تفسير المزمور 141 للقمص تادرس يعقوب ملطي
احفظني من الشر والشرير!
كُتب مزمور المرثاة هذا أثناء تمرد أبشالوم بن داود أو أثناء اضطهادات الملك المتهور شاول له أو لسبب آخر. وكان يُرنم به في كل مساءٍ مع إنارة المصابيح (قابل خر 30:7-8؛ دا 9:21).
إن كان هذا المزمور قد ترَّنم به داود النبي وهو في ضيقة، فهو يعلم أن وراء المتاعب مشورات شريرة تصدر عن أناسٍ أشرارٍ. وفي نفس الوقت إذ يئن من هذه المشورات الشريرة، يخشى لئلا يسقط هو نفسه في النطق بكلمات شريرة، لذلك يطلب من الله أن يقيم بابًا على فمه، ويحفظه من كل كلمة شريرة.
وفقًا لكلمات القديس يوحنا الذهبي الفم كان هذا المزمور يُستخدم في الصلاة المسائية في العالم أجمع. ذلك لأن المسيحيين اعتادوا على فحص قلوبهم وتصرفاتهم يوميًا، ولعل ما كانوا يخشونه بالأكثر هو صدور كلمات شريرة من أفواههم، كتعبيرٍ عن غضب في الفكر أو القلب، وحتى لا تتحول الكلمات إلى سلوك شرير.
تقديس الجسد مع النفس
يدعونا الرسول بولس أن نقدم أجسادنا ذبيحة مقدسة حيّة عقلية مرضية لدى الله (رو 12: 1-2)، فنرد الحب بالحب، وذبيحة المسيح الفريدة بذبيحة الحب والقداسة. فتتحول كل أعضائنا للعمل لحساب الله: أصواتنا بالصراخ إليه والصلاة [1-2]؛ وأيادينا برفعها قدامه [2]؛ وأفواهنا وشفاهنا [3-4]؛ ورؤوسنا [5-7]؛ وأعيننا [8-10].
بعد طلب العون الإلهي بوجه عام [1] يتضرع المرنم [2]، لئلا يضل بغواية الأشرار الذين نهايتهم الهلاك [3 -7]، والذين يضرهم شرهم [8-10].
1. صراخ إلى الرب |
1 –2. |
|
2. ضع حارسًا لفمي |
3 –5. |
|
3. الإيمان التام |
6 –10. |
|
من وحي المزمور 141 |
العنوان
مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
1. صراخ إلى الرب
يَا رَبُّ إِلَيْكَ صَرَخْتُ.
أَسْرِعْ إِلَيَّ.
أَصْغِ إِلَى صَوْتِي،
عِنْدَمَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “يا رب إليك صرخت، فاستمعني. أنصت إلى صوت تضرعي، إذا ما صرخت إليك”.
في دالة عجيبة يفتح داود النبي والملك هذا المزمور بدعوة الله السماوي أن يسرع إليه، وينصت إلى صوت صراخه. يشعر المرتل بأن صلاته أشبه بطائر منطلق إلى السماء، وتبلغ إلى عرش الله.
* إن انتهى الضيق، ينتهي الصراخ. لكن إن كانت الضيقة تلازم الكنيسة، جسد المسيح، حتى نهاية العالم، فلا يُقال فقط: “إليك صرخت”، وإنما يُقال أيضًا: “أنصت إلى صوت تضرعي” [1].
القديس أغسطينوس
* حينما صرخ موسى إلى الله سأله الله على الفور: لماذا تصرخ إليَّ؟ (خر 14: 15). بينما كان موسى يصلي في صمت، كان الله يسمعه. ولم يسجل الكتاب المقدس ما قاله موسى، فقط قال إنه كان يصرخ.
وتصرخ دماء الشهداء أيضًا على الدوام إلى الرب وهو يصغي برأفته…
فلنحذر ألا نخفق في إدراك أن أنفس الصديقين هي في مذبح الرب [2].
القديس جيروم
* يشير هنا إلى الصرخة التي في الداخل، التي يُصدرها القلب الملتهب، والتامة، والتي بسببها سُمع لموسى عندما صرخ.
بمعنى آخر كما أن الشخص الذي يصرخ يستنزف كل طاقته، هكذا من يصرخ في القلب يجمع كل قوى الفكر. لذلك ينظر الله إلى مثل هذه الصرخة التي تجمع كل تحركات القلب ولا تسمح بالتشتيت أو إعاقة من جانب المُسَّبح.
ليس فقط يتطلع الله إلى مثل هذه الصرخة، وإنما إلى توجيه الصلاة إليه أيضًا. فإنه يوجد كثيرون يقفون للصلاة، لا يرفعون صراخهم لله، إذ بينما تصرخ شفاههم لله، ويتبادلون فيما بينهم اسم الله، لا تتناغم عقولهم مع كلماتهم. مثل هذا الإنسان لا يصرخ، حتى وإن صرخ بصوتٍ عالٍ. ومثل هذا لا يصلي لله حتى وإن بدا كمن يصلي إليه…
تذكروا على وجه الخصوص أن الشيطان يتربص منتظرًا؛ فهو يعلم أن الصلاة هي أعظم سلاح. فإنه وإن كنا خطاة ومعيبين، فإننا نحصل على إحسانات عظيمة بالصلاة بمواظبة مع حفظ نواميس الله. ففي هذا الوقت يكون متلهفًا أن يسحبنا إلى عدم المبالاة، ويميل بتفكيرنا حتى نفسد الصلاة وتكون بلا نتيجة [3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إذا كانت الطلبة بصراخٍ إلى الله، أي بحرارة قلب بالفكر وفي القول، وبورعٍ وتقوى ومداومة، ولا تلتمس شيئًا من الدنيويات الفانيات، بل تطلب ما يؤول إلى خلاص النفس، والخيرات الدائمة الباقية، يستجيبها الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لِتَسْتَقِمْ صَلاَتِي كَالْبَخُورِ قُدَّامَكَ.
لِيَكُنْ رَفْعُ يَدَيَّ كَذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ [2].
إن كان بدالة الحب يرى المرتل صلاته أشبه بطائر ينطلق بقوة نحو السماء لتبلغ إلى عرش الله، فإنه يحسبها أيضًا أشبه بتقدمة بخور ذات رائحة ذكية تصعد قدام الله، يشتمها رائحة رضا وسرور. ويحسب رفع يديه في نظر الله ذبيحة مقبولة لديه.
هذه العبارة لها طعم خاص، تستخدمها الكنيسة في ليتورجياتها، ويجد المؤمنون لذة في ترديدها أمام الله في صلواتهم.
للخدمة المسائية مفهوم خاص، فكما أن السيد المسيح قدم نفسه ذبيحة في ملء الزمان أو في آخر الأيام، كما في وقت المساء، هكذا نرفع أيادينا بالشكر للمخلص مع نهاية اليوم متطلعين إليه كمخلص العالم، الذبيحة الفريدة!
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، مبررًا النقاط التالية:
- يقدم المرتل البخور عن الذبيحة، فإن البخور يُقدم داخل القدس على المذبح الذهبي، بينما الذبيحة تقدم في الخارج على مذبح المحرقة النحاسي.
- لا يمكن تقديم بخور ذي رائحة ذكية ما لم يوقد الفحم، وهكذا لا تصعد الصلاة برائحة ذكية ما لم تصدر عن فكرٍ ملتهبٍ بنار الحب.
- لم يقل “ذبيحة صباحية” وإنما “ذبيحة مسائية”، وهو بهذا يقصد الاثنين، لكنه فضَّل ذكر الذبيحة المسائية، لأن كثيرًا من الشرور كالقتل والسرقةوتدبير المؤامرات الشريرة تكون بالأكثر في الليل، لذا فصلاة المساء في غاية الأهمية حتى ينزع الله هذه الشرور.
* يفهم هذا عادة عن الرأس نفسه، كما يعرف كل مسيحي. لأنه عندما بدأ يحل المساء، فإن الرب المُعلق على الصليب “وضع نفسه ليأخذها أيضًا” (راجع يو 10: 17)، لم يفقدها بغير إرادته. هذا ما يُرمز إليه هنا…
لقد سمر ضعفنا على الصليب، حيث يقول الرسول: “إنساننا العتيق قد صُلب معه” (رو 6: 6). لقد صرخ بصوت إنساننا العتيق: “لماذا تركتني”؟ (مز 22: 1؛ مت 27: 46). هنا الذبيحة المسائية، آلام الرب، صليب الرب، تقدمة الذبيح النافع، المحرقة المقبولة لدى الله. تحققت هذه الذبيحة المسائية في القيامة، الذبيحة الصباحية.
إذن توجهت الصلاة بنقاوة من قلب أمين، وارتفعت مثل بخورٍ من مذبح مقدس.
ليس من شيءٍ أكثر بهجة من رائحة الرب، ليقتنِ كل مؤمن مثل هذه الرائحة [4].
القديس أغسطينوس
* لتتجه صلاته مثل البخور إلى الرب، ولا تسقط نحو الأرض، فإن صلاة الإنسان المقدَّس تخترق السحاب؛ لكن الأرض تفتح فاها وتخفي صلاة الشرير في دم الجسد كما قيل بالله للقاتل قايين: “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك” (تك 4: 11) [5].
القديس أمبروسيوس
* “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك“. إن لم تكن بخورًا بل يصعد منك دخان ومن أعمالك، فأية عقوبة لا تستحقها؟ [6]
* لا يوضع البخور إلا بعد أن تكون المجمرة متقدة مقدمًا، أو يكون الجمر مشتعلًا. هكذا في حالة أذهانكم، لتتقد أولًا بالغيرة، وبعد ذلك قدموا صلواتكم [7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لتكن صلاتي كالبخور قدامك. فلترتفع صلاتي إليك مباشرة، لا شر فيها، أعني لا شيء دنس، لا شيء من عمل الشيطان.
ويمثل البخور أيضًا صلوات القديسين. نعرف ذلك من سفر الرؤيا حيث يمسك الأربعة والعشرون قسيسًا مجامر بخور، وقيل: “التي هي صلوات القديسين” [8].
* يقول الرسول أيضًا: “ارفعوا أيادي للصلاة” (راجع 1 تي 2: 8). عندما رفع موسى يديه كان يشوع ينتصر، وعندما كان يخفضهما كان يشوع ينهزم. إن كنت أفسر الكتاب المقدس بمفهومه التاريخي أو الحرفي، فإن موسى يخفض ذراعيه. وإن كنت أفهمه روحيًا، فموسى يرفع ذراعيه إلى أعلى [9].
القديس جيروم
* الصلاة جيدة وحسنة في ذاتها، ولكن إذا قدمها المصلي بنفسٍ حارة متقدة بالشوق لله، تكون أكثر جودة وجمالًا وقبولًا منه، لأن مقدمها يجعل قلبه مجمرة من ذهبٍ نقي مُحمي.
يطلب النبي أيضًا أن يقبل الله رفع يديه مثل ذبيحة مسائية دائمة القبول. لأن الله أمرنا برفع أيادينا وقت الصلاة، كي نفتكر أن أيادينا تشفع إليه، فنحرسها طاهرة من الاختلاس والضرب وسائر الأعمال المذمومة. حتى تكون لها دالة بالتوسل إليه وبريئة من العيب لدى ارتفاعها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* فليسمع المعمَّدين هذا أيضًا – أجلّ، لأن الأمر متعلق بهم – فهم بالمثل يقدمون قربانًا وذبيحة، أعني صلاة وصدقة، فهذه أيضًا ذبائح. فالنبي يقول في المزمور: “تمجدني ذبيحة تسبيح، وأيضًا الذبيحة لله “ذبيحة تسبيح” و”رفع يديَّ ذبيحة مسائية” (مز 141: 2).
فالصلاة إذن ذبيحة ترفعونها في تعقلٍ، ومن الأفضل أن تتركوا صلاتكم (وتذهبوا لتصطلحوا)، لأنه لهذه الغاية قد صارت كل الأمور، بل ولهذه الغاية قد صار الله إنسانًا، وصنع كل ما عمله ليجمعنا في واحدٍ. لهذا في هذا الموضع يرسل فاعل الشر إلى المظلوم، بينما في الصلاة (الربانية) يقود (الرب) المتألم إلى فاعل الشر ليصالحهما معًا. إذ يقول: “اغفر للناس زلاتهم”. هكذا أيضًا يقول: “إن كان قد فعل شيئًا ضدك، اذهب أنت إليه”، أو بالحري يبدو لنا هنا وهو يرسل المتألم من الأذى [10].
* يُقال: “ليكن رفع يدي ذبيحة مسائية”، لنرفع أيضًا مع أيادينا عقولنا… لنرفع أفكارنا إلى العلي [11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إنه ذاك الذي أسس خدمات الكنيسة المقدسة. وتلك الذبيحة المسائية التي قام هو بنفسه في اليوم التالي في نهاية الدهور، وقدمها للآب لرفع يديه لخلاص العالم كله، إذ بسط ذراعيه على الصليب وهو يُسمي بالفعل “رفع الأيدي” [12].
القديس يوحنا كاسيان
* بعد هذا يشفي الروح حركات اليدين اللتين كانتا تتحركان بطريقة مخلّة تابعة لإرادة العقل. أما الآن فإن الروح يُعلِّم العقل كيف يطهرهما، لكي ما يعمل ويشتغل بهما في عمل الرحمة وفي الصلاة، وبذلك تتم الكلمة التي قيلت عنهما: “ليكن رفع يديَّ كذبيحةٍ مسائَّية” (مز 141: 2)، وفي موضع آخر: “أما يد المجتهدين فتُغني” (أم 10: 4) [13].
القديس أنبا أنطونيوس
* كان من اللائق تقديم ذبيحة في مساء اليوم للمسيح، حتى في ذات الساعة تُظهر عشية العالم كما هو مكتوب في الخروج: “يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية” (خر 12: 6). مرة أخرى في المزامير: “رفع يدي كذبيحة مسائية” (مز 141: 2) لكننا نحن نحتفل بقيامة الرب في الصباح [14].
الشهيد كبريانوس
* إن كان أحد لا توجد فيه الآن رائحة الخطية بل رائحة البرّ، وعذوبة الرحمة، فهو يقدم على الدوام بخورًا للرب، ويقول: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية” (مز 141: 2) [15].
* رفع الأيادي إنما هو رفع كل الأعمال نحو الله، فلا تكون دنيئة ولا أرضية، إنما تعمل لمجد الله والسماء. يرفع يديه من يكنز كنزًا في السماء (مت5: 20، 21)، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا، وهناك أيضًا تكون عيناك ويداك.
يرفع يديه من يقول: “لتكن رفع يديّ كذبيحة مسائية“، بهذا ينهزم عماليق (مز 17: 8-16)؛ لكن الرسول يوصينا أن نرفع “أيادي طاهرة بلا غضب ولا جدال” (1 تي 2: 8)، كما يقول: “قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة، وسيروا في الطريق المستقيم”…
ارفع يديك نحو الله، واحفظ وصية الرسول: “صلوا بلا انقطاع” (1 تي 5: 17) [16].
العلامة أوريجينوس
* أعزائي الأحباء… يوجد البعض يبدو كأنهم يطلبون الرب، ولكن إذ هم كسالى وغرباء عن الفضيلة، لا يستحقون أن يجدوه، وإن وجدوه لا يستحقون أن يروه.
لأنه ماذا كن يطلبن أولئك النسوة الطوباويات عند القبر سوى جسد الرب يسوع!
وأنتم ماذا تطلبون في الكنيسة غير يسوع الذي هو المخلص!
فإن أردتم أن تجدوه، فإذ الشمس مشرقة، تعالوا كما جاءت هؤلاء النسوة، أي اتركوا ظلمة الشر التي في قلوبكم، لأن الشهوات الجسدية والأعمال الشريرة هي ظلمة. فمن كان في قلبه ظلامًا كهذا لا يعاين النور، ولا يدرك المسيح، لأن المسيح هو النور.
انزعوا الظلمة منكم، أي انزعوا الشهوات الشريرة وكل عمل أثيم، وزوِّدوا أنفسكم بالحنوط الطيبة، أي بالصلوات الحارة، قائلين مع المرتل “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك” (مز 140: 2).
* هم الآن يشترون المسيحَ، الذي يمنح الرائحة الذكية (قابل تك 25:37، 2 كو 15:2-16) البخورَ الذي يعبق به مذبحُ القلب المكرس العابد. في هذا الصدد يقول داود أيضًا: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك” (مز 2:141) [17].
القديس أمبروسيوس
* يليق بنا أن نكثر من الصلاة ولكن باختصار، فإننا إذ نطيل الصلاة ينجح عدونا الماكر في زرع شيء ما في قلوبنا.
هذه (الصلوات القصيرة المتعددة) هي ذبائح حقيقية، “فالذبيحة لله روح منسحق” (مز 17:51). هذه هي تقدمات نافعة، تقدمات نقية، أي “ذبيحة البرّ”، “ذبيحة الحمد” (مز 22:50)، محرقات جوهرية، تقدمها قلوب متواضعة منسحقة؛ والذين يختبرون هذا الروح المنضبط والملتهب (للصلاة) الذي تحدثنا عنه بقوة فعّالة يمكنهم أن يسبحوا: “لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية” (مز2:141). لكن اقتراب الساعة المناسبة (للصلاة) وحلول المساء يحثنا على ممارسة هذا الأمر نفسه بتكريس لائق حسبما نستطيع [18].
الأب إسحق
* ينبغي ألا نرفع تقدمات كالتي رُفضت.
ينبغي ألا نقدم لله بازدراء أي ذبائح شكر ومدح، بل تقدمة الصلاة المقبولة التي يرضاها، وإلا ترتد إلينا هذه التقدمة.
لأن مثل هذه الذبائح تسمو عن أخرى تقدم من حيوانات بكماء، لذا ينبغي علينا أن نفحصها بإمعان، لنرى إذا كانت فيها عيوب خفية. وإن وجدت، فيجب أن نطهرها، بغسلها بدموعنا، ونزيل عنها كل العيوب، وعندئذ فقط يمكننا أن نقربها، بحبٍ وشوقٍ، في طهارة أمام الرب، “رافعين أيادي طاهرة” أمام الرب في الصلاة. وفي نفس الوقت رافعين عقولنا “بدون غضب ولا جدال” (1 تي 2:8)، سائلين بدموع وتنهدات من القلب أن تُقبل تقدماتنا مع النبي “كذبيحة مسائية” (مز 141: 2) [19].
مارتيريوس – Sahdona
2. ضع حارسًا لفمي
اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي.
احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ [3].
يطلب المرتل حراسة سماوية لفمه، حتى لا تخرج كلمة لا تليق به كإنسان الله.
* لم يقل “حاجزًا حصينًا” وإنما قال “بابًا حصينًا”. فالباب يُفتح كما يُغلق أيضًا. فإن كان بابًا، فليُفتح ويُغلق. يفتح للاعتراف بالخطية، ويُغلق عند تقديم تبرير للخطية. هكذا فليكن بابًا حصينًا، وليس بابًا للتدمير [20].
القديس أغسطينوس
* لا يليق بالإنسان أن يفتح فاه بما هو غير لائق، بل يفتحه في كلام يرزق كنوزًا من خيرات الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لنضع في أذهاننا بخصوص الفم واللسان أن نقدم صلاتنا ونحن حافظينهما متحررين من الشر. إن كان لكم إناءّ ذهبيًا أو مصنوعًا من معدنٍ ثمين، فإنكم لا تختارونه لاستخدامه في أمر شائنٍ، كم بالأكثر أولئك الذين أفواههم أثمن من الذهب واللآلئ، كيف يلوثونها بقبحٍ مشينٍ وفسادٍ وسخريةٍ. إنكم لا تقدمون بخورًا على مذبح من النحاس أو حتى من الذهب، بل ما هو أثمن من هذا في هيكلٍ روحي، فمادة الأول بلا حياة، بينما يجعل الله مسكنه فيكم، أنتم أعضاء جسد المسيح…
لنحرس أفواهنا على الدوام، نقيم عقلًا عليها ليغلقها، فلا تبقى مغلقة على الدوام، إنما يفتحها في الوقت المناسب.
يوجد وقت يكون فيه الصمت أثمن من الكلام، وأيضًا يوجد وقت يكون فيه الكلام أثمن من الصمت…
من الضروري كما ترون ليس فقط أن نحفظ الصمت والكلام في الوقت المناسب، وإنما يلزم أن يكون ذلك بمحبة عظيمة. لهذا يقول أيضًا بولس: “ليكن كلامكم كل حين بنعمةٍ مصلحًا بملح، لتعلموا كيف تجابوا كل واحدٍ” (كو 4: 6).
ضعوا في اعتباركم أن هذا هو العضو الذي به تدخلون في حوارٍ مع الله، وبه نقدم التسبحة. هذا هو العضو الذي به نتقبل الذبيحة المهوبة، فإن المؤمنين يعرفون ماذا أقول [21].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إن كان هذا العضو يسبب دمارًا مثل هذا، فقد يتساءل البعض: لماذا وضعه الله في الجسد البشري من البدء؟ لأن له نفعًا كبيرًا أيضًا. فإن كنا حريصين يجلب لنا نفعًا لا ضررًا، اسمعوا كلمات النبي الذي قدم لنا النصح قبلًا، إذ يقول: “الموت والحياة في قوة اللسان” (أم 18:21). ويكشف المسيح عن ذات الأمر حين يقول: “بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان” (مت 12:37).
يقع اللسان في المركز تمامًا، متهيئًا للعمل بأي الوسيلتين وأنت سيده. وهكذا يقع السيف أيضًا في الوسط، فإن استخدمته ضد العدو، يصير أداة أمان لك. وإن استخدمته لجرح نفسك، فليس نصله الذي يسبب موتك بل تعديك الناموس.
فلنفتكر في اللسان بنفس الكيفية، كسيف قائم في المنتصف. اتخذه لتدين ذاتك بخطاياك، ولا تستعمله في جرح إلهك. لهذا أحاط الله اللسان بسياجٍ مضاعف، بحاجز الأسنان، وبسور الشفتين، حتى لا يتفوه بسهولة وتهاون بكلماتٍ لا يليق أن يُنطق بها.
احفظه مكبوحًا في فمك، وإن لم يقم بهذا العلاج، عاقبه بالأسنان كما لو كنت تقدمه للجلاد ليقضمه! لأنه أفضل أن يُضرب الآن حينما يخطئ بدلًا من عقابه فيما بعد، حينما يتلهف طالبًا قطرة ماء، إذ يُحرم من تلك التعزية [22].
* يقول: من الأفضل أن يسقط الجسم ويُسحق من أن تخرج منا مثل هذه الكلمة التي تحطم النفس. وهو لا يتحدث عن السقوط المجرد، إنما ينصحنا بالأكثر أن نفكر مقدمًا حتى لا نزل (بالكلام)، قائلًا: “ضع بابًا ومزلاجًا لفمك” (سيراخ 20: 25)، لا لنعد لأنفسنا أبوابًا ومزلاجًا، بل أن نكون في أكثر حرص. يلزمنا أن نغلق أفواهنا عن النطق بكلمات شائنة.
مرة أخرى بعد أظهار حاجتنا إلى عون من فوق يصحب جهادنا ويسبقه، لكي يحفظ هذا الوحش المفترس في الداخل، باسطين أيادينا إلى الله، قال النبي: “ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية، اجعل يا رب حارسًا لفمي؛ احفظ باب شفتي”. وهو نفسه الذي سبق فنصحنا قبلًا أن نضع بابًا… (سي 20: 25) يقول مرة أخرى: “من يصنع حارسًا لفمي، وختم حكمة لشفتي؟” (سي 22: 27) [23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* “موت وحياة في قوة اللسان” (أم 18:21) وأيضًا: “أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين” (مت 12: 36). لهذا يصلي النبي لئلا تكون كلماته بطالة، بل تكون مقدسة وتسر الله… ويتضرع لأجل حارسٍ حول شفتيه يكون مثل متراس القلعة الحصين، حتى لا يستسلم ويذعن للخطية. قال إرميا: “طلع الموت إلى كوانا (نوافذنا) (إر 9: 21)، ونحن لنا خمس كوى: النظر والسمع والتذوق والشم واللمس [24].
القديس جيروم
* كن معتدلًا أيها الفريسي. ضع بابًا للسانك ومتراسًا (مز 141: 3). أنت تتحدث إلى الله الذي يعلم كل شيءٍ. انتظر حكم القاضي، فما من مصارع متدرب يكلل ذاته، وما من أحد ينال الإكليل من ذاته، بل ينتظر استدعاءه للمثول أمام الحكم. لأنه قد يحدث ما هو غير متوقع… فإنه حتى أشجع الأشخاص معرض للهياج وعدم الهدوء.
القديس كيرلس السكندري
* تُمجد أيضًا أسنان العروس، لأنها تغذى جسد الكنيسة. يرغب العريس دائمًا أن تكون هذه الأسنان نظيفة من القاذورات، ليس عليها شعر، لأن شعرها قد تم قصه حديثًا، وتحمل توائم حسب ميلاد الفضائل، وتظهر وكأنها حطمت بواسطة أسنانها كل عيبٍ للنفس أو الجسد. ويرمز الخيط القرمزي على شفتيّ العروس إلى وظيفة الكلام الذي يُسميه النبي حارس المعنى وبابه: “اجعل يا رب حارسًا لفمي، احفظ يا رب شفتيّ” (مز 3:141). هكذا يكون الحال عندما يفتح الشخص فمه ليتكلم، ثم يغلقه، حسب كل نشاطٍ في وقته المناسب. نحن نعرف من النبي زكريا أن هذا الخيط هو للقياس (زك 1:2)، الذي يمسكه ملاك على هيئة عصا. وخيط القياس هذا مُلائم بصفة خاصة، لأنه كان ذا لون أحمر، كرمزٍ للفداء. فإذا كان المسيح يتكلم خلال أي شخص مثل بولس (2 كو 3:13)، فإنه يقلد فداء المسيح لنا بدمه بواسطة هذا الخيط القرمزي على شفتيه كنوعٍ من خيط القياس الذي اكتسب اللون الجميل في الدم [25].
القديس غريغوريوس النيسي
* يجب على الراهب أن يكون صامتًا في كل حين، ولا يقبل الأفكار التي تشير عليه بكثرة الكلام التي تحلّ النفس (أي تجعلها منحلّة)، بل يزهد في الكلام ولو رأى أناسًا يضحكون أو يقولون كلامًا ليس فيه منفعة بجهلهم. لأنّ الراهب الحقيقي يتحفّظ من لسانه كما هو مكتوب في المزمور: “اللهم اجعل لفمي حافظًا، وعلى شفتيَّ سترًا حصينًا” (مز 141: 3). فالراهب الذي يفعل هكذا، لا يعثر أبدًا بلسانه، لكنه يصير إلهًا على الأرض.
القديس مقاريوس الكبير
* ولئلا يُظن أن العفة التي نرجوها من الله تقف عند تلك التي تخص شهوة أعضاء الجسد… يتغنى المزمور قائلًا: “ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابًا حصينًا (عفيفًا) لشفتي” (مز 141: 3) فإن أدركنا مفهوم كلمة “فمي” كما يلزم، لعرفنا ما هي عطية الله من جهة العفة التي يهبها، لنا فإنها لا تعني “الفم الجسدي”، فيُحفظ لكي لا يخرج منه صوت شرير، إنما يوجد في الداخل “فم القلب” الذي يريد ناطق هذه الكلمات وكاتبها لننطق نحن بها أن يحرسه الله ويقيم عليه بابًا حصينًا (عفيفًا).
توجد كلمات كثيرة لا ينطق بها الفم الجسدي، تصرخ عالية في القلب، بينما لا يمكن للفم الجسدي أن ينطق بشيءٍ ما لم يتكلم به القلب.
ما لا يخرج من القلب لا ينطق به اللسان، وأما ما يخرج منه، فإن كان شريرًا يدنس الإنسان حتى ولو لم يتفوه به اللسان.
لهذا يلزم أن تكون الحصانة هناك (علي باب القلب)، حيث يتكلم الضمير، حتى بالنسبة للصامتين. فمتي كان الباب حصينًا، لا يخرج منه ما يدنس حياة من يفكر (فكرًا شريرًا) دون أن تتحرك شفتاه [26].
القديس أغسطينوس
* الجرح الذي تسببه الكلمات لا يُحتمل… هنا ينطق النبي: “الموت والحياة في سلطان اللسان” (أم 18: 21). بالحق أيها الأحباء الأعزاء، إن تطلعتم بعمقٍ وبحثتم باجتهاد في الورم الخبيث المنتفخ في القلب الساخط تكتشفون أن الجراحات الصادرة عن الكلام تسبب موتًا [27].
* هكذا أن تتكلم أو تصمت كل منهما فيه الكمال، إن استخدام بالقدر اللائق به… الصمت عظيم، والكلام عظيم، ولكن دور الحكيم أن يضبط كليهما. فإن الصمت المبالغ فيه يُنسب أحيانًا إلى نقص التعقل، كما أن الكلام الكثير غالبًا ما يُنسب إلى الجنون [28].
الأب فاليريان
* كن صديقًا للفقير ولمحب الله والمتواضع والغريب الذي يحفظ الغربة، ولمن كان متمنطقًا بمخافة الله، والمسكين الذي يحمل الصليب، ويضع حارسًا على فمه (مز 3:140). يا ابني كن صديقًا لكل الذين يخافون الله.
القديس إسطفانوس الطيبي
* ينبغي أن نلجم اللسان؛ فلا يفرط بجهالة الكلام. وعندما يتكلم بمنفعة، حينئذ لا ينبغي أن يصمت متكاسلًا. لقد تأمل النبي هذا الأمر فقال: “اجعل يا رب حارسًا لفمي. احفظ باب شفتيَّ” (مز 141: 3). وهنا لم يطلب صاحب المزامير من الرب أن يضع سياجًا أو حائطًا، بل بابًا يمكن أن يفتحه أو يغلقه. لنتعلم متى نفتح أفواهنا بحكمة وفي الوقت المناسب، وبالعكس كيف نغلقها بالصمت [29].
الأب غريغوريوس (الكبير)
لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ،
لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ،
وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ [4].
يخشى المرتل على أعماقه الداخلية، لئلا تنجذب إلى الشر، لأنه كثيرًا ما يحمل الشر جاذبية مخادعة.
بقوله: “مع أناس فاعلي الإثم” يعني محاولة تبرير الإنسان خطأه بإلقاء اللوم لا على إرادته الخاطئة، بل على الظروف التي لا سلطان له عليها فهذا من شيمة فاعلي الإثم. وكأنه يقول حقًا جيد للإنسان أن يلقي باللوم على نفسه، ولا يتمثل بالأشرار الذين لا يلومون أنفسهم. ولهذا السبب يطوِّب المرتل الرجل الذي لا يسلك في مشورة المنافقين، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس (مز 1: 1). ويكتب الرسول بولس: “وإن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة، فسِموا هذا ولا تخالطوه، لكي يخجل (2 تس 3: 14).
“ولا آكل مع نفائسهم” وقد جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “ولا اتفق مع مختاريهم”.
كأن المرتل يعلن أنه لا يريد أن يشترك في ولائمهم وملذاتهم، وحياتهم المدللة. وفي تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم يحذرنا من السقوط في النجاسات خلال ضربات السُكر مع الأصدقاء، حيث تشتعل نار الشهوات في الحفلات الماجنة.
يرى القديس أغسطينوس [30] أن المتحدث هنا هو السيد المسيح يطلب ألا يميل قلبه أي كنيسته أو جسده لتبرير الخطية، بكون هذا كلامًا شريرًا، لئلا تصير مثل الفريسي الذي برر نفسه، واستخف بالآخرين (لو 18: 11).
يستخدم القديس جيروم هذه العبارة لكي نتمثل بالمرتل الذي كان يخشى لئلا يقتدي بالأشرار الذين عوضًا عن تقديم توبة عن شرورهم، يقدمون تبريرات وعللًا دفعتهم لارتكاب الشرور. من هذه العلل الاعتذار بالسقوط بسبب ضرورة الطبيعة التي تلزمه بالسقوط [كأن يقول شاب: إن جسدي يستعبدني، واتقاد الطبيعة يلهب أهوائي، وتكوين جسمي وانفعالات أعضائي تدفعني للممارسات الجنسية. مرة أخرى يقول قائل: كنت في احتياج، كنت في عوزٍ إلى طعام، ليس لي ما استتر به. سفكت دم آخر، لأنقذ نفسي من البرد والجوع [31].]
* مكتوب: “لا تشعل جمر الخاطي” (سي 8: 10). عندما وقف الخاطي ضدي، كنت أخرس، وتواضعت، وكنت صامتًا بخصوص الصلاح (راجع مز 39: 2-3). وأيضًا: “ضع يا رب حارسًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي، لا تمل قلبي نحو الكلمات الشريرة” (راجع مز 141: 3-4) [32].
القديس جيروم
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المرتل بدأ أولًا بالفم وبعد ذلك القلب، وذلك كما في حالة المساجين، فإن المسئولين يبدأون بالاهتمام بحراسة أبواب السجن (الفم)، وبعد ذلك يهتمون بالأمور الأخرى. هكذا يليق بالمؤمن أن يعطي اهتمامه بحراسة فمه ولسانه، ثم يسأل عما في أعماقه.
ماذا يقصد بقوله: “لأتعلل بعلل الشر، مع أناس فاعلي الأثم”؟ كثيرون لا يلقون باللوم على إرادتهم الشريرة أو سلوكهم، إنما يلومون طبيعتهم التي لا سلطان لهم عليها، وكأنهم يلقون باللوم على الخالق لا على موقفهم.
* “لا يُمل قلبي إلى أمر رديء”. ليس أن الله يُميل القلب. حاشا! بل بالحري يقصد لا تسمح لشيءٍ هكذا: لا تسمح للقلب أن يميل. لا تسمح له أن ينحرف نحو الأفكار الشريرة. فإن ينبوع الفضيلة والرذيلة يصدر منه، أي من القلب! [33]
* ليس للخاطئ أن يقدم عذرًا معيبًا: فالقاتل يلوم الغضب، والسارق يلوم الفقر، والزاني يلقي باللوم على الشهوة، فلا يقدمٍ دفاعًا لائقًا، فإن سبب الخطية هو سلوك الخطاة أنفسهم [34].
* كم يلزمنا أن نتحفظ من المعاندين، لأن اللصوص والسرَّاق وأعداء الفضيلة، إذا رأونا قد سهرنا الليل كله وحفظنا كنوزنا وحرسنا ذخائرنا، يحيطون بنا من كل جانب، ويريدون أن يغلبنا النوم والكسل، ليسطوا علينا سريعًا، ويخطفوا أمتعتنا، ويفوزوا بذخائرنا، ويجعلوا كنوزنا غنيمة الاغتصاب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بعد أن أتقن النبي إحكام الفم والشفتين اللتين هما باب القلب دخل إلى سجن الأفكار، حيث اللصوص الأسرى، ليقبض عليهم بقوله: “لا تمل قلبي إلى أمرٍ رديء”. لأن القلب هو منبع الخير والشر. معنى قوله: “لا تمل”، لا تتركه يميل إلى كلام الشر، وهي الأفكار التي تدبر الاغتيالات وتفتري على الله… بهذا القول دل على أن الشرور ليست طبيعية فينا، إنما تأتي من ميل قلبنا واعوجاجه الصائر من استهتارنا وباختيارنا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ليكن لك حارس في داخل قلبك حتى تعرف ما هو الدافع في داخلك، لأن الطعام القوي هو للبالغين الذين بواسطة اليقظة المتماسكة اكتسبوا بالتمرُّن القدرة على التمييز بين الخير والشر (عب 5: 14). هذا التمييز هو حارس القلب (انظر مز 141: 3-4).
القديس إسطفانوس الطيبي
* إن كان “كل شيءٍ مستطاع للمؤمن” (مر 9: 23)، فأين يكون إيماننا؟
وإن كنتَ قد اخترتَ لنفسك أن تكون مثل ميتٍ، فاسأل الميت إن كان يرغب في رؤية زوجته، وإن كان يُبدي رأيه فيها في حالة ما إذا ذهبت وسلّمت ذاتها للفسق. إن كنتَ قد تركت الموتى يدفنون موتاهم، فلماذا لا تنادي أنت بملكوت الله (لو 9: 60)؟ إلى متى تظلّ نائمًا؟ استيقظ واصرخ مع داود النبي: “لا تُمِل قلبي إلى أمرٍ رديءٍ لأتعلّل بعلل الشر” (مز 141: 4).
إن كنتَ تفهم “أكثر من جميع الذين يعلِّمونك” (مز119: 99 سبعينية)، فإنّ الشياطين المضلّين الذين يهاجمون قلبك، إنما يضمرون لك حربًا شعواء بخصوص امرأتك. أين اختفت من عينيك كلمة الكتاب: “الله أمينٌ، الذي لا يدعكم تُجرّبون فوق ما تستطيعون…” (1 كو 10: 13). وأيضًا كلمة المخلِّص: “لا تهتموا للغد” (مت 6: 34)؟
القديس برصنوفيوس
لِيَضْرِبْنِي الصِّدِّيقُ بَرَحْمَةٌ وَلْيُوَبِّخْنِي،
فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ لاَ يَأْبَى رَأْسِي.
لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ [5].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “فليؤدبني الصديق برحمة ويوبخني. زيت الخاطئ لا يدهن رأس”.
كان داود أعظم رجل صلاة في العهد القديم. اعتاد أن يسأل الله عن كل احتياجاته، خاصة الروحية منها. وهو يسأله هنا الانفصال عن الشر والإثم. كما يرحب بأناس الله الأتقياء، يصادقهم ويقبل مشوراتهم واقتراحاتهم، بل ونقدهم وانتهارهم له. فإنه غالبًا ما يخدع الإنسان نفسه، فلا يرى أخطاءه، لهذا يرحب الإنسان التقي بنظرة الأتقياء له، لا لمدحه وإنما لإصلاحه.
* لن تنمو رأسي بالتملق. فإن المديح غير اللائق هو تملق. المديح غير اللائق الصادر من التملق هو “زيت الخاطي”.
لذلك فلتحبوا أن تُوبخوا من البار (الله) برحمة، ولا تحبوا أن يمدحكم خاطئ في سخرية.
ليكن لكم زيت في أنفسكم، فلا تحتاجوا إلى زيت الخاطي [35].
القديس أغسطينوس
* ليت الصديق يكون بي رحيمًا مع اللوم… ما يقصده هو هكذا: إنني لن أشترك في تجمعات أولئك المتسيبين… فإنني أفضل الصارمين والملتزمين، الذين يلومون ويُظهرون الأخطاء وينتقدون. هذا بالحقيقة علامة الرحمة واللطف، أن يشفوا الجراحات.
يقول: “زيت الخاطئ لا يدهن رأسي”. هل تلاحظ النفس الملتزمة بالفضيلة؟ إنها تقبل برضا نقد الصديقين لها، بينما ترفض ثرثرة الأشرار. لأن الأخيرين برحمتهم يسببون دمارًا، بينما الأولون بنقدهم وصرامتهم يسببون إصلاحًا، وبينما ترتبط الرحمة بنقدهم، إذا بالموت يرتبط برحمة الآخرين. يقول آخر: “أمينة هي جروح المحب، وغاشة هي قبلات العدو؟ (أم 27: 6).
لاحظوا كيف تعكس النصيحة الرسولية هذا: “وبخ، انتهر، عظ” (2 تي 4: 2). هكذا هو نقد الأشخاص المقدسين للغير. وهو يشبه ما يفعله الجراحون، إنهم ليس فقط يقطعون، وإنما أيضًا يخيطون غُرزًا في الجسم حسنًا. والمسيح أيضًا لكي يضمن أن يكون اللوم مقبولًا، لم يسمح أن يكون اللوم علانية في البداية، قائلًا: “أذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما” (مت 18: 15).
هذا أيضًا ما مارسه بولس مقدمًا مع اللوم رحمة، فيقول: “أيها الغلاطيون الأغبياء” ثم يعود فيقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم” (غل 3: 1؛ 4: 19). ها أنتم ترون أن الشخص الذي يوجه اللوم يحتاج أن يقدم فكرًا رعويًا حتى يكون اللوم مقبولًا، ومن يستخدم العلاج يحتاج إلى حساسية أكثر من الذين يقطع الجسم [36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* قول النبي يعني أن توبيخ الصديق وانتهاره يحصل عن رحمته لي، وشفقته على جراحات نفسي، لأنه يجففها ويطهرها بأدوية توبيخه، ولهذا أريد هذا التوبيخ.
أما أقوال الخاطي الناعمة مثل الزيت فلا أرتضيها، لأنها تملق ومداراة، فلا تصب رأسي.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يجب أن نعرف ونتذكر المكتوب “زيت الخاطئ لا يدهن رأسي“، وهو ما سبق وحذر منه الروح القدس في المزامير، لئلا ينحرف أحد عن الطريق، ويتوه بعيدًا عن سبيل الحق، فيُدهن بواسطة الهراطقة ومعاندي المسيح [37].
القديس كبريانوس
* “ليقومني الصديق برحمة وليوبخني، لكن زيت الخاطئ لا يدهن رأسي” ما معنى هذا؟ الأفضل لي إذا ما رأى الصديق خطيئتي أن يقومني ولا يتركني، بل يخبرني إن فعلت خطًا، ويثور ضد خطيئتي ليحررني منها. قد يبدو كلامه صارمًا، لكنه في الداخل رقيق رحوم بحسب الكلمات: “ليقومني الصديق برحمة وليوبخني” [38].
* انتبهوا إلى الكلمات الأخرى التي يستخدمها المداهنون والحديث المخادع، فبالرغم مما تحمله من ثناء، فإنها دهن الخاطئ [39].
* ليت زيت الشرير، أي تملق المداهنين لا يدهن رأسك، فإن الرئيس (المتُقدم) ينتهر ليُصلح، وأما الشيطان فيتملق ليحطم [40].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* “ليؤدبني الصديق، فهذه رحمة وليوبخني“. من يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله. مغبوط هو الإنسان الذي يؤدب في هذه الحياة، لأن “الرب لن يعاقب مرتين على نفس الشيء” (قابل نح 1: 9 بحسب السبعينية). ومخوف هو غضب الرب، إذًا ما لم يشدد علينا هنا، حينئذ يقتادنا كعجلٍ يُساق للذبح. وقد قال لأورشليم حقًا: “كثيرة هي خطاياكِ، وعديدة هي آثامكِ، لكني لن أغيظك” (قابل حز 16: 24)… تأملوا في هذا الخصوص أي معلم أو أب أو حكيم (طبيب) هو، فإن الطبيب إذا ما وقع بصره على عضو أو نسيج مصاب في الجسد، فهل يقول: ما لهذا العضو؟ فإنكم ستشهدون بقسوته، لكنه إن أزال هذا النسيج الفاسد، وضمد الجرح فهو رحوم، لأنه ينقذ حياة الإنسان. نفس الأمر مع المعلم، فإنه أن طرد أو فصل حبيبًا (تلميذًا) ولم يعلمه الطاعة له، فإنه يكرهه. لكن من جهة أخرى فهو تلميذه إن كان بالعلاج يقومه، وتتحول شراسته الظاهرية إلى هدوء.
“ليؤدبني” أو “ليقومني” تفهم بطريقتين: إما أنه يوبخ أو يرشد.
“وزيت الخاطئ لا يدهن رأسي“. حقًا أن من يدعوكم يا شعبي مطوبين إنما يضللوكم. مدح الهراطقة، أي الزيت الذي به يدهنون رؤوس الرجال، ويعدونهم بملكوت السماوات إنما يدهن الرأس بالكبرياء.
“لأن صلاتي دائمًا ضد مسراتهم“، وهذا يعني أنهم حقًا يثورون في جنونهم، لكنني أداوم على الصلاة لأجل هدايتهم [41].
القديس جيروم
* لتدهن رأسك، ولكن أحذر ألا تدهنها بزيت الخطية. لأن “زيت الخاطئ لا يدهن رأسك” (مز 141: 5). إنما ادهن رأسك بزيت التهليل: “زيت الفرح” (مز 45: 7)، زيت الرحمة، حتى يحسب وصية الحكمة: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك” (أم 3: 3) [42].
العلامة أوريجينوس
* وبعد أن دعّم الأخ بأقوال كثيرة أطلقه وهو فرح بالرب. وذهب وهو يترنم قائلًا: “ليرجع إليَّ متّقوك وعارفو شهاداتك” (مز 119: 79)، وأيضًا: “تأديبًا أدّبني الرب، وإلى الموت لم يسلّمني” (مز 118: 18)، وأيضًا: “فليؤدّبني الصدّيق برحمة ويوبخني” (مز 141: 5 قبطية). كما قال لنفسه: “ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك، لأن الرب قد أحسن إليك، لأنك أنقذتَ نفسي من الموت…” (مز 116: 7). وهكذا عاد إلى قلايته، وعاش بقية عمره كما فرض له الشيخ.
فردوس الآباء
* “فليؤدِّبني الصدِّيق برحمة ويوبخني. أمَّا زيت الخاطئ فلا يدهن رأسي” (مز 141: 5).
دهن الخاطئ هو عبارات الإطراء والتملُّق، هذه يبغضها النبي جدًا. فهو يحب أن يوبخه الصديق ويؤدِّبه بالصرامة مع الرحمة، ولا يريد المديح مع الرياء والمحاباة. لأن التملُّق والمداهنة لا يفيدان الإنسان شيئًا، بل يزيدانه جهلًا وإثمًا وثباتًا فيهما…
وقد قال الله على لسان النبي: “يا شعبي إن الذين يطوِّبونكم يضلُّونكم” (إش 3: 12)، أي أن الذين يمدحونكم ويتكلَّمون عنكم بالنوادر رياءً ونفاقًا، إنَّما يخدعونكم ويهلكونكم بالتمام. أمَّا الذين يوبخونكم وينصحونكم، فيحسنون إليكم إحسانًا عظيمًا.
ليست هي فضيلة (التراخي مع الخطاة)، بل ضعف. ولا هي محبَّة أو وداعة بل إهمال، لا بل هي قسوة على تلك النفوس التي يُغفل عنها، فتهلك دون أن تنبِّه على خرابها.
القديس أغسطينوس
3. الإيمان التام
قَدِ انْطَرَحَ قُضَاتُهُمْ مِنْ عَلَى الصَّخْرَةِ،
وَسَمِعُوا كَلِمَاتِي لأَنَّهَا لَذِيذَةٌ [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “قد ابتلعت أقوياءهم عن الصخرة، يسمعون كلماتي لأنهم استلذوا”.
إن كان المرتل يطلب أحيانًا تأديب الأشرار، فهو لا يطلب النقمة لنفسه منهم، إنما يود أن يرجعوا إلى السيد المسيح الصخرة الحقيقية، فيتمتعون بالخلاص. كما أن تأديب الأشرار يقدم درسًا عمليًا لإخوتهم لأجل توبتهم وإصلاحهم.
كلمات المرتل لذيذة وبناءه لنفسه كما لإخوته.
يرى القديس أغسطينوس أن قضاتهم هم الفلاسفة وأصحاب السلطان، والعظماء، وغيرهم ممن يحسبونهم قضاة لهم، يتمسكون بآرائهم ويحكمون على حياتهم وسلوكهم حسب فلسفتهم. هؤلاء متى قورنوا بالصخرة، أي بالسيد المسيح، ينطرحون أرضًا.
* ضعوهم بجوار الصخرة، وقارنوا سلطانهم بسلطان الإنجيل، وكبرياءهم بالمصلوب.
نقول لهم: “أنتم كتبتم كلماتكم في قلوب المتكبرين، أما هو فغرس صليبه في قلوب (على جباه) الملوك.
أخيرًا هو مات وقام؛ وأنتم موتى، وإنني لا أسأل كيف سيقومون. لذلك “قد انطرح قضاتهم من على تلك الصخرة”. لتمارسوا كلماتهم ما دامت تبدو ذات شأن، حتى تقارنوها بالصخرة. لذلك إن وُجد أحد منهم يقول بما يقوله المسيح فإننا نهنئه على ذلك، لكننا لا نقتدي به.
“سيسمعون كلماتي، لأنها تفوز”. كلماتي تفوز على كلماتهم. هم ينطقون ببراعة، أنا أنطق بالحق. أن تمدح إنسانًا يتكلم حسنًا هذا شيء، أما أن تمدح ذلك الذي ينطق بالحق فهو شيء آخر [43].
القديس أغسطينوس
* هنا تظهر جراحات الخطية، والمشاكل التي تسببها الرذيلة. يقول إنهم أصحاب نفوذ… كلهم يهلكون.
يقول: “يُبتلعون” ولم يقل إنهم يهلكون، مشيرًا إلى أن ما يصيبهم هو عدم وجود أي أثرٍ لهم. الأمر الذي قاله عن الشرير: “عبرت فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد” (راجع مز 37: 36).
أخيرًا، ما يقصده هو هذا كما إذا طرحت قطعة من الصخرة في البحر لا تترك أثرًا، هكذا يكون مصيرهم حيث يغرقون ويُفقدون، ولا يكون لهم أثر، بل يعانون من دمارٍ شاملٍ…
خلال خبرتهم العملية سينالون نوعًا من الشعور بالعذوبة من جهة نصحي لهم ومشورتي؛ كيف؟ لوم الصديقين يجلب نفعًا، ويكون لتعليمهم عذوبة عظيمة. فإن الفضيلة هي فوق كل شيءٍ تشبه الآتي: إنها تسبب ضيقًا مؤقتًا، لكنها تجلب سعادة باقية [44].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* حتى الهراطقة وإن يبدو عليهم احتقار بساطة الكنيسة… حينما يعودون إلى الكتاب المقدس تبتلعهم الصخرة على الفور، أي المسيح، ويتحولون إليه…
“سيسمع الناس كلماتي لأنها لذيذة“. ويقول الرب نفسه: الذين يأتون إليّ يرجون ويفرحون لكلماتي، ويتحولون إليَّ في الكنيسة [45].
القديس جيروم
كَمَنْ يَفْلَحُ وَيَشُقُّ الأَرْضَ،
تَبَدَّدَتْ عِظَامُنَا عِنْدَ فَمِ الْهَاوِيَةِ [7].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “مثل شحم الأرض انشقوا على الأرض. تبددت عظامهم عند الجحيم”.
يرى البعض أن المرتل يشعر بالحزن على شعب إسرائيل، وقد صاروا أشبه بعظامٍ جافةٍ مدفونة في الأرض.
لقد رأى حزقيال النبي هذا المنظر (حز 37: 1-14)، غير أن الرب أخرجهم من قبور تجديفاتهم وجحدهم للمخلص، ليصيروا جيشًا روحيًا عظيمًا جدًا!
يرى القديس أغسطينوس إن شحم الأرض هنا هو السماد الذي يحتقره الناس، لكن ينشره الفلاح على الأرض لتأتي بثمرٍ كثيرٍ، إذ يهبها خصوبة. هكذا يضطهد الأشرار شهود السيد المسيح، ويظن الأشرار أنهم قد غلبوهم بقتلهم. لكن ما يفعلونه إنما يصير كسمادٍ، ويصير الحصاد كثيرًا جدًا.
حقًا يموت الشهداء، لكن عزيز في عيني الرب موت قديسيه (مز 116: 15).
قد يستخف العالم بالشهداء، لكن “اختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود” (1 كو 1: 28). رفع الله بطرس وبولس كما من المزبلة عندما حُكم عليهما بالموت، واُحتقرا، الآن اغتنت الأرض بهما. الآن أين يسرع رؤساء العالم والنبلاء بل والإمبراطور نفسه عندما يدخل روما؟ هل إلى قصر الإمبراطور، أم إلى النصب التذكاري لصياد السمك (بطرس)؟
* بعد أن قال إن كلماته بها عذوبة، أشار إلى كوارث قديمة. بالرغم من المتاعب المتزايدة، فيصير الكل مشتتين ومحطمين مثل تربة مٌمهدة ومحروثة ومحفورة حتى تبلغ إلى الهاوية ذاتها، مع ذلك نحن نفضل تعليم الصديقين وتهذيبهم لنا عن رحمة الخطاة.
مهما حدث فإننا نعتمد على الرجاء فيك، ولن نتوقف عن التطلع إليك. لهذا يقول: “لأنه إليك يا سيد، يا رب، تتجه عيناي. فيك أترجى، فلا تمحو نفسي [8].
يقول: حتى أن أحدقت بنا حروب أو معارك أو موت أو أبواب الجحيم، لن نترك المرساة المقدسة، بل نلتصق بالرجاء في معونتك [46].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لأَنَّهُ إِلَيْكَ يَا سَيِّدُ يَا رَبُّ عَيْنَايَ.
بِكَ احْتَمَيْتُ.
لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي [8].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “لأن عيوننا إليك يا رب. يا رب عليك توكلت، فلا تقتل نفسي”.
ينتقل المرتل كعادته بين الطلب لأجل خلاصه إلى الطلب من أجل شعبه، ويعود يطلب لنفسه. فالمؤمن لا يعزل نفسه عن إخوته، يصرخ لأجل خلاص نفسه دون تجاهل إخوته، وبحبه يطلب لأجل إخوته دون تجاهل أبديته!
يرى القديس أغسطينوس أن هذه الكلمات ينطق بها الشهداء والذين يعانون من المضايقات.
* إنهم يتعذبون في الاضطهادات، ويسقط كثيرون… لكن في وسط ضيق الاضطهاد يصدر الصوت مصليًا: “لأن عيوننا إليك يا رب“. إني لا أبالي بتهديداتهم الذين حولي، عيوننا إليك يا رب. إني أثبت عيني بالأكثر على وعودك لا على تهديداتهم. إني أعرف ما قد احتملته أنت من أجلي، وما وعدتني به [47].
القديس أغسطينوس
احْفَظْنِي مِنَ الْفَخِّ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ لِي،
وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي الإِثْمِ [9].
* ما هو الفخ؟ (يُقال للمُتقدم للاستشهاد) إن وافقتني(وأنكرت الإيمان) أُبقى عليك.
يوضع في الفخ طُعم الحياة الحاضرة. إن أحب الطاَئر الطُعم، يسقط في الفخ، ولكن إن استطاع الطائر أن يقول: “ولا اشتهيت يوم الإنسان؛ أنت عرفت” (راجع إر 17: 16)، يقول: “هو يخرج رجلي من الشبكة” (مز 25: 15).
إنه يشير إلى أمرين يجب أن يميز الواحد عن الآخر: الفخ الذي ينصبه المضطهدون؛ والعثرة التي تأتي من الذين قبلوا وجحدوا. وهو يطلب الحماية من الأمرين. فمن ناحية يهددون ويثورون، ومن الناحية الأخرى الموافقة والسقوط. إنني أخشى لئلا أخاف الواحد، واقتدي بالآخر [48].
القديس أغسطينوس
* لا يشير هنا إلى تدبير المكائد بوجه عام، وإنما إلى الفخاخ المخفية التي من النوع الذي ليس من السهل التحفظ منها واكتشافها، هذه تتطلب على وجه الخصوص تدخل النعمة التي من فوق [49].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الذي يتفرس في الله، ويرفع نحوه بصره الداخلي، ويتكل عليه، ينجو من مكائد الأشرار. أما الذين ينصبون للناس فخاخًا يقعون فيها. الذي يقدر على التقويم والإصلاح، فليختلط بالذين يمكن إصلاحهم. أما الذي لا يقدر على ذلك، فليتجنب معاشرتهم، ويكون على انفراد منهم طول عمره إلى أن ينتقل بسلام.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ينصب لنا الهراطقة والشياطين الأشراك دائمًا. فالرذيلة تجاور الفضيلة بالتأكيد، فيُنصب لي الفخ بجوار الصدقة، إن مددت يدي ليراني الآخرون، وحينما أتظاهر بعمل الخير أسقط في النقائض والخطية. تُنصب الفخاخ وتقام الأشراك في كل مكان يكتشف الصياد أن الغزلان تسلكه وترمز الغزلان إلى القديسين لأن الغزال حيوان شريف رقيق ذو قرون قوية وتقتل الحيات، ومن ثم يقول مزمور آخر: “الذي يجعل رجلي كالأيل” (مز 18: 33) [50].
<dir=”rtl” style=”box-sizing: border-box; break-after: auto;”>القديس جيروم
* اِحرصوا ألاّ تؤخذ أرجلكم في إحدى فخاخ العدو المنصوبة (قدّامكم)، فإنّ العدو يطرح شباكه لكي يصطاد النفوس البريئة إذا وجدها مستسلمةً للنعاس. أمّا أنتم “فاصحوا واسهروا” (1 بط 5: 8) بأعين النفس النقية، وأنتم ترتلون قول المزمور: “يسقط الخطاة في شبكته، وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم” (مز 140: 10). وأضف أيضًا هذا القول: “بمخافتك، يا رب، حبلنا وتمخّضنا وولدنا روح خلاصك على الأرض” (إش 26: 17) [51].
القديس مقاريوس الكبير
لِيَسْقُطِ الأَشْرَارُ فِي شِبَاكِهِمْ،
حَتَّى أَنْجُوَ أَنَا بِالْكُلِّيَّةِ [10].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: “تسقط الخطاة في شبكته، وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم”.
يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا هو السيد المسيح، فعندما حلّ وقت الاضطهاد، وأُلقى القبض عليه سقط بعض التلاميذ في شبكة العدو، وتركه الجميع وحده يجتاز المعصرة.
* هل مثل هؤلاء تظن أنهم يسقطون في شبكته؟ ماذا بخصوص تلاميذك أيها المسيح؟ انظروا، عندما ثار الاضطهاد، عندما تركك الكل وحدك، وذهب كل واحدٍ إلى خاصته (يو 16: 32). نعم، أولئك الذين كانوا ملتصقين بك تركوك عند محاكمتك وفي وقت الاضطهاد، عندما طلبك أعداؤك لكي تُصلب. وهذا الجريء الذي وعدك أن يذهب معك حتى الموت سمع من الطبيب ما سيحدث معه كمريضٍ.
إذ كان (بطرس) مصابًا بحمى ظن أنه سليم، أما الرب فقد لمس شريان قلبه. عندئذ جاءت المحاكمة؛ جاء الاختبار، وجاء الاتهام، وعندما سُئل ليس من جهة السلطات الكبرى، وإنما من عبدٍ متواضعٍ ومن جارية، استسلم وأنكر ثلاث مرات [52].
القديس أغسطينوس
* يا لنا من جنس بشري تعس! نبحث عن أعذار عن الخطية… فنحن نعلل أنفسنا ونلحم الخطية بأخرى [53].
القديس جيروم
من وحي المزمور 141
هب لي حراسة على كل كياني
* ما أعظم حبك لي وحكمتك وشوقك لخلاصي!
تسمح لي بمضايقات الأشرار،
كي أتعلم الصراخ إليك.
أطلب حمايتي من نفسي، قبل حمايتي منهم.
يحِّل بي الضيق، فأجري إليك.
أطلب حمايتك وحراستك الإلهية.
فإني إذ أرى الأشرار أذكر ضعفي.
بدون الضيقات تفتر أعماقي.
وخلال الضيقات تشتهي أعماقي الالتقاء بك.
أطلب الحماية من نفسي أولًا، لئلا أخطئ،
ومن الأشرار، لئلا أرد الشر بالشر.
أطلب خلاصهم من العدو الشرير،
فتقتل فيهم الشر، وتهبهم الرجوع إليك.
* يود العدو أن يحطمني، ويحطم كل بشرٍ.
لا يجد راحته إلا في هلاكنا.
لكن مقاومته تدفعني أن أطير بروحك القدوس.
ألجأ إليك وأرتمي في أحضانك.
يقدم العدو مما لديه من حسدٍ شريرٍ،
ويهبني روحك أن أقدم لك ذبيحة حب وتسبيح.
اقبل صرخاتي إليك كذبيحة مسائية،
تصعد كما من القدس من على المذبح الذهبي.
تصعد مختفية في ذبيحة صليبك المسائية.
أتيت في ملء الزمان عند المساء، لتعلن عن حبك.
هب لي صلاة مقدسة، تلتحف بقوة صليبك.
بدون صليبك تصير صلاتي دخانًا مفسدًا لعيني.
بصليبك تشتَّم صلاتي كبخور يحمل رائحتك الذكية.
* هب لي مع رفع يدي للصلاة،
أن يرتفع قلبي بالحب لك ولإخوتي،
ويرتفع عقلي للتأمل في الأمجاد التي تعدها لي.
يرتفع كل كياني، لأنعم بالشركة مع السمائيين.
* هب لي ألا أرد الشر بالشر.
لتُقِمْ بابًا حصينًا لفمي.
يُفتح حين أعترف لك بخطاياي،
ويُغلق إن أردت أن أبرر ذاتي.
هب لي بابًا يُفتح ويغلق تحت حراسة روحك القدوس.
ولا تقم حاجزًا حصينًا،
لئلا ُأحرم من الحديث معك!
* إلهي، إن كنت أخشى ظلم الأشرار،
فبالأكثر أصرخ إليك، لكي لا أقبل كلماتهم الناعمة.
بتملقهم يسكبون زيتًا على رأسي،
فأصدق كلمات تملقهم.
هب لي مع العذارى الحكيمات زيت نعمتك،
فلا أقبل زيت الخطاة المهلك.
أغتني بزيت روحك القدوس،
فلا أشتهي زيت الخطاة!
تأديباتك وتوبيخك هو لبناء نفسي،
أما كلماتهم المعسولة فلهلاكها.
* أمينة هي جراحات الصديقين.
نقدهم لي لبناء نفسي.
وغاشة هي قبلات الأشرار،
حبهم مملوء خداعًا مُهلكًا.
إني أقبل توبيخ الصديقين،
وأرفض ثرثرة الأشرار.
_____
[1] On Psalm 141 (140).
[2] Homilies on Psalms, 51.
[3] On Psalms 141.
[4] On Psalm 141 (140).
[5] Prayer of Job & daivd, 8:27.
[6] On Matthew, homily 73.
[7] On Psalms 141.
[8] Homilies on Psalms, 51.
[9] Homilies on Psalms, 51.
[10] عظة ربنا يسوع المسيح على الجبل.
[11] Homilies on Hebr., 22: 6-7
[12] The Institutes. 3: 3.
[13] Letter 1.
[14] Letter 63: 16.
[15] Homilies on Genesis 11: 1-2.
[16] In Exod. hom 11:4.
[17] Joseph 3:17.
[18] Cassian, Conferences 9:36.
[19] كتاب الكمال، 19.
[20] On Psalm 141 (140).
[21] On Psalms 141.
[22] Baptismal Instruction 9:33-35.
[23] Instruction to Catechumens, 1: 4.
[24] Homilies on Psalms, 51.
[25] عظة 15 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.
[26] Continence 2.
[27] Homilies, 5 (FC).
[28] Homilies, 5 (FC).
[29] Pastoral Care, 3:14.
[30] On Psalm 141 (140).
[31]St. Jerome: Letter 55 to Amandus, 3
[32] Commentary on Isaiah 11: 39: 11-21.
[33] On Psalms 141.
[34] On Psalms 141.
[35] On Psalm 141 (140).
[36] On Psalms 141.
[37] Epistle 69:2.
[38] Sermon 59: 6.
[39] Sermon 59: 7.
[40] Sermon 233: 7.
[41] Homilies on Psalms, 51.
[42] Homilies on Leviticus 10: 2: 4.
[43] On Psalm 141 (140).
[44] On Psalms 141.
[45] Homilies on Psalms, 51.
[46] On Psalms 141.
[47] On Psalm 141 (140).
[48] On Psalm 141 (140).
[49] On Psalms 141.
[50] Homilies on Psalms, 51.
[51] رسائله المكتَشَفة حديثًا عن مجلة:Recherches Augustiniennes, 1999 – 31, p. 104 – 135 رسالة 4:2 (فردوس الآباء).
[52] On Psalm 141 (140).
[53] Homilies on Psalms, 51.