تفسير إنجيل لوقا أصحاح 2 للقمص أنطونيوس فكري
الآيات 1-7
آية (1): “وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة.”
أوغسطس قيصر= سنة 27ق.م- سنة14ب.م. وكان اسمه اكتافيوس كايبياس ووهبه مجلس الأعيان لقب أغسطس أي “المبجل كإله” (هو لقب قريب من التأليه) يكتتب (كان هذا الاكتتاب تدبير إلهي ليولد المسيح في بيت لحم) كل المسكونة= أي جميع الدول الخاضعة للدولة الرومانية التي كانت تسيطر على العالم المتمدن في ذلك الحين. وكان التعداد لإشباع شهوة عظمة الإمبراطور ليبرز امتداد نفوذه وسلطته وأيضًا ليستفيد من التعداد في موضوع الضرائب والجزية والتجنيد.
آية (2): “وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية.”
كيرينيوس= كان واليًا على سوريا مرتين الأولى سنة 4 ق.م. – سنة 1 م. والثانية من سنة 6 م. – سنة 11 م. وفي المرة الأولى حدث الاكتتاب المنوه عنه هنا. والمرة الثانية حدث اكتتاب ثانٍ (أع37:5). وولاية سورية كان لها إشراف جزئي على هيرودس لذلك يذكر لوقا هذا الوالي كيرينيوس. ولاحظ دقة لوقا كعالم وطبيب في تحديد الأوقات.
تحديد تاريخ ميلاد المسيح
* أوضح التواريخ المسجلة هي سنة وفاة هيرودس الكبير. وواضح من الإنجيل أن الرب يسوع ولد قبل موت هيرودس الكبير، فهيرودس هو الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم. وكان موت هيرودس قبل فصح سنة 4 ق.م. وكان هذا الفصح في هذه السنة يوافق يوم 12 أبريل. ويسجل التاريخ أن خسوفًا للقمر حدث قبل وفاة هيرودس مباشرة. والحسابات الفلكية تشير لأن هذا الخسوف حدث في ليلة 12 – 13 مارس سنة 4 ق.م. فيكون موت هيرودس قد تحدد بالفترة من 12 مارس – 12 أبريل ويرجح أنه حدث في نهاية شهر مارس. وبعدة حسابات فلكية يقول الكاتب أن ميلاد المسيح كان في يوم 25 ديسمبر.
* بدأ يوحنا المعمدان خدمته في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر (لو3 : 1). وكان عمر المسيح وقتها حوالي 30 سنة. [السنة الخامسة عشرة لطيباريس قيصر كانت سنة 26 م ووقتها كان عمر المسيح 30 سنة].
* يمكن حساب سنة الميلاد من التعداد الذي أجراه أغسطس قيصر، وإذ كان كيرينيوس واليًا على سوريا.
* يمكن حساب تاريخ ولادة المعمدان من تحديد تاريخ بداية خدمة فرقة أبيا الكهنوتية (لو1 : 5) وكل هذه التواريخ مسجلة.
آية (3): “فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته.”
فذهب الجميع ليكتتبوا= كان الاكتتاب بحسب النظام الروماني يمكن أن يتم في أي موضع دون حاجة لانتقال إنسان إلى مدينته التي نشأ فيها. لكن الرومان وقد أرادوا مجاملة اليهود أمروا بإجرائه حسب النظام اليهودي، حيث يسجل كل إنسان اسمه في موطنه الأصلي، فالاكتتاب عند اليهود يكون بحسب الأسباط فالعشائر فالبيوت فالأفراد، وذلك لاهتمام اليهود بالأنساب.
وهكذا التزم يوسف ومريم أن يذهبا إلى بيت لحم في اليهودية لتسجيل اسميهما لكونهما من بيت داود وعشيرته. وكان تنفيذ الأمر شاقاً على يوسف الشيخ ومريم الحامل، خاصة وأن المدينة قد اكتظت بالقادمين فلم يجدوا موضعاً في فندق، وإضطرا لأن تلد القديسة مريم في المذود هناك. وهنا نجد أن الله يستخدم الأمر الإمبراطوري بالتعداد والتقاليد اليهودية بأن التعداد يكون كل حسب سبطه ومدينته ومجاملة الرومان لليهود في هذه النقطة ليظهر أن المولود يسوع هو نسل داود الذي تنبأ عنه الأنبياء. وبولادته في بيت لحم تتحقق نبوة ميخا (2:5).
آية (4): “فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته.”
كما رأينا من دراستنا في سلاسل الأنساب أن يوسف ومريم كانا كلاهما من سبط يهوذا ومن بيت داود، وكانت العادة اليهودية أن يتزوج الرجل امرأة من سبطه وبهذا نثق في أن المسيح طلع من سبط يهوذا (عب14:7) صعد= فأورشليم أعلى روحيًا وجغرافيًا.
آية (5): “ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى.”
ليكتتب= لقد سجل اسم يسوع في هذا الاكتتاب بعد أن ولدته العذراء أمه في بيت لحم. فهو سجل اسمه في تعداد البشر لكي يظهر أنه صار بشرًا مثلنا. وبهذا وبفدائه يسجل أسمائنا في سفر الحياة، وولد المسيح خبز الحياة في بيت لحم (بيت الخبز) ليعطي حياة لنا نحن البشر. ويعطينا نفسه خبزًا. لقد سُجِّل المسيح يسوع في سجلات التعداد لتنطبق النبوة “وأحصى مع أثمة” (إش12:53).
الآيات (6-7): “وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.”
وأضجعته في المذود= [1] محتقرًا كل أمجاد العالم وعظمته الباطلة الفانية. [2] ولد بين البهائم المعدَّة للذبح، (العالم استقبله في مذود وودعه على خشبة الصليب) فهو أتى مستعدًا للذبح من يوم ولادته.
لقد خيم الصليب على ولادة المسيح من أول يوم [1] ولادته في مذود حيوانات ستذبح [2] يأتي له رعاة غنم ستذبح كذبائح مختومة من الكهنة لتقديمها في الهيكل [3] المجوس يقدمون له مر [4] يوسف يشك في العذراء [5] سفر شاق ليوسف ومريم الحامل إلى بيت لحم [6] سفر شاق ليوسف ومريم والطفل يسوع إلى مصر.
والمسيح الذي أتى إلى الصليب لم يهرب من الصليب منذ البداية ولم يستعمل لاهوته ليستريح أو يهرب.
الآيات 8-12
آية (8): “وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم.”
رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ = يقيمون في الحقول لحراسة الغنم ليلاً. ويقول أدرشيم العالم اليهودي المتنصر عن معني كلمة متبدين إنهم رعاة كانوا يحرسون الأغنام التي يقدم منها ذبائح طوال السنة في الهيكل، وكان من يريد تقديم ذبيحة يذهب ويشترى منهم. وكان الكهنة يفحصونها ويختمونها (يو6: 27 ) حينما يجدونها بلا عيب فهي رمز للمسيح الذي بلا خطية. وظهر لهم الملاك ليرشدهم إلى حَمَلْ الله الذي سيقدم ذبيحة هو أيضاً. وليرشدهم للراعي الحقيقي والحمل الحقيقي الذي ختمه الله الآب (يو6: 27) = أي شهد ببره وأنه بلا خطية وأرسله ليقدم نفسه ذبيحة.
قال الربيين أن المسيا سيولد في بيت لحم. وهناك رأى آخر موازٍ له أن المسيح سيظهر في مجدل عَدَرْ وتقع مجدل عدر ما بين بيت لحم وأورشليم. وأصحاب الرأى الأخير إستندوا على نبوة ميخا النبي (4 : 8). [مجدل عَدَرْ = هو اسم عبرى معناه قلعة أو برج القطيع. ويذكره ميخا النبي “وانت يا برج القطيع اكمة بنت صهيون اليك ياتي. ويجيء الحكم الأول ملك بنت اورشليم”. مجدل عدر الآن قرية صغيرة بجانب صير الغنم (دائرة المعارف الكتابية). ومجدل عدر هذه ليست برجا لمراقبة قطعان الغنم العادية بل الغنم التي ستقدم ذبائح في الهيكل (كتاب المشناة اليهودية). والرعاة الذين يرعون هذه الأغنام ليسوا رعاة عاديين. فهؤلاء الرعاة يقعون تحت الحظر بحسب الشرائع الدينية، ومعزولين بالضرورة عن العالم الخارجى ويراقبهم الربيين. ولهم حياتهم المختلفة. هؤلاء هم الرعاة الذين ظهر لهم الملائكة ليبشرون بميلاد المسيح الذي سيكون الحمل الذي يقدم ذبيحة عن العالم. وتحققت توقعات من قال أن ميلاد المسيح في بيت لحم. وتحققت أيضًا توقعات من قال أنه سيظهر في مجدل عدر، إذ أن الملائكة كشفوا عن شخصه المبارك لرعاة مجدل عدر المكان المقدس المخصص لخراف الذبح في الهيكل [كان الرمز في مجدل عدر والمرموز إليه في بيت لحم. وكأن الملائكة تعلن أن مولود بيت لحم هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم كما قال المعمدان عنه. أي سيقدم ذبيحة لخلاص البشر وأنه بلا خطية وقد ختمه الله الآب أي شهد له (يو6 : 27) كما يشهد الكهنة بخلو الخراف التي ستقدم ذبيحة والموجودة في مجدل عدر من أي عيب. وُلد المسيح في بيت لحم وأُعلِن في مجدل عدر عن وظيفته ولماذا أتى إلى العالم. في مجدل عدر أعلن الملائكة أن انتظار إسرائيل الطويل لمجئ المخلص قد تحقق اليوم. وليس من المستبعد أن الملائكة رنمت الترنيمة الخالدة “المجد لله في الأعالى …” بينما كان الكهنة يقدمون على المذبح التقدمة المسائية اليومية. وهذه التقدمة اليومية تقدم وسط التسابيح. فكان هناك تسابيح السمائيين مع تسابيح الأرضيين بميلاد ملك السلام. ونشر هؤلاء الرعاة البسطاء الخبر في كل مكان وبالذات في الهيكل فهم يتعاملون مع الهيكل يوميا. ونشروا عن هذا الميلاد العجيب لطفل تبشر به السماء يولد في مذود لعائلة غاية في التواضع.
الآيات (9-12): “وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا. فقال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلًا مقمطًا مضجعًا في مذود.”
لم تشعر الأرض بميلاد المسيح، لم يشعر الكهنة ولا العظماء ولا الفريسيين.. إلخ. ولكن السماء اهتزت، ولم تستطع أن تصمت أمام هذا المشهد العجيب فإله السماء، ها هو الآن في مذود. والملائكة بشروا الرعاة بأنه ولد لكم= فكل ما حدث هو للبشر. فالمسيح وُلِد فقيرًا ليغني كثيرين وولد متواضعًا ليرفع المتضعين وبقدر ما نكون له يكون هو أيضًا لنا. وبقدر ما نبذل لأجله ونعطيه تكون مكاسبنا. مخلص هو المسيح الرب= نرى في هذه الآية أن يسوع هو المسيح، الرب يهوه، المخلص [يهوه هو المخلص (إش11:43)]والذي تأنس وصار إنسانًا ومُسِحَ بالروح القدس ليكون ملكًا وكاهنًا ونبيًا. لقد سبحته القوات السمائية لأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة. فلقد وُلِد كثير من الأنبياء العظماء ولم يتهلل السمائيين هكذا فهم جميعًا كانوا خدامًا لهذا المولود. وهذه لكم العلامة= هم لم يسألوا علامة ولكن الملاك أعطى لهم علامة ليعرفوه.
الآيات 13-20
الآيات (13-14): “وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين. المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.”
لقد هتفت الملائكة وسبحت حينما خلق الله العالم (أي7:38+ مز21:103) وها هم يسبحون حينما بدأ المسيح الخليقة الجديدة الثانية بميلاده. وهذه التسبحة تستخدم في صلاة باكر “فلنسبح مع الملائكة قائلين المجد لله في الأعالي.. ” كما جاء في دساتير الرسل لنبدأ يومنا بالتهليل مع الملائكة من أجل عمله الفائق خلال تجسده الإلهي حتى صعوده. لقد صارت الملائكة هنا كارزة بالميلاد وذلك للرعاة، والرعاة للناس (آية18) الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي = حيث لا توجد خطية، هناك السمائيون يعطون الله المجد والتسبيح، فكلهم خاضعين في حب. وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ = بعد أن سادت الخطية والعصيان والانقسام جاء المسيح ملك السلام ليسود السلام. وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ = كان هناك غضب على الإنسان وبالفداء صارت المسرة بعودة الإنسان، الابن الضال إلى حضن الآب، فقال الآب “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.
بهذه التسبحة نسبت الملائكة المجد للثالوث القدوس.
- المجد للآب …….. في الأعالي.
- المجد للابن …….. الذي تجسد ووُلِد ليأتي بالسلام للبشر (يو21:20) لذلك فهو ملك السلام.
المجد للروح القدس….الذي حل على البشر بعد عمل المسيح الفدائي ليعيد الفرح للإنسان (غل22:5) فمن ثمار الروح فرح. ويعيد الفرح لله بعودة الابن الضال (الإنسان) لأحضانه ، وذلك بالتبكيت والمعونة كلما أخطأ. لذلك نسمع يوم عماد السيد المسيح “هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت”.
الآيات (15-19): “ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المذود. فلما رأوه اخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة. وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها.”
كانت ما تحفظه مريم هو أحد مصادر معلومات لوقا.
آية (20): “ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم.”
مَنْ يتقابل مع المسيح يعود مسبحًا وفرحًا.
قدَّم القديس لوقا قصة الرعاة وقصة سمعان الشيخ وحنة النبية الذين فتح الله عيون قلوبهم فعرفوا من هو هذا الطفل وفرحوا به وسبحوا الله على الخلاص. أما رؤساء الكهنة فكانت لهم المعلومات ولكن عيونهم مغلقة. وقدَّم القديس متى قصة المجوس الأمم. وكان هذا عجيبا. فالقديس متى يكتب إنجيله لليهود وها هو يقدم سجود الأمم للمسيح، بينما يتسبب ملك اليهود في هروبه إلى مصر. بينما القديس لوقا الذي يكتب للأمم نجده يقدم فرحة وتسبيح اليهود الأتقياء بالمسيح الذي كانوا ينتظرون مجيئه. ولكن إذا بدا هذا متناقضا لكنه تناقض ظاهرى مقصود. فما حدث فعلا أن اليهود صلبوه أما الأتقياء منهم فرحوا به. والأمم قبلوه وآمنوا به. فكلا الإنجيليين متى ولوقا يقدمون العالم كله يهودا وأمم كمؤمنين بالمسيح فهو أتى ليجمع الكل، ولكن هناك من الطرفين من سيرفضه. والقديس متى يُعلن لليهود الذين يكتب لهم أن الله سيقبل الأمم وها هم الأمم يأتون ليقدموا له السجود ويقبل عطاياهم فلماذا ترفضونه أنتم. والقديس لوقا يكتب للأمم أن الله لم يرفض اليهود بل أتى الملائكة من السماء يبشرونهم بميلاد مخلصهم، ومخلص العالم كله، كما تنبأت به توراتهم.
الآيات 21-36
آية (21): “ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمى يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن.”
كان الختان علامة الدخول في عهد مقدس مع الله (تك17). والمسيح أتى خاضعًا للناموس، إذ هو وحده غير كاسر للناموس (غل3:4-5). هنا نرى المشرع ملتزمًا بالقانون الذي سَنَّهُ. وختان النفس من غلفتها (الخطية) بالمعمودية.
الآيات (22-24): “ولما تمت أيام تطيرها، حسب شريعة موسى، صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب: أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسًا للرب. ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب: زوج يمام أو فرخي حمام.”
بعد ختان المسيح انتظرت مريم يوم تطهيرها (تحسب المرأة في الناموس نجسة حين تلد لأنها ولدت إبناً يحمل خطايا أبويه ومحكوم عليه بالموت والموت نجاسة)، وعند تمام الأربعين يوماً من الميلاد حملت المسيح وذهبت إلى الهيكل لتتطهر. (والآن الكنيسة تتبع نفس الطقس وتمنع الأم من التناول حتى معمودية ابنها التي بها يحصل المولود على الحياة). وكان الأغنياء يقدمون حملاً حولياً وهي قدمت الحمل الحقيقي الذي يرفع خطايا العالم، أما الفقراء فكانوا يقدمون فرخي حمام أو زوج يمام (لا8:12) يقدم أحدهما محرقة والأخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر. (وهذا رمز للمسيح الذي قدم نفسه بفدائه ذبيحة محرقة ليرضي الآب، وذبيحة خطية ليرفع خطايا البشر). والعذراء ويوسف لفقرهما قدما تقدمة الفقراء.
كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ = إذ قدمت العذراء ابنها القدوس للرب قدمت ذاك الذي من أجله جعلت الشريعة كل ذكر فاتح رحم قدوساً كرمز له (خر13: 1) “قدس لي كل بكر فاتح رحم”… ثم استبدل الرب الأبكار باللاويين (عد3: 12). والآن نفهم لماذا اختار الله الابكار أولًاً، ولماذا قال عن البكر قدوس ؟ فهم رمز للمسيح القدوس البكر فاتح الرحم. والمسيح لم يكن محتاجاً للختان ولا للتطهير بعد الولادة، فهو لم يولد من زرع بشر، ولم يرث خطية وهو بلا خطية. لكن هو أكمل كل وصايا الناموس، ليكون كاملاً بحسب الناموس (الناموس الذي لم يستطع أحد أن يكمله) وذلك حتى نحسب فيه كاملين فلا يحكم علينا الناموس بالموت. ولذلك ولأن المسيح نفذ كل وصايا الناموس والتزم بها قال بولس الرسول عنه “أنه مولوداً تحت الناموس” (غل5: 4).
آية (25): “وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهذا الرجل كان بارًا تقيًا ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه.”
قصة سمعان الشيخ كما وردت في التقليد الكنسي تتلخص في أنه كان أحد الـ72 شيخًا من اليهود الذين طلب منهم بطلميوس ترجمة التوراة إلى اليونانية والتي سميت بالترجمة السبعينية. وقيل أن سمعان هذا كان هو المكلف بترجمة سفر إشعياء وأنه في أثناء الترجمة أراد أن يستعيض عن كلمة “عذراء” في نبوة إشعياء “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا.. ” بكلمة فتاة إذ تشكك في الأمر. فظهر له ملاك الرب وأكد أنه لن يموت حتى يرى مولود العذراء هذا. وبالفعل إذ أوحى له الروح القدس حمل الطفل يسوع على يديه وانفتح لسانه بالتسبيح مشتهيًا أن ينطلق من هذا العالم بعد أن عاين بالروح خلاص جميع الشعوب والأمم.
تعزية إسرائيل= عبارة تقال عن المسيح الذي بخلاصه يكون تعزية لإسرائيل.
الآيات (26-32): “وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتي بالروح إلى الهيكل وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس. أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل”.”
نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ (وقد تعني أن المسيح سيُعْلَن لكل الأمم، والخلاص سيكون نوراً يراه كل العالم)= يقول التقليد أن سمعان عرف المسيح بعلامة نورانية ظهرت فوق رأسه وهو بين يدي العذراء أمه. أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ = المسيح هو خلاصنا وهذا الخلاص سيتممه بالصليب. قُدَّأمَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ = الخلاص مقدم لكل شعوب العالم ولكل إنسان. وسر الفداء كان منذ القدم وقبل خلق العالمين. ولكن لم يعلن إلا في آخر الزمان فكان نوراً للساكنين في الظلمة= نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ.
والكنيسة التي تسبح مع الملائكة تسبحة المجد لله في الأعالي كل يوم وتصلي هذه التسبحة في صلاة باكر. تصلي هذه الآيات الخاصة بصلاة وتسبحة سمعان الشيخ مرتين يوميًا. الأولى في صلاة النوم والثانية في صلاة نصف الليل، لتعبر عن اشتياق النفس للانطلاق للسماء إذ قد تم الخلاص= أمين تعالى أيها الرب يسوع (رؤ20:22). الأولى تسبحة سمعان الشيخ نختم بها كل يوم والثانية هي ختام الكتاب المقدس كله.
الآيات (33-34): “وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه. وباركهما سمعان وقال لمريم أمه ها أن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم.”
باركهما= أي بارك العذراء مريم ويوسف رجلها. ولكنه لم يبارك المسيح الذي يبارك العالم كله. وضع لسقوط وقيام كثيرين= سيكون رائحة حياة لحياة ورائحة موت لموت. وسيكون صخرة عثرة من يسقط عليه يترضض ولكنه صخرة تحمي من يؤمن به (إش14:8). ولعلامة تقاوم= هي علامة الصليب. فالله أرسل ابنه لخلاص العالم (يو16:3) خلال علامة الصليب، لكن ليس الكل يقبل هذه العلامة ويتجاوب مع محبة الله الفائقة، بل يقاوم البعض الصليب ويتعثرون فيه. هذا ومن ناحية أخرى فإن سقوط وقيام الكثيرين يشير إلى سقوط ما هو شر فينا وفي حياتنا لقيام ملكوت الله فينا، فعمل السيد المسيح أن يهدم الإنسان القديم ليقيم الإنسان الجديد. إذًا الآية تفسر بطريقتين:
1- سقوط الجاحدين من اليهود برفضهم المسيح، وقيام المؤمنين بإيمانهم بالمسيح.
2- سقوط الشر فينا لقيام بر الله داخلنا. (راجع 1كو18:1+ 2كو15:2-16).
آية (35): “وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة.”
يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ = شاركت العذراء مريم ابنها الصليب بكونها الكنيسة التي تحمل صورة عريسها المصلوب المُقاوَم. والسيف هو الألم الشديد الذي لحق بالعذراء الأم وهي ترى ابنها مهاناً مضطهداً ومعلقاً على الصليب. لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ = الصليب والمؤامرة التي حاكها اليهود ورؤساؤهم كانت سيف في نفس العذراء ولكنها في الوقت نفسه كشفت رياء ونفاق وشر وأفكار الرؤساء الشريرة الذين تظاهروا بحفظ الناموس والغيرة على الشريعة، وتظاهروا بالقداسة. وهكذا الصليب دائماً يكشف الخراف من الجداء، هو المحك الذي يظهر به الخراف من الجداء، هو الذي أظهر اللص التائب من اللص المعاند. وهو الذي يكشف القديسين الذين يحتملون الألم في فرح مع المسيح، هؤلاء يجوز فيهم الألم كسيف في نفوسهم ولكنهم يُعْطَوْنَ تعزية. وهو الذي يكشف الجداء الذين يعتبرون الصليب الذي يتعذب به المسيح وكنيسته انتصاراً لهم. وأيضاً يكشف الصليب الجداء الذين لا يحتملون الصليب فينكرون الصليب والمصلوب عليه خوفاً من هذا السيف الذي يجوز في نفوسهم، فيفقدوا تعزيتهم على الأرض ونصيبهم في السماء.
الآيات 36-50
الآيات (36-38): “وكانت نبية، حنة بنت فنوئيل من سبط أشير، وهي متقدمة في أيام كثيرة، قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها. وهي أرملة نحو أربعة وثمانين سنة، لا تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم.”
منتظرين فداء= كانت نبوة دانيال (الـ70 أسبوعًا) تحدد سنة مجيء المسيح، لذلك كان كثير من الأتقياء منتظرين ظهور المسيح. ومن هؤلاء كانت حنة النبية. وهي عجوز ربما يكون عمرها في ذلك الوقت 84عامًا إذا افترضنا أن قول الكتاب وهي أرملة نحو أربعة وثمانين سنة أنه يتكلم عن عمرها في وقت المسيح. ولكن هناك من يفهم الآية أنها ترملت بعد زواج 7سنين وبذلك يكون عمرها وقت وفاة زوجها حوالي 23سنة ثم بعد ترملها قضت 84سنة في الهيكل. فيكون عمرها وقت دخول المسيح الهيكل 111سنة. هنا نرى أن كل الفئات فرحت بهذا المولود العجيب (الملائكة/ العذراء التي ستطوبها الأجيال لأنها صارت أمًا لله/ يوسف الذي انتسب إليه المسيح/ أليصابات العاقر التي ولدت/ الكاهن الصامت يسبح/ الجنين في بطن أليصابات يبتهج/ سمعان الشيخ يقوده الروح ليحمل تعزية إسرائيل بين يديه/ الأرملة حنة النبية/ الرعاة/ المجوس).
ليلًا ونهارًا= حسب عادة اليهود يبدأ اليوم بعشية اليوم السابق “وكان مساء وكان صباح”.
آية (39): “ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة.”
عاد المسيح إلى الناصرة في هدوء شديد ليمارس حياته كأي واحد منا، ولم يُظهر أي معجزة في صباه. وكانت أول معجزاته تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل.
الآيات (40): “وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه”.
حمل المسيح جسدنا فصار مثلنا. وكان جسده (ناسوته) طبيعياً جدًاً مثلنا تمامًاً فكان ينمو في الحِكْمَةً (نمواً عقلياً) والقامة (نمواً جسدياً) والنعمة عند الله (نمواً روحياً) والناس (نمواً اجتماعياً). وكان المسيح الله الكلمة قادراً أن يتخذ جسداً من امرأة فيصبح رجلاً نامي الأعضاء كامل الأنسجة بمجرد ولادته ولكن لو حدث هذا لكان من قبيل اللعب التخيلي، ولذلك سار الصبي على قوانين الطبيعة البشرية فهو واضع هذه القوانين. وكان يتقدم كما يتقدم أي طفل. ولكن في كل مرحلة من مراحل عمره كان متفوقاً على من هم في سنه، وهذا ما نراه في حواره مع الشيوخ في الهيكل. كان لاهوته المتحد بناسوته يعلن النعمة التي فيه أكثر فأكثر، فكانت نعمته تتزايد في أعين كل البشر، وهذا هو ما قصدناه بنموه الاجتماعي. ونجد أن لوقا قد إهتم بكل مراحل المسيح السنية، فرآه جنين في بطن أمه، ورآه طفلاً ورآه صبياً ثم رآه مكتمل الرجولة، فالمسيح إذاً قدَّس كل مراحل الحياة البشرية. راجع (آية 52).
الآيات (41-50): “وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما اكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم ويوسف وأمه لم يعلما. وإذ ظناه بين الرفقة ذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه اندهشا وقالت له أمه يا بني لماذا فعلت بنا هكذا هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين. فقال لهما لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبى. فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما.”
في عيد الفصح= كان يذهب لعيد الفصح حوالي مليونين من اليهود ليعيدوا في أورشليم. وكانوا يذهبون لأورشليم ويعودون منها إلى بلدانهم الأصلية في قوافل. وذهابهم إلى أورشليم ليحتفلوا بالفصح، كان حسب الشريعة (خر17:13+ تث16:16) وكانوا يقضون هناك في أورشليم 8 أيام ليعيدوا بعيد الفصح والفطير. وكان المسافرون يسيرون على قافلتين، إحداهما للنساء والثانية في المؤخرة للرجال. وكان الصبيان يسيرون إما مع الرجال أو مع النساء. وانقضى العيد وعادت قافلة الجليل وانقضى اليوم الأول في السفر، وحينما اقتربت قافلة الرجال وبها يوسف من قافلة النساء وبها العذراء مريم والتقيا كلاهما، يسأل كل منهما الآخر عن الصبي يسوع، إذ حسب كل منهما أنه مع الآخر، وقد بقيا يسألان الكل وإذ لم يجداه عادا لأورشليم واستغرق هذا يومًا ثانيًا، وامضوا يومًا ثالثًا يبحثان عنه إلى أن وجداه في الهيكل وسط الشيوخ= وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل ولما كانت له إثنتا عشرة سنة= سن الثانية عشر هي السن القانونية الذي يضم فيه اليهود الطفل الصغير ليصبح من جماعة إسرائيل (لذلك كان يجوز الطفل في هذه السن اختبارًا ويقدم في الهيكل ليأخذ لقب “ابن التوراة”) ولا نعرف شيئًا عن حديث المسيح مع الشيوخ الذي أبهتهم به. لأن الكتاب أراد أن يسجل ما هو أهم، فكانت الكلمات الأولى على لسان المسيح، بل والوحيدة على مدى فترة الثلاثين سنة “ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي” فهو أتي لينفذ مشيئة الآب السماوي، أبيه. وأما عن حياته العادية لم نسمع سوى أنه كان خاضعًا لهما أي ليوسف وأمه العذراء. ألا ينفذ واضع الناموس ما طلبه منا ويكرم أباه وأمه. كنا نطلبك معذبين= لا تبحث عن يسوع في تراخ وفتور وإلا فلن تجده.
تعليق:
تعجب اليهود من معرفة المسيح وقالوا “كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم” (يو15:7) واليهود يقصدون بهذا أنه لم يسلك سلوك الربيين في الجلوس تحت أقدام المعلمين الكبار حتى ينقل ما عندهم من معرفة، كما تعلم شاول عند قدمي غمالائيل (أع3:22) وهذا حقيقي فالمسيح لم يلتحق قط برابٍّ أو فريسي ليتعلم، لكنه وهو واحد مع الآب “أنا والآب واحد” (يو30:10) فكل ما هو للآب كان له، إن في المشيئة أو المعرفة أو العمل. وقطعاً إنطبعت التوراة على قلبه وفكره، وكان كل هذا عنده كصفحة مقروءة. وهذا لا يمنع من أن المسيح حينما كان طفلاً كان يتعلم التوراة والأنبياء والمزامير ربما على يد الأسرة أو في مدارس القرية. ولكن علاقته بالآب والروح القدس أعطته فهماً وإستيعاباً ومعرفة متسعة. وإذا فهمنا أن المسيح كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو52:2) نفهم أنه كان يتعلم مثل باقي من كانوا في سنه. ولكن علاقته بالآب والروح أعطته أن يتفوق بشكل عجيب عمن كانوا في سنه، وهذا ما جعل الشيوخ يبهتون (لو47:2)، وجعل الشعب يتعجب أنه لم يتلقى تعليماً عند كبار المعلمين (يو15:7).
ولنلاحظ أن يوسف ومريم وجداه في الهيكل، ونحن لن نجد المسيح إلا من خلال الكنيسة. هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا = العذراء بالرغم من كل ما نالته من كرامة نجدها في تواضع تقدم يوسف عليها في حديثها. والمسيح لم يعترض على نسبته لهما وإنما أوضح أن نسبته الأولى هي لأبيه السماوي. يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي… لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي. ولكن يوسف والعذراء لم يفهما قطعاً معنى قوله هذا. وأن قوله أكون فيما لأبي أي في الهيكل. فالهيكل هو بيت أبيه.
لم يذكر الإنجيل عن حياة يسوع قبل بدء خدمته سوى قصة زيارته للهيكل في سن الثانية عشرة. فكيف نفهم هدف ذكر هذه القصة فقط؟ بالنسبة لكل يهودي تقى نجد أن الحياة العادية والدين متشابكان وكلاهما لهما ارتباط عضوى بالهيكل وبشعب إسرائيل. وكل إسرائيلى عميق التفكير يفهم أن حياته الحقيقية ليست في المكان الذي يحيا فيه بل تجرى نحو الوحدة الكبرى مع شعب الله وتدور حول الهيكل وهالة التقديس التي تحيط به. بل كل يهودي في أعماق مشاعره أنه مولود في صهيون فهناك منبع حياته. إذاً لم تكن مشاعر اليهودي أين كان هي مشاعر الإشتياق الطبيعي لرؤية مدينة أبائه أورشليم المجيدة، ولا هي مشاعر الحماس بأن تقف أقدامه على أبواب أورشليم حيث وقف الأنبياء والملوك والكهنة. ولكن هي مشاعر أعمق تجعله فرحا حين يقول “هلم ندخل بيت يهوه”. وحتى حينما يكون الهيكل خربا فاليهودي يتمسك بذكريات الماضى المجيد، ويتمسك بوعود الله عن مجد أورشليم الآتي، والذي يراه اليهودي أنه آتٍ قريبا. بل ويعود عرش داود في أورشليم وسط قصورها.
وكان على الأب والأم أن يقوما بتدريس أبنائهم الشريعة في المنزل منذ نعومة أظفارهم. وكان هناك قانون مشدد أنه على الصبي في سن الثالثة عشرة أن يتواجد في الهيكل ليرى ويلاحظ الشعائر التي تمارس في الهيكل في الأعياد، وحينئذ يطلق على الصبي “ابن التوراة أو ابن الشريعة”. وكانوا ينفذون هذه الوصية للصبى قبل سن الثالثة عشرة بسنة أو بعد هذا السن بسنتين على الأكثر. وبحسب هذه الوصية إصطحبت العائلة المقدسة الصبي يسوع بصحبة الناصريين الذاهبين للحج في أورشليم في أول عيد فصح للصبى يسوع بعد أن إجتاز سن الثانية عشرة. ويتضح أن هذه كانت عادة العائلة المقدسة أن يذهبوا إلى أورشليم سنويا في عيد الفصح. ولم تكن النساء ملزمة بالذهاب إلى الهيكل، ولكن العذراء مريم إستفادت فرحة بأراء الرابى هليل الذي سمح للنساء بحضور هذه الإحتفالات المقدسة.
وبالنسبة للصبى يسوع فهذه هي الزيارة الأولى لبيت أبيه السماوي. هذا ما كان يشغل فكره وليس عظمة مبانى الهيكل. وكان الهيكل من الضخامة حتى أنه يتسع لمئات الألوف من الذين يصعدون للهيكل في الأعياد. وسط هذا الهيكل ووسط الشيوخ أساتذة الناموس جلس الصبي يسوع يسمع ويسأل لمدة ثلاثة أيام. وكان على الشعب حضور اليومين الأولين للفصح، وكان يسمح للشعب بالعودة إلى بيوتهم بعد منتصف اليوم الثالث. ولذلك قرر القديس يوسف والعذراء مريم العودة إذ لم يكن هناك داعٍ لبقائهم بقية أسبوع الفصح بعد أن أتموا كل طقوسه، وهكذا فعل الكثيرون وبدأوا رحلة العودة. ولكن وجدنا الصبي يسوع لا ينضم لأقربائه أو للصبية من سنه. بل يذهب ليجلس في حلقات الدرس التي يعقدها شيوخ السنهدريم من الصباح حتى وقت التقدمة المسائية للرد على التساؤلات والإستفسارات. وكانت هذه عادة لهم حسب ما ذكره التلمود. وليس بالضرورة أن الشيوخ شعروا في المحادثات التي دارت مع الصبي يسوع أنهم أمام شيء خارق للطبيعة. فهم بحسب عادة الشيوخ كانوا يعطون أهمية ويولون إهتماما أكبر لمن يجدوا فيه نضوجا مبكرا أو نبوغا غير عادي. وحتى لو لم يجدوا شيئا فائق للطبيعة في حوار الصبي يسوع إلا أن كل من سمعه تعجب من الفطنة في إجاباته وكيفية ربطه للأحداث. ولكننا لا نستطيع تصور ماذا دار في الحوار بينه وبين الشيوخ، لكن يمكن تصور أن الحوار دار حول معانى الفصح. فالشيوخ يستغلوا هذه المواسم لشرح معانيها للشعب. وربما أظهر الصبي يسوع المعانى المخفية في رموز الفصح وأنها تدور حول المسيا المخلص حمل الله الذي يرفع خطية العالم (أي هو نفسه).
الآيات (لو51:2-52):- “ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَأمَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. “
لقد عرفت مريم أن هناك أشياء تفوق ما للإنسان الطبيعي تحدث مع هذا الصبي. فحفظت كل هذا في قلبها. راجع شرح آية لو2: 40.
يسوع كان يتقدم (ينمو) في الحكمة والقامة والنعمة…
هذا عن الناسوت، وكان ناسوتا كاملا ينمو ويكبر، والجسد له نفس كاملة تنمو في المعرفة الطبيعية كما تنمو نفس الإنسان وتزداد في المعرفة والحكمة الإنسانية بنمو القوى العاقلة وبإزدياد الخبرات والمدركات الحسية التي تنتقل إلى داخل النفس عن طريق الحواس. والنعمة هي فضل الله مفاضا على طبعنا البشرى، أما في المسيح فهي مجد الله ظاهرا فيه. هذا النص يبين أن إنسانية المسيح كانت كاملة وكانت تقتبل النعمة مع تقدم السن والقامة وتطور النمو الجسماني.
الآيات (لو23:3-38):-“ 23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي، 24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، بْنِ مَلْكِي، بْنِ يَنَّا، بْنِ يُوسُفَ، 25بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ عَأمُوصَ، بْنِ نَاحُومَ، بْنِ حَسْلِي، بْنِ نَجَّأيِ، 26بْنِ مَآثَ، بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ شِمْعِي، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يَهُوذَا، 27بْنِ يُوحَنَّا، بْنِ رِيسَا، بْنِ زَرُبَّابِلَ، بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ، بْنِ نِيرِي، 28بْنِ مَلْكِي، بْنِ أَدِّي، بْنِ قُصَمَ، بْنِ أَلْمُودَأمَ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي، بْنِ أَلِيعَازَرَ، بْنِ يُورِيمَ، بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، 30بْنِ شِمْعُونَ، بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يُونَانَ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31بْنِ مَلَيَا، بْنِ مَيْنَانَ، بْنِ مَتَّاثَا، بْنِ نَاثَانَ، بْنِ دَاوُدَ، 32بْنِ يَسَّى، بْنِ عُوبِيدَ، بْنِ بُوعَزَ، بْنِ سَلْمُونَ، بْنِ نَحْشُونَ، 33بْنِ عَمِّينَادَابَ، بْنِ أَرَأمَ، بْنِ حَصْرُونَ، بْنِ فَارِصَ، بْنِ يَهُوذَا، 34بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَاقَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، 35بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَأمِ، بْنِ نُوحِ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ، بْنِ أَخْنُوخَ، بْنِ يَارِدَ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ، بْنِ قِينَانَ، 38بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ. “
آيات عسرة الفهم خاصة بلاهوت المسيح
1) صلوات يسوع للآب
صلاة المسيح كانت كإنسان يصلى بالروح. وكانت كمناجاة، أما في بستان جثسيمانى كانت كطلب وظهر فيها كإنسان كامل يتألم ولكنه كان طائعا لمشيئة الآب التي هي نفس مشيئته فالآب والابن واحد. وكمثال للمناجاة بين الابن والآب نجد المسيح ينادى الآب “مجد إبنك…” (يو17). وفي (يو12: 28 – 30) يقول المسيح “مجد إسمك.. فجاء صوت من السماء مجدت وأمجد أيضا…. هذا الصوت كان من أجلكم”.
2) أنا أخرج الشياطين بروح الله
تأكيد أنه ليس إلها آخر غير الإله الذي يعرفونه. ولكنها آية تبين تضامن الأقانيم الثلاثة معا لأنها قائمة معا وكائنة معا في جوهر واحد، الابن يتكلم والروح هو الروح القدس والآب هو الله. فإخراج الشياطين هو بسلطان المسيح ولكن بدون انفصال عن الآب والروح القدس.
3) إلهي إلهي لماذا تركتنى
إلهي = من جهة الناسوت فالمسيح يخاطب اللاهوت – سواء لاهوت الآب الذي هو لاهوت الابن الذي هو لاهوت الروح القدس – وهو اللاهوت الحال به والمتحد به بقوله إلهي. فناسوت المسيح ناسوت مخلوق وخالقه هو اللاهوت المتحد به الذي يملأ السماء والأرض.
4) الرب قنانى أول طريقه… منذ الأزل مسحت (أم8: 22)
الرب إقتنى الحكمة الأزلية أي حازها، هي كانت منذ الأزل ولا تزال قائمة وكائنة عنده، هذا التعبير لا يختلف كثيرا عن “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله”. ويقول سليمان في نفس النص “منذ الأزل مسحت” ولا يتصف بالأزلية إلا الله وحده. والمسحة تعنى التعيين لمهمة معينة (الملوك والكهنة) وكان عمل المسيح هو الخلاص والفداء.
5) الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه ربا ومسيحا (أع2: 36)
كان بطرس يُخجل اليهود السامعين مما فعلوه بالمسيح. فهو يقول يسوع هذا الذي قتلتموه ودفنتموه لم تنته قصته بل قام وأرسل الروح القدس علينا كما ترون الآن فينا. هو ليس ضعيفا بل عظيم. بطرس هنا يشرح ليغير الصورة في أذهان اليهود.
6) إله ربنا يسوع المسيح
بولس الرسول هنا يتكلم عن ربنا يسوع المسيح وليس عن الأقنوم الثاني مجردًا عن الناسوت. المسيح هو إله من حيث لاهوته وإنسان من حيث ناسوته.
الكتاب المقدس ينسب ما للناسوت ليسوع المسيح أو للرب يسوع، لأن اللاهوت متحد فيه بالناسوت إتحادا تاما بغير انفصال لحظة واحدة أو طرفة عين. ولذلك نقول عن العذراء مريم أنها والدة الإله، مع أنها ليست أصلًا للاهوت، لكن اللاهوت حل في أحشائها، وإتخذ منها ناسوتا ومع ذلك فهي تدعى والدة الإله بإعتبار الإتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت، فالذي خرج من أحشائها إله متأنس وليس مجرد إنسان فقط.
وجدير بالذكر أنه يمكن أن تكون للكائن صفتان دون تعارض. فالجمر هو مُحْرِق ومُحتَرِق. والرب يسوع هو إله من حيث لاهوته لكن من حيث ناسوته له إله، وهذا الإله هو المتحد بالناسوت، وفي نفس الوقت هو الكائن في السماء.
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24