تفسير انجيل لوقا أصحاح 8 للأنبا غريغوريوس
الفصل الثامن
8: 1- 3 السيد المسيح يجول معلماً ومبشراً :
ثم أخذ مخلصنا ذلك يجول في كل مدينة وقرية واعظاً ومبشراً بملكوت الله، لكي تصل تعاليمه وبشارته إلى الأغنياء المتعلمين في المدن، وإلى الفقراء الذين لم يتيسر لهم قدر كبير من التعليم في القرى، فيستمع إلى تلك التعاليم وتلك البشارة كل الناس على السواء، ومن ثم لا يكون لأحد عذر إن لم يندفع بها، بأنه لم يستمع إليها، وقد غمر مخلصنا بنعمته الناس جميعاً، مساوياً بذلك بين الأغنياء والفقراء، وبين المتعلمين وغير المتعلمين على السواء، بحيث لا يكون ثمة فارق بينهم إلا ما يفعلون من خير أو شر، وما ينتهون إليه من إيمان به وبرسالته أو رفض له ولرسالته. وعلى هذا الأساس وحده يقبلهم ليتمتعوا برعويته في ملكونه، أو يرفض رعويتهم في ذلك الملكوت. لأن جوهر رسالته التي كان يعظ ويبشر بها هي مجيء ملكوت الله، الذي هو في نفس الوقت ملكوته هو، والذي تسود فيه على الأرض، لا شريعة الأرض وإنما شريعة السماء. فمن قبل هذه الشريعة السمائية التي هي شريعة الكمال والخير والصلاح وخضع لها صار من تلاميذه واستحق الخلاص الأبدي. ومن رفض هذه الشريعة وتمرد عليها متشبثاً بشريعة الأرض التي هي شريعة النقص والشر والفساد ظل تلميذاً للشيطان واستحق ما استحقه الشيطان من هلاك أبدي.
وكان يصحب مخلصنا في تجواله تلاميذه الاثنا عشر الذين كانوا يلازمونه على الدوام، ليتعلموا منه حتى يصيروا قادرين على تعليم الناس ما تعلموه منه، سواء في بلاد اليهود التي يرسلهم إليها وهو لا يزال بينهم، أو في كل بلاد الأرض بعد أن يرتفع عنهم إلى السماء.
كما كان يصحب مخلصنا في تجواله بعض النسوة اللاتي كان الإيمان به قد رسخ في قلوبهن حين سمعن تعاليمه، أو حين رأين ما صنعه من المعجزات، ولا سيما تلك المعجزات التي نلن بها هن أنفسهن الشفاء على يديه من أمراضهن المستعصية الشفاء، ء، أو نلن بها الخلاص من الأرواح الشريرة التي كانت تتسلط عليهن فتذهب بعقولهن أو تعذبهن شر عذاب. وكان من أولئك النسوة مريم التي كانت تدعى المجدلية، نسبة إلى بلدتها مجدلة،، التي تسمى اليوم «المجدل»، وهي تقع على الشاطئ الغربي من بحر الجليل على بعد ثلاثة أميال شمالي طبرية وكان مخلصنا قد أخرج من تلك المرأة سبعة شياطين كانت تقيم فيها، فأمنت به وتبعته طوال فترة خدمته التعليمية، وظلت ملازمة له حين تآمر اليهود عليه، وكانت إحدى الواقفات عند صليبه حين صلبوه، وتبعت جثمانه إلى القبر، وأنت بأطياب لتضمخه. ثم كانت هي أول من ظهر لها بعد قيامته من بين الأموات، كما كان من أولئك النسوة حنة زوجة خوزي أمين خزانة هيرودس أنتيباس ملك الجليل، التي آمنت بمخلصنا على الرغم من أن زوجها كان من كبار حاشية ذلك الملك الطاغية السافك للدماء، الذي كان يمقت مخلصنا ويخاف منه ويسعى إلى قتله . وقد لازمنه الأخرى إلى آخر لحظة، وكانت ضمن الواقفات عند صليبه ينظرن من بعيد، وضمن اللاتي شيعن جثمانه إلى القبر وأتين بأطياب لتضميخه في صبيحة يوم القيامة، فرأين القبر فارغاً، وسمعن الملاكين يقولان إنه قد قام. وكان من أولئك النسوة أيضاً امرأة أسمها سوسنة، وأخريات كثيرات كن يبذلن من أموالهن في خدمة مخلصنا الذي كان متفرغاً تفرغاً تاماً لإنجاز رسالته السمائية . وقد ارتضى في سبيل ذلك، وعلى مقتضي تواضعه الذي يفوق مدارك البشر، وهو رب المجد وملك الكون ومالك كل شيء، أن يتخلى عن الاهتمام حتى بالضروريات من المطالب الأرضية التي يهتم بها كل بشر، تاركاً ذلك لأولئك المؤمنات به. لكي يعلم من أرادوا أن يتمثلوا به من خدامه ووكلائه أن يهتموا بالسمانيات وحدها، ولو اقتضاهم ذلك قبول الخدمة من الآخرين الذين يدفعهم الإيمان بالسمائيات إلى خدمتهم.
8: 4- 15 مثل الزارع وتفسيره
وقد اجتمع جمهور عظيم من أولئك الآتين إلى فادينا من كل مدينة، يدفعهم نحوه ما سمعوه عن التعاليم التي ينطق بها والمعجزات الإلهية التي يصنعها. أو لعلهم سمعوا تعاليمه ورأوا معجزاته من قبل فتبعوه ليسمعوا ويروا مزيداً مما يقـول ويصنع، وقد تعلقت به نفوسهم، والتصقت بشخصه الجليل القدوس أنظارهم ومشاعرهم. حتى إذا رأى فادينا ذلك منهم أراد أن يوضح لهم أثر كلماته – التي هي كلمات الله ـ في نفوسهم التي تختلف باخـتـلاف مـعـدنهم واستعدادهم، ليحثهم ـ على اختلاف أنواعهم وطباعهم – على حفظ تلك الكلمات التي يبذرها في قلوبهم، والاحتفاظ بها لكي تنمو وتزدهر وتأتي بالثمرة التي تؤهلهم لملكوت السماوات الذي جاء ليبشرهم به ويدعوهم إليه، ولئلا يتركوا تلك البذار تموت للتو في قلوبهم، أو تنمو قليلاً ثم تذبل فلا تأتي بأي ثمر يؤهلهم لذلك الملكوت، وقد ضرب لهم كعادته مثلاً ليجعل هذه المعاني قريبة إلى عقولهم فيفهموها وإلى قلوبهم فيتعلموها ويتعلقوا بها ويعملوا بموجبها، قائلا لهم :
«خرج الزارع ليزرع بذوره . وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق فوطئته الأقدام وأكلته طيور السماء. وسقط البعض على الصخر، فما إن نبت حتى جف لانعدام الرطوبة. وسقط البعض بين الشوك فديت الشوك معه وخنقه. وسقط البعض على الأرض الجيدة فنبت وأعطى من الثمر مائة ضعف، وواضح من هذا المثل الذي ضربه معلمنا أن كلماته التي ينطق بها في تعليمه نشبه البذور التي يبذرها الزارع، وعلى حسب جودة الأرض التي يبذرها فيها يكون مصيرها. لأن الأرض أنواع مختلفة : فثمة أرض اتخذها الناس طريقاً يسيرون فيه فغدت صلبة لا تنغرس فيها البذور. ومن ثم تطؤها الأقدام وتأكلها الطيور فتتبدد وتبيد. وتلك تشابهها القلوب الصلبة التي تتلقى كلمة الله ولكنها لا تغور في أعماقها، وإنما تظل على السطح، ومن ثم سرعان ما يتلقفها الشيطان الشرير عدو كل تعليم صالح ويلتهمها فلا تترك تلك الكلمة فيها أثراً.
وثمة أرض ممثلة بالصخور، تنبت فيها البذور إلى حين، ثم لا تلبث أن تجف لافتقارها إلى التربة الخصبة التي تصلح لنمو البذور، وتلك تشابهها القلوب المتحجرة التي تتلقى كلمة الله وتؤمن بها سريعاً، ولكنها إذ لا عمق لها ولا نعمة متأصلة فيها تضعف أمام أي عقبة تعترضها أو تجربة تمر بها. وثمة أرض شائكة تنبت فيها البذور أيضاً ولكن الشوك ينبت فيها مع نباتها فيضعفه ويتلفه، وتلك تشابهها القلوب التي تتلقى كلمة الله، ولكن ما يملؤها من اهتمامات الحياة وشهواتها التي هي بمثابة الأشواك، لا تلبث أن تزاحم تلك الكلمة، فتنتقص من فعلها فيها، ومن النعمة التي : تملأ قلوب المؤمنين بها والعاملين بمقتضاها. وثمة أرض جيدة خصبة، لا صلابة فيها ولا صخور ولا أشواك نخالط تربتها، فتستقر فيها البذور وتنبت وتنمو وتأتي بكل الثمر الذي ينتظره الزارع منها، وتلك تشابهها القلوب النقية الطاهرة العامرة بالنعمة حتى أعماقها، وهذه هي التي تتلقى كلمة الله فتحتفظ بها وتحافظ عليها في أناة وصبر وصمود أمام كل نوائب الزمان، ومن ثم تنبت فيها هذه الكلمة وتنمو وتزدهر وتثمر ثمراً وفيراً طيباً يؤهل أصحابها لنعمة ملكوت السماوات.
وقد قال فادينا هذا المثل ثم نادي قائلاً من له أذنان للسمع فليسمع، ، أي أن كل من وهبه الله عطية السمع فليستخدمها استخداماً سليماً بحيث يستوعب معنى ذلك المثل الذي ضربه ويدرك مغزاه ويعمل على أن يكون قلبه لا صلباً ولا صخرياً ولا شائكاً، ، وإنما قلباً نقياً غنياً بالنعمة والصلاح، كالتربة الغنية بالخصوبة والخير، لكي يثمر الثمر الذي يليق بكلمة الله المعلنة له في تعاليم فادينا الحبيب. ولا يكون كأولئك الذين قال عنهم حزقيال النبي انهم آذان ليسمعوا ولا يسمعون، (حز 12: 2).
وكان تلاميذ مخلصنا لا تزال أفهامهم حتى ذلك الحين قاصرة عن أن ندرك كل الإدراك معاني تعاليمه السامية وأمثاله العميقة المغزى، فكان كعادته إذا انفرد بهم يفسر لهم تفسيراً وافياً تلك التعاليم والأمثال التي كان يخاطب بها سائر الناس، كاشفاً لهم ـ دون سائر الناس – أسرار ملكوته السماوي، كي يكشفوها هم بدورهم للعالم كله بعد ذلك. ومن ثم قال لهم إنكم أنتم قد أعطيتم أسرار ملكوت الله . وأما الأمثال فلمن هم سواكم، لأنهم وهم مبصرون لا يبصرون، وسامعون ومع ذلك لا يسمعون ولا يفهمون، مشيراً بذلك إلى نبوءة إشعياء النبي التي قال فيها لليهود بالسمع تسمعون ولا تفهمون،، وبالبصر تبصرون ولا ترون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سمعها، وعيونهم قد أغمضوها، لئلا يبصروا بعيونهم، أو يسمعوا بآذانهم، أو يفهموا بقلوبهم، أو يرجعوا إلى فأشفيهم، (إش 6: 9)، (مت 13: 14 و 15). وإذ كان اليهود غلاظ القلوب، مغلقى العقول على هذا النحو، كان مخلصنا يضرب لهم الأمثال التي تيسر لهم فهمها، عسى أن تلين قلوبهم وتتفتح عقولهم لتعاليمه السامية المدلول العميقة المعنى، وأما تلاميذه فكان يخصهم بعناية أكثر ورعاية أوفر. ومن ثم فإنه حين انفرد بهم، فسر لهم المثل الذي ضربه للجموع ليكون فـهـمـهـم له أعظم وأعمق من سواهم، قائلاً لهم إليكم هذا المثل : فالزرع هو كلمة الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتى إبليس فيقتلع الكلمة من قلويهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا، والذين على الصخر هم الذين يسمعون الكلمة ويقبلونها بفرح، ولكنهم إذ لا جذور متأصلة فيهم، يؤمنون إلى حين، ثم في وقت التجربة يضعفون. وما سقط بين الشوك هم الذين يسمعون، وفيما هم ماضون تخنقهم اهتمامات الحياة وغناها وملذاتها، فلا يكون ثمرهم كاملاً. وأما ما سقط في الأرض الجيدة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب أمين صالح ويحفظونها، ومع الصبر يثمرون» .
8: 16- 18 مثل السراج المضيء :
ثم أوصى معلمنا تلاميذه بأن يستفيدوا من تعليمه الذي هو نور، والذي يجعلهم مصدراً للنور، إذ قال لهم «أنتم نور العالم» (مت 5: 14). كما أوصاهم أن يفيدوا غيرهم بهذا التعليم فلا يخفوا نوره ولا النور الذي استمدوه منه، وإنما ليجعلوا هذا النور سراجاً للناس ليروا على هديه الطريق إلى ملكوت السماوات. فما علمهم به في الخفاء، فيعلموه هم للناس علانية، لأن ذلك النور لا يمكن أن يظل خفياً، وإنما سينكشف حتماً ويسطع في الأرض كلها. ولأن تلك التعاليم التي يشع منها النور لا يمكن أن تظل مكتومة، وإنما سيأتي عليها حتما وقت تصير فيه معروفة ومعلنة لأهل الأرض كلهم، إذ قال لهم «ما من أحد يوقد سراجاً ثم يغطيه بإناء أو يضعه تحت سرير وإنما يضعه على منارة لكي يرى الداخلون النور. فإنه ما من خفى إلا وسيكشف، وما من مكتوم إلا وسيعرف ويعلن، . وما دامت هذه هي رسالتهم، فليحسنوا الاستماع إلى تعاليم معلمهم ويستخدموا كل المواهب العقلية والروحية التي وهبهم الله إياها في فهم تلك التعاليم فهماً دقيقاً وعميقاً، والعمل بها، ونشرها بين الناس، لأنهم إن فعلوا ذلك فسيضاعف الله لهم هذه المواهب فلا تفتأ تنمو وتزدهر وتزداد آثارها وثمارها. وأما إن أهملوا تلك المواهب وتهاونوا في استخدامها، فإنها لا تلبث . وإن ظنوا أنهم يمتلكونها ـ أن تذبل وتموت فيحرمون منها، إذ قال لهم افتبينوا كيف تسمعون، لأن من له سيعطى، وأما من ليس له، فحتى ما يظن أنه له سينتزع منه .
21: 19- 21 من هم إخوته :
وقد كان معلمنا الصالح يوالي التعليم لتلاميذه وللناس، فلم يسمح قط بأن يعوقه عن رسالته أي عائق أو أي اعتبار مهما كان، حتى لقد حدث أنه فيما كان يعلم الجموع المحتشدة من حوله، جاءت إليه أمه السيدة العذراء، وأقارب أمه الذين قيل عنهم على مقتضى عادة اليهود إنهم إخوته، إذ قيل في سفر التكوين عن لوط إنه أخو إبراهيم مع أنه كان ابن أخيه (تك 14: 14). وقيل عن يعقوب إنه أخو لابان مع أنه كان ابن أخته (تك 29: 12). كما قيل عن إخوة لابان إنهم إخوة يعقوب مع أنهم كانوا أخوانه (تك 31: 32 و 37 و 46). وقد قيل في سفر اللاويين عن أبناء العم إنهم إخوة. بل إن اليهود كانوا يقولون عن كل بني جنسهم إنهم إخوة . ومن ذلك ما ورد في سفر التثنية، إذ تنبا موسى لليهود قائلاً يقيم لك الرب إلهك من وسطك، ومن وسط إخوتك نبياً مثلي .. قال لي الرب .. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، (تث 18: 15 و 17و 18) ولذلك فإنه على الرغم من أن يوسف لم يعرف السيدة العذراء معرفة الأزواج قبل ميلاد مخلصنا أو بعده ، وبالتالي لم يكن لمخلصنا إخـوة أشقاء بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، كان يقال عن أقرباء أمه وأقرباء يوسف إنهم إخوته. ومثال ذلك أنه جاء في الإنجيل للقديس متى أن مخلصنا «حين جاء إلى وطنه كان يعلمهم في مجامعهم حتى بهتوا وقالوا : من أين له هذه الحكمة وهذه القدرات؟ أليس هو ابن النجار؟ أليست أمه تدعي مريم وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا ؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا؟» (مت 13: 53 ۔ 56) . وقد كان يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا الذين قيل عنهم هنا إنهم إخوته، هم ـ كما يتضح من التسوس الأخرى ـ أبناء خالته أخت السيدة العذراء مريم، التي كان اسمها مريم كذلك ، وكانت زوجة رجل يسمى «كلوبا، إذ جاء في الإنجيل للقديس يوحنا وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوباه (يو 19: 25) . وجاء في إنجيل متى أنه حين كان مخلصنا على الصليب ، كانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد.. وكانت بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي، (مت 27: 55 و 56). ومن ثم فإن مريم زوجة كلويا وأخت السيدة العذراء التي ذكرها إنجيل يوحنا، هي نفسها مريم التي ذكرها إنجيل متى وقال إنها أم يعقوب ريوسي، وهما من الذين قيل عنهم إنهم إخوة مخلصنا، في حين أنهما كما يتضح هنا أبنا خالته ، فلما كان مخلصنا يعلم الجموع وجاءت إليه أمه وأولئك الذين قيل عنهم إنهم إخوته، لم يستطيعوا الوصول إليه بسبب الحشد، وإذ قيل له إن أمك وإخوتك واقفون في الخارج يريدون أن يروك، أجاب قائلاً إن أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها، . ولا يمكن أن يكون في قوله هذا ما يعني أي انتقاص من حبه لأمه السيدة العذراء مريم أو تكريم لها التكريم الجدير بالابن البار لأمه القديسة، لأن السيدة العذراء كانت هي أول من يسمعون كلمة الله ويعملون بها وقد كان هذا هو السبب في اختيار الله الآب لها ليتجسد في أحشائها ابنه الإلهي الحبيب. وإذن فالسيدة العذراء مريم ليست هي مجرد رد أم له بالجسد، ولكنها فضلا عن أمومتها الجسدية، فهي أيضاً ممثلة بالنعمة كما دعاها الملاك، ومحملة بجميع الفضائل الروحية التي تجعل منها أماً لجـمـيـع المؤمنين والأبرار بعد أن صارت هي الملكة أم الملك، والتي قال عنها الحكيم «بنات كثيرات عملن فضلاً. أما أنت ففقت عليهن جميعاً، (أم 31: 29). وإنما قال مخلصنا هذا ردا على الذين أرادوا أن يقاطعوا تعليمه بموضوع أمه وإخوته، وربما قصدوا بذلك التصغير من شأنه، والتقليل من مكانته في نظر سامعيه، فأبان لهم وللجميع أنه لا يشغله شاغل عائلي عن مواصلة تعليمه، إذ كان التعليم من أهم عناصر رسالته التي خرج من السماء إلى العالم لينجزها، إذ قال لتلاميذه ذات مرة «لنذهب إلى مكان آخر.. كي أبشر هناك .. لأنني لهذا خرجت، (مر 1: 38) ولعله أيضاً أراد أن يطمئن تلاميذه وسامعيه ممن قد يظنون أن محبته تتجه خصوصاً إلى أمه وإلى أقربائه بالجسد، لأنه تربطهم به مباشرة رابطة اللحم والدم، فكشف لهم بإجابته هذه أنهم هي أيضاً وجميع المؤمنين به يتمتعون بمحبته إذا سمعوا كلام الله وعملوا به . لأن محبته العامة هي لجميع البشر من حيث هم ، خلائقه الذين خلقهم على صورته ومثاله ، وأما محبته الخاصة فتزداد للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها، وينسبة ما يتحلون به من طاعة للوصية والعمل بها. فكلما أطاعوا الله وعملوا بوصاياه ازدادت للمسيح قرابتهم الروحية التي هي أسمى من القرابة الجسدية بقدر ما تسمو الروح عن الجسد. ولعله ـ له المجد – أراد أيضاً أن يعطى درساً لتلاميذه ولخـدامـه في كل جيل أن يرتفعـوا فوق العلاقات الجسدية الحسبة إلى الأبوة والأخوة الروحية العامة لجميع الناس الذين يخدمونهم بالروح والحق . وليس معنى هذا أن يتنكر خدام المسيح لوالديهم وإخوتهم في الجسد، بل يجب أن تسمو علاقتهم بوالديهم وإخوتهم في الجسد، وتعلو فوق الروابط الحسية الجسدية والقرابة اللحمية إلى القرابة الروحية التي تتسع لتحتضن جميع أبناء الله بالإيمان، فيصير جميع المؤمنين إخوة لهم أو أبناء. وهذا هو معنى قول مخلصنا لتلاميذه في موضع آخر وأنتم جميعاً إخوة. ولا يكون لكم على الأرض أحد تدعونه أباً، لأن أباكم واحد هو الذي في السماوات، (مت 23: 8 و 9).
8: 22- 25 معجزة تهدئة العاصفة :
وذات يوم ركب مخلصنا سفينة مع تلاميذه وقال لهم النعبر إلى الضفة الأخرى للبحيرة،، وهي بحيرة طبرية، التي كانوا يسمونها أيضاً بحيرة جليسارت، كما كانوا يسمونها بحر الجليل، فأقلعوا. وفيما هم ماضون نام. ثم هبت عاصفة ريح نزلت على البحيرة وأحاطت بهم. فغمرتهم المياه، ومن ثم صاروا في خطر، فتقدموا إلى مخلصنا وأيقظوه قائلين في ذعر وإنزعاج «يا معلم قد هلكنا، ، فقام وصنع معجزة من أعظم وأعجب معجزاته، إذ انتهر الريح والأمواج، فسكنت وساد هدوء عظيم، فبرهن بذلك على سلطانه الإلهي على الماء والهواء والطبيعة كلها، لأنه هو خالقها (يو 1: 3)، وهو الحاكم لها والمتحكم بمشيئته فيها. فهو وحده القادر على أن يأمرها فتأتمر، وأن ينتهرها فتنتهر، وإذ كان قد طالما أظهر قدرته الإلهية لتلاميذه، وبخهم على ما أبدوا من ذعر وانزعاج أمام الخطر الذي داهمهم عند ذلك، لأنهم كان ينبغي أن يطمئنوا كل الاطمئنان أمام أي خطر، مؤمنين بأنه مادام هو معهم ـ وإن كان نائمـاً فـهـو قادر في كل الظروف على أن يدفع الخطر عنهم ويحميهم من كل سوء. فكان ذعرهم وانزعاجهم دليلاً على عدم إيمانهم بذلك، ومن ثم قال لهم «أين إيمانكم ؟. . أما هم فيعد أن كانوا خائفين من العاصفة، تولاهم الخوف من تلك المعجزة التي تفوق مدارك البشر وتتجاوز كل تصوراتهم ومن ثم ذهلوا وقال بعضهم لبعض من هو يا ترى؟ فإنه يأمر حتى الرياح والمياه فتطيعه.. ويبدو من ذلك أن تلاميذه أنفسهم، وهم الذين كانوا أقرب الناس إليه وألصقهم به، وقد شهدوا كل معجزاته السابقة لم يدركوا حتى ذلك الحين حقيقة شخصية معلمهم، ولم يفهموا من كل أقواله وأعماله أن هذا هو ابن الله الذي تنبأ بمـجـيـلـه كل أنبيائهم، وأن هذا في نفس الوقت ـ على مقتضی نبوءات كل أنبيائهم كذلك . هو الله ذاته، المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء في الأرض وفي السماء على السواء. ويبدو أن السيد المسيح له المجد ظل نائماً حينما كان البحر هائجا ليدع لتلاميذه فرصة يجابهون فيها الموقف الصعب منفردين. وهذا امتحان لإيمانهم، كما أنه تدريب لهم على مواجهة المشاكل والصعوبات التي لابد أنهم سيواجهون أمثالها وما هو أصعب منها في حياتهم المستقبلة وفي خدمتهم، فلما فشلوا فلجأوا إليه ظهر سلطانه المطلق على الطبيعة، وتبينوا مجد لاهوته، وتعلموا أيضاً أن يستغيثوا به مستقبلا كلما اعترضتهم صعوبات وعقبات ومواقف لا يستطيعون كبشر حيالها شيئاً.
8: 26 -39 معجزة شفاء المجنون في أرض الجرجسيين :
ثم أرسوا بسفينتهم عدد أرض الجرجسيين على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية المقابل لمنطقة الجليل. فما إن نزل فادينا الحبيب إلى البر حتى اتجه نحوه رجل من المدينة التي بتلك الأرض، كانت به شياطين منذ زمن طويل، دفعت به إلى الجنون، فراح يهيم على وجـهـه، عـارياً لا يرتدي ثوباً، مشرداً لا يقيم في بيت، طريداً لا يفتأ يتنقل بين القبور المنتشرة خارج المدينة، لأن القبور المنتنة هي أنسب مكان لإقامة الشياطين النجسة التي كانت تتملكه. فما إن رأى زعيم أولئك الشياطين مخلصنا مقبلا حتى هرع إليه في فزع وارتمى عند قدميه في مذلة صارخاً بصوت عظيم وما لك ولى يا يسوع أبن الله العلى؟ ألتمس منك ألا تعذبني، وهكذا عرف ذلك الشيطان حقيقة شخصية يسوع الذي من الناصرة التي في منطقة الجليل، والذي كان اليهود يستهينون به، بل يسخرون منه ويهينونه ويحاولون قتله، غير معترفين حتى بأنه إنسان صالح، أو بأنه نبي من الأنبياء، إذ كانوا يقولون «أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟» (يو 1: 46). وكانوا يقولون إنه لم يقم نبي من الجليل، (يو 7: 52) في حين أن الشيطان نفسه أعترف وهو يصرخ في رهبة أن هذا هو ابن الله العلى. كما اعترف بما له على طغمة الشياطين جميعاً من سلطان إلهي يمكنه به إذا شاء أن يطرحهم في هاوية الجحيم، ومن ثم توسل إليه في رعب وضراعة ألا يلقي به في ذلك المقر السحيق المخصص للعذاب الأبدي، متذرعاً لذلك بقوله «مالك ولي»، أي أنه لا علاقة بين مخلصنا الإلهي وبينه، لأن الشيطان إذ تمرد على الله أصبح نجساً، ومن ثم انفصل عن الله الطاهر طهارة كاملة، على الرغم مما لله عليه من سلطان لا ينقطع ولا يزول إلى الأبد. وبهذا السلطان سـيـدينه في يوم الدينونة. وقد قال ذلك الروح النجس لمخلصنا هذا القول لأنه كان قد أمره بأن يخرج من الرجل. وقد أغاظه ذلك وأحلقه، إذ كان قد استحوذ على ذلك الرجل البائس منذ زمان طويل، وكان يدفع به لكي يعذبه إلى حالة بشعة من الهياج الجنوني العنيف، حتى لقد كان الناس يكبلونه بالسلاسل ويصفدونه بالأغلال، فيحطم هذه القيود وينطلق به الروح الشيطاني النجس إلى البراري، ليهيم فيها مكابدأ كل ألوان التعاسة والأذى، وقد سأل مخلصنا ذلك الشيطان قائلاً ، ما اسمك ؟، فقال «فيلق» ، أي أنه لم يكن شيطاناً واحداً وإنما كان رئيس فيلق كامل يتألف من بضعة آلاف من الشياطين أحتلت جسد الرجل المسكين. وقد توسلوا إلى مخلصنا ألا يأمرهم بسلطانه الإلهي بالذهاب إلى الغور السحيق الذي لا قرار له وهو هاوية الجحيم. وكان هناك قطيع من الخنازير يرعى عند الجبل، فتوسلوا إليه أن يأذن لهم بالدخول فيها، فأذن لهم بذلك. فخرجت الشياطين من الرجل ودخلت في الخنازير فأصابتها جميعاً بالجنون الذي كانت قد أصابت به الرجل من قبل ومن ثم اندفع القطيع كله من فـوق الجـرف وغـرق في بحيرة طبرية. وهكذا ضحى مخلصنا بتلك الآلاف من الحيوانات لإنقاذ إنسان واحد، مما يدل على ما للإنسان لديه من مكانة وكرامة تفوقان مكانة كل كائنات الأرض وكرامتها، لأن الإنسان هو مظهر لمجد الله، وقد خلقه في البداية على صورته ومثاله (تك 1: 26 و 27). ومن ثم استمد الإنسان مكانته وكرامته ـ قبل أن يسقط في الخطيئة ـ من مكانة الله ذاته وكرامته. وإذ رأى رعاة الخنازير ما حدث هربوا وذهبوا وأذاعوا الأمر في المدينة كلها، وفيما يكتنفها من الضياع، فخرج الناس ليتبينوا جلية الأمر. حتى إذا جاءوا إلى مخلصنا وجدوا الرجل الذي خرجت منه الشياطين جالساً عند قدمي مخلصه ومخلصنا جميعاً، وقد ارتدى ثيابه واسترد عقله، فلما أخبرهم الذين شاهدوا تلك المعجزة كيف نال ذلك الذي كانت فيه الشياطين الشفاء اعتراهم خوف عظيم من تلك القوة الخارقة التي صنع بهـا مـخلصنا ذلك ولكنهم بدلاً من أن يؤمنوا به، بلغ من غلظة قلوبهم وعـمى أبصارهم وبصائرهم أنهم سخطوا عليه، لأن معجزته التي صنعها لشفاء الرجل أدت إلى هلاك خنازيرهم. فطلب إليه كل الذين كانوا في أرض الجرجسيين ونواحيها أن يذهب عنهم. أي أنهم طردوه . وهو رب المجد ـ من أجل بضعة خنازير دنيئة قذرة يملكونها. فكانوا مثالاً حياً لكل من يطرد السيد المسيح من قلبه، حرصاً على شهواته ومقتنياته التي تشبه الخنازير في دناءتها، وقد كان ذلك التصرف من أولئك القوم خليـقـاً بأن يثير غضب فادينا، ولكنه في سماحته وتسامحه وغفرانه وكماله المطلق في كل صفاته انصرف عنهم في هدوء، وعاد إلى السفينة التي كان قد جاء بها. وعندئذ توسل إليـه الرجل الذي خرجت منه الشياطين – وقد آمن به ـ أن يلازمه ويتبعه أينما ذهب كتلميذ له. ولكن فادينا عهد إليه بمهمة أخرى يؤديها، لا تقل شأنا عن المهمة التي عهد بها إلى تلاميذه، إذ صرفه قائلاً وعد بيتك وحدث بما صنع الله لك،، ، لأن الهدف الأول من معجزاته – له المجـد ـ كان هو أن يؤمن الناس – إذ تبلغهم أنباء قدرته الإلهية – بأنه هو المسيح ابن الله الذي كانوا ينتظرونه. ومن ثم مضى الرجل، وأخذ ينادي في المدينة كلها بما صنع فادينا له، تبشيراً به، وتمجيداً لاسمه، ودعوة للناس إلى الإيمان به.
8: 40- 56 معجزتا إقامة إبنة يايرس وشفاء نازفة الدم:
أما مخلصنا فلما رجع بالسفينة إلى الضفة الغربية من بحر الجليل استقبلته جموع الجليليين هناك، مرحبين به، فقد كانوا جميعاً ينتظرونه، ويترقبون عودته إليهم، ليستزيدوا من تعاليمه السماوية ومن معجزاته الإلهية التي يشفيهم بها من أمراضهم الجسدية والروحية. وبالفعل سرعان ما تقدم إليه رجل اسمه يأيروس. كان رئيساً لمجمع اليهود الذي هو معبدهم. وكان ذا مكانه عظيمة في المجتمع اليهودي. ومع أن رؤساء اليهود الدينيين والمدنيين على السواء كانوا يناوئون مخلصنا ويعادونه ويعتدون عليه، غيرة منه حقداً عليه، برهن هذا الرجل على أنه مؤمن به إيماناً عظيماً، ومتفان في الخشوع له والتواضع أمامه خشوع العبد وتواضعه أمام الإله المعبود، إذ جاء وخر عند قدميه ضارعا إليه في توسل وحرارة أن يجيء إلى بيته، إذ كانت له ابنة وحيدة في نحو الثانية عشرة من عمرها، قد أشرفت على الموت، وكان ذلك الرجل موقناً أن مخلصنا قادر على شفائها وإنقاذها من الموت الذي يوشك أن يتلقفها، وإذ رأى مخلصنا إيمانه استجاب له. وفيما هو ذاهب معه، كانت الجموع في ازدحامها تضغط عليه، وهي تتدافع نحوه لتكون أقرب ما تكون إليه، التماساً لنعمته، وإحساساً بسموه وقدرته. وإذا امرأة كانت مصابة ينزف دم منذ اثنى عشر عاماً، وقد أنفقت كل ما تملك على الأطباء قلم يستطع أحد شفاءها. بيد أنها خجلت أن تعلن لمخلصنا عن مرضها النسائي أمام الجموع. وكان إيمانها به عظيماً جداً حتى لقد أيقنت أنها لولمست ثيابه فقط، كان ذلك كافيا لشفائها، ومن ثم جاءت من الخلف ولمست طرف ثوبه، فتوقف على الفور نزفها. وقد علم مخلصنا بأمرها، ولكنه أراد أن يشجعها مكافأة لها على إيمانها، وإظهارا للمعجزة التي حدثت في كامل مجدها، فتساءل قائلاً «من لمسني؟، ، فأنكر الجميع. وقال تلميذه بطرس والذين كانوا معه ، يا معلم إن الجمع يتزاحمون من حولك ويضغطون عليك، ثم تقول من لمسنى ؟ . فقال مخلصنا إن ثمة من لمسنى لأنني عالم بالقوة التي خرجت مني، . وكانت تلك القوة الإلهية التي تشع منه، والتي يعلم إلى أين تنجه، ويعلم أثرها حيثما تتجه، وهي إذ تخرج منه لا تنفصل عنه، وإنما تفعل فعلها وهي ثابتة فيه، لأنها من ذات طبيعته، فلما رأت المرأة أن أمرها لم يكن خافياً عليه، جاءت مرتعدة من روعة ذلك العلم الإلهي الذي يحيط بكل شيء ولا يخفى عليه شيء مهما حدث في الخفاء، وارتمت على قدميه في رهبة وخشوع. ثم ـ إذ غلبت حرارة إيمانها على تحرجها وحياتها ـ اعترفت أمام كل الشعب بالسبب الذي من أجله لمسته، وأعلنت كيف أنها شفيت على الفور. فقال لها مخلصنا تشجعي يا ابنتي إن إيمانك قد خلصك، فاذهبي بسلام، . ومن ثم نالت بهذه الكلمات الرقيقة المعزية من الرب نعمة فوق نعمة، وشفاء فوق شفاء، وعزاء فوق عزاء.
وبينما كان مخلصنا يتكلم جـاء واحد من بيت رئيس المجمع وقال له قد ماتت ابنتك فلا تتعب المعلم.. فلما سمع مخلصنا ذلك بادر بحنانه الذي يفوق كل وصف، فطمأن الرجل الحزين وهذا من روعه قائلا له الا تخف، وإنما أمن فقط فهي تشفى». ولما جاء إلى البيت، لم يسمح لأحد بالدخول ممن لا إيمان لهم، لأن عدم الإيمان يعوق انسكاب النعمة الإلهية. فلم يأخذه إلا تلاميذه الأقربين بطرس ويعقوب ويوحنا، وأبا الصبية وأمها. وكان الجميع يبكون عليها وينديونها بعد أن أيقنوا أنها ماتت بالفعل، فقال لهم مخلصنا ولا تبكوا فإن الصبية لم تمت، ولكنها نائمة.. لأن الموت بالنسبة لمخلصنا الإلهي ليس إلا نوماً مؤقتاً، وهو قادر أن يوقظ في أي لحظة يريد أيا من أولئك النائمين الذين يسميهم الناس أمواتاً. ثم في اليوم الأخير سيدعو جميع الدائمين الذين ماتوا في كل العصور منذ بدء الخليقة، فيستيقظون ويقومون. بيد أن هذا المعنى الذي قصده مخلصنا كان أسمى من أن يفهمه الحاضرون هناك، فضحكوا منه سأخرين. إذا كانوا يعلمون أن الصبية قد ماتت. فأخرجهم جميعاً لعدم إيمانهم، ثم أمسك بيد الميتة ونادي قائلاً يا صبية قومي، فعادت روحها إليها بعد أن كانت قد خرجت منها بالفعل، وقامت على الفور بكلمة واحدة من رب المجد، وقد استردت كامل صحتها وقوتها، ومن ثم أمر أن يعطوها لتأكل . وقد استولت الدهشة على أبويها. كما أنها ولا شك أستولت على الحاضرين جميعاً. بيد أن مخلصنا بحكمته أوصى أبوى الصبية بألا يقولا لأحد بما كان. لأنه لم يكن يقوم بأي عمل إلا في موعده الملائم، ولم يكن يعلن عن أي عمل قام به إلا في موعده الملائم كذلك، ولأنه لم يكن يصنع المعجزات لطلب ذيوع صيته بين الناس، بل لقد صنع جميع معجزاته رحمة بالناس وتعليماً لهم. وهذه واحدة من كثير جدا من المرات التي أمر فيها الرب يسوع بعدم إذاعة أخبار معجزاته وآياته، وذلك في نطاق سياسته في الإخفاء لئلا إذا امتدت الشائعات والأقاويل عن أخبار قدراته، تعطل الصليب، وبالتالي تعطل تدبير الفداء والخلاص كما يقول القديس بولس الرسول ولو عرفوا لما صلبوا رب المجد، (1 كو 2: 8).