تفسير إنجيل لوقا ١٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس عشر
صداقته للخطاة
إذ حدثنا الإنجيلي عن أساسيات الصداقة الإلهيَّة الآن يحدثنا عن صديقنا العجيب الذي يطلب الخطاة ويبحث عن المفقودين ويفتح أحضانه لكل ضال يرتد إليه، يقدَّم لنا خلال الأمثلة أبوته الحانية وشوقه الإلهي نحو الإنسان وبحثه عن كل نفس.
- مثل الخروف الضال 1-7.
- مثل الدرهم المفقود 8-10.
- مثل الابن الضال 11-32.
- مثل الخروف الضال
يكشف معلمنا لوقا البشير عن مدى شوق الله وسعيه نحو الإنسان وفرح السمائيين بخلاصه وعودته إلى الشركة معهم خلال هذا المثل، إذ يقول:
“وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه.
فتذمر الفرِّسيُون والكتبة، قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم.
فكلمهم بهذا المثل، قائلاً:
أي إنسان منكم له مئة خروف،
وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البريَّة
ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟!
وإذا وجده يضعه علي منكبيه فرحًا.
ويَّاتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران،
قائلاً لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال.
أقول لكم أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب
أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة” [1-7].
يربط القدِّيس أمبروسيوس بين هذه الأمثال الثلاثة التي ضربها رب المجد يسوع بخصوص الاهتمام بخلاص الخطاة، قائلاً:
[يشير علينا الطبيب الصالح بأدويَّة لشفاء الضلال، إذ لا يرفض الديان الرحوم الرجاء في إعطاء المغفرة. وقد قصد القدِّيس لوقا أن يذكر ثلاثة أمثال متتاليَّة: الخروف الضال الذي وُجد، والدرهم المفقود الذي وُجد، والابن الضال الذي كان ميتًا فعاش، لكي يدفعك بهذا الدواء الثلاثي لنوال الشفاء من جراحاتك، إذ الخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا (جا 4: 12).
من هم هؤلاء: الأب والراعي والمرأة؟ الأب هو الله الآب، والراعي هو المسيح، والمرأة هي الكنيسة.
المسيح (الراعي) يحملك في جسده، إذ يحمل خطاياك في جسده، والكنيسة تبحث عنك، والآب يقبلك…
الفادي يعين، والكنيسة تهتم، والآب يتصالح. يا لرحمة العمل الإلهي!…
الخروف المُتعب يرجعه الراعي، والدرهم المفقود تجده الكنيسة، والابن يرجع إلى طريق الآب، قادمًا بملء التوبة عن الضلال الذي يدينه.]
يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه معلقًا علي مثل الخروف الضال، قائلاً:
[لنتهلل إذن من أجل هذا الخروف الذي ضل في آدم وقام في المسيح.
منكبا المسيح هما ذراعا الصليب، حيث وُضعت خطاياي علي هذه الخشبة المحيية فاسترحت…
ابن الإنسان جاء ليخلص ما قد هلك (19: 10)، يخلصنا جميعًا، “لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع” (1 كو 15: 22).
الراعي غني، فنحن جميعًا نمثل واحدًا من مئة من ميراثه؛ له رعيَّة عظيمة من الملائكة ورؤساء الملائكة والسلاطين والسيادات (كو 1: 16)؛ له رعيَّة في الأعالي. ولأنهم حكماء يتهللون بفداء البشر، الأمر الذي يدفعنا بالأكثر إلى الصلاح.
لنعرف أن تجديدنا يبهج جمهور الملائكة، فنطلب شفاعتهم وعونهم ولا نغضبهم. لتكن مفرحًا للملائكة، إذ يبتهجوا برجوعك.]
جذب هذا المثل قلب الكنيسة منذ العصر الرسولي الأول، إذ ترى فيه الراعي الصالح الذي يبدو كمن ترك التسعة والتسعين خروفًا – أي السمائيين – ليبحث عن الإنسان بكونه خروفه الضال، جاء كلمة الله متجسدًا، حاملاً كل المتاعب حتى الصليب، ليدخل إلى القبر ويختطف الإنسان الساقط من أعماق الجحيم، محطمًا كل قوى الظلمة، ليردنا إلى بهجة خلاصه. هذا وقد أبرز هذا المثال علاقتنا أيضًا بالسمائيين الذين يفرحون برجوعنا، ويتهللون بشركتنا معهم في التسابيح السمائية والتمتع بالأمجاد الأبديَّة…
لقد وجد الرعاة في هذا المثال ينبوعًا حيًا للحب الرعوي الصادق، كما وجد فيه الخطاة رجاءً لا ينقطع بقبول كل نفس مهما كان فسادها. وإنني أكتفي بعرض القليل من تعليقات بعض الآباء على هذا المثال:
v لست أريد أن يخلص الكثيرون بل الكل، فإن بقى واحد في الهلاك أهلك أنا أيضًا. يبدو لي أنه يجب الإقتداء بالراعي الذي له التسعة والتسعون خروفًا لكنه أسرع وراء الخروف الضال.
v الخروف الذي انفصل عن التسعة والتسعين ثم عاد ثانية لا يمثل بالنسبة لنا إلا المؤمن الذي سقط ثم عاد، إذ هو منتمي للبقيَّة، وكان موضع رعاية نفس الراعي، وقد ضل عن الشركة، وصار تائهًا علي الجبال وفي الوديان في رحلة طويلة، مبتعدًا عن طريق الحق.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v رقم 100 عدد كامل؛ كان لله مائة خروف حين خلق الملائكة والبشر، ولكن خروفًا فُقد، إذ أخطأ الإنسان وترك مراعي الحياة. لكن راعيهم ترك التسعة والتسعين في البريَّة، ترك كل طغمات الملائكة العلويين في السماء.
كيف دُعيت السماء بريَّة [4]؛ إلا لأنها كما لو تُركت؟! لقد هجرها الإنسان عندما أخطأ، لكن بقى التسعة والتسعون في البريَّة بينما خرج الله يبحث عن الخروف الضال علي الأرض.
لقد نقص عدد الخليقة العاقلة – أي الملائكة والبشر- الذين خُلقوا لرؤية الله، إذ سقط الإنسان، وكان لابد أن يكمل العدد في السماء، لهذا نزل الله إلى الجنس البشري على الأرض.
ما يدعوه لوقا بالبريَّة يذكره متى في نفس الموضوع بالجبال (مت 18: 12) ليشير إلى أن التسعة والتسعين لم يضلوا بل بقوا في الأعالي في السموات.
وإذ وجده يضعه علي منكبيه (كتفيه) فرحًا. حمل الخروف علي كتفيه، إذ حمل طبيعتنا البشريَّة، وحمل خطإيَّانا.
إذ يرجع إلى بيته يدعو الأصدقاء والجيران، قائلاً لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال [6]. إذ يجد الخروف الضال يعود إلى البيت، إذ عاد راعينا إلى السماء عندما خلّص الإنسان. هناك وجد أصدقاءه وجيرانه، طغمات السمائيين الذين هم أصدقائه الحقيقيون، الذين لا يتأرجحون بل يحملون إرادته على الدوام. إنهم جيرانه، إذ ينعمون برؤية واضحة له خلال الاستماع له بلا انقطاع.
يليق بنا أن نلاحظ أنه لم يقل: “افرحوا مع الخروف الراجع” بل “افرحوا معي”، لأن فرحه هو حياتنا، وعندما نرجع إلى السماء يكمل فرحه.
“أقول لكم: أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة” [7]. يلزمنا أن نتأمَّل أيها الاخوة لماذا يقول ربَّنا أنه يكون فرح في السماء بالخطاة التائبين أكثر من مثابرة الأبرار. أليس بخبرتنا العامة نجد كثيرين ممن لم يتثقلوا في ضمائرهم بحمل الخطيَّة، الذين يسلكون طريق العدل، وهم غرباء عن المحرمات لا يشعرون برغبة شديدة لبلوغ البيت السماوي… نجدهم متراخين في ممارسة أعظم الفضائل الهامة إذ يشعرون أنهم لم يرتكبوا آثامًا خطيرة. من الجانب الآخر أحيانًا إذ يشعرون أنهم ارتكبوا الخطيَّة يتلامسون مع تبكيت الضمير ويلتهبون بمحبَّة الله، فيمارسون فضائل أعظم. يواجهون كل الصعوبات بشجاعة وبأكثر قداسة، تاركين كل الأمور الدنيويَّة، هاربين من الكرامات، مبتهجين بالإهانات الصادرة ضدهم من الغير، تلتهب فيهم الرغبات السماويَّة والشوق نحو بلوغ البيت الأبدي. إذ يتحقَّقون أنهم قد ضلوا بعيدًا عن الله تصير معاصيهم القديمة دافعًا للمكاسب الأخيرة. لهذا يكون فرح في السماء بخاطىء يتوب عن استمرار بار في بره. وذلك كما في المعركة يُسرّ القائد حين يرى الجندي الذي سبق فهرب قد عاد ليحارب العدو بأكثر شجاعة، من ذاك الذي لم يهرب لكنه يمارس عملاً غيورًا. وأيضًا كالعامل الذي يُقدر الأرض التي كانت تنتج شوكًا وحسكًا وصارت تنتج ثمرًا وفيرًا أكثر من تقديره للأرض التي لم يكن بها أشواك، لكنها لا تقدَّم محصولاً خصبًا.
ومع هذا كله لا نستطيع أن ننكر أنه يوجد في حياة بعض الأبرار من يسبّبون فرحًا، هكذا لا يُحسب أقل من الفرح بعودة الخاطىء…
لكنه يوجد أناس يمارسون حياة الإماتة كما لو كانوا قد ارتكبوا كل خطايا العالم، مع أنهم لم يرتكبوا جريمة معينة. هؤلاء يرفضون كل راحة حتى ما هو محلّل، مرحّبين بسخريَّة الغير لهم، ولا يسمحون لأنفسهم بأقل لذة، بل يزهدون حتى الملذّات التي يسمح لهم بها، يحتقرون الماديات وتلتهب اشتياقاتهم بغير المنظورات، يجدون لذتهم في الألم والتواضع في كل شيء، وإذ يبكي البعض علي أعمال خطاياهم ينتحب هؤلاء علي خطايا الفكر.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v القطيع هو مئة، واحد منه قد ضلّ، الذي هو الأسرة التي على الأرض، هذا الذي يطلبه راعي الكل تاركًا التسعة والتسعين في البريَّة، هل لأنه لا يهتم بالكثيرين أظهر رحمته بالواحد؟ لا… بل لأن الكثيرين في آمان، محروسين بيده القادرة. لذلك بحق يجب إظهار الرحمة بذاك الذي فُقد، الأمر الذي تحتاج إليه الجموع الباقيَّة، فبعودة ذاك الواحد يعود الجمال للمئة. البحث وراء المفقود لا يعني استهانة بالذين لم يخطئوا، إنما يليق إظهار النعمة والرحمة والحب للبشريَّة، كأمر يناسب الطبيعة السامية العلويَّة، تمنحها للخليقة الساقطة.
القدِّيس كيرلس الكبير
v إن لم يضعني الراعي الصالح على ذراعيه، ويردني إلى القطيع ثانية، تبقى خطواتي تترنح، وكلما أقوم مجاهدًا أجد قدَّميّ تهويان أكثر.
القدِّيس جيروم
v الذي وضع حياته من أجل خرافه بحث عن الضال على الجبال والتلال… وإذ وجده حمله على كتفيه اللذين حملا خشبة الصليب.
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
v أظهر السيِّد غيرته العظيمة (على الضعيف والصغير) بتركه الذين خلصوا مهتمًا بالواحد ليفرح به.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v عندما وجد الراعي الخروف لم يعاقبه، ولا سحبه إلى القطيع (كما بالعنف)، بل وضعه على كتفه، حمله برفق وضمه للقطيع.
القدِّيس غريغوريوس النيسي
- الدرهم المفقود
يكشف المثال السابق عن حب الراعي، الذي أخلى ذاته ونزل إلى أرضنا باحثًا عن الإنسان المتكبر، لا ليعنفه، ولا ليجرح مشاعره، بل بالحب يضمه إلى صدره، ويحمله على كتفيه ويرده إلى جمهور السمائيين. وفي المثل التالي يقدَّم لنا صورة لما يجب أن تكون عليه الكنيسة عروس الراعي، والحاملة ذات سماته الخاصة تجاه الساقطين، تبحث بالحب عنهم وتترفق بهم وتبتهج برجوعهم، إذ يقول:
“أو أية امرأة لها عشرة دراهم أن أضاعت درهمًا واحدًا
ألا توقد سراجًا، وتكنس البيت، وتفتش باجتهاد حتى تجده؟!
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات، قائلة:
“افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته”.
هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب” [8-10].
v بالمثل السابق أشار الخروف الضال إلى العائلة التي على الأرض، إذ نعرف أننا ملك الله إله الكل الذي يخلق الموجودات من العدم، وكما كتب: “هو خلقنا وليس نحن” (مز 100: 3)، وأيضًا: “هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده” (مز 95: 7). وبهذا المثل الثاني الذي فيه يقارن المفقود بدرهم، وأنه واحد من عشرة، أي من رقم كامل… واضح أننا نحمل الشبه الملوكي والصورة الملوكيَّة التي لإله الكل، لأن الدرهم كما أظن مختوم عليه الشبه الملوكي. فإن كنا قد سقطنا وصرنا مفقودين، وجدنا المسيح وشكلّنا بالقداسة والبّر على صورته، الأمر الذي لا يشك فيه أحد إذ كتب الطوباوي بولس هكذا: “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18). وبعث إلى أهل غلاطيَّة هذه الكلمات: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل 4: 19).
لقد تم البحث عما قد سقط، فأضاءت المرأة السراج، وكما قلت لقد وُجدنا نحن بواسطة حكمة الله الآب، الذي هو الابن، عندما أشرق بنوره الإلهي العقلي علينا، وأشرقت الشمس، وانفجر النهار وطلع كوكب الصبح (2 بط 1: 19) كقول الكتاب. فقد قال الله أيضًا في موضع آخر بواسطة أحد الأنبياء القدِّيسين عن المسيح مخلِّصنا نحن جميعًا: “يقترب برّي سريعًا، وتعلن رحمتي، ويتقد خلاصي كمصباح” (إش 62: 1 الترجمة السبعينيَّة). كما قال السيِّد عن نفسه: “أنا نور العالم” (يو 8: 12)، كما قال : “أنا قد جئت نوراُ إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة” (يو 12: 46). إذن بالنور قد خلص ما قد هلك، فصار فرح للقوات العلويَّة.
القدِّيس كيرلس الكبير
v فرح هذه المرأة التي وجدت الدرهم المفقود ليس بقليل الأهمية، لأن الدرهم عليه صورة الملك. هذه الصورة نملكها في الكنيسة…. أقول ليتنا كخراف نتضرع لله كي يقودنا إلى مياه الراحة (مز 22: 2) ونطلب المراعي، وكدراهم فلنحتفظ بقيمتنا (نحمل صورة الملك فينا) وكأبناء نرجع إلى أبينا.
القدِّيس أمبروسيوس
v المرأة هنا والراعي يحملان ذات المعنى، إذ يمثلان الله وحكمة الله.
لما كان الدرهم عملة تحمل صورة، هكذا المرأة التي تفقد الدرهم تعني عندما يشرد الإنسان المخلوق على صورة الله، إذ يفقد تشبهه بخالقه بسبب الخطيَّة.
تضيء المرأة سراجها [8]، إذ ظهرت حكمة الله للبشر. فالسراج في بساطة هو نور يوضع على حامل، أما هنا فالنور هو اللاهوت اتَّخذ ناسوتًا (صار إنسانًا). ذاك الذي هو الحكمة يتحدَّث عن منارة جسده بكلمات المزمور: “يبست مثل شقفة قوتي” (مز 22: 15). كما أن الطين يتثقل بالنار، هكذا جفت قوَّته كذاك الطين، بمعنى أنه باحتماله آلامه تقوىّ الجسد الذي حمل مجد القيامة. أُوقد السراج مرة وفُتش البيت، فإنه ما أن ظهر لاهوته في الجسد حتى ارتعب ضمير الإنسان بحقيقة خطيته العظيمة (كأنه بالبيت الذي فُتش رأسًا على عقب).
جاءت الكلمة “Evertere” التي تعني انقلابًا للشيء (رأسًا على عقب) لا تختلف عما وردت في بعض المخطوطات “Emundre” التي تعني “كنس”، فإنه ما لم ينقلب العقل الذي انحط وذلك بالخوف لا يمكن أن يُنظف (يُكنس) من عاداته الرذيلة.
إذ فُتش البيت وُجد الدرهم، إنه إذ يرتبك ضمير الإنسان (على خطاياه) يكتشف صورة خالقه.
“وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات، قائلة: افرحن معي، لأني وجدت الدرهم الذي أضعته” [9]. من هن هؤلاء الصديقات والجارات إلا القوات السمائية الذين تحدَّثنا عنهم قبلاً؟! هؤلاء دائمًا بالقرب من الحكمة الإلهيَّة لأن النعمة تنيرهم بحضورها الدائم.
لكن، لنفكر في هذه الأمور، ولا ننسى السبب لماذا قيل عن هذه المرأة التي تمثل الحكمة الإلهيَّة عشرة دراهم، فقدت واحدًا ثم عادت فوجدته بعد البحث. لقد خلق الله الملائكة والبشر لكي يتعرفوا عليه، وإذ وهبهم الحياة الأبديَّة شكلهم بلا شك على صورته. كان للمرأة عشرة دراهم، لأن الملائكة تسع طغمات. وكان لابد أن يتم رقم المختارين بخلقه الإنسان، هذا الذي لم يُفقد حتى بعد العصيان إذ أضاء حكمة الله الأبديَّة على الكل لتظهر بالمعجزات التي تممها على الأرض مصلحًا مما أفدسته الخطيَّة بنور حضوره الجسدي كسراج على المنارة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v من هي المرأة ؟ إنها جسد المسيح. ما هو السراج؟ “هيأت سراجًا لمسيحي” (مز 132: 17)، لذلك كان يُبحث عنا حتى نوجد، وإذ نوجد ننطق. ليتنا لا نفتخر لأننا قبلاً لم نكن موجودين بل كنا نبقى هكذا مفقودين لو لم يُبحث عنا.
القدِّيس أغسطينوس
v لقد أشعل السراج، أي جسده، وكنس البيت بتطهير العالم من الخطيَّة وطلب العملة والصورة الملوكيَّة التي طمستها الأهواء. أنه يدعو أصدقاءه، أي القوات الملائكيَّة عندما يجد عملته ليشاركوه فرحه، إذ سبق فجعلهم يشتركون (بالتسبيح) في سّر تجسده.
v هذا هو غاية الله فينا، إذ صار إنسانًا من أجلنا وافتقر (2 كو 8: 9) لكي يقيم جسدنا (رو 8: 11)، ويرد صورته فينا ( لو 15: 9؛ 1 كو 15: 49)، ويجدد الإنسان لنصير كلنا واحدًا فيه.
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
v يُقال أنه يكون فرح عظيم وعيد مبهج في السماوات عند الآب مع ملائكته عند عودة خاطئ واحد وتوبته.
القدِّيس إكليمنضس السكندري
v السماوات والملائكة الذين فيها يفرحون بتوبة الإنسان.
آه أيها الخاطئ كن في بهجة صالحة!
انظر كيف يكون فرح في الرجوع والتوبة؟!
العلامة ترتليان
- مثل الابن الضال
يُدعى “مثل الابن الناصح” أو “مثل الأب المحب”، لأنه بقدر ما يكشف عن جفاف قلب الابن الهارب من وجه أبيه المحب يشتاق الأب إلى عودته، ليستقبله بالقبلات، دون عتاب أو جرح لمشاعره، بينما وقف أخوه خارجًا في تذمر من أجل محبَّة الأب له.
“وقال: إنسان كان له ابنان.
فقال أصغرهما لأبيه:
يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال،
فقسم لهما معيشته.
وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء
وسافر إلى كورة بعيدة،
وهناك بذر ماله بعيش مسرف” [11- 13].
في المثلين السابقين لم يكتفِ السيِّد المسيح بالكشف عن علاقة الله بالإنسان، إذ يبحث الله عنه كالراعي نحو خروفه الضال أو كالمرأة التي تضيء السراج وتنقب البيت وتفتشه من أجل الدرهم المفقود، وإنما كشف أيضًا عن علاقة السمائيين بنا. ففي المثل الأول ظهروا كتسعة وتسعين خروفًا لا يكمل عددهم إلا بعودتنا حيث تفرح السماء بخاطئ واحد يتوب، وكتسعة دراهم تكمل بنا نحن الدرهم المفقود. أما في المثل الذي بين أيدينا فيقدَّم صورة مُرّة لعلاقة الإنسان بأخيه، فيظهر الأخ الأكبر بالرغم مما يبدو عليه من تعقل وأمانة في العمل، لكنه لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه الراجع إلى بيت الآب، بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن الراجع إليه. على أي الأحوال ظهور ابنين في المثل يكشف عن أمور كثيرة نذكر منها:
أولاً: لا يمكن الحكم على أحد مادام لا يزال في طريق الجهاد. فقد ظهر الأصغر في بدء حياته إنسانًا محبًا للملذّات، عنيفًا في معاملاته، إذ يطالب أباه بالميراث وهو بعد حيّ، مبددًا للوزنات غير أمين فيما بين يديه… لكنه يرجع بالتوبة إلى الأحضان الأبويَّة ليظهر لابسًا الثوب الجديد وخاتم البنوة وحذاء في قدَّميه ومتمتعًا بالوليمة في بيت أبيه. أما الآخر فقد بدأ حياته إنسانًا لطيفًا في معاملاته، يخدم والده، ولا يطلب أجرة يبقى في بيت أبيه، لكنه يختم حياته بالوقوف خارجًا ينتقد أباه على حبه، ويغلق قلبه نحو أخيه، فيفقد سلامه الداخلي وفرحه ليعيش بقلب مناقض لقلب أبيه.
ثانيًا: يبدو أن البعض ظن أن الابنين يشيران إلى الطغمات الملائكيَّة والجنس البشري فالابن الأكبر يشير إلى الملائكة القدِّيسين الذين يعيشون بتعقل والأصغر يشير إلى الجنس البشري الذي ترك بيت أبيه بالعصيان وقد عاد مرة أخرى خلال التوبة. وقد رفض القدِّيس يوحنا الذهبي الفم هذا الرأي، قائلاً: [إن الابن الأكبر قد ثار عند عودة أخيه وسلامه بينما يقول الرب: يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب.] ويقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إن أشرنا للابن المستقيم بكونه الملائكة القدِّيسين لا نجد الحديث مناسبًا، ولا يحمل مشاعرهم نحو الخطاة التائبين، الذين يتحولون من الحياة الدنسة إلى السلوك المستحق للإعجاب، إذ يقول الرب مخلِّص الجميع: “يكون فرح في السماء أمام الملائكة القدِّيسين بخاطىء واحد يتوب” (راجع لو 15: 7). وأما الابن (الأكبر) المذكور في المثل الذي أمامنا، وإن كان مقبولاً لدى أبيه، ويسلك في حياة بلا لوم لكنه يعود فيظهر غاضبًا ومتماديًا في عدم محبَّته والظهور بلا إحساس، حاسبًا أن أباه مخطئًا لإظهار مشاعر الحب الطبيعيَّة نحو ذاك الذي خلص… هذا مغاير لمشاعر الملائكة القدِّيسين، الذين يفرحون ويمجدون الله عندما يرون سكان الأرض يخلصون. فعندما خضع الابن لكي يولد من امرأة حسب الجسد في بيت لحم حملوا الأخبار المفرحة للرعاة، قائلين: “لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب” (2: 11). وإذ توجوا بالمديح والحمد لذاك الذي ولد، قالوا: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبين الناس الإرادة الصالحة”]
أما التفسير الذي قبله غالبية الآباء فهو أن الابنين يشيران إلى البشريَّة من جهة علاقتها بالله، فقد انقسمت إلى فريقين: اليهود والأمم. الابن الأكبر يمثل الشعب اليهودي الذي يُحسب بكرًا في معرفة الله، إذ قبل المواعيد الإلهيَّة والناموس والنبوات قبل سائر الأمم، والابن الأصغر يمثل الأمم التي لم تكن لها علاقة صادقة مع الله بل بددوا عطايا الله (الناموس الطبيعي) كما في عيش مسرف خلال الانغماس في عبادة الأصنام والرجاسات الوثنية، لكن عادت الأمم إلى الله ليصير الآخرون أولين، بينما تأخر اليهود خلال حسدهم للأمم ووقفوا خارج بيت الإيمان جاحدين الله وناقدين محبَّته للأمم.
يرى القدِّيس كيرلس الكبير أن الابن الأكبر لا ينطبق على اليهود، لأن اليهود لم يسلكوا حياة مستقيمة، بل كثيرًا ما انحرفوا إلى العبادة الوثنية وانغمسوا في رجاساتها، وقد جاء في إرميا: “ماذا وجد فيّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني، وساروا وراء الباطل، وصاروا باطلاً؟!” (أر 2: 5)، وفي إشعياء: “هذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني، باطلاً يخافونني، وصيَّة الناس مُعلمة” (إش 29: 13). لهذا يرى القدِّيس كيرلس الكبير أن الابن الأكبر ينطبق بالأكثر على جماعة الفرِّيسيِّين الذين يفتخرون أنهم يسلكون بالبرّ حسب الناموس، لكنهم في كبرياء يرفضون حب المخلِّص للخطاة والعشارين، عوض الفرح والبهجة بخلاصهم.
ثالثًا: كان الابن الأصغر متجاسرًا، إذ طلب نصيبه من الميراث ووالده لا يزال حيًا، أراد أن يتمتع بنصيبه بخروجه خارج بيت أبيه، حاسبًا الارتباط ببيت أبيه هو مذلة وعبوديَّة وقيد، يجب التحرَّر منه، ليعيش حسب إرادته الذاتيَّة وهواه، فإذا به ينفق ماله في عيش مسرف.
يا للعجب فإن الإنسان الذي وهبه الله، أبوه السماوي، عطيَّة الإرادة الحرة، كأعظم هبة يستخدمها ضد الله نفسه، فيحسب هذه الحريَّة لن تتحقَّق إلا بالعصيان والخروج عن دائرة طاعة الله ومحبَّته والتمثل بإرادته!
النصيب الذي بدده الأممي في عيش مسرف هو الناموس الطبيعي الذي أساء استخدامه، إذ يقول الرسول بولس عن الأمم: “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو 1: 21-22). أما اليهودي فنال نصيبًا أعظم ليبدده، إذ لم يسئ استخدام الناموس الطبيعي فحسب، وإنما أيضًا الناموس الموسوي، فعوض أن يقوده للتوبة والاشتياق نحو المخلِّص للتمتع بالخلاص الأبدي سقط في الكبرياء وحسب نفسه أفضل من غيره فلم يدخل الملكوت ولا ترك الآخرين يدخلون. وأما المسيحي الساقط في البر الذاتي فهو أبشع من الاثنين لأنه إذ يتمتع ببركات جديدة وعطايا إلهيَّة فائقة يستغلها للشر. وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [قد بددنا ميراث كرامتنا الروحيَّة التي نلناها في الملذّات الأرضية.] على أي الأحوال، يفتح ربَّنا يسوع خلال هذا المثل أبواب الرجاء للجميع، فإن كنا قد بددنا العطايا الطبيعيَّة أو أخطأنا في حق الوصيَّة أو النعمة المجانية، لا يزال الله ينتظرنا فاتحًا ذراعيه ليتقبلنا كأولاد له نعود إلى بيت أبينا.
في شيء من التوضيح نقول إن كان الإنسان قبل الناموس تمتع أيضًا ببعض الدوافع والغرائز الطبيعيَّة كالحب والخوف والغضب والأبوة أو الأمومة، إنما لتعمل لبنيان الإنسان في الرب، فيكون قادرًا على محبَّة الله والخوف من الشر والغضب ضد الإثم وممارسة الوالديَّة لبنيان أبنائنا روحياُ واجتماعيًا ونفسانيًا. فإذ ينحرف الإنسان، عوض حب الله يحب ملذّاته الجسديَّة، ويتحول الحب إلى شهوة جسديَّة. حتى في محبَّته للغير يتقوقع حول “الأنا”، فيطلب ما لجسده أو لذاته تحت ستار الحب، كما فعلت امرأة فوطيفار التي ظنت أنها أحبت يوسف جدّا. فأسلمته للسجن حين رفض تقديم الملذّات لجسدها. وأيضًا ما فعله أمنون بأخته التي مرض جدّا بسبب حبه لها، وإذ سقط معها، أذلها وطردها، إذ أبغضها للغاية. وما نقول عن الحب ينطبق على كل الدوافع الطبيعيَّة، كأن يتحول خوفنا من الشر إلى خوف من الناس وجبن من أحداث المستقبل وقلق وارتباك الخ.
ونحن إذ قبلنا الإيمان وصارت لنا عطايا إلهيَّة فائقة، صارت إمكانياتنا أعظم. لكن أن أهملناها يكون السقوط أبشع! لذا فسقوط المؤمن في الخطيَّة غالبًا ما يكون أكثر خطرًا من سقوط غير المؤمن، لأنه يسيء استخدام العطايا التي للبنيان، محولاً إيَّاها للهدم.
نعود إلى هذا الابن لنراه هاربًا من بيت أبيه، حاسبًا في هذا تمتعًا بالحريَّة، وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه.]
ويقول الشهيد كبريانوس: [من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح.] [من ليس له الكنيسة أمًا، لا يقدر أن يكون الله أباه!]
رابعًا: يقول: “وسافر إلى كورة بعيدة” [13]. ما هي هذه الكورة البعيدة التي يمكن للإنسان أن يهرب إليها إلا “الأنا”؟ فينطلق الإنسان في كمال حريته بغباوة من الحياة السماويَّة، التي هي “الحب”، إلى الأنانية حيث يتقوقع حول ذاته، فيصير كمن هو في كورة بعيدة، لا عن الله فحسب، بل وعن الناس، وعن محبَّته لخلاص نفسه. خلال “الأنا” يفقد الإنسان التصاقه الداخلي بالكل، حتى وإن ظهر في أعين الآخرين اجتماعيًا ولطيفًا وسخيًا في العطاء! “الأنا” هي انغلاق داخلي محكم، يحبس فيه الإنسان نفسه وحيويته، ليفقد إنسانيته، ويعيش في عزلة داخليَّة حتى عن أولاده وأهل بيته!
يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يسافر الابن الأصغر إلى كورة بعيدًا، فيرحل عن الله مكانيًا، لأن الله حاضر في كل موضع، وإنما يرحل عنه بقلبه؛ إذ يهرب الخاطئ من الله ليبتعد عنه بعيدًا.] يقول القدِّيس أغسطينوس بأن هذا الرحيل هو اتكال الإنسان على ذاته وقوَّته الخاصة فيفقد عمل الله فيه، وعلى العكس الاقتراب من الله يعني الاتكال عليه، ليعمل فينا، فنصير على مثاله.
يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على السفر إلى كورة بعيدة، قائلاً: [الابتعاد الأعظم هو أن ينفصل الإنسان لا خلال المسافات المكانية وإنما خلال العادات، فلا يذهب إلى بلاد مختلفة بل يحمل اتجاهات مختلفة… من ينفصل عن المسيح يتغرب عن الوطن، ويصير وطنه هذا العالم، أما نحن فلسنا بعد غرباء ونزلاء بل رعيَّة مع القدِّيسين وأهل بيت الله (أف 2: 19)، لأنه “أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح” (أف 2: 13). ليتنا لا نكن قساة على القادمين من كورة بعيدة، لأننا نحن أيضًا كنا بعيدين في كورة بعيدة… هي ظلال الموت… وقد صرنا أحياء في ظل المسيح، لذا تقول الكنيسة: “تحت ظله اشتهيت أن أجلس” (نش 2: 3).]
خامسًا: حدوث مجاعة “فلما أنفق كل شيء، حدث جوع شديد في تلك الكورة، فابتدأ يحتاج” [14]. إذ تهرب النفس من الله مصدر الشبع وكنز الحكمة تجد نفسها قد دخلت إلى حالة فراغ داخلي، فتكون كمن في “مجاعة”.
خُلقت النفس البشريَّة على صورة الله ومثاله، لن تشبع إلا به بكونه الأصل. العالم كله بإغراءاته، والجسد بشهواته، والحياة الزمنيَّة بكل أحداثها، لن تملأ فراغ النفس التي تتطلب ذاك اللانهائي لكي يملأها.
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [المجاعة التي اجتاحت تلك الكورة لم تكن مجاعة طعام، بل مجاعة للأعمال الصالحة والفضائل. هل يوجد أمر يحتاج إلى رثاء أكثر من هذا؟! فإن من يبتعد عن كلمة الله يصير جائعًا، لأنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (لو 4: 4). بالابتعاد عن الينبوع نعطش، وبالابتعاد عن الكنز نفتقر، وبالابتعاد عن الحكمة نصير جهلاء، وبالابتعاد عن الفضيلة نموت. إذن كان طبيعيًا (لهذا الابن) أن يحتاج، لأنه ترك الله الذي فيه كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3)، وترك أعماق الخيرات السمائية، فشعر بالجوع إذ لا يوجد ما يُشبع الإنسان الضال. الإنسان يصير في جوعٍ دائمٍ عندما لا يدرك أن الطعام الأبدي هو مصدر الشبع.]
سادسًا: رعايته للخنازير “فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورةk فأرسله إلى حقوله، ليرعى خنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يُعطه أحد” [15-16].
يقول القدِّيس أمبروسيوس:
[يبدو أن هذا الرجل يشير إلى رئيس هذا العالم، وقد أرسل (هذا الابن) إلى حقوله، التي بها يعتذر الشاري عن وليمة الملكوت (لو 14: 18)، وفيها يرعى الخنازير التي طلبت الشياطين أن تدخل فيها فاندفعت إلى جرف هذا العالم (مت 8: 32). هذه الخنازير تعيش على النفايات والنتانة.
كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد. الخاطئ لا همّ له سوى أن يملأ بطنه، إذ قيل “آلهتهم بطنهم” (في 3: 19). الطعام المناسب لهم هو الخرنوب الفارغ في الداخل ولين في الخارج، الذي يملأ البطن بلا فائدة غذائية، وزنه أكثر من نفعه.
يرى البعض في الخرنوب إشارة للأجناد الشرِّيرة، أو ضعف الفضيلة البشريَّة، كمن لهم رونق في العظات دون فائدة، تجتذبهم الفلسفة الباطلة. لهم المظهر الخارجي البراّق دون نفع. هذه الزينة الخارجيَّة لا يُكتب لها الدوام…
“لم يعطه أحد“، إذ لا يمكن لأحد غير الله أن يهب الحياة.]
يقدَّم لنا القدِّيس أغسطينوس ذات التفسير، إذ يرى هذا الإنسان هو “رئيس الهواء” الذي يدخل بالنفس المبتعدة عن الله إلى حقوله، أي يجعله تحت سلطانه، يخدم الأرواح الدنسة (الخنازير)، إذ يعمل لحساب الخطايا المتنوعة. أما الطعام الذي يقدَّمه فهو الخرنوب، أي التعاليم البشريَّة الجوفاء التي تبهج الشياطين وتملأ ذهن الخطاة لكنها لا تشبع النفس، فيعيش الخاطئ في حياة بلا سعادة، ويشعر كأنه لا يجد من يعطه شيئاُ مشبعًا!
سابعًا: رجوعه إلى نفسه، “فرجع إلى نفسه، وقال: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا؟! أقوم وأذهب إلى أبي…” [17-18.]
هذا هو بداية طريق التوبة: “رجع إلى نفسه“، ماذا يعني هذا؟ قلنا أن الابن الضال حين ترك أباه وسافر إلى كورة بعيدة، إنما ترك طريق الحب وتقوقع حول “الأنا” أو “الذات البشريَّة ” ليعيش في أنانيته مؤلهًا ذاته، متمركزًا حول كرامته أو شبعه الجسدي أو ملذّاته. بهذا يكون بالحق قد انطلق حتى من “نفسه”. فإنه إذ يتقوقع حول “الذات” إنما يحطم نفسه ويهلك حياته.
بمعنى آخر ليتنا نميز بين “الذات ego” وحب الإنسان لنفسه بمعنى حبه لخلاصها، هذا ما أكده السيِّد المسيح حين أعلن من يهلك نفسه يخلصها، بمعنى من يحطم “الأنا” فيه إنما يعيش في طريق الحب لا لله والناس والملائكة فحسب، وإنما يحب نفسه أيضًا خارج دائرة الأنانية. وهذا ما أعلنه الناموس حين طالبنا أن نحب قريبنا كأنفسنا، إذ يقول القدِّيس أغسطينوس من لا يحب نفسه، أي خلاصها الأبدي، كيف يقدر أن يحب قريبه؟!
إن كانت الخطيَّة هي تحطيم للنفس بدخول الإنسان إلى “كورة بعيدة” أي الأنا، فإن التوبة هي عودة الإنسان ورجوعه إلى نفسه ليعلن حبه لخلاصها، فيرجع بهذا إلى أبيه السماوي القادر على تجديد النفس وإشباعها الداخلي. بهذا إذ يرجع الإنسان إلى نفسه إنما يعود إلى كورة أبيه، ليمارس الحب كعطيَّة إلهيَّة، ويوجد بالحق كعضو حيّ في بيت الله يفتح قلبه لله وملائكته وكل خليقته حتى للمقاومين له.
v إن كان قد رجع إلى نفسه، فلأنه كان قد ترك نفسه، إذ سقط عن نفسه وتركها، لذلك يرجع أولاً إلى نفسه، لكي يرجع إلى حالته الأولى التي سقط منها.
v إذ سقط عن نفسه سقط عن أبيه.
إذ سقط عن نفسه انطلق إلى الأمور الخارجيَّة.
الآن يعود إلى نفسه فيعود إلى أبيه حيث تكون نفسه في آمان تام.
القدِّيس أغسطينوس
v رجع إلى نفسه بعد أن ابتعد عنها، لأن الرجوع إلى الرب هو رجوع إلى النفس. فمن يبتعد عن المسيح يقاوم نفسه.
القدِّيس أمبروسيوس
رجوع الإنسان إلى نفسه يحتاج إلى عمل إلهي ينير بصيرة الإنسان الداخليَّة ليكتشف فقره التام بل وموته، وفي نفس الوقت يدرك عمل الله الخلاصي ومحبَّته له، فيمتلئ رجاءً. فالقدِّيس بطرس رجع إلى نفسه عندما تطلع الرب إليه، فخرج سمعان بطرس خارجًا يبكي بمرارة، لكن ليس بدون رجاء، أما يهوذا فندم مدركًا شره، لكنه إذ لم ينظر إلى مخلِّص العالم مضى وشنق نفسه.
ما أحوجنا أن نجلس مع نفوسنا الداخليَّة تحت رعاية ربَّنا يسوع المسيح نفسه الذي يشرق علينا بروحه القدُّوس فيبكتنا على خطيَّة، وفي نفس الوقت يعزينا بنعمته المجانية، يهبنا تنهدات القلب مع سلامه الفائق، يدفق فينا ينبوع الدموع لتختلط مشاعر التوبة ببهجة عمله الإلهي. فنرجع إلى نفوسنا بالحق، متكئين في حضن الآب الباسط يديه بالحب ليحتضننا.
إذ رجع الابن الشارد إلى نفسه أدرك الحقيقة، أنه وهو ابن يشتهي أن يأكل الخرنوب مع الخنازير، بينما يأكل الأجراء في بيت أبيه خبزًا لا خرنوبًا! يعيش بعيدًا عن بيت أبيه في جوعٍ شديدٍ بينما يقترب الأجراء من أبيه ويشبعون!
v بعد أن عانى في كورة غريبة ما يستحقه الأشرار، فسقط تحت المصائب التي حلت به، أي الجوع والعوز، أحسّ بهلاكه، مدركًا أنه بإرادته ألقى بنفسه في أيدي الغرباء بعيدًا عن أبيه، فصار في منفى عوض بيته، وفي عوز عوض الغنى، وفي مجاعة عوض الخيرات والترف؛ هذا هو ما عناه بقوله: “وأنا أهلك جوعًا” [17].
كأنه يقول: إني لست غريبًا بل ابن لأب صالح وأخ لأخ مطيع. أنا هو الحُر النبيل قد صرت أبأس من العبيد الأجراء، سقطت من الرتبة العاليَّة السامية إلى أحط درجة!
القدِّيس يوحنا ذهبي الفم
v آه أيها الرب يسوع، ليتك ترفع عنا الخرنوب، وتهبنا البركات، لأنك أنت المسئول في بيت أبيك!
ليتك تقبلنا عبيدًا، وإن كنا قد جئنا متأخرين، لأنك تقبل الذين يأتون في الساعة الحاديَّة عشر وتدفع لهم ذات الأجرة؛ تهبهم ذات الحياة لكن ليس نفس المجد، فإكليل البرّ لا يحفظ للجميع، بل للذي يستطيع أن يقول “جاهدت الجهاد الحسن” (2 تي 4: 7)!
يرى البعض أن يؤجلوا عمادهم أو توبتهم لحين قرب الموت، لكنك كيف تعرف أنه لا تُطلب نفسك في هذه الليلة (12: 20) ؟
القدِّيس أمبروسيوس
هكذا يحثُّنا القدِّيس أمبروسيوس على الرجوع السريع إلى بيت أبينا حتى لا نُحرم نحن الأبناء من التمتع بما يناله ولو الأجراء، الذين يخدمون أبانا السماوي من أجل الأجرة. لنجر سريعًا إليه، يدفعنا في ذلك عوامل كثيرة، أولها أننا لا نعرف متى تُطلب نفوسنا فقد تكون “الآن”. وثانيًا لكي نجاهد بالحق، فإن كانت عطيَّة الله لكل داخلٍ ملكوته هي “الحياة الأبديَّة”، لكن “نجمًا يمتاز عن نجم في المجد” (1 كو 15: 41)، وكما يقول رب المجد نفسه: “في بيت أبي منازل كثيرة” (يو 14: 2).
لنقم الآن وننطلق نحو بيت أبينا السماوي مجاهدين كل لحظات غربتنا، لنقول بحق: “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وُضع لي إكليل البرّ، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل” (2 تي 4: 7-8).
ثامنًا: الدخول في خبرة الحياة المقامة، “أقوم وأذهب إلى أبي” [18].
إن كان عمل التوبة يبدأ بعودة الإنسان إلى نفسه بالروح القدس ليكتشف أنه في حالة جوعٍ، مدركًا أن “الأنا” قد أردته على الأرض منهارًا من الفراغ، مكتشفًا أنه قد سقط على الأرض تمامًا، وصار تحت حكم الموت الأبدي. لكن الروح القدس يكشف عن بصيرته، ليرى في مخلِّصه يسوع المسيح القائم من الأموات “سّر القيامة”. إنه يهب الموتى “قيامة” ليعيشوا في “خبرة حياته المقامة”. التوبة ليست عملاً سلبيًا خلاله يكتشف الإنسان ضعفاته بل وهلاكه التام، إنما هي عمل إيجابي فيه يقبل المؤمن مسيحه كسرّ قيامته وحياته، ليعيش كل أيام غربته مختبرًا الحياة الجديدة، منطلقًا من قوَّة إلى قوَّة، ومتمتعًا بمجد وراء مجدًا، ونعمة فوق نعمة… مشتاقًا أن يبلغ قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13)… التوبة هي تمتع عملي بالقيامة الدائمة.
v سبيلنا نحن أيضًا أن نتوسل إلى الله، لكي يجردنا من الإنسان العتيق ويلبسنا المسيح السماوي… لأن الرب عندما شاء أن يشبعنا بذوق ملكوته قال: بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا (يو 15: 5).
يجب على كل واحدٍ منا أن يغصب نفسه على التوسل إلى الله، لكي يُحسب أهلاً لنوال ووجود كنز الروح السماوي، لكي يقدر بلا تعب وصعوبة أن يتمم وصايا الرب كلها بطهارة وبدون عيب.
القدِّيس مقاريوس الكبير
v (الروح القدس) هو القوَّة التي تقيم الحياة، وهو الذي بواسطته قبل الإنسان التبني، وتحول فيه الموت إلى عدم الموت.
القدِّيس باسيليوس الكبير
v إن التجديد الذي نجوزه في هذه الحياة، وانتقالنا من حياة أرضية حسب الجسد إلى حياة سمائية روحيَّة، إنما يحدث فينا بفعل الروح القدس.
القدِّيس باسيليوس الكبير
تاسعًا: الاعتراف بالخطأ، “وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنا، اجعلني كأحد أجراءك” [18-19]. الروح القدس الذي يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء في الله واهب القيامة من الأموات، لكن بروح التواضع يهبنا أن نعترف بخطايانا. فالابن الضال بثقة يقول: “يا أبي”، وبتواضع يعلن أنه مخطئ وغير مستحق للبنوة طالبًا قبوله كأجير.
v إذا سلمت النفس ذاتها للرب بطل قوَّتها، يظهر الله الصالح لها هذه الأوجاع والعيوب واحدة فواحدة لكي تحيد عنها.
القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير
v لنتعلم كيف نتضرع إلى الآب. قال: “يا أبي”! يا لرحمة الله وعطفه! فمع أنه قد أسيء إليه لكنه لا يرفض مناداته “يا أبي”.
“أخطأت إلى السماء وقدامك“. وهذا هو الاعتراف الأول… قدام سيد الرحمة، أمام ديان الخطيَّة.
الله يعرف كل شيء، لكنه ينتظر الإقرار بالاعتراف، “لأن الفم يعترف به للخلاص” (رو 10: 10).
عندما يلوم الإنسان نفسه يخفف ثقل ضلاله، ويقطع عنه حدة الاتهام… إنك لا تخسر شيئًا عندما تعترف بما معروف لديه.
لتقر بخطاياك فيشفع فيك المسيح لأنه هو شفيعنا لدى الآب (1 يو 2: 21).
لتصلِ أيضًا الكنيسة لأجلك، ولتبكِ الجموع عليك، ولا ترتاب فإنك ستأخذ. الشفيع يعدك بالغفران، وصاحب الكرم بالنعمة، والدفاع يؤكد مصالحتك مع العطف الأبوي.
ثق أن هذه حقيقة واسترح، لأن الله قوَّة! يهمه أن يشفع فيك حتى لا يكون قد مات لأجلك باطلاً. والآب يهمه أن يغفر، “لأنه إن كان بالناموس برّ، فالمسيح إذاَ مات بلا سبب” (غل 2: 21).
“يا أبي أخطأت في السماء وقدامك” الخطيَّة تسيء إلى مواهب الروح السماوي، إذ كان ينبغي بالإنسان ألا ينحرف عن أحشاء هذه الأم “أورشليم” التي هي السماء.
يقول: “لست مستحقًا أن أدعى لك أبنًا“، إذ يليق بالساقط ألا يتكبر بل يرجع متضعًا.
القدِّيس أمبروسيوس
v هذه الكلمات تخص من يفكر في التوبة معترفًا بخطاياه، لكنه لم يستخدمها بعد.
أنه لا يتحدَّث الآن مع أبيه، إنما يعد بما ينطق به عندما يأتي إلى أبيه.
لنفهم “المجيء إلى الآب” يعني الإقامة في الكنيسة بالإيمان، حيث نمارس فيها الاعتراف بالخطايا بطريقة قانونية فعّالة.
القدِّيس أغسطينوس
v كان يوجه الحديث لنفسه، ولكنه لا يكفي الحديث ما لم يأتِ إلى الأب.
أين يبحث عنه؟ أين يجده؟
قم أسرع إلى الكنيسة لتجد هناك الأب، هناك الابن، هناك الروح القدس.
الأب ينصت إليك، وأنت تتحدَّث في داخلك، ويسرع لمقابلتك.
القدِّيس أمبروسيوس
عاشرًا: البدء بالعمل، “فقام وجاء إلى أبيه” [20].
إن كان الابن الشارد قد سافر إلى كورة بعيدة من أجل ما حسبه تمتعًا بالحريَّة الشخصيَّة، يبذر مال أبيه كما يعلن له، فإنه أن رجع بذهنه إلى بيت أبيه أدرك أن المسافة مهما طالت بينه وبين أبيه لا تمثل عائقًا. جذبته أبوة أبيه، وسحبت ذهنه ليجد طريق العودة ليس طويلاً ولا مستحيلاً، فقام منطلقًا أيضًا بالعمل، سائرًا نحو أبيه، وكأنه يسمع صوت النبي زكريا: “هكذا قال رب الجنود: ارجعوا إليّ يقول رب الجنود، فأرجع إليكم يقول رب الجنود” (زك 1: 3).
v لنعمل أيضًا، حتى وإن كنا خارج الحدود.َ لنرتفع إلى بيت أبينا، ولا نتوانى خلال الرحلة. إن أردنا فسيكون الرجوع سريعًا وسهلاً جدًا. فقط علينا أن نترك الكورة الغريبة التي هي الخطيَّة، لنتركها حتى نرجع سريعًا إلى بيت أبينا…
قد يقول قائل: كيف أرجع؟
فقط ابتدئ بالعمل، فيتحقَّق كل شيء.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
حادي عشر: لقاء مع الأب الحنون، “وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن، وركض، ووقع على عنقه وقبله. فقال له الابن: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنًا. فقال الأب لعبيده: اخرجوا الحلة الأولى…” [20-22].
يكشف هذا المثل عن أبوة الله الحانية، فإنه وإن كان لا يلزم الإنسان بالرجوع إليه، لكنه إذ يراه من بعيد منطلقًا نحوه يركض هو مسرعًا لا ليعاتبه أو يوبخه وإنما ليقع على عنقه ويقّبله. إنه ينصت لاعتراف ابنه المخطئ، لكنه لا يسمح له بالمذلة، فلا يتركه يقول: “اجعلني كأحد أجراءك”، إنما يطلب له ثوب الابن وخاتمه، مكرمًا إيَّاه في بيته!
v ينصت الآب إليك وأنت تتكلم في داخل نفسك، ويسرع لمقابلتك. عندما تكون لا تزال بعيدًا يراك ويركض.
إنه ينظر ما في داخل قلبك، ويُسرع حتى لا يؤخرك أحد، بل ويحتضنك.
“مقابلته لك” هي سبق معرفته، و”احتضانه لك” هو إعلان رحمته، وتعبير عن حبه الأبوي.
يقع على عنقك لكي يقيمك أنت الساقط تحت ثقل الخطايا، ولكي يرجعك إلى السماء إذ اتجهت إلى الأرض، فتطلب خالقك.
يقع المسيح على عنقك، لكي يخلص عنقك من نير العبوديَّة، فيحملك نيره الهين (مت 11: 30)…
يقع على عنقك بقوله: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم” (مت 11: 28).
هكذا يحتضنك الرب عندما تتوب.
القدِّيس أمبروسيوس
v ماذا يعني: “ركض“؟ إلا أنه بسبب عائق خطايانا لا نستطيع نحن أن نبلغ إلى الله خلال فضيلتنا، لكن الله نفسه قادر أن يأتي للضعيف لذا يقع على عنقه.
يُقبل الفمّ، أي يتقبل الآب بفرح ذاك الذي يعترف (بفمه) نادمًا من قلبه.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v إذ يركض يقع على عنقه، لأن الآب لا يترك ابنه الوحيد الجنس الذي يجري دومًا نحونا نحن الذين ضللنا طويلاً. “الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه” (2 كو 5: 19).
إنه يقع على عنقه، ينحني ليحتضن بذراعه، أي بالرب يسوع المسيح.
إذ يتعزى (التائب) بكلمة نعمة الله الواهبة رجاء غفران الخطايا هذا يتّحقَّق بقبلة الحب النابعة عن الأب عند الرجوع إليه في رحلة طويلة…
لم يقل: “اجعلني كأحد أجراءك”، لأنه عندما كان في عوز إلى خبز اشتاق أن يكون ولو عبدًا أجيرًا، لكنه إذ تقّبل القبلة من أبيه بنبلٍ كفّ عن ذلك.
القدِّيس أغسطينوس
اثنا عشر: العطايا الأبويَّة، “فقال الأب لعبيده: اخرجوا الحلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده، وحذاء في رجليه.وقدَّموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فُوجد، فابتدؤوا يفرحون” [22-24].
يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن الأب لا يوجه حديثه لابنه الراجع بل لعبيده، أو وكلائه، فإن كان التائب هو الذي جاء متوسلاً لكنه ينال الإجابة لا خلال كلمات موجهة إليه، وإنما خلال أعمال الرحمة التي تُقدَّم له.
يرى الأب ثيؤفلاكتيوس أن هؤلاء العبيد هم الأرواح الخادمة، أو الكهنة الذين يمارسون العماد ويقدَّمون كلمة التعليم لكي تكتسي النفس بالمسيح نفسه.
v يأتيك بالحلة والخاتم والحذاء.
الحلة هي ثوب الحكمة التي بها غطى الرسل عري أجسادهم، وبها يكتسي كل إنسان.
أخذوا الحلة لكي يستروا ضعفات أجسادهم بقوَّة الحكمة الروحيَّة، وقد قيل عن الحكمة: “غسل بالخمر لباسه” (تك 49: 11). الحلة هي الكساء الروحي وثوب العرس.
الخاتم ليس إلا صك الإيمان الصادق وختم الحق.
الحذاء يشير إلى الكرازة بالإنجيل.
القدِّيس أمبروسيوس
v الحلة الأولى هي الكرامة التي فقدها آدم، وأما العبيد الذين قدَّموها فهم الكارزون بالمصالحة…
الخاتم الذي في اليد هو عربون الروح القدس بسبب شركة النعمة، إذ يُشار إلى الروح حسنًا بالإصبع…
الحذاء في القدَّمين هما الاستعداد للبشارة بالإنجيل كي لا نمس الأرضيات.
القدِّيس أغسطينوس
v هذا هو عمل الحب الأبوي المترفق وصلاحه، أنه ليس قط يقيم الإنسان من الأموات، بل ويعيد إليه نعمته العظيمة خلال الروح؛ وبدل الفساد يلبسه ثوبًا غير فاسد، وبدل الجوع يذبح العجل المسمن، وعوض المسافة الطويلة التي قطعها في رحلته، فإن الآب المنتظر رجوعه إليه يقدَّم حذاء لرجليه. وما هو أعجب من هذا أنه يعطيه خاتم الخطبة الإلهي في إصبعه، وفي هذا كله يجعله في صورة مجد المسيح.
القدِّيس البابا أثناسيوس
هذه الأمور الثلاثة (الثوب والخاتم والحذاء) قدَّمها السيِّد المسيح للبشريَّة الخاطئة، ليقيم منها أبناء الله الحيّ، الذين يرتدون ثوب العرس اللائق بالوليمة السماويَّة، ويحملون خاتم البنوة، ويسترون أرجلهم ويحفظونها من أتربة هذا العالم ودنسه أثناء عبورهم خلال كلمة الكرازة.
يمكننا أيضًا أن نقول أن هذه الأمور إنما قدَّمها للبشريَّة الراجعة إليه ليقيمها عرُوسًا وملكة له بعد أن عاشت زمانها كزانية روحيًا تجري وراء عريسٍ آخر. قدَّم لها أولاً الثوب المُوشى بالذهب، كقول المرتل: “قامت الملكة عن يمينك بثوب موشى بالذهب” (مز 45). وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يقصد هنا ثوبًا حقيقيًا بل الفضيلة… الثوب الموشى بالذهب ثوب به في نسيجه مواد متنوعة]. يكمل القدِّيس حديثه موضحًا أن الكنيسة تضم أصحاب مواهب متنوعة ومتمايزة، لكنها متكاملة، فتنسج ثوبًا واحدًا للعرس السماوي. أما الخاتم فهو عربون الروح، إذ يقول الرسول بولس: “ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح” (2 كو 1: 21-22) هذا هو مهر العرس الذي قدَّمه العريس السماوي لعروسه الكنيسة لكي تحيا به حتى تدخل إلى كمال العرس. والحذاء يشير إلى الانطلاق للكرازة لتضم كل نفس إلى العضويَّة الكنسيَّة الروحيَّة فيكون له نصيب في العرس الأبدي.
ما هو العجل المسمن الذي قدَّم في الوليمة ليأكل الكل ويشبعوا ويفرحوا؟ يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه الرب يسوع المسيح الذي دعي هكذا مقدَّما جسده الذي بلا عيب ذبيحة، وسمي “المسمن” بسبب غناه وتكلفته، إذ قادر على خلاص العالم كله.] ويقدَّم القدِّيس أغسطينوس ذات التفسير، قائلاً: [قد ذُبح لأجل كل إنسان يؤمن بذبحه.] وجاء تعليق القدِّيس أمبروسيوس هكذا: [بالتناول من الأسرار المقدَّسة يستطيع الإنسان أن يتقوت بجسد الرب الدسم بالقوَّة الروحيَّة… هو الذبيحة الكهنوتيَّة التي قدَّمت عن الخطايا.]
إن كان الابن قد أسلم جسده ذبيحة من أجل خلاص البشريَّة، والآب قد فرح وتهلل من أجل هذا العمل المفرح، وطالب السمائيين أن يتقدَّموا لينظروا ويفرحوا بالإنسان القائم إلى الحياة السماويَّة بعد موته، إلا أن الابن الأكبر الذي يشير إلى المتكبرين من اليهود قد وقف خارجًا لا يريد أن يدخل ويفرح مع الكل، إذ يقول السيِّد المسيح:
“وكان ابنه الأكبر في الحقل،
فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طربٍ ورقصًا.
فدعا واحدًا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا.
فقال له: أخوك جاء، فذبح أبوك العجل المسمن، لأنه قبله سالمًا.
فغضب، ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه يطلب إليه.
فأجاب وقال لأبيه: هاأنا أخدمك سنين هذا عددها،
وقط لم أتجاوز وصيتك،
وجديًا لم تعطني قط، لأفرح مع أصدقائي.
ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني
ذبحت له العجل المسمن.
فقال له: يا بني أنت معي في كل حين،
وكل ما لي فهو لك.
ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر،
لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فُوجد” [25- 32].
يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على تصرف هذا الابن الأكبر، قائلاً:
[دين الابن الأكبر، لأنه جاء من الحقل. هنا الحقل يشير إلى الاهتمام بأعمال الأرض والجهل بأعمال روح الله (1 كو 2: 11).
اشتكى لأنه لم يُعط جديًا ليذبحه، مع أن حمل الله قد ذُبح لغفران الخطايا، لا لذة الجسد.
يطلب الحاسد جديًا ليذبحه، بينما يشتهي البار أن يُذبح من أجل حمل الله!
بسبب الحسد أصيب الأكبر بشيخوخة (روحيَّة) مبكرة، وقد ظل خارجًا بسبب عدم محبَّته. الغيرة (الشرِّيرة) التي فاض بها قلبه طردته خارجًا!
إنه أحد الذين لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم، بينما ينتقدون القذى التي في الآخرين.
إنه يغضب، لأن الغير ينال غفرانًا ونعمة!
يا لعدم احتمال جنود الشر الروحيَّة، إذ لا تطيق أن تسمع ترانيم الفرح وتلاوة المزامير!…
يشير الابنان إلى شعبين، الأصغر يمثل الأمم، والأكبر إسرائيل الذي يحسد الآخر من أجل تمتعه بالبركات الأبديَّة. احتج اليهود عندما دخل المسيح ليأكل عند الأمم، لذا طلبوا جديًا كتقدَّمة أثيمة مكروهة.
يطلب اليهودي الجدي (باراباس)، والمسيحي يطلب حملاً (المسيح)، لذلك أطلق لليهود بارباس وقدَّم لنا المسيح ذبيحة. حل بهم منذ ذلك الحين فساد الإثم بينما نلنا نحن غفران الخطايا…
يشير الابن الأكبر للفرِّيسي الذي برر ذاته في صلاته المملوءة غرورًا، هذا الذي حسب نفسه أنه لم يكسر وصيَّة الله مطلقًا، بممارسته لحرف الناموس (18: 11). بقسوة اتهم أخاه أنه بدد ميراث أبيه مع الزواني، مع أنه كان يجب أن يحترس في كلماته لأن الرب يسوع جاء لأجل العشارين والزواني.
لم يُطرد الابن الأكبر، إنما وقف على الباب ولم يرد أن يدخل، إذ لم يقبل إرادة الله التي دعت الأمم للإيمان، بهذا صار الابن عبدًا، “لأن العبد لا يعرف إرادة سيِّده” (يو 10: 14)، وعندما عرفها غار وصار معذبًا من أجل سعادة الكنيسة، وبقي هو خارجًا. مع هذا أراد الأب المحب أن يخلصه، إذ قال له: “أنت معي في كل حين”… يا حبذا لو أبطلت حسدك، “كل ما هو لي فهو لك”، فإذ لك أسرار العهد القديم كيهودي، وتنال أسرار العهد الجديد أن اعتمدت أيضًا.]
v الآن إذ كان أخوه الأكبر في الحقل وقد جاء إلى البيت سمع صوت موسيقى ورقصًا، فدعى أحد العبيد وسأله ما عسى أن يكون هذا. الابن الأكبر يُفهم بكونه الشعب اليهودي الذي كان في الحقل يخدم الله لأجل التمتع بممتلكات أرضية. ففي العهد القديم على وجه الخصوص كانت السعادة الأرضية وعدًا لمن يعبد الله.
جاء إلى البيت وسمع موسيقى. الصوت المتناغم معًا يُسمى موسيقى، لأنه حينما يتفق كل الذين يخدمون الله في محبَّة يتممون قول الرسول: “أطلب إليكم أن تقولوا جميعكم قولاً واحدًا” (1 كو 1: 10) حينما يصير المسيحيون هكذا يبعثون موسيقى، أي صوتًا متناغمًا يسرّ الله، ويتحقَّق فيهم المكتوب: “كان لهم قلب واحد ونفس واحدة” (راجع أع 4: 32).
لقد سأل أحد العبيد، أي قرأ أحد الأنبياء… إشعياء أو إرميا أو دانيال، إذ كرز الكل بمجيء المسيح وبالفرح من أجل مصالحة الأمم.
قال له العبد: “أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن” [27]، فغضب ولم يرد أن يدخل [28]. غضبه يعني مقاومة الشعب اليهودي لخلاص الأمم. حقًا فإنهم إلى هذا اليوم في غيرة من الكنيسة يقاومونها.
الحقيقة التاليَّة هي أن الأب “خرج يطلب إليه” [28] ربَّما تعني أنه في نهاية العالم سيقبل كل اليهود الإيمان خلال رحمة الله، كقول الرسول بولس: “إلى أن يخلص ملئ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو 11: 25-26)…
بقوله: “قط لم أتجاوز وصيتك” [29] عني أن اليهود بدوا كمن عبدوا الله الواحد، وعندما اشتكى: “وجديًا لم تعطني قط” تُفهم عن المسيح. فإن المسيح وهو حمل الله دين كجدي بواسطة اليهود، أي دين كخاطئ. لهذا فالمسيح بالنسبة لنا هو حمل، وبالنسبة لهم هو جدي. الذين اعتقدوا أنه خاطئ وليس بارًا لم يستحقوا التمتع بوليمة جدي مذبوح أو حمل كذبيحة.
عندما قال الأب: “أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك” [31] يعني بذلك عبادة الله الواحد وكتابات العهد القديم والأنبياء الأمور التي بالتأكيد تخص الله وقد بقيت مع اليهود على الدوام.
الأب قيصريوس أسقف آرل
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24