تفسير سفر أيوب 42 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثاني والأربعون
أيوب يستعيد ضِعْف ما فقده
عودة أيوب إلى المجد!

 

المشهد الأخير

جاء الأصدقاء الثلاثة إلى أيوب ليعزوه، وعوض التعزية كادوا أن يحطموا نفسه، ويفقدوه سلامه الداخلي. هذه هي تعزيات البشرية، إنها باطلة! أما الله وإن تحدث مع أيوب في شيء من الحزم، لكنه هو المعزي الحقيقي الذي وإن سمح بالتجربة يقدم المنفذ، وإن سمح بالجراحات فهو يشفي، بل ويمجد المجربين. إن كانت كلمات الله لأيوب دفعته لممارسة التواضع، فقد فتح له التواضع أبواب مخازن الحب الإلهي. ردّ الله لأيوب أكثر مما كان يتصور، إذ لم يبرره فحسب، بل وأقام منه شفيعًا عنهم، فصار رمزًا للسيد المسيح الشفيع عن البشرية المقاومة له.

نهاية مفرحة

  1. إذ أظهر أيوب في إجابته على الرب خضوعًا عجيبًا, تجلى الرب أمامه.أجاب الرب على أسئلته عمليًا, فإن كان أيوب قد احتار بسبب ما أصابه من محنٍ وضيقاتٍ, جاءته الإجابة إنها طريق الغلبة على الشيطان وكل حيله، ونوال إكليل المجد مع التمتع برؤية الرب خلال نقاوة القلب. لقد وجد أيوب نفسه وهو في المزبلة كنزه الحقيقي المُشبع لكل احتياجاته الداخلية، ألا وهورؤية الرب!
  2. رد الرب على كل الاتهامات الموجهة ضده من أصدقائه, إذ شهد الرب له أمامهم، كما سبق فشهد له أمام الشيطان نفسه. “لم تقولوا فيَّ الصواب كعبدي أيوب” [7]. اتهمه الأصدقاء أنه شرير ومرائي, تقدماته عن أبنائه غير مقبولة لدى الله, وهوذا الرب نفسه يعلن عن كهنوته, مطالبًا أصدقائه أن يطلبوا منه الصلاة من أجلهم وتقديم محرقات، لكي يزيل الله عنهم حماقتهم.
  3. لقد طلب أيوب أن يلتقي مع الله وجهًا لوجه ويعرض قضيته. الآن قدالتقى معه في الوقت المناسب، ولم يجد شكوى يقدمها للرب، فقد قبل أيوب سمو الله الفائق، وأدرك أن تصرفات الله لها أعماقها التي لا يمكن للعقل البشري أن يحدها.
  4. أدرك أيوب حقيقة نفسه، فقدم توبة في تواضع أمام الله [5-6]. إذ أعلن أيوب أنه ليس لديه دعوى نحو الله، عرف طريق إصلاحه، إنه يتحقق خلال نعمة الله المجانية، لا عن استحقاقه الذاتي.
  1. تحقق إصلاح أيوب في اللحظة التي فيهانسي آلامه، وتشفع في إخوته. لقد قبل الأصدقاء أن يظهروا أمام المشهد كله أنهم في مركز الخطاة، وأنهم محتاجون إلى صلوات أيوب عنهم وشفاعته من أجلهم لدى الله. لم يضم الله أليهو إلى الأصدقاء الثلاثة حين دانهم، فمن أجل نقاوة قلبه وغيرته الصادقة نحو برّ الله، كان يكفيه أن يرى أيوب يتمجد في عيني الله وأن الأصدقاء الثلاثة يتشفعون به.
  2. إذ انتهت المحاكمة لم يترك الله أيوب ليموت في وسط آلامه. فقدوهبه ضعف ما فقد من ممتلكاته وأيضًا ما يعادل أبناءه وبناته، لأن الذين رقدوا هم أحياء عنده. لقد أراد الله بنهاية حياة أيوب أن يعلن أنه يود أن يُسر الإنسان بعطايا الله ويتنعم بها ما دامت عيناه تتطلعان إليه وقلبه يقدم ذبيحة شكر وتسبيح.
  3. خاب أمل الشيطان في أيوب، فقد نال صفعة مرة.

 

1- تواضع أيوب

 

1 –4.

2- رؤيته للرب

 

5 –6.

3- إدانة الأصدقاء

 

7.

4- أيوب الشفيع

 

8 –9.

5- إزالة سبي أيوب

 

10 –12.

6- بنين أيوب وبناته

 

13 –15.

7- مات أيوب شيخًا

 

16 –17.

من وحي أيوب 42    

1- تواضع أيوب

ليس من طريق للمجد سوى التمتع بروح التواضع المملوء حبًا، أي الشركة في سمات السيد المسيح بكونه المحبة الذي يدعونا. “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 29).

فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ: [1]

بينما كان الأصدقاء مصممين أن يعترف أيوب بخطاياه الخفية التي سببت له هذه الكوارث المتلاحقة، وأن يسأل الله المغفرة عنها، إذا بالله لم يوبخه على خطايا خفية، وإنما قدم له أسئلة ليدرك عجزه عن فحص حكمة الله وخطته وتدبيره. كان يليق بأيوب أن يثق في رعاية الله الفائقة حتى حين يسمح له بتجاربٍ تبدو غير محتملة.

مهما بلغت حكمة الإنسان فإنه ككائنٍ خاضعٍ للزمن لا يقدر أن يدرك فكر الله، وأن يتعرف على مقاصده من جهة أبديتنا.

قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ،

وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ [2].

بعد أن اعترف بقدرة الله الفائقة، اعترف أيوب بجهله لخطة الله، وأنه كان يليق به أن يثق فيه دون تردد أو تساؤل. كأنه يقول له: “قوتك لا تحد، وحكمتك مطلقة، ألا يليق بي أن أسلمك كل حياتي بلا جدال؟!”

حقًا عندما تحل بنا التجارب، خاصة إن كانت ثقيلة ومفاجئة ومتلاحقة، يدور في أذهاننا الكثير من التساؤلات، منها:

  • هل هذه التجارب هي تأديب لنا عن خطايا معينة؟ لنفحص ونتأمل في الله مخلصنا، فهو غافر الخطايا، ولا يعود يذكرها.
  • هل هي حرب من الشيطان لتحطيمي؟ لست أخشى عدو الخير وكل حيله، فإن الله وهبني سلطانًا عليه، وصار موضعه تحت قدمي المؤمن.
  • هل هي لامتحاني، كما حدث مع أيوب؟ فلأثق في السيد المسيح الذي يقويني ويهبني روح النصرة.
  • هل هي لأسباب لا أعرفها؟ لأتواضع أمام الله، واثقًا في حكمته الإلهية غير المدركة.

*     بعد أن أظهر الرب لخادمه الأمين كيف أن لوياثان عدوه قوي ومخادع، أجاب أيوب على الأمرين، قائلًا: “لقد علمت أنك تستطيع كل شيء”، أما عن مكائده الخفية فقد أضاف “وليس من فكر مخفي عنك(1436)“.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ!

وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ.

بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا [3].

هذه العبارة مُقتبسة من كلمات الله القدير (أي 38: 2)، نطق بها ليوبخ أيوب على الطريقة التي استخدمها في شرحه لمعاملات الله. نطق بها الرب لأنه كثيرًا ما نخفي مشورة الله أو نشوهها بكلمات ننطق بها في جهالة…

كأنه يقول: أنا هو الرجل الذي بلا معرفة، فقد صارت خطيتي أمامي، ففي عدم معرفة لم أدرك مقاصدك الإلهية من جهة التجارب التي حلت بي.

في تواضع حقيقي وندامة يعترف أيوب أنه قد أخطأ في كلماته تحت ثقل ضغط الألم، ودخل في حوار بخصوص خطة الله كمن هو الند للند، مع أنه لا يستطيع إدراك خطة الله. كأنه يقول له: “أنا إنسان، نطقت بما لم أفهمه، أقحمت نفسي في أمورٍ إلهيةٍ عجيبة تفوق إدراكي!”

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب ينتقد لوياثان بهذه العبارة: [مع أن لوياثان يعمل في الخفاء ضد من يجربهم، لكنه لا يقدر أن يخفي شيئًا عن الدافع عن المجربين.]

*     “لذلك قد نطقت بغباوة، بأمور تفوق معرفتي”. كل حكمة بشرية، مهما كانت دقيقة تُحسب غباوة متى قورنت بالحكمة الإلهية. فإن كل الأفعال البشرية العاملة والجميلة، متى قورنت بعدل الله وجماله، لا تكون عادلة ولا جميلة، بل ولا وجود لها نهائيًا.

هكذا مع أن موسى قد تدرب على كل حكمة المصريين، إلا أنه عندما سمع الرب يتكلم للحال اكتشف أنه إنسان متردد وثقيل اللسان، قائلًا: “أسألك أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان” (خر 4: 10)… هكذا أيضًا إرميا، إذ سمع كلمات الله، وجد نفسه ليس لديه كلمات ينطق بها، إذ يقول: “آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” (إر 1: 6)…

انظروا كلما وبخ أيوب نفسه تقدم بالأكثر، واعتقد أن معرفته تزايدت بلا مقياس، لأنه تبين في كلمات الرب أسرار حكمته، فوق تصوره.

البابا غريغوريوس (الكبير)

اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ.

أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي [4].

لم يعد أيوب يتكلم لكي يحتج على ما حلّ به، وإنما في تواضع يتوسل لكي يكشف له الله عن حكمته، فإنه مشتاق أن يتعلم.

تغيرت لهجة أيوب، لم يعد يحاور الله كمن هو عالم بكل شيء، لكنه يعترف أنه محتاج إلى الله نفسه ليشرح له ما لا يدركه. إنه لا يكف عن أن يسأل لكي يهبه الرب فهمًا. يطلب في تواضعٍ أن يتعرف على الحق الإلهي.

الكلمة العبرية “al’shaa  سأل” تحمل تواضعًا عميقًا ورغبة جادة في التعلّم. إنه يتوسل إليه لكي يعلمه.

لم يعد أيوب يطلب أن يدخل في حوارٍ وجدالٍ مع الله، لكنه يسأل أن يسمح له أن يجلس عند قدميه ويتعلم منه ما هي طرقه الإلهية غير المدركة.

*     “السمع” بالنسبة لنا يعني أن نهيئ أذننا في موضع معين لتسمع صوتًا قادمًا من موضع آخر. أما بالنسبة لله الذي ليس فيه شيء خارجي، فالسمع هو أن يتطلع أن اشتياقاتنا التي تصعد إليه من أسفل. بالنسبة لنا الحديث مع الله العارف بقلوب حتى الساكتين، فهو ليس أن نتفوه بكلمات صادرة عن حنجرتنا، بل أن نشتاق إليه برغبات حارة. ولأن الشخص يسأل سؤالًا حتى يستطيع أن يتعلم شيئًا مما يجهله، فبالنسبة للإنسان أن يسأل الله تعني أن يدرك أنه جاهل في عيني الله. أما إجابة الله لكي يعلم إعلاناته السرية لمن في تواضع يعرف جهله…

أيوب نفسه كان يسأل الله خلال اشتياقاته وفي تواضع، وكان يطلب الإجابة من الله بتعليمه بإعلان يُقدم في الكلمات التالية. أعلن أيوب أنه يريد أن يقدم سؤالًا ومع هذا لم يقدم شيئًا على شكل سؤال.

البابا غريغوريوس (الكبير)

2- رؤيته للرب

بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ،

وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي [5].

يعترف أيوب أنه ما كان قبلًا يعرفه عن الله هو خلال السماع عنه، فكانت معرفته عنه غامضة ومظلمة. لكن الآن يراه ويتمتع ببهائه، فينال معرفة مباشرة خلال الرؤيا. معرفته له صارت واضحة وبهية خلال استنارة عينيه الداخليتين.

يعترف أيوب أنه قد جاءت الإجابة إليه على غير ما يتوقع. ربما كان ينتظر من الله أن يكشف له خلال رؤيا أو حلم عن سبب ما حلّ به، فيستريح قلبه. ربما انتظر من الله أن يخبره بأن ما حلّ به لا يُقارن بجانب ما يعده له في الدهر الآتي. أما أن يظهر له الله ويتجلى أمامه، ويتحدث معه، فهذا ما لا يُمكن أن يتصوره.

حقًا أن رؤية الله سواء بالقلب خلال الإيمان أو وجهًا لوجه في يوم الرب العظيم لمكافأة فائقة! إن أقصى ما يبغيه الإنسان هو أن يرى الله.

*     بهذه الكلمات يعلن بتأكيدٍ واضح جدًا أنه كما أن النظر أسمى من السمع، هكذا أيضًا صار التقدم الذي صار إليه خلال الألم، إذ جعله يختلف عن حاله السابق. وإذ يرى نور الحق بالعين الداخلية بأكثر وضوحٍ صار يميز بوضوحٍ ويرى ظلمة بشريته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ [6].

إذ رأى أيوب الرب اكتشف أيضًا نفسه أنه خاطي ودنس، كما حدث فيما بعد مع إشعياء، فإنه إذ رأى السيد تملأ أذياله الهيكل أدرك أنه نجس الشفتين (إش 6: 5). في دفاعه عن نفسه أمام أصدقائه كثيرًا ما حسب نفسه بارًا، إذ كان يقارن نفسه بالبشر المحيطين به. لكنه الآن استخف بنفسه أمام قداسة الله وبرَّه وجلاله. هذا ما فعله القديس بطرس الرسول حين صنع الرب معجزة وأدرك الرسول لاهوته، فصرخ: “يا رب أخرج من سفينتي، فإني إنسان خاطي” (لو 5: 8).

باطلًا بذل الأصدقاء كل جهدهم لإقناع أيوب أنه خاطي عظيم، أما حضرة الله فدفعت أيوب إلى التوبة من كل القلب بتواضعٍ وانسحاقٍ.

*     كلما عجز الشخص عن رؤية نفسه يعجز عن الاستياء من ذاته. وكلما ميَّز نور النعمة العظمي، أدرك أنه ملوم بالأكثر… أن يندم الإنسان في التراب والرماد بعد تأمله في الكائن الأسمى هو أن يعرف الإنسان  نفسه أنه لا شيء سوى تراب ورماد. لذلك فإن الرب يقول في الإنجيل عن المدينة الجاحدة: “لأنه لو صُنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا في المسوح والرماد” (مت 11: 21). فإن المسوح تعلن عن خشونة الخطية ووخزاتها، وأما الرماد فهو تراب الموتى. لهذا يُستخدم كلاهما عادة في الندامة، حتى نعرف ما نفعله خلال الخطية، وذلك بوخزات المسوح، وبأن نكون في تراب الرماد، فندرك ما بلغناه خلال الحكم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     بعين الإيمان يتطلعون إلى عدل الله، فلا يشتاقون إلى إقامة برِّهم الذاتي. إنهم يستهينون بأنفسهم، كما يقول أيوب، وينحلون ويحسبون أنفسهم ترابًا ورمادًا (أي 42: 6). هذا ما تعنيه العبارة: “يعودون إلى ترابهم”، ولكن إذ ينالون روح الله يقولون: “لا أحيا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غل 2: 20). هكذا يتجدد وجه الأرض بمجموع القديسين خلال نعمة العهد الجديد(1437).

*     سيكون للعين قوة سامية متسعة. ليس قوة البصر الحاد، مثل تلك التي توصف بها الحيات والنسور، فإنها مهما بلغت حدة بصرها لا تقدر أن تميز إلا المواد الجسدية، وليس قوة إبصار غير الجسديات. هذه القوة العظيمة للرؤية التي ربما وُهبت لعيني القديس أيوب وهو بعد في الجسد المائت، حين قال لله: “بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيناي، لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد” (أي 42: 5-6). هذا بالرغم من أنه ليس من سبب به نرفض فهم هذا بخصوص عين القلب التي يقول عنها الرسول: “مستنيرة عيون قلوبكم” (أف 1: 18). أما عن كون الله سيُرى بهذه العيون فهذا ليس من مسيحي يشك فيه، هذا الذي بالإيمان يقبل أن إلهنا وسيدنا يقول: “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8)، لكن سؤالنا هو هل سنرى الله أيضًا في الحياة المقبلة بالعين الجسدية؟(1438)

القديس أغسطينوس

3- إدانة الأصدقاء

وَكَانَ بَعْدَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ مَعَ أَيُّوبَ بِهَذَا الْكَلاَمِ،

أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لأَلِيفَازَ التَّيْمَانِيِّ:

قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ،

لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ [7].

إذ كان أيوب يعاني من ثقل الآلام، فإن ما نطق به عن الله يُحسب أفضل بكثير مما نطق به أصدقاؤه وهم غير مجَّربين ولا متألمين. ربما قد صدرت بعض كلمات غير لائقة من أيوب، لكن الله كان يسمع كلمات قلبه وتنهداته وصرخاته الخفية، فحسبه أبرّ منهم.

أعلن الرب لأليفاز -أكبر الأصدقاء وأحكمهم- أن حكمهم على أيوب خاطئ، ليس فيه صوَّاب، لأنهم كانوا عاجزين عن إدراك حقيقة البار أيوب. إدانتهم لأخيهم أثار عليهم الغضب الإلهي.

بحسب المظهر الخارجي كان أيوب يبدو كمن هو متذمر على الحكم الإلهي بينما كان أصدقاؤه يدافعون عن أحكام الله. لكن بلغة القلب كان أيوب مبررًا أمام الله، وأما هم فكانوا مُدانين.

*     يستمر الله في دعوة أيوب عبده، لكي يشير أنه قد مسح كل ما قد عبر من جهته. تكلم أيوب بالصدق عندما نطق بخصوص أعماله الصالحة، أما أنتم فبإدانتكم له لم تنطقوا بالصواب.

القديس يوحنا الذهبي الفم 

*     لقد فُضل أيوب لدى الحكم الإلهي عن أولئك الذين كانوا يدافعون عن الحكم الإلهي…

بإشارته إلى أيوب أنه “عبد” أشار الله أنه في كل دفاعه لم ينطق أيوب بكبرياء متشامخ، إنما بالحق المتواضع.

البابا غريغوريوس (الكبير)

4- أيوب الشفيع

وَالآنَ فَخُذُوا لأَنْفُسِكُمْ سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ،

اذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ،

وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ،

لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ،

لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ [8].

تصرف الرب العجيب يذهل الإنسان! فإنه وإن عاتب أيوب في حديثه الشخصي معه، وكشف له عن عجزه عن إدراك قوة الله وحكمته وخطته، إلا أنه أمام الأصدقاء الذين قاوموا أيوب يمجده. يحسبه شفيعًا عنهم أمامه.

هذه هي مسرة الرب أن يمجد مؤمنيه ويرفعهم أمام إخوتهم كما أمام السمائيين، ويدخل بهم إلى الأحضان الإلهية.

كان رقم 7 يُنظر إليه كرمزٍ للكمال، فكان رقمًا عامًا عند تقديم ذبائح حيوانية (لا 23: 18، عد 29: 32). حتى عند غير اليهود نجد بلعام يطلب من بالاق، ملك موآب، أن يعد هذا العدد من الذبائح (عد 23: 1، 29).

عجز الأصدقاء عن تقديم تعزية لصديقهم وسط شدة تجاربه، أما أيوب فقد زكَّاه احتمال التجارب لا ليتبرر في أعين أصدقائه فحسب، وإنما وهو بعد وسط الضيق، وقبل شفاء جسده واسترداد الممتلكات الزمنية وتمتعه بأبناء قادر أن يشفع أمام الله في أصدقائه الذين كادوا أن يحطموه!

ظن أصدقاء أيوب أنهم قادرون على إصلاح أيوب بحكمتهم وفلسفتهم البشرية, والآن يؤكد لهم الرب أنهم محتاجون أن يصلح أيوب من حياتهم بالصلاة.

*     استخدم الله أصدقاء أيوب ليقدم شهادة عن فضيلة شخصية. وبنفس الطريقة أوضح خطورة خطأهم باستخدام هذه الوسيلة الاستثنائية لتقديم الذبيحة. فإنه ما كان يدعو إلى هذه الذبائح الضخمة لو لم تكن الخطية التي استوجبت هذا خطيرة. أبرز أيضًا أن الذبيحة وحدها غير كافية، إذ يقول من أجله لم أرد أن أعفيكم من خطيتكم. بهذا أيضًا أظهر أنه يغفر لهم من أجله… بهذا نتعلم أن اتهام البار ليس بالخطية الهينة لكي يُكفر عنها.

*     الصلوات (التي للآخرين عنا) لها نفع عظيم عندما نساهم نحن أيضًا من جانبنا. أتريدون أن تعرفوا مدى نفع الصلوات؟ أقول، تأملوا كرنيليوس وطابيثا (أع 3:10، 36:9). اسمعوا أيضًا يعقوب قائلًا للابان: “لولا مهابة أبي كانت معي لكنت الآن قد صرفتني فارغًا” (تك 42:31). اسمعوا أيضًا الله قائلًا: “أحامي عن هذه المدينة من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي” (2 مل 6:20). ولكن متى؟ في أيام حزقيا الذي كان بارًا. إذن إن كانت الصلوات تفيد حتى بالنسبة للأشرار جدًا، فلماذا لم يقل الله هذا عندما جاء نبوخذنصر، ولماذا سلٌم المدينة؟ لأن الشر غلب بالأكثر. أيضًا صموئيل نفسه صلى عن الإسرائيليين وانتصر. ولكن، متى؟ عندما هم أيضًا سروا الله، عندئذ حاربوا الأعداء. تقولون: وما هي الحاجة إلى صلاة الغير إن كنت أنا نفسي أسر الله؟ لا تقول هذا يا إنسان. نعم توجد حاجة وحاجة إلى صلاة أكثر. اسمعوا الله يقول عن أصدقاء أيوب: “عبدي أيوب يصلي من أجلكم فتغفر خطاياكم” (راجع أي 8:42). حقًا لقد أخطأوا، لكن ليست خطية عظيمة. لكن هذا البار الذي أنقذ أصدقاءه بالصلاة، في الوقت الذي فيه لم يكن اليهود قادرين على إنقاذ الهالكين. لقد تعلموا هذا؛ اسمعوا الله يقول بالنبي: “إن وقف نوح ودانيال وأيوب، إنهم لا يخلصون بنيهم وبناتهم” (راجع حز 14:14، 16). فقد انتصر الشر. مرة أخرى: “وإن وقف موسى وصموئيل…” (إر 1:15). انظروا قيل هذا عن النبيين، لأن كليهما صليا عنهم، ولم ينتصرا(1439).

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     انظروا إلى الله العادل الرحيم، فإنه لم يترك أخطاءهم دون أن يوبخهم، ولا ترك جريمتهم دون هدايةفإنه إذ هو طبيبنا الداخلي، يظهر أولًا ً فساد جرحنا، وبعد ذلك أشار إلى العلاج لنوال الصحة. وقد سبق فقلنا أن أصدقاء الطوباوي أيوب يمثلون الهراطقة، الذين يقاومون الله، بينما يسعون للدفاع عنه. فإنهم بكلماتهم يثورون ضد الحق وهم يظنون أنهم يخدمونه بمزاعمهم الباطلة.

يجب ملاحظة أنهم قد أُمروا أن يقدموا للرب ذبيحة عن اهتدائهم، لا يقدمونها بأنفسهم، بل خلال أيوب. بلا شك عندما يرجع الهراطقة عن خطأهم، لا يستطيعون أن يهدئوا سخط الله من نحوهم بتقديم ذبيحة بأنفسهم… ما لم يرجعوا إلى الكنيسة التي يشير إليها أيوب… كأن الله يقول للهراطقة بصراحة: لا أقبل ذبائحكم. لا أستمع إلى كلمات توسلاتكم إلا من خلال شفاعة الكنيسة التي كلمات اعترافها بخصوصي حقيقية… خلالها وحدها يقبل الله الذبيحة وهي وحدها تشفع بثقة في الذين يخطئون.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَذَهَبَ أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ،

وَفَعَلُوا كَمَا قَالَ الرَّبُّ لَهُمْ.

وَرَفَعَ الرَّبُّ وَجْهَ أَيُّوب َ[9].

“قبل الرب أيوب“، أي قبل صلواته وتقدماته لصالح أصدقائه.

يقول الحكيم: “نهاية أمر خير من بدايته” (جا 7: 8). لم يمنع الرب الشيطان من أن يجرب أيوب، ولا منع زوجة أيوب وأصدقاءه من مقاومته والسخرية به واتهامه ظلمًا، لكنه في الوقت المناسب رفع وجهه أمام العالم كله، بل وبقي وجهه مرفوعًا عبر الأجيال، ويرفعه بالأكثر في يوم الرب العظيم.

لم يرسل له ملاكًا ولا رئيس ملائكة ولا شاروبًا أو ساروف ليعزيه ويطمئنه، بل نزل الرب بنفسه ليرفع وجهه.

*     عندما فقد أيوب كل ثروته، وعندما فقد بنيه، بدت كل الأشياء تعمل ضده (أي 1: 13-21) ، ولكنه إذ أحب الرب عملت كل الشرور التي حلت به معًا لصالحه (أي 42: 9-17). قروح جسمه أعدته لإكليل السماء. قبل زمن التجربة لم يتحدث الله معه قط؛ أما بعد التجربة فقد جاءه الله وتحدث معه في ودٍ، كصديق مع صديقه. لتحل الكارثة، ولتأتِ كل فاجعة، مادام المسيح قادم بعد الكارثة(1440).

القديس جيروم

يليق بنا التدقيق في عبارة: “رفع الرب وجه أيوب”، فإذ غفر الله لأصدقائه من أجل صلواته عنهم، حسب الله هذه العطية مقدمة لأيوب نفسه. كان قلب أيوب بسيطًا ومتسعًا بالحب حتى لمقاوميه، فخرجت الصلاة عنهم كما لو كانت تخصه هو، فهم موضوع حبه!

*     يليق ملاحظة أن العفو الذي نالوه قد تم بحرصٍ هكذا كما أعلن الرب، فإن الرب لم يرفع وجوههم بل وجه أيوب الطوباوي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

5- إزالة سبي أيوب

وَرَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ لَمَّا صَلَّى لأَجْلِ أَصْحَابِهِ،

وَزَادَ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لأَيُّوبَ ضِعْفًا [10].

هذا التعبير يستخدم عندما يسترد الإنسان وضعه وإمكانياته فيكون كمن تحرر من السبي ورجع إلى بلده يمارس حياته في حرية وكرامة.

لا يعني هذا أنه نال ضعف ما كان يملكه فجأة، وإنما يمكن أن يكون ذلك قد تحقق تدريجيًا.

ليس عجيبًا أن يُقال عن أيوب: “رد الرب سبي أيوب لما صلى لأجل أصحابه“. فإنه تمتع بالحرية الداخلية عندما رفع قلبه وفكره كما يديه من أجل مقاوميه كي يصفح الله عنهم. ليس من طريق للتمتع بالحرية سوى انفتاح قلوبنا بالحب، ليس فقط لأحبائنا وأقربائنا، وإنما حتى لمقاومينا ومضطهدينا.

إذ احتمل أيوب التجارب دون أن يجدف على الله، بل كان مشغولًا بملكوت الله، لذا نال مكافأة مضاعفة حتى في هذا العالم. يقول السيد المسيح: “الحق أقول لكم، إن ليس أحد ترك بيتًا أو والدين أو إخوة أو امرأة أو أولادًا من أجل ملكوت الله، إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا كثيرة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية” (لو 18: 29-30).

الله الذي لا ينسى من يقدم كأس ماء بارد، حتمًا يرد لنا أضعاف ما نقدمه بطريق أو آخر في هذا العالم كما في العالم الحاضر. قد لا يهبنا مكافآت مادية لكنه وسط الضيق يهبنا فرحًا داخليًا وسلامًا سماويًا وتعزيات إلهية وشبعًا للنفس، وسعادة دائمة!

رد الرب سبي أيوب“:  تعبير شرقي يعني أن الرب رد له ازدهاره السابق. كانوا يتطلعون إلى من فقد نجاحه وخيراته كمن صار في سبي أو سجن يود التحرر منه. يقول المرتل: “أخرج نفسي من الحبس، فأسبح اسمك” (مز 142: 7)(1441).

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله كرم عبده أيوب حيث غير طبيعة الأرض، فصارت تنتج له ثمارًا مضاعفة على غير العادة. هكذا يغير الله قوانين الطبيعة لأجل تكريم الذين يكرمونه.

[عرفت الأسود دانيال فانضبطت. جاء ابن الإنسان إلينا ونحن لم ننضبط!

لقد فضلت الأسود أن تموت جوعًا ولا تلمس جسم القديس، ونحن نرى المسيح يتعرى ويموت جوعًا (في إخوته) ولا نقدم لهم ما هو فائض عنا، بل نحيا في ترفٍ ونتجاهل القديسين. مرة أخرى الأرض قدمت لصديق آخر لله (أيوب) عطايا كثيرة هكذا من أحشائها، فقدمت محصولًا لم يحدث من قبل(1442).]

*     أما ترون ماذا يعني أن نفقد شيئًا من أجل الله؟ إنها تعني أن تستردوه مضاعفًا. تعدكم الأناجيل بما هو أكثر. “مائة ضعف” بجانب الحياة الأبدية (مت 19: 29) في المسيح يسوع(1443).

العلامة أوريجينوس

*     جعل صلواته أكثر فاعلية لحسابه عندما قدمها لصالح الآخرين. فإن ذبيحة الصلاة تُقبل بالأكثر في عيني الديان الرحيم عندما تحمل نسمة الحب للقريب. ويضيف الشخص من فاعليتها إن قدمها لأجل أعدائه. فإن الحق الذي هو معلمنا يقول: “صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم” (لو 6: 28). مرة أخرى يقول: “ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحدٍ شيء لكي يغفر لكم أيضًا أبوكم الذي في السموات زلاتكم” (مز 11: 25).

*     قيل ليهوذا المتألمة: “لحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك” (إش 54: 7)… فإن الذي ضُرب بسماح من الله تألم بكلمات أصدقائه أيضًا، وعندما تعزى بواسطة عطايا الرحمة الإلهية تأهل أيضًا أن يتعزى بالحب البشري، فكما أن الآلام ومتاعب الألم جرحته من الجانبين هكذا أفراح التعزيات تتقابل من كل جانب.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     لقد قرأ (الرسول بولس) أن إبراهيم عندما اعترف أنه نفاية ورماد وجد نعمة الله في تواضعه الشديد (تك 18: 27). وقرأ أن أيوب إذ جلس في كومة مزبلته استرد كل خسائره (أي 2: 8، 42: 10-17) وقرأ نبوة داود: “يقيم الله المحتاجين من الأرض، ويرفع البائس من المزبلة” (مز 113: 7)(1444).

القديس أمبروسيوس

*     كما قلت، كثيرون دعوا لله وأُنقذوا للحال دون انتظار الحياة العتيدة. أيوب كمثالٍ سُلم إلي الشيطان بناء على طلبه مبتليًا ومملوء دودًا، لكنه نال في هذه الحياة صحته واستعاد ضعف ما خسره. بينما الرب جُلد ولم يوجد من يعينه(1445).

القديس أغسطينوس

ما تمتع به أيوب يحمل صورة أو رمزًا لما نتمتع به نحن في المسيح يسوع، حيث رد سبينا نحن الذي استعبدنا أنفسنا لإبليس، وقدم لنا أمجادًا مضاعفة.

فَجَاءَ إِلَيْهِ كُلُّ إِخْوَتِهِ وَكُلُّ أَخَوَاتِهِ وَكُلُّ مَعَارِفِهِ مِنْ قَبْلُ،

وَأَكَلُوا مَعَهُ خُبْزًا فِي بَيْتِهِ،

وَرَثُوا لَهُ وَعَزُّوهُ عَنْ كُلِّ الشَّرِّ الَّذِي جَلَبَهُ الرَّبُّ عَلَيْهِ،

وَأَعْطَاهُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَسِيطَةً وَاحِدَةً،

وَكُلُّ وَاحِدٍ قُرْطًا مِنْ ذَهَبٍ [11].

أظهر أصحابه ومعارفه أن مقاومتهم له كانت عن جهلٍ, إذ وجههم الرب إلى الحق خضعوا من كل القلب بإخلاص, واعترفوا بخطأهم, وجاءوا بتقدمات لأيوب رجل الله.

واضح من هذا النص أن إخوته وأخواته لم يأتوا إليه طوال فترة تجربته، مما جعل التجربة أكثر مرارة. فإنه حتى أقرب من له لم يقتربوا إليه لتعزيته ومساعدته (راجع أي 19: 13-14).

قدم كل شخص له قطعة من الفضة؛ جاءت في الترجمة السبعينية “قدم حملًا”.

كانت عادة قديمة أن يقدم الأصدقاء هدايا لمن خرجوا من ضيقة، كما حدث مع حزقيال (2 أي 32: 23).

لا يزال في بعض مناطق الشرق عندما يسقط إنسان في ضيقة يفتقده أصدقاؤه وأقرباؤه ويقدمون له هدايا ليعوضوه عما فُقد منه ويسندوه في ضيقته، وكتعبيرٍ عن اشتياقهم للعودة إلى ما كان عليه من ازدهار(1446).

يري البابا غريغوريوس (الكبير) أن إخوة أيوب وأخواته الذين استخفوا بأيوب أثناء محنته رجعوا إليه يقدمون هدايا عندما رد الرب سبيه، هؤلاء يشيرون إلى اليهود الذين استخفوا بالسيد المسيح عند آلامه وصلبه ولم يؤمنوا، فإنه إذ يأتي إيليا في آخر الأيام يرد الكل إليه (رو 11: 25-26).

وَبَارَكَ الرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوبَ أَكْثَرَ مِنْ أُولاَهُ.

وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْغَنَمِ

وَسِتَّةُ آلاَفٍ مِنَ الإِبِلِ

وَأَلْفُ زَوْجٍ مِنَ الْبَقَرِ وَأَلْفُ أَتَانٍ [12].

في اختصار شديد خُتم السفر بتحويل نيران التجربة المحرقة إلى نيران مجد سماوية, هذا هو سرّ الألم العجيب! إنه سرّ المجد الحقيقي.

6- بنين أيوب وبناته

وَكَانَ لَهُ سَبْعَةُ بَنِينَ وَثَلاَثُ بَنَاتٍ [13].

آخر مرة أشير فيها إلى زوجته هي في (أي 19: 17)، حيث يئن أيوب بأن نَفَسَه كان غريبًا بالنسبة لها. هذا دفع البعض إلى الاعتقاد بأن أبناء وبنات أيوب كان من زوجة ثانية (ربما بعد وفاة الأولى).

يرى العلامة أوريجينوس أن الأبناء والبنات يشيرون إلى عطايا الله للمؤمن؛ الأبناء يرمزون لأعمال الروح الصالحة، والبنات أعمال الجسد المقدسة في الرب. فولادة البنين والبنات تشير إلى عمل روح الله الذي يقدس الروح والقدس، ليحمل المؤمن ثمار الروح في كل كيانه.

في يوم الرب العظيم يقف أيوب أمام الرب قائلًا:

“ها أنا والأولاد الذين أعطاهم الرب”. هكذا يليق بكل مؤمن أن يكون ولودًا، لا يكف عن أن يلد – في الرب- أولادًا مقدسين.

وَسَمَّى اسْمَ الأُولَى يَمِيمَةَ،

وَاسْمَ الثَّانِيَةِ قَصِيعَةَ،

وَاسْمَ الثَّالِثَةِ قَرْنَ هَفُّوكَ [14].

ذكرت أسماء البنات هنا للتعبير عن جو السعادة والفرح الذي ساد العائلة:

“يميمة”، جاءت في السبعينية Heameram وتعني نهارًا، فكان جمالها كنور النهار. جاءت في النسخة الكلدانية الملاحظة الآتية: “أعطاها اسم يميمة، لأن جمالها مثل النهار”. لاحظت النسخة السبعينية والفولجاتا والكلدانية أن “يميمة” مشتقة من الكلمة العبرية ” يوم Yowm”. فقد انتقل أيوب من ليل التجارب إلى نهار الفرح. فقد أشرق النور على خيمته.

جاءت الملاحظة التالية في الكلدانية: “كانت ثمينة مثل الكاسيا”. وقد وردت الكاسيا في (مز 45: 8) بين الأطياب الثمينة.

الثالثة تحمل اسمًا لطلاء يستخدم لرمش العين eye-lashes لكي تظهر العين أكثر اتساعًا وجمالًا، حيث أن العيون المتسعة إحدى علامات الجمال في الشرق.

يقولRosenmuller  في تعليقه هذه على العبارة أن كاتبًا يهوديًا يُدعى سليمان يركي Solomon Jarichi يلاحظ أن أسماء بنات أيوب تشير إلى جمالهن كما جاء في الآية 15. الاسم الأول يميمة Jemima  ويمثل يومًا صافيا يحمل بهاء جماله. وبحسب هيسيخيوس يعنى يومًا وهو كناية عن ديانا. الاسم الثاني قصية Kezia ويعنى كاسيا Cassia  وهي من أثمن العطور القديمة. الاسم الثالث قرن هفوك Keren-Happuch ويعنى قرن دهن للعين يطفي على العين جمالًا. بمعنى آخر إنها إناء مصنوع من القرن تحتفظ فيه النساء الشرقيات بمادة لتجميل عيونهن. لاحظ توماس روThomas Roe  في سفرياته أن الفارسيين اعتادوا أن يعطوا نسائهم أسماء تعني عطورًا أو أطياب أو لآلئ أو حجارة كريمة أو أي شيء جميل ومبهج.

 يرى Gesenius أن يميمة مشتقة عن الكلمة العربية “يمامة” أو حمامة. ود. الكسندر في Kitto Cyclopedia يعرف قرن هفوك بأنها قرن الزينة أو الجمال(1447).

يرى القديس غريغوريوس النيسي(1448) أن بنات أيوب الثلاث دعين هكذا:

“يوم” وكما يقول الرسول أننا صرنا أبناء نهار نعيش في طهارة (أف 5: 8).

كاسيا cassia حيث تظهر نقاوة وعبيرًا طيبًا.

قرن ألماثيا Almatheia، وقد جاء في الروايات اليونانية أنه كانت توجد ألماثيا التي لها ماعز بري يُشغف بالماعز الكريتي الذي سقط قرنه، وقد فاض منه كل أنواع الثمار.

يرى البابا غريغوريوس أن الجنس البشري يمر بثلاث مراحل:

  1. المرحلة الأولى عندما خُلق الإنسان فكان نهارًا كالابنة الأولى.
  2. المرحلة الثانية عندما يتمتع الإنسان بالخلاص فتفوح فيه رائحة المسيح فيصير كاسيا.
  3. المرحلة الثالثة عندما نلتقي بالله وجهًا لوجه ونشارك السمائيين، فنحسب أشبه بآلة موسيقى “القرن”.

*     ما هو السبب أن الابنة الأولى لأيوب تُدعى يومًا، والثانية كاسيا والثالثة قرن هفوك cornustibii، إلا أن كل الجنس البشري الذي أُختير بحنوة خالقه، وبرحمة ذات المخلص ليُشار إليهم بهذه الاسماء… يشرق الجنس البشري ببهاء على الخليقة بنور البراءة. وبعد ذلك عندما يخلصون تفيح منهم رائحة عذبة بممارسة الأعمال الصالحة. لهذا دُعيت الابنة الأولى نهارًا والثانية ليس بدون لياقة كاسيا. حسنًا دُعيت كاسيا حيث يفوح منها رائحة الحياة السامية بقوة. وأيضًا قيل بالنبي عن ذات المخلص عند مجيئه: “كل ثيابك مرّ وعود وسليخة (كاسيا)، من قصور العاج سرَّتك الأوتار” (مز 45: 8)… ولكن لأن الجنس البشري، في حالته الثالثة، حتى عندما يتشكل من جديد لقيامة الجسد، ينشغل تناغم التسبحة الأبدية، تدعى الابنة الثالثة “قرن هفوك”. ماذا يعني ب cornustibii. إلا تسبحة الفرحين؟ فإنه بالحق يتحقق ما يُقال بالنبي: “سبحوا الرب تسبحة جديدة” (مز 149: 1). بالحق تتحقق عندما يُسبح بتسبحة الحمد لله، ليس بعد بالإيمان بل بالتأمل في شخص ذاك الذي جعل الجنس البشري نهارًا، بخلقته إياه وكاسيا بتقديم الخلاص له، وقرن هفوك باقتنائه له. فنحن الذين كنا نورًا عندما خلقنا، الآن صرنا كاسيا بخلاصنا، وأخيرًا نصير قرن هفوك عندما ننشغل بالتسبيح الأبدي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

وَلَمْ تُوجَدْ نِسَاءٌ جَمِيلاَتٌ كَبَنَاتِ أَيُّوبَ فِي كُلِّ الأَرْضِ.

وَأَعْطَاهُنَّ أَبُوهُنَّ مِيرَاثًا بَيْنَ إِخْوَتِهِنَّ [15].

عند اليهود كانت الابنة ترث والديها متى لم يكن لها أخ ولد (عد 27: 8).

*     نفوس المختارين تفوق بجمالها الباهر كل الجنس البشري، الذين على الأرض.

*     عندما يأتي مخلصنا الرؤوف، لا ييأس أحد قط بسبب ضعفه من نواله الميراث السماوي. فإن أبانا يهب للنساء أيضًا حق الميراث مع الذكور، فيجمع الضعفاء والمتواضعين مع الأقوياء والكاملين لينال الكل نصيبًا في الميراث السماوي. يقول الحق نفسه في الإنجيل: “في بيت أبي منازل كثيرة” (يو 14: 2).

البابا غريغوريوس (الكبير)

7- مات أيوب شيخًا

وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ هَذَا مِئَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،

وَرَأَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْيَالٍ [16].

حسب الترجمة السبعينية عاش أيوب 170 سنة بعد التجربة، فكانت كل أيام حياته 240 سنة، أي حلت التجربة في سن السبعين من عمره.

رؤية الأحفاد كانت علامة من علامات البركة الممنوحة للأتقياء كما جاء في (مزمور 128: 6).

ثُمَّ مَاتَ أَيُّوبُ شَيْخًا وَشَبْعَانَ الأَيَّامِ [17].

أختبر أيوب في حياته كيف يعيش مع الله وهو أعظم رجال المشرق في ذلك الحين، وكيف يعيش مع وسط الآلام المرة، جالسًا في المزبلة يغطيه الدود، ويهاجمه الأصدقاء، ولا يسأل عنه أقرب من له. ذاق الحزن والفقر والضيق بصورة لم يختبرها أحد من قبله ولا من بعده. ذاق حياة الرخاء وحياة المرارة، وكأنه قد عاصر في حياته رعاية الله للإنسان في كل الظروف.

من وحي أيوب 42

لأراك وسط أتون التجارب

 

*     شهدت لأيوب أنه بار ومستقيم،

أفضل كل أهل زمانه،

لكنه لم يتمتع برؤياك سوى في أتون التجارب.

أعترف لك بضعفاتي وخطاياي.

في حبك لي سمحت لي بضيقات مُرة،

فإنك تود أن تتجلى لي،

أراك فأتهلل بك.

*     تعزيات الناس كثيرًا ما تزيد آلامي.

ليس من يقدر أن يشاركني آلامي سواك.

كلماتك تدخل كالسهام في قلبي،

تجرحني جراحات حب فائق.

أكتشف حقيقتي كترابٍ ورمادٍ،

وأدرك أنك تقيم من ترابي سماءً،

وعوض الرماد يصير قلبي هيكلًا مقدسًا لك.

*     كلماتك تعدني لأراك بعيني قلبي.

فتتهلل نفسي مع أيوب الجريح قائلًا:

بالسمع سمعت عنك، الآن رأتك عيناي!

*     هب لي مع أيوب المجرَّب أن أفتح قلبي للساخرين بي.

لا أكف عن الصلاة من أجلهم بحبٍ صادقٍ.

بل وتنسحق نفسي أمامك،

لكي يتمتع العالم كله برؤياك،

ينعمون معي بعطاياك الفائقة.

*     وهبت لأيوب سبعة بنين وثلاث بنات،

هب لي أن أكون أبًا لكثيرين.

أينما وُجدت يعمل روحك لجذب الكثيرين إليك!

لن تستريح نفسي حتى أرى العالم كله أبناءك وبناتك!

*     هب لي شيخوخة مقدسة،

لكل يوم من أيام غربتي ثمرة روحي،

يُحسب في عينيك كألف سنة حسب وعدك الإلهي!

فاصل

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى