يو6: 51 أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد
“41فَكَانَ الْيَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ قَالَ:«أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ». 42وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ هذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟» 43فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ. 44لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. 45إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. 46لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ. 47اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. 48أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. 49آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. 50هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. 51أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ».” (يو6: 41-51)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء.
إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد،
والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم”. (51)
v أموت لأجل الجميع، لكي أحيي الجميع بذاتي. وقد صيَّرت جسدي فدية لأجل الجميع. لأن الموت سوف يموت في موتي، ومعي ستقوم طبيعة الإنسان الساقطة. فمن أجل هذا صرت مثلك أيها الإنسان، صرت من ذرية إبراهيم حتى “أشابه اخوتي في كل شيء” (عب ٢: ١٧).
v يعطي جسد المسيح حياة لكل من يشترك فيه، لأنه يطرد الموت، حتى يأتي ويدخل إلى أناسٍ مائتين، ويزيل الفساد، إذ أن (جسد الكلمة) ممتلئ بالكامل بالكلمة الذي يبيد الفساد.
v لا تجعل فمك مستعدًا بل قلبك… إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمس حواسنا الخارجية، ولا نقول: “ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟”
يشير القديس يوحنا الذهبي الفم إلى ثمار الإفخارستيا:
v يكون للذين يشتركون فيهما (جسد الرب ودمه) رزانة النفس، غفران الخطايا، شركة الروح، بلوغ ملكوت السماء، الدالة لديه، وليس للحكم والدينونة.
يصف القديس إيريناؤس الإفخارستيا أنها خبز الخلود، كما يدعوه القديس أغناطيوس الأنطاكي دواء الخلود.
v في الأيام الأخيرة لخص كل شيء في نفسه؛ فقد جاء ربنا إلينا ليس حسب إمكانياته هو، وإنما حسبما نستطيع نحن أن نراه. حقًا كان يمكنه أن يأتي إلينا في مجده الذي لا يُعبّر عنه، لكننا لم نكن قادرين أن نحتمل عظمة مجده. ولهذا السبب قدم خبز الآب الكامل نفسه لنا في شكل لبنٍ بكوننا أطفالاً صغار. هكذا كان مجيئه كإنسان لكي نتقوّت، أقول، من صدر جسده، وبمثل هذا اللكتات (فرز اللبن) نعتاد أن نأكل كلمة اللَّه ونشربه، فنحمل في داخلنا خبز الخلود، الذي هو روح الآب.
القديس إيريناؤس
تفسير الأب متى المسكين
51-48:6 «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هَذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإنسان وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ».
يبدو لأول وهلة أن الكلام هنا مكرر ومُعاد. ولكن كل كلمة وكل آية تأخذ وضعها وترتيبها بإحكام.
«أنا هوخبز الحياة»: هذه الآية تأتي كشرح توضيحي للآيات السابقة: «الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي، فله حياة أبدية». أي أن المسيح اعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية, حيث كل من المسيح والخبز الذي يعطيه يهب الحياة الأبدية، لأن الحياة الأبدية فيه. فالمسيح فيه الحياة ويعطي الحياة، لأن المسيح حي ومحيي: «لاني انا حي، فانتم ستحيون» (يو19:14). وخبز الحياة هو كذلك خبز حي, فهو يعطي الحياة لأنه خبز الله، لأنه جسد المسيح. فالتطابق الذي يجعله المسيح بين كيانه الحي «أنا هو» المحيي، وبين كيان الخبز الحي «الجسد» المحيي هو تطابق كلي؛ لذلك يعود المسيح بعد ذلك ويوضح هذا التطابق هكذا: «أنا هو الخبز الحي». وهنا يكمن سر التجسد العجيب الرهيب على مستوى إتحاد الكيان الإلهي «أنا هو» بـ «الجسد» البشري المولود من الروح القدس إتحاداً سرياً كاملاً أبدياً.
والحيرة التي يقع فيها العقل الذي لم يقبل سر التجسد تكون حيرة حقيقية, إذ كيف يمكن للمسيح وهو إنسان أن يكون خبزاً, والخبز معروف أنه يؤكل لقوام الحياة الجدية؛ أما للذين قبلوا سر التجسد، أي بالإيمان بالمسيح الكلمة المتجسد، يصير من السهل عليهم أن يدركوا سر الإفخارستيا في قول الرب: «الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي». فهذا هو غاية التجسد، فالمسيح تجسد ليعطي جسده الحي للعالم ليكون بذرة الخليقة الجديدة. هذه الحقيقة سرية للغاية والذي يقبلها إنما يقبلها بالإيمان. والمسيح عرض الإيمان به على اليهود لينكشف لهم السر فرفضوه «إن كل من يرى الابن ويؤمن به، تكون له الحياة الأبدية, ولكني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون». فقبول المسيح، أي المجيء إليه والإيمان به أولا، كفيل بأن يكشف كل أسرار المسيح والحياة الأبدية. ولكن الخطأ الذي ارتكبه اليهود, والذي لا يزال يرتكبه العالم, أن الناس يريدون أن يعرفوا سر المسيح قبل أن يأتوا إليه ويؤمنوا به, وهذا مستحيل.
والآن فالنصيحة العظمى التي نقدمها للناس جيعا هي أن يأتوا إليه بلا فحص وأن يقبلوه ويؤمنوا به لتنفتح عيونهم وقلوبهم ويدركوا سر المسيح والله بكل يقين، وسر الحياة الأبدية.
والمسيح في قوله إنه «يعطي جسده» يصير فاعلا: «أنا هو», وممفعولا به: «جسدي» بآن واحد!! فالمسيح كائن في الله وفي الجسد معا بآن واحد، لذلك حينما يبذل جسده فهو يعطي نفسه في هذا الجسد ليصير الأكل من الجسد إتحادا به وبالله الآب، وقوة هذا الاتحاد هي الحياة الأبدية.
«الخبز الذي أنا اعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم»: والخبز الحي هو جسد المسيح الذي سيُذبح بإرادته, الذي فيه الحياة الأبدية غير القابلة للموت, ليكون ذبيحة إلهية حية حياة أبدية, لكي كل من يأكل منها يحيا فيه وفي الله الآب, على أنه يستحيل على أحد أن يأكل منه أكلا حقيقيا إلا إذا كان قد آمن حقأ بالمسيح. لأن الأكل الحق من الجسد الحق لا يكون إلا بالإيمان الحق, فهنا ليس مجرد الأكل يحيي، ولكن الأكل بالروح والحق هو الذي يحيي.
«أنا هو خبز الحياة. اباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء (حقا) لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت»: وهنا يأتي الرد على اليهود بالمقارنة مع المن الذي نزل من السماء. فيقول المسيح: «آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا» والترجمة اليونانية الحرفية: «وقد صاروا مائتين أو أمواتا» وبهذا لا تأتي هنا بممنى الموت الطبيعي بل صاروا أمواتا أو مائتين روحيا. وهذا يؤكده المقابل في الآية القادمة: «هذا هو الخبز… يأكل منه الإنسان ولا يموت». علمأ بأننا نأكل من خبز الحياة (الإفخارستيا) ونموت جسديا. فهنا «لا يموت» تأتي بعنى عدم الموت الروحي؛ وفي المقابل من جهة المن، فإن كل من أكل المن مات, أي مات روحيا. وهذا كان عقابا لعدم الايمان والتذمر وعمل الشرور والزنا. فالعيب كان فيهم، وليس بسبب عيب في المن كطعام من السماء. كما يوضح ذلك بولس الرسول في سفر العبرانيين: «ولمن أقسم لن يدخلوا راحته إلا للذين لم يطيعوا. فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان» (عب18:3-19). علمأ بأن كلمة «راحته» رفعها بولس الرسول من راحة أرض كنعان إلى راحة الله الخاصة: «فلنجتهد (بالإيمان) أن ندخل (نحن) تلك الراحة لئلا يسقط أحد (منا) في عبرة العصيان هذه عينها» (عب11:4). إذن، فالذين أكلوا المن الذي نزل من السماء لم يسعفهم أكلهم مز المن، وذلك بسبب خطيتهم، فحُرمرا من دخول السماء.
«أباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا»: لينتبه الدارس للكلمة إلى القصد الذي يهدف إليه المسيح هنا، فهو لا يلغي المضمون الروحي والسمائي للمن، بل على العكس، فالقصد الذي يهدف إليه المسيح هو أنه بالرغم من أنهم أكلوا المن إلا أنهم ماتوا. لأننا نعلم علم اليقين أن الوحي المقدس على فم بولس الرسول أوضح أن المن ان طعاما روحيا كما كان الماء الخارج من الصخرة شرابا روحيا، أي بالمفهوم الكتابي أن الطعام، أي المن والماء، أي الصخرة، كانت رمزا للمسيح. ولكن الطعام الروحي والشراب الروحي لم ينفعا آكليه وشاربيه بسبب عدم الإيمان, والتذمر على الله وشهوة الشرور والزنا. (مع مزيد من الأسف والحزن فقد وقع علماء الكتاب المقدس فى خطأ فهم كلام المسيح عن المن: «آباؤكم أكلوا المن فى البرية وماتوا, بأن المن كان طعاما جسديا بلا قيمة روحية, لذلك كل من أكله مات وطُرح جسده في القبر. فى حين أن هذا هو الواقع أيضا في أكل جسد المسيح, أى الإفخارستياء فنحن نأكل الجسد المقدس ونموت أيضا وتُطرح أجسادنا في القبور. فكلمة «ماتوا« فُهمت خطأ وعلى القارىء الانتباه إلى هذا الشرح)
«وجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا, وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا, لأنهم كانوا يشربون نن صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح. لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفر. وهذه الأمور حدثت مثالا لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورا كما امشتهى أولئك… جلس الشعب للأكل والشرب (الروحي) ثم قاموا للعب, ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفا، ولا نجرب المسيح كما جرب أيضأ أناس منهم فأهلكتهم الحيات، ولا تتذعروا كما تذمر أيضا أناس منهم فأهلكهم المهلك.» (1كو3:10-10)
وبالتطبيق, يقول المسيح ويشدد على الإيمان به قبل أن يخوض في مفهوم الأكل والشرب من خبز الحياة الذي يعطيه، الذي هو جسده الذي سيبذله على الصليب من أجل حياة العالم. فهذا الخبز الحي النازل من السماء حقا هو أيضا لن يفيدهم شيئا إذا لم يؤمنوا به. المسيح جمع الإيمان به والأكل منه كفعل روحي واحد. فالذي يؤمن به يأكل حياة أبدية، والذي لا يؤمن به يأكل دينونة .
وواضح أن هؤلاء اليهود المحاججين لم يؤمنوا به بل وتذمروا عليه, على نفس مستوى ما عمل أباؤهم في البرية مع الله. هذا هو الذي جعل المسيح يركز على صفة الأكل من الخبز الحي الجديد، أى جسده والشرب من دمه بعد ذلك. لذلك جعل المسيح الإيمان به وسماع كلمته وطاعته وعدم التذمر شرطا أولا وأساسيا لكي «يأكل منه الإنسان ولا يموت». وهذا نجده واضحأ جدا في الأيات التي سبقت الاعلان عن أن الخبز الحي الجديد هو جسده المبذول لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. وهنا نعيد قول المسيح الذي جعله شرطا للدخول في مفهوم الأكل من جسده: «وقال لهم لا تتذمروا… كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلي… من يؤمن بي فله حياة أبدية… أنا هو خبز الحياة».
وهذا يعود علينا بالتوضيح أن الإيمان بالمسيح وقبوله مع الشكر الدائم، شرط أساسي لاستعلان الروح في الإفخارستيا ونوال الحياة الأبدية.
يلاحظ القارىء أن جسد الرب الذي يعطيه، أو الذي بذله عن حياة الإنسان، قدمه أصلا وأساسا لكي يرفع الخطية ويلغيها ويكفر عنها ويمسح دينونتها ويزيل آثارها المدمرة في جسد الإنسان وعقله وروحه. ثم نظرة واحدة سليمة إلى حال الإنسان قبل المسيح توضح لنا لماذا أعطانا جسده هذا. فالخطية أفرغت الإنسان من مضمونه ككيان مخلوق بيد الله على صورة الله وفيه نفخة روح الله!! الخطية أعمت عين الإنسان، وسدت أذنيه عن رؤية الحق والنور والله وسماع صوت لله المحيي. الخطية استبدت بالإنسان، وسادت عليه، واستعبدته لكل ما هو إثم ونجاسة وعار، وجعلته يتآخى مع الحيوان بل مع الشيطان، وأوردته مهالك الموت، فصار جسده المضىء بنور الله تلفه الظلمة. وعوض نفخة الله المحيية المبهجة، صارت تتردد في جنباته رياح الموت وعواصف الرعب والخوف ممن له سلطان الموت أي إبليس. الكل أخطأ وزغ وأعوزه مجد الله، ليس من يعمل الصلاح، ليس ولا واحد!! (راجع 23:3 ومز3:14). والجوع إلى الله والحق جعل الإنسان يتلمس الله في السماء والأرض والحجر والشجر.
الله تحنن على صورته ولم يشأ إطلاقا أن يفسد جماله فيها, أو أن يسحب روحه منها, أو تسود ظلمة الخطية على نور بهاء معرفته، أو تبقى غنى نعمته عاجزة عن أن تشبع جوع الإنسان.
لهذا تجسد ابن الله ليطعمنا من جسده ، ليرد جوعنا إلى شبع حقيقي من الله ، ويسقينا من دمه لتسري روحه فينا مرة أخرى للحياة من بعد موت. وهكذا, ولكي يقيمنا الله من الموت والعدم، أعطانا نفسه لنأكله، لكي يستبدل جسدنا بجسده ودمنا بدمه، وهكذا لا نعود نحيا نحن للموت بل هو يحيا فينا للحياة, فنحن الآن «أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه.» (أف30:5)
فلو ارتفعنا هنا بمستوى الخبز والمن والأكل إلى المستوى الروحي الذي أراد بعض الربيين أن يرتفعوا إليه، باعتبار المن أنه هو التوراة أي الناموس؛ نجد المقارنة أصبحت أكثر صحة وأقوى بيانا. فالخبز الحي، أي جسد المسيح المبذول أي المذبوح من أجل حياة العالم، هو المقابل للتوراة أو الناموس، مؤسسا على النعمة المجانية (البذل) للخلاص والحياة. أما التوراة أو الناموس فهو مؤسس على معرفة ناموس الخطية وحكم الموت للمخالف. فالأول جاء للحياة في مقابل الثاني الذي كان للدينونة والموت. فالذي أكل هن خبز المن, مات بسبب المخالفة والخطية التي بلا كفارة، في مقابل أن الذي يأكل من الجسد الحي يحيا ولا يموت بسبب نعمة التبرير المجانية ورفع الخطية المميتة. فإن كان المن الذي نزل من الساء بواسطة موسى، الذي هو رمز للناموس، قد أكله آباؤهم وماتوا روحيا بسبب المخالفة والخطية التي بلا كفارة، فلم يدخلوا راحة الله؛ فالمقارنة أصبحت أيضا بين موسى: «لأن الناموس بموسى أعطي»؛ وبين المسيح: «أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا». وهذا ليس على مستوى الأفضلية بين المسيح وموسى, بل على مستوى السببية لأن كل من ناموس موسى والمن لم ينتفع به إسرائيل بسبب التعدي، لهذا جاء المسيح ورفع التعدي، بل ووهب عوض التعدي نعمة، ليعطي الحياة مجانا بجسده المبذول عن حياة العالم؛ نأكله فنعيش!!
وعلى القارىء أن ينتبه إلى تسلسل المعاني وترابطها في إنجيل القديس يوحناالتي جاءت هكذا:
( أ ) أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء.
( ب ) خبز الله, هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.
(ج ) أنا هو خبز الحياة. اباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
( د ) أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء
( ه ) الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي
( و) الذي أبذله من أجل حياة العالم.
ويلاحظ القارىء أن الآيات (أ) ، (ب) هي وصف المشورة الإلهية كتقرير حقيقة يراد تتميمها. فالخبز الحقيقي هو خبز الله, أي أنه يمت إلى طبيعة الله، فكلمة الحقيقي هي صفة لا تطلق على الماديات، لأنها صفة الله وصفة المسيح: «أنا هو… الحق» (يو14:6). وهذا الخبز الحقيقي، الذي هو خبز الله، موطنه الدائم «من السماء». ولكن مشورة الله تقررت أن هذا الخبز يأخذ حالة نزول من السماء لإعطاء حياة أبدية للعالم. وهنا «نازل» هو تقرير حال لم يدخل في حيز الفعل.
ثم تأتي الأية (ج) حيث يكشف فيها المسيح عن صفة هذا الخبز أنه هو هو نفسه: «خبز الحياة», أي الخاص «بالحياة الأبدية» الذي وُضع له أن ينزل من السماء (حال), لكي يأكل منه الإنسان كغذاء روحي دائم فلا يذوق الموت الروحي.
ثم تأتي الأية (د) ويضيف فيها المسيح صفة ذاتية جوهرية لهذا الخبز وهو أنه خبز «حي» أي أن جوهره حياة. ثم يدخل المسيح هذا الخبز الحقيقي، أي خبز الله الذي موطنه السماء والمعين له النزول من السماء، يدخله في حالة الحركة الفعلية في صميم الزمن: «الذي نزل». وهنا يعلن عن سر التجسد الذي تم في صميم حركة الزمان وصار فعلت ماضيا.
ثم تأتي الأية (ه) وفيها يكشف أكثر عن صلة هذا الخبز بنفسه, أنه جسده، وهنا يجعل الخبز يعبر عن نفسه وعن جسده معا.
ثم تأتي الآية (و) وفيها يكشف عن نية مبيتة عند المسيح ومقررة، أن هذا الخبز, أي جسده, هو مُعد الآن لحالة بذل أو ذبح إرادي.
وإلى هنا يكون المسيح قد أعد الفكر للدخول في سر المسيح الأعظم، وهو الفداء بالموت أي الصليب، بعد أن أمن على الجسد من الموت الروحي, عندما قرر أنه «خبز حي» وأنه «حي بالآب» حياة أبدية لا يرقى إليها الموت المادي. فالموت على الصليب أنشأ غلبة على الموت، وقد استُعلنت الحياة الأبدية التي فيه.
كما يكون قد أعد الفكر لحتمية الأكل من هذا الجسد ليحيا به الإنسان إلى الأبد، أي لنوال الحياة الأبدية التي فيه.
أما الأكل من هذا الجسد فقد أحدث الصدمة الأخيرة لعقول اليهود, والذي بدأ الرب يؤكده دون أن يشرحه» متجاوزا جهلهم
تفسير القمص أنطونيوس فكري
الآيات (48-51): “أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم.”
أنا هو خبز الحياة= المسيح إعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية فهو حي ومحيي والحياة موجودة في شخصه (يو19:14). وذلك لأن “أنا هو” المحيي أي الكيان الإلهي إتخذ بالخبز الذي هو جسده البشري فصار خبزاً حياً، من يأكله تكون هناك حياة لروحه، وحتى إن مات جسده يكمل حياته التي بدأها على الأرض. وبدون هذا الخبز تموت الروح حتى وإن كان الجسد حياً لكن من يريد هذه الحياة عليه أن يؤمن بالمسيح أولاً. وكما أن الجسد يموت إن لم يأكل الخبز المادي هكذا تموت الروح إن لم تأكل هذا الخبز الحي الذي هو جسد المسيح. الخطية مفعولها في الإنسان هو الموت والتناول من جسد المسيح ودمه هو عملية نقل حياة لهذا الميت روحياً بسبب الخطية. هذا مثل من عنده مرض في الدم فيحتاج بصفة مستمرة لعملية نقل دم. أما في السماء فلن نحتاج للتناول فلا خطية ولا موت. لكن سيكون الإتحاد الكامل بالمسيح هو حياتنا وفرحنا وشبعنا وأبدياً بلا إنفصال. والحياة التي في الجسد والدم سببها إتحاد لاهوت المسيح بناسوته. والمسيح تجسد ليعطي جسده الحي ليكون بذرة الخليقة الجديدة، نأكل جسده لنتحد به وقوة هذا الإتحاد هي الحياة الأبدية. ثم يرد المسيح على سؤال اليهود عن المن بأن أباؤهم أكلوا المن ولكنهم ماتوا روحياً ولم يدخلوا إلى الراحة بل هم ماتوا جسدياً أيضاً ولم ينفعهم المن. ولكن من يأكل جسد المسيح لن يموت روحياً. حقاً سيموت جسدياً ولكن يظل غير منفصل عن الله. يشبع من الله هنا على الأرض وتسرى فيه حياة بعد موت أي أن الموت الجسدي لا يؤذيه لذلك يكرر السيد هنا وأنا أقيمه في اليوم الأخير (39،40،44،54). أبذله= المسيح يكشف هنا عن نيته في الصليب. الخبز الحي= أي الذي يعطي حياة أبدية للإنسان. إن أكل= تشمل الإيمان به وقبوله. الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي= من هنا دخل المسيح في مرحلة أخرى فيها يتكلم صراحة عن جسده كمأكل حق. هو يعطي جسده للموت ليكون للناس حياة أبدية. ولاحظ في (32) يقول أبي يعطيكم وفي (51) يقول أنا أعطيكم.