هباء، يقولون: “دعوها. ولنذهب كل واحد إلى أرضه”. أو أنهم يقولون بطريقة أخرى: لقد سلمنا الله اء لمعالجة النفس البشري فجئنا لنجدتها وقدمنا لها الدواء، أما هي فإنها عنيدة جدا وعاصية ولا تريد أن تستمع إلى ما نقوله، وقد أصبح مجهودنا بلا ثمر، وبالتالي: “دعوها ولنذهب كل واحد إلى أرضه”.

أحذر أيها الإنسان لئلا يتركك الطبيب، سواء كان هذا الطيب ملاكا من الرب أو إنسانا مكلفا من قبل الله بإعطائك الدواء الذي يقودك إلى الخلاص. لأنه لو تركك الطبيب وقال: “دعوها ولنذهب كل واحد إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب”، فإن تركه لك إنما يعني أدانتك كإنسان غير قابل للشفاء لأنك رفضت أن تعالج. عندما يتركك الطبيب، ماذا يحدث لك إلا الشيء الطبيعي الذي يحدث لأي مريض فقد الأطباء الأمل في شفائه؟

إن المريض الذي أحب مرضه سوف يسقط حتما في حالة أكثر سوءا.
والأطباء الصالحون المخلصون يظلون بجانب المريض طالما يستطيعون معالجته بحسب مهنتهم، وطالما يمكنهم أن يستخدموا الدواء مع هذا المريض. لكن إذا تفاقم المرض وازداد سواء إلى درجة فقدان الأمل في الشفاء، أو إذا خالف المريض تعليمات الأطباء نتيجة لتعبه من الآلام وضجره منها، فإن الطبيب إذ يفقد الأمل في مثل هذا الإنسان يدعه (يتركه) وينسحب لئلا يموت المريض بين يديه وبالتالي تلقي المسئولية عليه. نفس الشيء يحدث معنا نحن أيضا، فلكي تتجنب الملائكة الأطهار أن نموت بين أيديها يتركوننا عندما يفقدون الأمل في شفاء نفوسنا ويقولون: “من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وأحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت” (إش1: 6).

“لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب”.

الإنسان الذي تكون خطيته صغيرة، لا يرتفع قضاؤه إلى السماء، بينما الذي ينمو في الشر ينمو أيضا قضاؤه ويزداد حجما، وكلما تزيد شروره يزيد أيضا عقابه. إذا كان قد أخطأ إلى الدرجة التي وصلت فيها خطاياه إلى السماء وارتفعت إلى السحاب حينما يقاوم الله بعناده ترتفع خطاياه أكثر فأكثر، لذلك فإن الرب يهين الخطية التي أوصلت قضاء الإنسان إلى السماء، كما أنه في الوقت نفسه يكافئ الإنسان البار مكافأة تليق بالحياة التي عاشها في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى