تفسير سفر إرميا ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث
الله يطلب عروسه

في الأصحاح السابق كشف لنا الله عن سر الخصومة، الأمر الذي يكرره كثيرًا، ليس فقط فيسفر إرميا بل في كثير من الأسفار المقدسة. فإن الله إن أدَّب يود أن يوضح سبب التأديب، حتى يحقق هدفه. فهو لا يؤدب ليظهر سلطانه كما يفعل الإنسان عندما يستحوز على سلطة، ولا لكي ينتقم، وإنما لكي يحاور ويحاجج حتى يرجع الإنسان إليه.

في الأصحاح الثالث يعلن بوضوح رغبته في رجوع عروسه التي تنجست مع كثيرين، وأفسدت الأرض، وقد سبق فطلقها، لكنه يضع خطة إلهية ليفتح أمامها باب التوبة، ويردها الله مكرّمة وممجدة.

العريس يطلب مطلقته الزانية [1-5].

كشف الله عن حبه اللانهائي نحو شعبه، ونحو كل مؤمن؛ قائلاً: “إذا طلق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر، فهل يرجع إليها بعد؟! ألا تتنجس تلك الأرض نجاسة؟!”.

أما أنتِ فقد زنيتِ بأصحاب كثيرين،

لكن ارجعي إليّ يقول الرب” [1].

يقول العلامة أوريجينوس:

[هذا نوع جديد من الصلاح، فإن الله يقبل النفس حتى بعد الزنا إن رجعت وتابت من القلب…

هنا يظهر الله كغيورٍ، يطلب نفسك ويشتهي أن تلتصق به، إنه غير راضٍ. إنه يغضب مظهرًا نوعًا من الغيرة عليك، لتعرف أنه يترجى خلاصك![92]].

يصعب أن يتخيل إنسان أنه يرد إليه مطلقته التي تركها بسبب زناها، هذه التي لم تخطئ عن ضعف مع شخصٍ ما أغواها، بل تهوى الخطأ مع أصحاب كثيرين… تخطئ بغير حياءٍ، لها “جبهة امرأة زانية”… تخطئ بقدرة وجبروت. ومع هذا كله يشتاق رجلها أن تتوب وترجع إليه!

بدأ الله حديثه مع شعبه مشيرًا إلى أحد قوانين الطلاق (تث 24: 1-4)، التي قدمها لشعبه لأجل ضعفهم. فإنه لم يسمح للرجل أن يقبل زوجته مرة أخرى إن كانت قد طُلقت وصارت لآخر.

يكشف هنا عن قانون الحياة الزوجية، موضحًا أن الزواج هو اتحاد سري لا ينحل، أما إذا دخل طرف ثالث بينهما (إنسان زانٍ) فينحل الرباط ولا يعود مرة أخرى. لا يطيق رجل ما أن يتزوج مطلقته الزانية، إذ تتنجس الأرض، أي يصير جسده (الأرض) نجسًا! أما الله فليس كزوج بشري يطرد زوجته الخائنة، وإنما في حبه اللآنهائي يرى النفس قد أبطلت اتحادها معه باتحادها مع أعدائه: إبليس وجنوده وأعماله الشريرة، فتحسبهم أصحابها… ومع هذا يدعوها: “ارجعي إليّ!

يقول الأب ميثوديوس: [يتحدث عن هذه التي تعرض نفسها للفحشاء مع قوات جاءت لكي تفسدها، لأن أصحابها هم إبليس وملائكته، الذين يخططون لتدنيس وإفساد جمال عقلنا المتزن والبصيرة السليمة، وذلك من خلال الحوار معهم، والرغبة في معاشرة كل نفس مخطوبة للرب[93]].

عجيب هو حب الله للإنسان، فمع معرفته بكل شر الإنسان وفساده، يفتح له باب الرجاء للعودة، قائلاً له: “هل يحقد إلى الدهر؟! أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟!” [5]. إنه يبقى يطلب رجوع النفس إليه… لا لأنه يود أن يراها حزينة متألمة نادمة على ما ارتكبته من آثام، وإنما لأنه يطلبها عروسه المقدسة التي تجد لها موضعًا في أحضانه، أو ابنة تجد أبوها يركض إليها ويرتمي على عنقها ويقَّبلها (لو 15).

ما أعجب حب الله! إنه يعرفنا تمامًا في شرنا فيصفنا هكذا:

أولاً: كمطلقة تزوجت رجلاً آخر [1]: بحسب الشريعة الموسوية لا يجوز للرجل أن يرد مطلقته التي تزوجت بعد طلاقها، حتى إن طلقها الرجل الثاني أو مات (تث 24: 1-4).

ثانيًا: لها أصحاب زناة كثيرون [1]. شتان بين فتاة تتعرض لإغراء شاب فتسقط، وبين عروس متزوجة ترتمي في أحضان هذا وذاك بلا شبع… شرهة في الخطية وطلب الملذات!

ثالثًا: لم يبحث عنها الأشرار ليطلبوها، بل تجرى في كل الطرقات تطلب الشر، ليس من طريق تعبر فيه إلا وترتكب فيه الخطية. “ارفعي عينيك إلى الهضاب وانظري، أين لم تضطجعي؟! في الطرقات جلستِ لهم كأعرابي فيالبرية ونجستِ الأرض بزناكِ وشركِ” [2].

رابعًا: تشهد الطبيعة لشرها، فبسببها “امتنع الغيث ولم يكن مطر متأخر” [3]. المطر المبكر في شهري أكتوبر ونوفمبر حيث يساعد على الفلاحة عند وضع البذار، أما المتأخر ففي شهري مارس وإبريل حيث يساعد النباتات على نضوج المحصول.

عندما يصر الإنسان على الخطأ، معاندًا وصية إلهه، تعانده الطبيعة التي خُلقت لأجله، لتشهد أنه قد فسد وانحرف عن تحقيق رسالته، فلماذا تسنده وتخدمه؟!

خامسًا: لها جبهة زانية [3]، أي وجه نحاس لا يعرف الخجل أو الحياء. قديمًا كانت النساء الفاسدات يضعن علامة على جباههن لكي يتعرف عليهن من يطلب الشر.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[94] أن ارتكاب أية خطية بدون حياء يجعل من الإنسان زانية لها جبهة زانية. وفي موضع آخر يقول: [يبدو أن استخدام هذا التعبير لا يناسب تلك المدينة فحسب، بل كل الذين يتطلعون ضد الحق بلا خجل[95]].

سادسًا: يرى البعض في العبارة: “ألستِ من الآن تدعينني يا أبي؟! أليف صباي أنت! هل يحقد إلى الدهر؟ أو يحفظ غضبه إلى الأبد؟ ها قد تكلمتِ وعملتِ واستطعتِ” [4-5]. قد اتكلت إسرائيل على أنها ابنة لله تمتد علاقتها معه منذ صباها حين كانت في مصر تحت العبودية… وكأنها استغلت أبوة الله وحنانه فتكلمت كابنة لكنها عملت كعاصية وتممت العصيان بقدرةٍ وعنفٍ. ظنت أن الله كالأب الأرضي يتغاضى عن الأخطاء، حتمًا يتجاهل معاصيها. لم تدرك أنه أب حقيقي أكثر حنانًا وترفقًا من الأب الأرضي، لكنه لا يغير أحكامه حتى يغيروا سلوكهم، ويقدموا توبة ويطلبوا الرجوع إليه، إذ يعاتبهم: “وقلت تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين” [19].

يرى البعض في هذه العبارة كلمات عتاب تصدر من الله كأبٍ يبعث فيهم الرجاء بالتوبة بالرغم مما بلغوه من انحطاط وفساد.

سابعًا: لم تقف عند حد الزنا والخيانة الزوجية لكنها مخادعة، لها شفتا الغش، تنطق بغير ما تعمل (3-5)، وهي مكروهة لدى الناس فكم لدى الله؟! الله لا يقبل صلوات الشفاه الغاشة، بل يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8).

إذ قدم لنا الله هذه الصورة أكد لنا أمرين:

أ. بشاعة الخطية بكونها خيانة زوجية!

ب. لا تقوم المصالحة على كلمات اعتذار من جانبنا إنما على نعمة الله الغنية التي تتعدى الناموس، بعد خيانتنا له.

هذا ويُلاحظ أنه كثيرًا ما تكررت كلمة “رجع shuv” في هذا السفر. فإن التوبة في حقيقتها ليست اعترافًا بالخطأ فحسب ولا هي امتناع عنه فحسب، إنما هي رجوع إلى الله واتحاد معه!

 

خطة إلهية لعودتها [6-11].

يكشف الله ليهوذا عن خطته لخلاصها معلنًا أن مملكة إسرائيل (10 أسباط) سبق ففسدت وقد حذرها مرة ومرات وأخيرًا سمح لها بالسبي لكي تتوب وتكون درسًا عمليًا ليهوذا. لكن مملكة يهوذا (سبطان: يهوذا وبنيامين) عوض أن تتعظ فقد تركها قرنًا كاملاً بعد سبي إسرائيل لكي تتوب، إذا بها هي أيضًا تخونه على منوال أختها… ربما لأنها اتكلت على أن الله لن يسمح بسبي مدينته أورشليم وخراب هيكله فيها. لكن سرعان ما يفتح الله باب الرجاء لا أمام يهوذا وحدها بل أمام المملكتين معًا، بل وأمام كل الأمم بكونه مخلص العالم كله.

أحد أسباب التأديب هو أن يصير المُؤدَب مثلاً حيًا أمام الخطاة:

“وقال الرب لي في أيام يوشيا الملك:

هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟…

انطلقت إلى كل جبل عالٍ وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك،

فقلت بعدما فعلت كل هذه: ارجعي إليّ؛ فلم ترجع.

فرأت أختها الخائنة يهوذا.

فرأيت أنه لأجل كل الأسباب إذ زنت العاصية إسرائيل فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها لم تخف الخائنة يهوذا أختها بل مضت وزنت هي أيضًا.

وكان من هوان زناها أنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر.

وفي كل هذا أيضًا لم ترجع إليّ أختها الزانية يهوذا بكل قلبها، بل بالكذب يقول الرب.

فقال الرب لي: قد بررت نفسها العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا” [6-11].

ويلاحظ في النص الآتي:

أ. يقول العلامة أوريجينوس: [يريدنا النبي هنا أن نعرف أن الشعب – كما جاء في سفر الملوك – قد قُسِّم في أيام رحبعام إلى مملكة مكونة من عشر أسباط تحت حكم يربعام، ومملكة أخرى مكونة من سبطين تحت حكم رحبعام (1 مل 12). مجموعة يربعام ُدعيت إسرائيل، وسبطا رحبعام دُعيا يهوذا. واستمر هذا الانقسام إلى أيام النبي… إسرائيل التي ليربعام وخلفائه أخطأت أولاً، أخطأت كثيرًا إذا قورنت بيهوذا، حتى سمح الله لها أن ُتساق إلى السبي بواسطة الأشوريين، واستمر حتى الآن (وقت النبي) كما يقول الكتاب. بعد ذلك أخطأ أيضًا بنو يهوذا، وتم سبيهم إلى بابل. بعد كل تلك الخطايا التي ارتكبتها إسرائيل، وقد علمت يهوذا بها، ورأت كيف أرسلتها إلى السبي، لم تستفد من هذا الدرس، بل على العكس أكثرت من خطاياها، حتى متى قورنت بخطايا إسرائيل نجد برًا في إسرائيل أكثر من يهوذا.

كان على يهوذا أن تستخلص من ذلك درسًا – لأني طلقت إسرائيل وطردتها عند الأشوريين وأعطيتها كتاب طلاقها في يديها – ومع ذلك “لم تخفْ الخائنة يهوذا أختها”، ولم تكتفِ برفض هذا الدرس، بل أضافت إلى خطاياها آثامًا أكثر، حتى بدت أن خطايا شعب إسرائيل بالمقارنة بخطايا شعب يهوذا كأنها بر وصلاح[96]].

لقد تمردت إسرائيل العاصية على الرب علانية منذ نُصب عجلا يربعام الذهبيين حتى لا يشتاق الشعب إلى هيكل الرب في أورشليم، كما أقام كهنة من غير سبط لاوي (1 مل 12: 28، 31)، وصنع عيدًا في بيت إيل. لم نجد من ملوكهم من طلب الرب إلا مرة واحدة عندما اشتد الضيق بسبب الغزو الأرامى (2 مل 13: 4-5)، وبالفعل خلصهم الرب، “لكنهم لم يحيدوا عن خطايا بيت يربعام الذي جعل إسرائيل يخطىء، بل ساروا بها ووقفت السارية أيضًا في السامرة”…

أمام هذا العناد العلني والمستمر عبر الأجيال سلمهم الرب للسبي الأشوري، فتركوا أرضهم كما تترك المرأة المطلقة بيتها الزوجي.

أما خطية يهوذا الخائنة، فهي مع وجود بعض ملوك صالحين على خلاف إسرائيل، انشغلت مملكة يهوذا بالعبادة الظاهرية مع خيانة خفية، حيث كانت القلوب منصرفة إلى نجاسة الأمم.

عُرفت إسرائيل بالعصيان العلني ومقاومة عبادة الله، أما يهوذا فُعرفت بالخداع والكذب. وكما يقول العلامة أوريجينوس على لسان الرب: [لم تهَبني (يهوذا) بعد كل ما فعلته بإسرائيل، ولم ترجع إليّ رجوعًا كاملاً، بل بالعكس رجعت إليّ بالكذب[97]].

ب. يرى العلامة أوريجينوس أن ما حدث قديمًا مع مملكتي إسرائيل ويهوذا، بأن عصت الأولى وزنت الثانية، يمثل رمزًا لما حدث أيضًا مع اليهود في أيام السيد المسيح إذ عصوا المخلص ورفضوه، وما يحدث مع بعض رجال العهد الجديد حيث يتمسك بعض المسيحيين بالاسم دون الحياة الإيمانية الفعلية الروحية. وكأن ما ورد هنا هو توبيخ للمسيحيين الاسميين.

[دعونا نرى ما هو القصد من وراء ما ورد هنا.

بدأت دعوة الأمم عند سقوط إسرائيل، فبعدما كرز الرسل لجماعة اليهود، قالوا لهم: “كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم” (أع 13: 46).

ويقول أيضًا الرسول العارف بهذا الموضوع: “بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم” (رو 11: 11).

إذن أخطاء هذا الشعب الكثيرة أدت إلى استبعادهم، كما أدت أيضًا إلى دخولنا إلى “رجاء الخلاص”، نحن الذين كنا “غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا” (راجع أف 2: 12).

كيف إذًا حدث هذا الأمر؟ كيف بعدما وُلدت في أي موضع في العالم، وكنت غريبًا عن أرض الموعد، أقف اليوم لأتحدث عن وعود الله، وأؤمن بإله الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب؟ بل وأكثر من هذا اقبل في داخلي يسوع المسيح الذي سبق أن تنبأ عنه الأنبياء؟

لنلاحظ هنا أن شعب إسرائيل هو هذا الذي كُتب عنه: “فطلقتها وأعطيتها كتاب طلاقها”. لقد طلق الله إسرائيل وأعطاها كتاب طلاقها. هذا يحدث بالنسبة للمتزوجين، متى صارت الزوجة مكروهة عند رجلها كما هو مكتوب في شريعة موسى، فإن الزوج يكتب لها كتاب طلاق فتُطلق، ويكون من حق الزوج الذي طلق امرأته الأولى بسبب سوء سلوكها أن يتزوج بأخرى.

هكذا بنفس الطريقة بعدما أخذ شعب إسرائيل كتاب طلاقه تم إهماله تمامًا. أين هم أنبياؤهم؟ أين معجزاتهم بعد؟ أين هو ظهور الله لهم؟ أين العبادة والهيكل والذبائح؟ لقد طُردوا من موضعهم.

إذن، أعطى الله إسرائيل كتاب طلاق، ثم نحن، (مملكة) يهوذا، لأن المخلص جاء من سبط يهوذا، قد رجعنا إلى الرب، لكن يبدو أنه في أيامنا الأخيرة سنشابه أيام يهوذا الأخيرة، إن لم نصر فيحال أسوأ منها.

يبدو أن هذا هو وقت نهاية العالم فعلاً.

هذا يظهر بوضوح من كلمات السيد المسيح في إنجيله: “ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت 24: 12-13). وأيضًا: “سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا” (مت 14: 24). هذا هو وقتنا الحاضر الذي يقصده المخلص بمجيئه الثاني، حيث اننا إذا بحثنا في العديد من الكنائس سوف لا نجد مؤمنًا واحدًا حقيقيًا. “ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض” (لو 18: 8). بالفعل إن حكمنا على الأوضاع حسب الحق لا العدد، ولو نظرنا إلى الأعماق الداخلية بدلاً من النظر إلى أعداد الناس المجتمعة ندرك أننا لم نعد بعد مؤمنين أمناء. قبلاً وُجد مؤمنون حقيقيون، وذلك فيعصر الشهداء المزدهر. فعند عودة مواكب أجساد الشهداء إلى القبور كانت الكنيسة كلها تجتمع بغير خوف، وكان الداخلون إلى الإيمان حديثًا يتعلمون مبادىء المسيحية وهم يرون حولهم أجساد الشهداء، كما أن مؤمنين كثيرين كانوا يعترفون بإيمانهم حتى الموت بغير خوف، دون أن يتزعزعوا عن إيمانهم بالله الحيّ. إذن، نحن نعرف أناسًا رأوا أشياءً عجيبة فائقة.

وُجد مؤمنون قليلون لكنهم كانوا مؤمنين حقيقيين، اتبعوا الطريق الضيق الكرب المؤدي إلى الحياة. أما الآن فقد صرنا كثيرين من جهة العدد، لكن من غير الممكن أن يُوجد كثيرون منتخبون، لأن يسوع لا يكذب حين قال: “كثيرون يُدعون وقليلون يُنتخبون”.

فمن بين الجموع التي اتخذت الدين عملاً لهم بالكاد يوجد قليلون يصلحون للانتخاب الإلهي والتطويب.

عندما يقول الله: “لقد طلقت أولاً إسرائيل بسبب خطاياها، وأبعدتها عني، ويهوذا لم ترجع إليّ بالرغم من معرفتها بما حدث لإسرائيل، فإنه يتحدث أيضًا عن خطايانا.

عند قراءتنا عن المصائب والأهوال التي حلت بشعب إسرائيل يلزمنا أن نرتعد، ونقول: “إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليكِ أيضًا” (رو 11: 21). إذا كان الذين يفتخرون بأنهم زيتونة حقيقية (رو 11: 24)، والذين هم متأصلون فيجذور إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد قطعهم الله بلا شفقة، بالرغم من صلاحه وحبه للبشر، فكم بالحرى بالنسبة لنا؟

“هوذا لطف الله وصرامته” (رو 11: 22)، فهو ليس لطيفًا بدون صرامة، ولا صارمًا بدون لطف. لو كان الله لطيفًا فقط بدون صرامة لازددنا في احتقارنا للطفه وعدم مبالاتنا تجاهه. ولو كان صارمًا بغير لطف لسقطنا في اليأس من جهة خطايانا. لكنه في الواقع بما أنه هو الله، فهو لطيف وصارم في آن واحد، أما نحن البشر فعلينا أن نختار: إما لطفه إذا رجعنا إليه، أو صرامته إن بقينا في خطايانا.

يحدثنا الله على لسان الأنبياء، قائلاً لنا: هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟ يُفهم إسرائيل هنا الشعب اليهودي. “انطلقت إلى كل جبلٍ عالٍ وإلى كل شجرة خضراء” [6]. إذا نظرت إلى الفريسى الذي صعد إلى الهيكل في غرور دون أن يقرع صدره، أو ينشغل بخطاياه، بل يقول: “اللهم إني أشكرك إني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه” (راجع لو 18: 11-12)، فإنك تفهم أنه صعد إلى كل جبلٍ عالٍ، بمشاعره التي تستحق اللوم، وحبه للتفاخر والتباهي؛ كذلك صعد بالغرور والكبرياء إلى كل أكمة مرتفعة، وجاء تحت كل شجرة، ليست شجرة مثمرة، إنما شجرة بها خشب فقط، إذ يوجد فارق بين الشجر للخشب والشجر المثمر. عندما نزرع أشجارًا للخشب فقط نزرع بذورًا غير مثمرة بل عقيمة، ترمز إلى مجادلات الهراطقة وحججهم ذات البريق الغاش المخادع غير الصالح لإقناع السامعين. فإذا تركنا أنفسنا وراء هذه المجادلات، إنما نذهب تحت كل شجرة للأخشاب.

“وزنت هناك.

فقلت بعدما فعلت كل هذه:

ارجعي إليّ، فلم ترجع.

فرأت أختها الخائنة يهوذا (خيانة إسرائيل)”.

هذا العتاب موجه إلينا نحن أيضًا، إذ نخطىء، ولا نفي بعهودنا مع الله. نحن الذين نرى ما حدث للذين فقدوا عهودهم مع الله مع كونهم من نسل إبراهيم، مع أنهم أخذوا الوعد.

يجب علينا إذًا أن نتمسك بهذه الفكرة. بما أن هؤلاء قُطعوا من البركات ومن الوعود الإلهية، ولم ينفعهم كونهم من نسل إبراهيم، ماذا يكون حالنا إذا أخطأنا نحن؟! فإن  الله يتركنا. يقول لهم المخلص: “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم”. كما يقول لهم القديس يوحنا: “لا تبتدئوا تقولون فيأنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم”. يقصدنا نحن “هذه الحجارة“،أي قلوبنا الحجرية وقساوتنا نحو الحق. بالحقيقة أقام الله بقدرته من الحجارة أولادًا لإبراهيم.

إذا جاء عبد جديد ليخدم صاحب المنزل، أُشترى حديثًا يبدأ يتساءل ويستفسر: مَنْ ِمنَ الخدم السابقين كان صالحًا في عيني سيده؟ ولماذا؟ ومن منهم كان شريرًا في عينيه؟ ولماذا؟ وبعد تفكير إذ يستمر في خدمة رب البيت يجتنب السلوك الذي أدى إلى طرد العبيد الأشرار وعقابهم، بينما إذ يعلم السلوك الطيب الذي اتبعه العبيد السابقين الذين صاروا مطوبين من سيدهم، تأخذه الغيرة ليحذو حذوهم.

نحن أيضًا كنا عبيدًا، لا لله، بل للأوثان والشياطين. كنا وثنيين، ورجعنا إلى الله بالأمس أو أول أمس. إذن فلنقرأ الكتاب المقدس، ولننظر من فيه قد تبرر، ومن فيه قد دين، لكي نقتدى بالذين تبرروا، ونتحاشى السقوط في أخطاء الذين سُلموا إلى السبي وطردوا بعيدًا عن الله.

التوبة الحقيقية هي أن نقرأ الكتب القديمة (العهد القديم) ونعرف الأبرار ونقتدي بهم، ومن هم الخطاة ونتجنب السقوط في أخطائهم. لنقرأ كتب العهد الجديد وكلمات الرسل. وبعد القراءة نكتب كل ما قرأناه في قلوبنا، ونطبقه في حياتنا حتى لا يُعطى لنا كتاب طلاق، بل نستطيع أن ننال الميراث الأبدي، وعندما تخلص الأمم فإن إسرائيل (بقبولها الإيمان) حينئذ تستطيع أن تخلص، لأن “القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو 11: 25-26)، “ويكونوا رعية واحدة لراعٍ واحدٍ”[98]].

ج. يقول: “إنها نجست الأرض، وزنت مع الحجر ومع الشجر[9].

حين ُخلق الإنسان على صورة الله ومثاله رأى الله كل الخليقة فإذا الكل “حسن جدًا” (تك 1: 31). الإنسان كملك مُقام على الخليقة الأرضية كما في القصر الملكي صاحب سلطان، نقي وطاهر في عيني الله. أما وقد فسد قلبه فتحطمت طبيعته كلها، تنجست حتى الأرض التي خُلقت لأجله.

من أجل الإنسان وُجدت الحجارة أيضًا وكل الأشجار… أما وقد أقام من الحجارة تماثيل يتعبد لها، ومن الأشجار هياكل لمذابح الوثن حُسب بهذا كمن يزني مع الحجارة والأشجار، ففسدت بسببه. الله لم يخلق الطبيعة لكي نتحد بها ونتعبد لها، وإنما لكي نستخدمها فتشترك معنا في التسبيح لله!

أتحب الطبيعة الجامدة؟ استخدمها ولا تجعلها تستخدمك. استعبدها ولا تُستعبد لها. إن استخدمتها تبارك الرب معك، وإن استخدمتك تفسد أنت وهي معًا، وتصير نجسة معك في عيني الله!

د. واضح أن سفر إرميا كله هو دعوة للتوبة والرجوع إلى الله، فنراه هنا يكرر هذه الكلمة “ارجعي” [7]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لا يحزن على خطايانا قدر ما يحزن على عدم رغبتنا في الرجوع عنها بالالتجاء إليه. إنه أب ينتظر أولاده، وعريس سماوي يطلب عروسه.

[الشرور التي ارتكبناها لا تغيظ الله قدر عدم رغبتنا في التغيير؛ لأن من يخطىء يكون قد سقط في ضعف بشري، أما من يستمر في نفس الخطية فإنه يبطل إنسانيته ليصير

شيطانًا. أنظر كيف يلوم الله على فم نبيه العمل الثاني أكثر من الأول[99]].

[ليته لا ييأس أي إنسان يحيا في الشر!

ليته لا يغفو أي إنسان يحيا في الفضيلة!

ليته لا يثق الأخير في ذاته، فغالبًا ما يسبقه الزناة.

ولا ييأس الأول، فإنه يستطيع أن يسبق الأخير…

إن رجعنا إلى محبة الله الغيورة لا نعود نذكر الأمور السالفة.

الله ليس كالإنسان، فإنه عندما نتوب لا يلومنا على الماضي، ولا يقول: لماذا كنتم غائبين كل هذا الزمان الطويل؟

ليتنا نقترب إليه كما يليق.

لنلتصق به في غيرة.

لنسمر قلوبنا بخوفه! [100]]

[لقد جاء كطبيب وليس كديان[101]].

هـ. “لم ترجع… بكل قلبها بل بالكذب يقول الرب” [10].

كثيرون يظنون أنهم يرجعون إلى الرب لا بالتوبة والاعتراف بل بتبرير اخطائهم. لهذا يعلق القديس جيرومعلى العبارة السابقة، قائلاً: [ليتنا لا نفقد بالسلام الفارغ ما قد حفظناه بالجهاد (الحرب الروحية)[102]].

 

طريق التوبة [12-14].

كثيرًا ما يكرر الرب على لسان إرميا النبي الكلمتين: “ارجعي… اعرفي…[12-13].

“لكن ارجعي إليّ يقول الرب” [1].

“فقلت بعدما كل هذه ارجعي إليّ؛ فلم ترجع” [7].

اذهب ونادِ بهذه الكلمات نحو الشمال وقل: ارجعي أيتها العاصية إسرائيل يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب. لا أحقد إلى الأبد. اعرفي فقط إثمك أنكِ إلى الرب إلهك أذنبتِ وفرقتِ طرقكِ للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب. ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب” [12-14].

“ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” [22]

تحدد العبارات الإلهية السابقة مفهوم التوبة في الخطوات التالية:

أ. التوبة هي قبول دعوة الله للنفس بالرجوع إلى محبوبها. فإن الله في حبه للنفس لا يتوقف عن النداء” ارجعي إليّ”. في أحلك لحظات الخطية، وفي وسط قساوة قلوبنا يتطلع الله إلينا ينتظر صرخة قلب خفية، أو نظرة عين نحوه، أو تنهدًا داخليًا، ليحملنا على الاذرع الأبدية. إنه يشتاق إلى رجوعنا وخلاصنا ومجدنا أكثر من اشتياقنا نحن إلى خلاص أنفسنا. لكنه في محبته لا يريد أن يغتصب النفس بغير إرادتها، فأنه يقدس حرية إرادتها ويكرم إنسانيتنا!

ب. اكتشاف شخص الله: “لأني رؤوف يقول الرب، لا أحقد إلى الأبد”. كثيرًا ما يشوه العالم صورة الله بإظهاره ديانًا قاسيًا، لا يترفق بضعفنا… يعيش في سمواته ولا يشعر بنا نحن في أرضنا. إنه رؤوف، يعين المجربين، ويسند طالبي الرجوع التائبين!

يؤكد الله اخلاصه وحبه، فقد تخونه عروسه، لكنه يبقى الإله الرءوف المخلص لها. يغضب لتأديبها، لكن ليست هذه هي كلمته الأخيرة، فإنه كما يقول: “لا أحقد إلى الأبد”.

ج. اكتشاف حقيقة ضعفنا: “اعرفي فقط إثمك”. لتحكم النفس على ذاتها، وتعترف بإثمها، فتجد مخلصها الرؤوف يبررها. لا طريق للخلاص دون اعتراف الإنسان بخطاياه، لأنه كيف يلتقي المريض بالطبيب ويتجاوب مع مشورته ما لم يشعر بمرضه! مسيحنا هو مخلص الخطاة، نكتشف خطايانا فنشعر بحاجتنا إليه!

إننا نحتاج إلى جلسات هادئة مع الله لكي يكشف روحه القدوس لنفوسنا ضعفاتها دون أن يفقدها رجاءها. يقول القديس يوحنا كاسيان: [بمقدار ما يتقدم عقل الإنسان ويمتد نحو الصفاء والنقاوة في التأمل يظهر له دنسه وعدم نقاوته.

عندما يرى ذاته في مواجهة مرآة الطهارة الحقة!

لأنه كلما ترتفع النفس إلى تاوريا (تأمل) أعلى، وتمتد إلى الأمام، تتوق إلى أمور أعلى من التي نفذتها، حينئذ تتأكد من حقارة الأشياء التي تؤديها وتفاهتها، لأن النظرة الحاذقة تكشف خبايا كثيرة. والحياة التي بلالوم تنشئ حزنًا عميقًا على ما يفرط من

الخطايا[103]].

د. إدراك أن كل خطأ في الحقيقة موجه ضد الله: “إلى الرب إلهك أذنبت” [13]. وكما يقول داود النبي في مزمور التوبة: “لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت” (مز 51)، حتى وإن كانت الخطية في الفكر لم تؤذِ أحدًا. لأن كل خطية هي كسر لوصية الله الذي يريدنا أن نتشكل على صورته ونصير على مثاله: “ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب” [13].

هـ. ادراكنا لموقفنا أو مركزنا كبنين، فإنه ما أصعب أن ُيهان الشخص من ابنه؟! “ارجعوا أيها البنون العصاة” [14].

و. ثقتنا في المخلص كأبٍ قادر أن يشفي جراحاتنا، وينزع عنا طبيعة العصيان: “ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” [22].

من هم هؤلاء البنون العصاة الذين يطالبون بالرجوع إلى الله؟

يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمنين قد صاروا أبناء الله، لكن أحيانًا بعد تمتعهم بالبنوة – خلال المعمودية – يعصون الله أبيهم، ومع هذا يدعوهم إلى الرجوع إليه… أبواب التوبة مفتوحة أمام الجميع!

غلق أبواب التوبة أمام أي إنسان بدعة تقاومها الكنيسة، وقد كتب آباء كثيرون في هذا الموضوع، منهم القديس كبريانوس الذي كتب مقالين عن التوبة موضحًا أن الكنيسة مثل عريسها عملها أن تحل دون أن تغلق الباب في وجه أحد[104]. واستخدم القديس جيروم بعض عبارات من سفر إرميا (3: 29؛ 8: 4) في رسالته إلى مارسيلا ليوضح كيف تفتح الكنيسة أبوابها للتوبة كل يوم، بينما يغلق أتباع ماني باب الكنيسة أمام البعض لأخطاء معينة ارتكبوها[105].

يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: “ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم”[22]، قائلاً:

[في بدء قراءاتنا هذا اليوم، يقول الرب لبني إسرائيل: “تدعينني يا أبي، ومن ورائي لا ترجعين. حقًا إنه كما تخون المرأة قرينها هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب[19-20]. بعدما قيل هذا الكلام الذي يخص إسرائيل يتوجه الروح القدس إلينا نحن أيضًا بني الأمم ويقول: “ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” [22]. فإننا نحن المقصودون بالناس المملوئين عصيانًا (جراحات). يمكن لكل واحد منا أن يقول: “نحن الذين كنا قبلاً، نحن أيضًا كنا غير مؤمنين، أغبياءً، ضالين، عبيدًا للشهوات والأهواء المتنوعة، نحيا في الشر والشهوة، مُبغضين ومبغضين بعضنا بعضًا، ولكن حين أُظهر صلاح مخلصنا الله وحبه للبشر سكب رحمته علينا بنعمة الميلاد الجديد”.

إذ ذكرت هذا القول للقديس بولس الرسول أحاول شرحه بأكثر وضوحٍ. فإنه لم يقل “نحن الذين كنا قبلاً أغبياء” بل قال القديس بولس ابن إسرائيل الذي كان من جهة الناموس بلا لوم: “نحن الذين كنا قبلاً نحن أيضًا”، أي “نحن أيضًا بنو إسرائيل” “كنا غير مؤمنين، أغبياء“. لم يكن بنو الأمم وحدهم أغبياء، ولم يكونوا وحدهم غير مؤمنين، ولا وحدهم خطاة، وإنما نحن أيضًا الذين استلمنا الشريعة كنا كذلك قبل مجيء السيد المسيح.

بعد هذا الكلام الموجه إلى إسرائيل، قيل لنا نحن أبناء الأمم:

“ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم”.

لكن قد يقول قائل: “إن هذا الكلام موجه إلى إسرائيل وها أنت تطبقه على الأمم”.

إنني أوضح أنه عندما يوجه الله إلى إسرائيل حديثًا يختص بالتوبة والرجوع، لا ينتظر كثيرًا ليضيف كلمة “إسرائيل”، وإنما يبدأ بها في الحال، فقد قيل بعد ذلك:

“إن رجعتِ يا إسرائيل يقول الرب،

إن رجعت إليّ،

وإن نزعت مكرهاتك من أمامي، فلا تتيه.

وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،

فتتبرك الشعوب به وبه يفتخرون” (4: 1-2).

إذًا الفقرة الأولى موجهة إلى أبناء الأمم والشعوب، ثم بعد ذلك إلى إسرائيل، لأنه القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم. وهكذا سيخلص جميع إسرائيل، حسبما قال الرسول في رسالته إلى أهل رومية (رو 11: 25-26).

أنظر كيف يدعونا الله، إن رجعنا فلنرجع بالكامل، حيث يعدنا أنه إذا رجعنا إليه بالتوبة يشفي جراحاتنا (عصياننا) بالمسيح يسوع. ونحن أيضًا بلا انتظار ولا تأخير نجيب مثل إسرائيل ونقول: “ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا” [22].

يقول الرب: “ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم“، ويجيب بنو الأمم: “سنكون عبيدًا لك أنت”، نحن الذين كنا قبلاً عبيدًا للشيطان ولقوات الشر…

الآن بعدما دعوتنا للتوبة نجيب: “ها قد أتينا إليك[22]، لأننا لم نكن ننتظر إلا شيئًا واحدًا: دعوتك.

إننا على عكس الذين دعوتهم فقدموا لك أعذارًا، نحن إذ ُدعينا لم نعتذر.

هذا ما نجده فعلاً في أمثال الإنجيل، فإن الذين دُعوا أولاً كانوا يقولون واحدًا بعد الآخر: “إني اشتريت حقلاً، وأنا مضطر أن أخرج وأنظره؛ أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها، أسألك أن تعفينى. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء” (لو 14: 18-20).

ليس هذا هو أسلوبنا نحن أبناء الأمم، أن نُدعى فنعتذر.

لماذا نعتذر؟ ما هو هذا الحقل الذي يشغلنا؟ وأية زوجة تشغلنا؟ حقًا ماذا يمكن أن يشغلنا؟

إذن، إذ يقول الله لنا: “ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” ننظر إلى جراحاتنا، وإلى الوعد بالشفاء ونجيب حالاً، قائلين: “ها قد أتينا إليك، لأنك أنت الرب إلهنا”. لنتذكر اننا بهذه الكلمات نقيم عهدًا مع الله، فلا نكون لآخر غيره،؛ لن نكون ملكًا لأفكار الغضب، ولا لأفكار الكآبة، ولا لأفكار الشهوة؛ لن نصير ملكًا للشيطان ولا لجنوده. بل بالعكس، دُعينا فأجبنا: “ها قد أتينا إليك”.

لنُثبت بأفعالنا أننا ِملكٌ له وحده، ونضيف: “لأنك أنت الرب إلهنا”. فإننا لا نعرف لأنفسنا إلهًا آخر. ليست البطن إلهًا لنا مثل الذين قيل عنهم: “الذين آلهتهم بطونهم”، ولا الفضة ولا الطمع.

يلزمنا ألا نقيم إلهًا، ولا نؤله شيئًا مما يؤلهه الناس، لكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو “إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (أف 4: 6). وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، نقول: “ها قد أتينا إليك لأنك أنت الرب إلهنا“[106]].

 

بركات الرجوع إلى الله [15-25].

إذ يدعونا الله يكشف عن بركات الرجوع إليه ممتزجة بخطورة البعد عنه.

يمكن تلخيص بركات الرجوع إليه في الآتي:

أولاً: يضمنا إلى كنيسته (صهيون الجديدة)”

“لأني سُدت عليكم فآخذكم واحدًا من المدينة، واثنين من العشيرة، وآتى بكم إلى صهيون” [14].

إن كانت الدعوة عامة موجهة إلى كل الشعب، لكنها أيضًا شخصية؛ في وسط رغبته في اقتناء كل الشعب يقبل واحدًا من وسط مدينة بأكملها أو اثنين من عشيرة. أنه لا يحتقر نفسًا واحدة راجعة إليه، ولو رفضته المدينة كلها. ففي وقت ما كان العالم كله وثنيًا ماعدا إبراهيم وسارة زوجته، ومع هذا دعاهما إليه ليقيم من نسلهما شعبًا مقدسًا وكنيسة طاهرة!

الله يطلب رجوعك إليه لكي يدخل بك إلى صهيون، كنيسته التي افتداها بدمه، يقيمك عضوًا في جسده المقدس، ويؤهلك لشركة الميراث الأبدي.

إن فسد العالم كله، فهو لا يزال ينتظرك باسمك ليدخل بك إلى مجده.

لا تقل مع إيليا النبي في يأس: “قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها” (1 مل 19: 14)، فقد أبقى الله له سبعة آلاف كل الركب التي لم تجث للبعل وكل فم لم يقبله (1 مل 19: 18)… وإن كنت وحدك، فمن أجلك أنت مات المسيح ليخلصك.

ثانيًا: يُرسل فعلة مقدَّسين له، لهم معرفة روحية:

“وأعطيكم رعاة حسب قلبي، فيرعونكم بالمعرفة والفهم” [15].

حين يرجع الشعب إلى الله، يغير الله على كنيسته فيُرسل رعاة حسب قلبه، لهم معرفة روحية وفهمًا صادقًا، يقودون الشعب بروح الله إلى الحياة السماوية.

لا تدن الخدام، فإن توبتك تحرك السماء عينها ليرسل فعلة مقدسين لخدمة البشرية! عوض إدانة الآخرين ندين أنفسنا، ونحسب قساوة قلب الخدام هي بسببنا… علامة غضب الله علينا، يسمح لهم بالخدمة لتأديبنا!

لعله من أهم صفات الخادم النقي، الذي له روح سيده، هو تمتعه بالمعرفة والفهم! يقدم مرعى المعرفة للشعب، فلا يخدم بروح التسلط والعنف في جهالة وغباوة.

يحسب أباء مدرسة الإسكندرية “المعرفة” أعظم هبة يقدمها السيد المسيح لعروسه حين يرفعها بروحه القدوس إلى حجاله، حيث يكشف لها عن أسرار الكلمة، ويدخل بها إلى سر معرفته.

ثالثًا: الثمر المتكاثر:

“ويكون إذ تكثرون في الأرض في تلك الأيام يقول الرب…” [16].

كثيرون يظنون أن الرجوع إلى الله مضيعة للوقت وتحطيم للطاقات، ناظرين إلى الصلاة كأنها عمل باطل، والصوم حرمانًا، والتسابيح والعبادة الجماعية خسارة… ونسى هؤلاء في حياتهم عنصر “البركة”. رجوعنا إلى الله يعني دخول “البركة” في وقتنا وكلماتنا وتصرفاتنا حتى الزمنية، فيصير كل ما في أيدينا مباركًا ومتزايد ثمرًا.

بسبب يوسف بارك الرب بيت فوطيفار، وبسبب إبراهيم بارك الله شعبًا عبر الأجيال حتى بعد موته! وبظل بطرس الرسول أُنقذ كثيرون من أرواح شريرة، وبمناديل وعصائب بولس الرسول شفى كثيرون!

برجوعك تتبارك، بل وتصير بركة لمن هو حولك، بل ومثمرًا حتى بعد رحيلك!

رابعًا: يرجع إلينا بنفسه:

“لا يقولون بعد تابوت عهد الرب، ولا يخطر على بالٍ ولا يذكرونه، ولا يتعهدونه، ولا يُصنع بعد” [16].

بمعنى آخر يصير القاء مع الله لا خلال الرموز كتابوت العهد، وإنما يتحقق لقاءٌ حقٌ… يسكن الله وسط شعبه، ويدرك المؤمن حضرة الرب في أعماقه.

كان تابوت العهد بما يحويه من لوحيّ الشريعة وقسط المن يشير إلى الحضرة الإلهية وسط شعبه، خاصة في فترة التِيه فيالبرية وبداية الاستقرار في أرض الموعد. الآن وقد جاء كلمة الله نفسه، الخبز النازل من السماء، لم تعد هناك حاجة إلى تأكيد الحضرة الإلهية… إنه يسكن وسط شعبه ويحل في قلوبهم[107].

خامسًا: رجوع الأمم إليه:

لم تعد هناك حاجة إلى تابوت العهد لتأكيد الحضرة الإلهية، إذ صارت أورشليم – مدينة الملك العظيم – جذابة للأمم. يأتي البشر من كل أمة ولسان ليروا أورشليم العليا أمنا، يعيشون فيها، ويحملون سماتها، قائلين مع الرسول: “أجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 6).

إذ يطلب الله رجوع شعبه القديم إليه يعلن لنبيه عن رجوع الأمم، وقبول الشعوب الإيمان به. “ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير” [17].

مع توبتك تجتذب كثيرين إلى الرب وتدخل بهم إلى سمواته!

ضعفنا وشرنا يقف عائقًا في طريق خلاص الكثيرين، إذ ُيجدف على اسم الله بسببنا، أما رجوعنا القلبي والعملي إلى الله فيسحب الكثيرين إليه. 

نلاحظ هنا أن الله يرفع انظارهم من الرجوع من السبي كبركة إلهية إلى ما هو أعظم، وهو رجوع الأمم من سبي الخطية وعدم الإيمان إلى كنيسة المسيح، أرض الموعد الجديدة.

سادسًا: الشفاء من طبيعة الفساد العاملة فينا:

“ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم” [22]. ويقول المرتل التائب: “قلبًا نقيًا أخلقه فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي” (مز 51: 10).

الراجع إلى الله يشعر بعمل روح الله القدوس اليومي لتجديده المستمر، حتى يصير على مثال الله!

أخيرًا بعدما تحدث عن بركات الرجوع إلى الله أشار إلى خطورة العصيان والإصرار على العناد والتمسك بالشرور، أو خيانة الإنسان أو الجماعة لله:

أولاً: “سُمع صوت على الهضاب بكاء تضرعات بني إسرائيل، لأنهم عوَّجوا طريقهم، نسوا الرب إلههم[21].

في الموضع الذي كانوا يصنعون فيه الرجاسات، أي في الهضاب، يُسمع صوت نحيبهم، حيث يُساقون إلى السبي في مذلة.

لا تقدر الخطية أن تهب الإنسان فرحًا حقيقيًا، بل تخدره إلى حين ليجد نفسه قد فقد سلامه الداخلي وفرحه وحياته نفسها. هذا هو ثمر الدخول في الطريق المعوج ونسيان الرب إلهنا!

ثانيًا: يدخل إلى الباطل لا إلى الحق:

“حقًا باطلة هي الآكام ثروة الجبال؛ حقًا بالرب إلهنا خلاص إسرائيل” [23].

هنا يقارن بين عبادة الأوثان على الآكام والجبال التي يحسبها الأشرار ثروة وغنى للنفس، حيث يجدون الطريق الواسع والحياة السهلة، وبين خلاص الرب إلهنا.

تُقدم العبادة الوثنية طريقًا سهلاً لكنها طريق باطلة، أما طريق الرب الضيق ففيه الخلاص الحق.

الترجمة الحرفية لكلمة “آكام” هنا تعني “الخلاعة”، فهي تقدم ما هو باطل، أما الرب فيقدم لنا الحق.

يرى العلامة أوريجينوس[108] أن الأمم كانوا يعبدون نوعين من الآلهة: يعبدون أناسًا صاروا آلهة، هؤلاء يُرمز لهم بالآكام؛ ويعبدون آلهة يرونها هكذا بالطبيعة، هذه يُرمز لها بالجبال.

[الذين يتعبدون لهذه الآلهة لا يدركون أنها آلهة كاذبة، بل يظنون أن وحيها وحيّ حقيقي، وأنها تُقدم شفاءً حقيقيًا، دون أن يدركوا الفارق بين عمل الشيطان بقوةٍ وآيات وعجائب كاذبة وكل خديعة الإثم في الهالكين (2 تس 2: 9)، وبين قوة الحق وعجائبه.

ما كان يفعله يسوع المسيح كان من عجائب الحق،

وما كان يفعله موسى أيضًا هو من قوة الحق (باسم الله

أما ما كان يفعله المصريون فكان آيات وعجائب كاذبة، وذلك كما كان يفعل سيمون الساحر الذي كان يُدهش شعب السامرة، حتى قالوا عنه: هذا هو قوة الله العظيمة (أع 8: 10)، مع كونها قوات وآيات وعجائب كاذبة].

هذه هي خطورة الخطية، ُتفقد الإنسان قدرته على تمييز ما هو باطل أو كذب وما هو حق! تفقده روح التمييز الداخلي.

ثالثًا: الدخول إلى الخزي والعار:

“وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا،

غنمهم وبقرهم،

بنيهم وبناتهم.

نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)،

لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا،

منذ صبانا إلى هذا اليوم،

ولم نسمع لصوت الرب إلهنا” [24-25].

لا يقف عمل الخطية عند فقدان السلام الداخلي وتحطيم روح التمييز ليعيش الإنسان يتخبط، يظن الحق باطلاً، والباطل حقًا، الحياة الزمنية خالدة، والسماء خيالاً، وإنما تدخل به الخزي (bosheth) الذي يحطم كل تعبه منذ صباه.

يقول سليمان الحكيم: “البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية” (أم 14: 34). وعندما دخل الشعب أرض كنعان وقدموا عبادة مقدسة، ُدعى الموضع “الجلجال”، ويعني “الدحرجة” إذ دحرج عنهم العار (يش 5: 9)، عار العبودية رمز الخطية.

لقد دعى شاول ابنه “ايشبوشث” (2 صم 2: 8)، أي “رجل العار”… هذا هو ثمر الخطية!

تكمن خطورة الخطية في كونها مخادعة. بينما تدفع النفس إلى الخزي والعار، يفتخر البعض بها، ويحسبونها مجدًا لهم… عوض أن يقفوا فيخزي وعارٍ أمام الله، وقدام أنفسهم يعترفون بما حلَّ بهم بسبب خطاياهم. بمعنى آخر بالتوبة والاعتراف نضرب عار الخطية وخزيها بشعورنا بالخجل والخزي والعار!

يقول العلامة أوريجينوس:

[“وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا…” [24]. يجب أن يكون هناك خزي حتى يأكل التعبالباطل والأعمال الكاذبة التي لآبائنا، فإنه بدون الخزي لن ُتستهلك (تنتهي) هذه الأعمال الباطلة والكاذبة…

يوجد خطاة ليس عندهم خزي ولا حياء من خطاياهم، إذ لا يخجلون منها. هؤلاء هم الذين فقدوا كل حس وأسلموا لكل نجاسة.

إنكم ترون بالفعل كيف تستعرض الشعوب الأممية أحيانًا قائمة فسقهم وزناهم، ويفتخرون بها كما لو كانت أعمال بطولة، دون أن يخجلوا من ممارستهم هذه الأعمال، ودون أن يطلقوا عليها “خطايا”. ما دام ليس عندهم “الخزي” لن تُؤكل (تُمحى) خطاياهم.

بداية الصلاح هو الشعور بالخجل مما كنا لا نخجل منه قبلاً[109]].

ما هو غنم الآباء وبقرهم الذي يأكله الخزي؟

يقول العلامة أوريجينوس: [يُطلق على التصرفات غير العاقلة التي يمارسها الآباء غنمًا وبقرًا.

الخليقة غير العاقلة (الحيوانية) ليست ممدوحة على الدوام، إذ توجد كائنات غير عاقلة ملومة، مثل “غنم الآباء الذين أخطأوا“. وتوجد حيوانات ممدوحة ومطوّبة، هذه التي يُقال عنها: “خراف يتسمع صوتي”.

حينما يقول المخلص: “أنا هو الراعي الصالح” يلزمنا ألا نفهم ذلك بطريقة عامة كما يفعل الجميع، حاسبين أنه راعي المؤمنين وحدهم دون الخطاة. إنما يلزمني كخاطي أن أقبل السيد المسيح في داخل نفسي. أقبل الراعي الصالح فيّ، الراعي الصالح القادر بعصا رعايته أن يسيطر على تصرفاتي غير العاقلة، فلا يسمح لها أن تخرج كما تشاء وحيثما تشاء، لكنها تحت قيادة الراعي تصير تصرفات سليمة. “فلستم إذا بعد غرباء، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف 2: 19).

هكذا، إذا كان الراعي في داخلي فإنه يقود حواسي، فلا تخضع قط لفكر غريب؛ لا تخضع لفرعون ولا لنبوخذنصر، وإنما للراعي الصالح![110]].

إذن مادام يوجد في حياتي الداخلية كما في سلوكي غنمات ضالة وبقر كثير شارد، بالتوبة الصادقة والاعتراف الصريح أشعر بالخزي فتؤكل الحيوانات الفاسدة، ليقيم الراعي الصالح فيّ غنمات مقدسة تحت رعايته الشخصية.

كان لبني إسرائيل غنم وبقر، إذ كانوا يتكلون تارة على فرعون مصر وأخرى على ملك بابل… لنطلب راعي نفوسنا الحق، ولنحتمي فيه، فهو وحده قادرعلى رعايتنا وحمايتنا من كل تجارب عدو الخير القاتلة.

ماذا يُقصد بالبنين والبنات الذين يأكلهم الخزي؟

كثيرًا ما يفسر العلامة أوريجينوس[111] البنين كثمار النفس وأفكارها، والبنات كأعمال الجسد وأفكاره… إذن بخزي التوبة تؤكل أفكار النفس الفاسدة وأعمال الجسد الشريرة، ليقيم لنا الرب المخلص بروحه القدوس ثمرًا مقدسًا للنفس والجسد معًا!

ماذا يُقصد بالخجل الذي يغطينا كما ببرقع؟

يقول العلامة أوريجينوس:

[“نضطجع فيخزينا ويغطينا خجلنا (ببرقع)” [25].

اعتدنا أن نتحدث عن البرقع الموضوع على وجه الذين لا يرجعون إلى الرب. بسبب هذا البرقع الموضوع على قلوبهم لا يفهم الخطاة حين يُقرأ موسى (2 كو 3: 15). لهذا نقول إن الخزي هو هذا البرقع.

مادام لدينا أعمال الخزي، يوجد عندنا البرقع دون شك، وذلك كما قيل في المزمور: “وخزي وجهي قد غطاني (ببرقع)” (مز 44: 15).

أما الذين لا يمارسون أعمالاً مخزية فلا يكون عندهم البرقع. هذا ما يقوله بولس الرسول: “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة” (2 كو 3: 18).

إن كنا نريد أن ننزع البرقع الناجم عن الخزي فلنعمل الأعمال المجيدة، ولنضع كلمات المخلص هذه في أذهاننا: “حتى أن الجميع يمجدون الابن كما يمجدون الآب”، وكلمات بولس الرسول: “بتعدينا الناموس نهين الله”.

في مقدرتنا نحن أن ننزع البرقع وليس في مقدرة أحد غيرنا. فعندما كان موسى يتوجه إلى الله كان بالفعل يرفع البرقع.

لم يأمر الله موسى قائلاً له: غطِ نفسك ببرقع”، وإنما لما رأى موسى الشعب عاجزًا عن النظر إلى مجده وضع برقعًا على وجهه. ولم ينتظر أيضًا أن يقول له الله في كل مرة كان يتحدث فيها معه: “انزع البرقع”.

إذن كُتب هذا حتى ترفع أنت أيضًا بدورك برقع أعمالك المخزية الذي وضعته على وجهك، وذلك متى اتجهت بنظرك إلى الرب؛ وإذ تنزع البرقع لا تعود تقول: “يغطينا خجلنا (ببرقع)”.

على سبيل المثال، عندما يستقر الغضب في نفوسنا، يكون مثل برقع موضوع على الوجه. وعندما نردد القول في صلاتنا: “قد أضاء علينا نور وجهك يا رب” (مز 4)، نرفع البرقع، وننفذ ما يقوله الرسول: “فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان، رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1 تي 2: 8). فإذا نزعنا الغضب نكون قد رفعنا البرقع؛ وهكذا أيضًا بالنسبة لجميع الخطايا.

طالما وُجدت الخطايا في فكرنا يكون البرقع موجودًا على وجوهنا الداخلية بصورة تحجب عنا رؤية مجد الله المضيء.

الله لا يخفي عنا مجده، إنما نحن بوضعنا برقع الخطية على نفوسنا نحرم أنفسنا

من رؤية مجد الله[112]].

إذن بالتوبة والاعتراف نشعر بالخزي فتُنزع من داخلنا الحياة الحيوانية غير العاقلة، فيؤكل غنمنا وبقرنا، ويسكن راعينا في القلب ليرعى غنمًا روحيًا جديدًا، ويقيم ملكوته فينا.

بالتوبة الصادقة يقدّس روح الله القدوس أولادنا وبناتنا، أي أعمال النفس والجسد معًا، فيكون لنا الفكر المقدس والأحاسيس الملتهبة بنار حبه والتصرفات اللائقة كأولاد لله.

بالتوبة الصادقة يرفع روح الله عن قلوبنا برقع الخزي والعار فنرى مجد الله، وندرك أسراره الفائقة السماوية.

هذا هو طريق التوبة، الذي فيه نصرخ، قائلين:

“لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم، ولم نسمع لصوت الرب إلهنا” [25].

يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة، قائلاً:

[هل يمكننا نحن أيضًا أن نقول كما قال هؤلاء: إننا أخطأنا؟ هذا يختلف عن القول: “لقد أخطأنا ونخطئ”. فمن لا يزال في خطيته لا يقول: “لقد أخطأنا”.

لكن ينطق بهذا من أخطأ وقد تاب توبة حقيقية.

يوجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة لأناس لم يعودوا يخطئون، ومع هذا يقولون: “لقد أخطأنا، لقد تعدينا شريعتك”، كما جاء في دانيال. كذلك يقول داود النبي: “خطايا شبابي وجهلي لا تذكر”.

فلنعترف إذن بخطايانا، ليس خطايا الأمس وأول أمس فحسب، وإنما تلك التي مرَّ عليها 15 عامًا دون أن نكون قد ارتكبنا أية خطية خلال هذه السنوات الـ 15…

إن ذهبنا لنعترف بخطايا الأمس فقط نكون غير صادقين في توبتنا، “لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا نحن وآباؤنا منذ صبانا إلى هذا اليوم”

تستلزم الجراحات وقتًا قبل أن تُشفى، هكذا أيضًا بالنسبة للرجوع، فإن الرجوع الكامل النقي إلى الله يتطلب أيضًا بعض الوقت[113]].

نختم حديثنا هنا عن التوبة والاعتراف بالعبارات الآبائية التالية:

v     أول طريق التوبة هو إدانتنا لخطايانا[114].

v     من يمارس التوبة بعدما يخطئ يستحق تهنئة لا الحزن عليه، إذ يعبر إلى خورس الأبرار[115].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v      لينتبه (الخاطئ) إلى خطورة الجرح،

ولا ييأس من عظمة الطبيب.

الخطية مع اليأس هي موت أكيد…[116]

القديس أغسطينوس 

من وحيّ إرميا 3

ارجعي أيتها العروس إلى القدوس!

v     ارجعي… ارجعي أيتها العروس إلى القدوس.

إنه يفتح أحضانه ليردكِ إليه،

لا يعاتبكِ أيتها الخائنة، بل يرد لك فرح عُرسك!

v     أي رجل يقبل زوجته الخائنة بعد طلاقها؟!

لقد خنتيه، إذ أقمتِ في داخلكِ آلهة غريبة!

صار لكِ في أعماقكِ أصحاب زناة كثيرين.

جلستِ كما في الطرقات ولم تخجلي من زناكِ.

أحببتي يا نفسى العالم أكثر منه!

انشغلتي بأمور كثيرة وتجاهلتيه!

صار المحبوب العجيب آخر الكل في عينيك!

هوذا الطبيعة الجامدة تشهد عليك!

v     هوذا عريسك ينتظرك يا نفسى!

إن غضب، فلرجوعكِ وخلاصكِ!

دخل بكِ إلى صهيون السماوية، حجاله الأبدي!

يهبك كل ثمر روحي، ويقدم لك معرفة إلهية!

يجعلكِ بركة لكثيرين!

ويقدم نفسه لك ميراثًا!

يشفي طبيعتكِ ويجددها!

 ماذا تطلبين بعد يا من حطمكِ الكبرياء والعصيان!

v     أذكري يا نفسي ماذا فعلت بكِ الخطية:

قدمت لكِ اللهو إلى حين لتبكى بمرارة بلا انقطاع!

أعطتكِ أمورًا زمنية لكنكِ صرتِ أنت باطلة!

حولتكِ إلى الخزي كبرقعٍ على وجهك فلا ترين بهاء مجد عريسك!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى