تفسير سفر أيوب أصحاح 38 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الإصحاح الثامن والثلاثون
تدخل الله
هل تظن (يا أيوب) أنني أجهل ما تفكر فيه

 

1- يقول النص “عندما أنهى اليهو حديثه كلّم الرب أيوب عبر العاصفة والسحاب”.(38: 1)

في رأيي أن الله وضع – في هذه اللحظة – السحاب فوق ما هو حدق (بنظره) لكى يرفع فكر أيوب ويقنعه أن هذا الصوت آت من فوق كما هو الحال في «الغطاء الموضوع فوق تابوت العهد» (عد 7: 89) وكما أن السحاب هو رمز للسماء، فكأن الله أراد أن يضع السماء نفسها فوق أيوب، كما لو كان يقتاد عرشه عنده. ويبدو لي أن هذا ما حدث أيضاً على الجبل لما صار السحب «الثقيل» (خر 19: 16) ، ليعلّمنا أن الصوت آت من فوق (انظر عد 7: 89) . فلنسمع بحرص شديد إذ أن رب الكون هو الذي يتكلم، ولننظر كيف ينصح (حرفياً يعظ) أيوب . فهل ينصح بنفس حماس البشر؟ لا على الإطلاق.

أيها (القارئ) المحبوب ، إن كل المسائل السابقة التى أثارها أيوب بطريقة جارحة والتي تمنينا أن نجد لها حلاً، فالآن نحن نجد الحل واضحاً جداً. فلننظر ما الذي عابه الله على أيوب!

2- قال الرب: “من هذا الذي يخفى مشورته (فكره) عنى ويخفى كلماته في قلبه ظانا أنه كتمها عني؟“ (38: 2).

أتنظر ما الذي فعله الله ؟ يبدو لى بالحكم على أقواله أنه كان يريد أن يُدخل إلى فكر أيوب أمراً آخر. كما لو أن أيوب كانت له أفكار كثيرة فى رأسه ولم يتجاسر على أن يبوح بها.

لأجل هذا ابتدأ الله فى تقويمه، وبأن يُظهر له بأنه يسبق فيرى أفعال البشر وأنه يعرفها كلها بوضوح، وأيضاً ابتدأ الله بالشكوك الأولى التى لا تُغتفر بالأكثر لأنه إن كانت الاعتراضات التي تجاسر على الإفصاح عنها كانت هكذا جارحة وقاسية، فكم بالأولى تكون الأخرى. لذلك إليها أولاً (توجه بأن) أعطى العلاج.

قال الرب فمن هذا؟ وفى نفس الوقت أظهر منذ البداية أية مسافة تلك التي تفصلنا عن الله.

قال الرب: قل لى يا أيوب، فمن هذا – الذى يحاول – أن يختفى عني، أنا الذى أعلم الأسرار بمنتهى الدقة ؟ فهل لأنك لم تُبح بها لا تكون كلمات (شاهدة ضدك)؟ إن الحديث يتولد ويتشكل في الذهن) حتى لو أخفيته.

ها أنت ترى أية وداعة وبأى اهتمام يقوم الله أيوب ويقنعه!

أتريد أن تناقش يا أيوب ؟ أجبني

3- ” أشدد الآن حقويك كرجل فإني سأسألك، أما أنت فأجبني” (38: 3).

حيث أن أيوب كان مكدوداً بالإحباط (واليأس) فإن الله أقامه بكلمته ليجعله منتبهاً إلى ما يُقال وقدم له حديثه فى صيغة أسئلة، والتي هي أفضل الطرق للإقناع. إنه بين له على وجه الخصوص أنه صنع كل شيء بحكمة وفطنة، وأنه كان مستحيل على من يصنع أشياء كثيرة بحكمة وفطنة أن يهمل الإنسان الذى لأجله صنع كل شيء، حتى عندما يكون ذلك الإنسان تعيساً كما هو الحال مع أيوب.

قال له الله : فماذا تقول (يا أيوب)؟

4 – ” أين كنت حين أسستُ الأرض؟ أجبنى إن كان عندك فهم؟ من ثبت مقاييسها؟ هل تعرفه أو من مد عليها مطماراً؟ على أى شىء تثبتت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها؟ .(38: 4-6)

فماذا تقول يا أيوب ؟ إنه لأجلك أقمتُ الأرض بمثل هذه العناية، فهل سأهملك وأنا لأجلك خلقتُ الأرض!

لهذا لم يبرز الله مهارة الخلق والتوافق بين التحقيق والتجهيز (للخلق)، لكن بدءاً من الأرض والسماء أظهر باستفاضة أنه إن كان الكون ينعم لأجلك بمثل هذا الاهتمام العظيم، فكم بالأولى أنت (يا أيوب).

أين كنت حين أسست الأرض؟

قال الرب هذا موجهاً كلامه لمن يريدون أن يحاسبوه ويطالبونه بتفسير للأحداث دون أن يتفرسوا عظمة حكمته.

(يقول الرب) من نصحني؟ من أشار علي؟ من أتى لمساعدتي؟

إنه لم يقل «عندما خلقت» بل قال «عندما أسست»، وعلى ذلك فحتى ثبات الأرض كان دليلاً على مهارة عظيمة فى الصنع، إذ أن لا قاعدة أو أساس أو عضد لكتلتها، والمقصود أن الله جمع مثل هذه المواد كلها بانسجام وثبتها بمثل هذه الصلابة حتى أنها منذ زمن طويل لم تتزعزع!

قال الرب من ثبت مقاييسها ؟ هل تعرفه ؟ أو من مدَّ عليها مطماراً؟

إن أسرار الله هى بالحق فائقة الوصف عن أن نعرفها، وما قيل لأيوب لم يكن موجهاً لنا أقل مما هو موجه لأيوب.

«أشدد الآن حقويك كرجل»

وعلى ذلك فنحن الذين احتجنا لهذا التشجيع وهذه التعزية.

من ثبت مقاييسها؟

لذلك فإن مقاييسها لم تؤخذ اعتباطاً ولا صدفة، بل الله هو الذي ثبتها آخذاً في الاعتبار هدفاً متناسقاً، وسالكاً كمهندس عظيم، لأنه كان يلزم أن تكون الأرض بهذا الاتساع بلا زيادة ولا نقصان.

أما العلة عن فلم يكن ممكناً لنا أن نراها جيداً، الخالق وحده هو الذي يستطيع ذلك، لأنه خلقها بدقة عظيمة كما لو كان مدَّ عليها مطماراً، وفي اعتقادي لو كان أُضيف عليها شيء، أياً كان هذا الشيء، سيكون أيضاً في غير محله ولكان صار غير مفيد. وفي الحقيقة لو أُضيف أى شيء بالنسبة إلى أعضاء جسمنا، ليس فقط سيتم تشويه جمال الجسد كله، بل أيضاً استخدامه يُفسد عمل بقية الأعضاء. كذلك يبدو لى أنه لو كان أُضيف أى طول إلى الأرض كلها ولو مائة قدم لكانت الأرض هلكت وهى التى محسوب مقاييسها بهذه الدقة العظيمة، وما كانت الأرض ستقوم بخلاف الطريقة التي صنعها الله عليها. ليس معنى هذا أن الله أخذ هذه المقاييس أو أنه أمسك حبل وقاس به لكنه يريد القول أنه كان مستحيلاً أيضاً أخذ القياس أو استخدام الحبال لقياسها، ولكنها خُلقت بنفس الدقة كما لو استخدمنا هذه الوسائل. لكن الله أظهر لنا حكمته من خلال الصور المألوفة لنا.

قال الرب على أي شيء تثبتت قواعدها؟

إنه ابتدأ بالقول أنها معلقة. أية قواعد تسندها؟ ومرة أخرى أنه لا يريد القول أن هذه القواعد موجودة، بل يريد القول أن الأرض وُجدت هكذا مقامة بهذه الصلابة كما لو كانت توجد قواعد  تسندها مثبتة من فوق. ولأن القاعدة تُمسك بكتلتها معلقة في الهواء، وما هو معلق فى الهواء ليس بثابت لذلك استخدم التعبير «تثبتت».

من وضع حجر زاويتها؟

إنها متماسكة أيضاً بمتانة كما على أساسات مستقرة في أمان تام على أساسها بإرادة الله «لأن فى يده توجد كل أطراف الأرض» (مز 95: 4).

5- عندما صنعتُ الكواكب، سبحتنى كل ملائکتی بصوت عالی (7:38)

هوذا هنا يظهر (لنا) بوضوح أن الملائكة كانت أول خلائق هذا الكون. «إنهم سبحونى بصوت عالي أى أنهم أصيبوا بدهشة عظيمة لهذا المنظر.

هل أنت الذي خلقت البحر وحفظت حدوده؟

6- “هل أغلقت أبواب البحر عندما اندفق فخرج من الرحم” (38: 8).

أي عندما خُلق البحر هل أحطته بسدٍ ؟ لماذا قال «عندما اندفق؟» هذا لكي يُظهر أنه ظهر تدريجياً، وهكذا فإن الخليقة لم تُصنع كلها مرة واحدة، وهو يعيد السامع مرة أخرى إلى قصة موسى. كما لو كان البحر اندفق فانتشر أولاً (على مساحات شاسعة) وبعد ذلك أخذ شكله وأنجمع (انظر تك 1: 9) ولكى لا تظن أنه من الطبيعي للبحر أن يُحجز بشواطئه، لذلك سمح الله أولاً أن يحدث العكس متيحاً للمياه أن تنتشر على وجه كل الأرض. وفعل نفس الشيء للعناصر الأخرى. وفى الواقع أن وضع الأشياء في نصابها، كان ينبغي أن يحل بعد ذلك، وهو الذي أظهر ما كان عليه الشيء الأول، كما في حالة الأرض، فالتكوين الأول للعناصر ، أظهر أن الأرض التي كانت متاخمة للمياه صارت طينية، والبحر الذى كان منتشراً على وجه الكرة الأرضية أظهر أنه لو لم يكن الماء محجوزاً لصار منتشراً في كل موضع.

والله أظهر أيضاً أنه حتى قبل وجود البذور، كان يمكنه أن يخلق كل شيء، كما بدون زواج خلق أبوينا الأولين، وأظهر أيضاً أنه حتى لو لم تأخذ النار وضعها (المحدد لها) لكانت أفنت كل شيء، وأظهر هذا «عندما أمطر الرب نار تك) (۱۹ (٢٤). وفي عصر طوفان نوح، كما لم يكن هناك من يعاين عمارة المسكونة الأولى قبل خلق آدم)، فهذا ما حدث أيضاً في المرة الثانية. لكن هذا لم يكن المقصود به أن البحر له أم وأنه خرج من رحم.

7- “ووضعت عليه (أى على البحر) سحابة عوض رداء” (9:38)

فلا تظن أن الأبخرة التى تصعد المياه هي طبيعية، فهذا أيضاً حتمى للنظام الذي وضعته (أنا الله).

8- “وقمطته بأقماط من بخار رطب” (38: 9).

أنه لماذا قال “قمطته بأقماط..؟” هل يحتاج البحر لأقماط مثل رضيع؟ إنه يريد إظهار إما أن هذا كان منذ البدء، أو أن البحر هكذا محجوز، أو أن هذا الفعل غريب كان بسبب أ أحاط العنصر السائل بالهواء، وأن البحر محجوز ليس فقط بالأرض، بل أيضاً بالهواء إذ أنه لا يستطيع أن يتخطى حدوده لا في الارتفاع ولا في العرض.

لكن ما الفائدة من هذه الملاحظة ؟ إنه يُستنتج من ذلك حقيقة فلسفية عميقة. لأنها لا تعبر فقط عن المظهر، بل أيضاً عن طبيعة الماء، فالمياه – وخصوصاً مياه البحر – تشتمل في ذاتها دائماً على البخار.

9- ” ووضعت له حدود وأحطته بحواجز وأبواب” (10:38).

إنه عاد من جديد لفكرة أن البحر قابع أيضاً في موضعه بهدوء كما لو كان مربوط. بهذا أظهر كيف أن البحر آمن، وبما تلا ذلك أظهر كيف أ أنه طائع.

10- ” وقلت له: إلى هنا تأتى ولا تتعدى، وأمواجك تنكسر فيك” (11:38)

إذا فإن الرب حفظه أيضاً بقوة بحواجزه وزوده بدوافع الهدوء الكاملة كما لو كان قد أعطاك أوامر بذلك. وقال الرب أنا أمرت والبحر لم يعترض لأن هذا يحدث ليس فقط عندما يثيره أمر مضاد لكن حتى إذا أهاجته قوة مثيرة وكأنها تلاحقه بضربات سياط عنيفة. وحتى لو لم يتح له الله أن يبقى هادئاً وساكناً ، فهذا لكي يعلن عن قدرة الله. فمع أن طبيعته تصارع ضد وصية الله (الآمرة له ألا يتخطى حدوده)، إلا أن وصية الله هي التي تغلبت عليه. ولو بقى الماء هادئاً لنسب كثير من الناس هدوءه إلى طبيعة الماء، لكن كما هو في الحقيقة، يهتاج ثائراً من الداخل، لكن دون مقدرة على تخطى حدوده، فيعلن هياجه عن قوة الله، وأمواجك تنكسر فيك»

هل أنت الذي خلقت النور؟

11- من جديد وبدءاً من هنا اجتذب الله أيوب نحو السماء، بعد أن ابتدأ أحاديثه بالأرضيات.

قال الرب: “وضعت فوقك نور الصباح (12:38).

ويوجد أيضاً نور الليل الذي هو نور القمر.

“وكوكب الصبح عرف موضعه” (تابع 12:38).

فهو أول الكواكب. لاحظ الترتيب الجميل هنا أيضاً، فكما من مثال المياه، فهمت أن في السماء أيضاً، ليست الطبيعة هى التى تنظم الأشياء، بل عناية الله هي التي تفعل هذا. إن كان البحر وهو مادة سائلة ثائرة، أظهرت مثل هذا النظام والترتيب، فعندما تلاحظ مثل هذا في السماء تذكر من هو بارئها.

12- قال الرب: “ليمسك (نجم الصبح، أى الشمس) بأطراف الأرض .(13:38)

أى ليتم دوره. ما المقصود بكلمة «ليمسك» ؟

في أي مكان وجد، فإن كوكب الصبح يرسل نوره إلى كل موضع في الأرض، حتى لمن هم في أقصى العالم، بحيث أن هذا الأمر ليس بمستغرب بالنسبة للشمس، إذ أن هذا يحدث أيضاً للكواكب، لكن ما فائدة هذا النور؟

12- قال الرب: “حينئذ يطرد الأشرار منها” (13:38).

إنه يقصد اللصوص وسارقى المقابر، وكل من يستخدمون الليل ستاراً لضلالهم. بعد ذلك، هوذا أجمل كل الأشياء

هل أنت الذي خلقت الإنسان وأعطيته النطق ؟

14 – “هل أنت أخذت الطين وصنعت منه كائناً حياً، ووضعته على الأرض بعد أن زودته بالنطق؟” (38: 14).

هذا يثبت بوضوح أن الكائنات الأخرى لا تمتلك هذه الموهبة، لأنه بعد أن أعطى الله النفس للإنسان لم يضف له هذه الموهبة إلا كامتياز استثنائي، إذ أن هذا الصوت منظوم ومتناسق. ها أنت تری أنه لم يستشهد لا بالكواكب ولا بالكائنات الأخرى ثم تابع كلامه بعد ذلك قائلاً:

أسرار البحر والموت

15- “هل منعت (يا أيوب) النور عن الأشرار وسحقت ذراع المتكبر؟ هل وصلت إلى منبع البحر؟” (38: 15- 16).

من جديد عاد الرب للكلام عن البحر في حديثه، ليس كأن البحر له منبع، بل هو لا ينضب وكأن له منبعاً.

16- بعد ذلك يتحدث عن صفته التي يتعذر تعديها. وهو يقول: “هل تمشيت في طرق لجته؟” (16:38).

لست فقط أقول أنك لا تستطيع عمل أي من الأعمال التي أنا أعملها، بل أيضاً أنت لا اعرف حتى كيف تمت. فأنت لا تستطيع أن تعرفها أو تفحصها بدقة.

وبهذه الكلمات عرّف الرب أيوب بالهوة التي تفصله عنه.

17- “هل انفتحت أبواب الموت أمامك خوفاً منك؟” (17:38)

هوذا هو يعبر عن الأمور غير المرئية عن طريق الحقائق المرئية، وهو بهذا يريد أن يقول: لدي سلطان على الحياة والموت والهاوية هي سجن يخصني.

18- “هل انزوت أبواب الهاوية لدى رؤيتك خوفاً منك ؟ هل أخبرت عن عرض الأرض؟ أخبرني عن أبعادها وطبيعتها، وأين يقطن النور؟ وأين مقر الظلمة؟ لو استطعت بالحق أن تقودني إلى تخومها وإن عرفت أيضاً سبلها، حينئذ أعلم أنك ولدت في ذلك العصر، وأن عدد سنينك كثيرة” (28: 17-18)

قال الرب لأيوب: أخبرني عن موضع اختباء النور والظلمة. لكن لماذا الكلام عن عناصر ؟ تكلم يا أيوب عما يخصك. متى ولدت ؟ بالتأكيد كان أيوب يعلم متى ولد، لكن الله سأله هذا السؤال ليعلم عن الأشياء الأخرى. فما هي مدة حياتك؟ فأنت (نفسك) تجهل ما يختص بك.

19- ” أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد؟” (22:38)

ليس معنى هذا أنه توجد مخازن، لكنه يُظهر أن هذه العناصر هي تحت تصرفه عندما يريدها، كما لو كان يسحبها من مخازنه 

20- ” وهل حفظتها الساعة (المواجهة مع) أعدائك، وليوم القتال والحرب؟ (23:38)

أن أنت تفهم أنه يريد يبرهن على ملائمتها للاستخدام، إذ أن هذا يحدث في حينه الحسن وليس اعتباطاً.

21- ثم يتحدث أيضاً عن كل الأشياء الباقية، أقصد الأمطار والبرد، وعكسهم ريح الجنوب الحارة فيقول:

“من أين يخرج الجليد من أين تخرج الريح الجنوبية التى تنتشر على وجه الأرض؟ من أعد أخاديد لسيول الأمطار وطريقاً للعواصف؟ لكى يسقط مطرهم على أرض لا يوجد فيها إنسان وعلى صحراء لا يوجد فيها بشر، لكى يغطى بالعشب أرضاً جرداء وغير مأهولة ويعطى إنباتا لها؟” (38: 25- 28)

ها أنت ترى أن الله قادر ليس على أمر واحد بل قادر على كل شيء. 

22- ” من هو والد المطر؟ ومن ولد قطرات الندى؟ من بطن من خرج الجليد؟”(38: 28-29)

إن الله لا يريد القول أن المطر يخرج من بطنه.. حاشا لله ! لكن فماذا يريد النص القول بكلمات ولادة وبطن ؟ كما أنه عندما تكلم بخصوص البحر فقال «عندما أندفق فخرج من ارحم» (38: 8) فهو لم يقصد أن البحر له أم كذلك هنا هو لا يريد القول أن الجليد يخرج من بطن، بل يريد الكلام عن تشكيله ومنشأه، فنفس الأمر يسرى هنا. فلماذا استخدم هنا كلمة «ولادة» متواتراً؟

في رأيي أنه يريد الإشارة إلى من هو العلة الأولى والوحيدة وإلى واقعة أن الخلائق قد تشكلت كلها في مخيلته حتى قبل أن تُخلق. وبالمثل فإن هذه التعبيرات أستخدمت فيما يختص بابن الله، ولكنها وردت بأسلوب أكثر سمواً، لأنه حيثما وجد الابن، توجد كلمات مثل «أنا ولدتك»، الابن الوحيد وتعبيرات أخرى نظيرها لم تُستخدم بالطبع في الحديث عن المخلوقات.

22- “من قد أضنى بالحزن وجه الأثيم” (30:38).

أنت ترى كيف هو يمزج بين مظاهر الخليقة. ماذا يهمني فيما يختص بالمهارة في الخلق؟ ما يريد النص أن يُظهره فى كل موضع هو عنايته الإلهية وكيف أنه أقام الحقائق التي لا يستطيع العقل اكتشافها.

24- “هل ربطت أنت عُقد الثريا؟ هل تعرفه؟”(38: 31).

أى أية ضرورة وأية رابطة مشتركة، لا تتوقف عن تجميع هذه الكواكب، كقطيع واحد؟

25 – “هل فتحت حاجز الجبار؟” (38: 31).

لكي يمكنه أن يدور (في مساره).

26- ” أتخرج بروقاً فتذهب، وتقول (هي) لك: ماذا تريد؟ (38: 35)

إلى الآن خص الله بالذكر السماويات التي بها يعاقبنا، وتلك التي بها يعمل لنا الخير لاحظ أيضاً أن البروق تُجيب ليس بمعنى أن البروق ستقول: ماذا تريد؟ لكنه يريد القول أن كل المخلوقات تُصغى (تطيع الله كما لو كانت كائنات حية. كل مرة يريد الله أن يُظهر تنوع تشكيلاتهم يتحدث عن الولادة وعن الرحم، وعلى العكس كل مرة يريد أن يُظهر خضوعها وكمالها يمثلها كما لو كانت تُصغى (تطيع) إلى ندائه. فلماذا يقدم نفسه ليس فقط كصانع بل أيضاً كأب؟ هذا لأن القدرة حرفياً (الفن التي استخدمت في إبداع الطبيعة أعظم بكثير من القدرة البشرية، لأنه بالحق والحقيقة هي قدرة إلهية.

فن الحياكة (الخياطة)

27- “من علم المرأة فن الحياكة ومن أعطاها فن التطريز؟” (38: 36)

لاحظ أنه هنا يتكلم أيضاً عما هو مفيد، ويخلط بين الأشياء الكبيرة والصغيرة. وبالحق فهذا لا يختص بأول الفنون والذي هو فن ممتلئ بالتنوع وفائدته ليست قليلة. وهل كانت أعمال هذا الفن ستصير شهيرة لو لم تكن هبة ( من الله ) ؟ ولاحظ أيضاً نوع الجنس الذي نال هذه الهبة. 

28- “من يحصى الغيوم بالحكمة ومن أحنى السماء نحو الأرض؟” (37:38)

أنت ترى أن السماء تلمس الأرض تماماً، وهذا هو معنى «أحنى السماء».

29- ” إنها مفرودة كتراب غباری” (38: 38)

إنه يشير إلى رقة السماء حتى أن إشعياء يقارنها بالدخان (إش 6:15)

30- ” وأنا لصقته كحجر منحوت إلى آخر”  (تابع 38: 38)

بقوله أن القبة السماوية كانت كحجر منحوت فهو أراد إظهار متانتها وصلابتها، أو أراد إظهار أن القبة السماوية ليست مثلما نراها دائرية بل هي مربعة.

هل أنت الذي تطعم الحيوانات؟

31- “هل تصطاد فريسة للأسود؟ وهل تشبع نفس الحيات؟ “(38: 39).

لماذا يقول هذا الكلام ؟ إنه يريد القول: إن كنت أنا أعتنى جداً بكائنات غير مفيدة – ليست هي حتى صالحة لخدمتك – أفلن أهتم بالأولى بكم؟ بأى قدر يمكن للأسد أن يخدم الإنسان؟ إنه يشير هنا إلى ما وضعه فى الطبيعة لإطعام الحيوانات.

32- ” لأنهم يخافون في أوجارهم” (40:38).

فمع أنهم لا يجتمعون في قطعان ولا يُقادوا إلى المرعى، بل دائماً ساعين إلى الأوجار والأماكن الخالية للاختباء فيها، فهم مع ذلك لا يموتون من الجوع. وهو تابع الكلام قائلاً “يجلسون كامنين في الغابات” (40:38)

33- “من يهيئ طعاماً للغربان، عندما تنعب (تصرخ) صغاره للرب، عندما تهيم هنا وهناك بحثاً عن طعامها ؟” (38: 41)

إذ يقال أن الغربان لا تُطعم صغارها من الطبيعى للغربان الكبيرة أن تجد طعامها، لكن من يطعم صغارها؟

أليس هذا ما تقوله كلمة الله (في العهد القديم) ، كما أيضاً في الإنجيل؟ «طيور السماء لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوى يقوتها» (مت 6: 26). انظر كيف أن حديث الله (هنا) يأتي على ذكر الحيوانات غير النافعة للإنسان وأكثرها نجاسة . لأنه يريد أن يُظهر فيض عنايته، وبالأحرى أيضاً حديثه فى الإنجيل إذ يقول: «انظروا إلى طيور السماء» (مت 6: 26). وفى موضع آخر يقول انظروا عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غداً فى التنور يُلبسه هكذا، أفليس بالحرى جداً يُلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان (مت 6: 30). 

اعتقد أن أيوب قد ظن في نفسه[1] الأمور تسير بالصدفة واعتباطاً، والله غير معتنى بها أبداً، فلهذا أجابه الرب في حديثه قائلاً أن له اهتمام عظيم بالكون ولهذا تكلم عن مخلوقاته وأيضاً عن كسائها.

  1.  لا أظن أن الأمر هكذا، لأن الإنسان عادة في أوقات المحنة ينحصر حول ذاته ومشاكله ويخطر في باله تخلى الله عنه، ولذا كان كلام الله هنا مفاده أنه إن كان يعتنى بالمخلوقات غير العاقلة بل والمؤذية، فكم بالأولى يهتم بالإنسان الذي هو تاج كل الخليقة ومحل لذة الله؟

تفسير أيوب 37 سفر أيوب 38 تفسير سفر أيوب
تفسير العهد القديم
تفسير أيوب 39
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير سفر أيوب 38 تفاسير سفر أيوب تفاسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى