تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 10 للاب متى المسكين

الأصحاح العاشر :

3 – إرسالية السبعين رسولاً (1:10-16)

نحن مديونون كثيراً للقديس لوقا بهذا الجزء الفريد من كرازة المسيح وهو تعيين سبعين رسولاً آخرين غير الاثني عشر، الأمر الذي لم يذكره أي من الأناجيل الأخرى ولو أنه لم يذكر لنا أسماءهم. وقد احتفظ لنا التقليد الكنسي بهذا الخبر وذكرت أسماؤهم في كتب الأبوكريفا أي المدونات الكنسية غير القانونية، ويقال إنهم اثنان وسبعون. على أن التقليد احتفظ أيضاً بأتعابهم كتلاميذ للرب. وللأسف لم يصلنا أي شيء من تعاليمهم أو خدماتهم الكنسية خارج أورشليم. وقد أعطاهم المسيح بعـض التعليمات وهي موازية للتي جاءت في إنجيل ق. متى بخصوص الاثني عشر . والأمر المستغرب له أن ق. لوقا ذكر شيئاً من تعاليم المسيح لهم في الآية (35:22)، وهي نفسها التي جاءت في هذا الأصحاح الذي نحن بصدده (4:10). ونحن لا نعلم من أي مصدر استقى ق. لوقا هذه الأخبار عنهم. على أن الإطار الذي يحوي أخبارهم يقع في (10: 1و17-20)، وربما يكون ق. لوقا قد اعتنى بأخبارهم ليقدم لنا فصلاً جديداً موسعاً كعينة من امتداد خدمة المسيح، قاصداً أن ينبه أذهاننا أن تلاميذ المسيح لم يقتصروا على الاثني عشر. ولا يفوتنا أيضاً أن تعيين المسيح للسبعين رسولاً هو تطبيق واضح لما صنعه يهوه العظيم مع موسى: «فخرج موسى وكلم الشعب بكلام الرب وجمع سبعين رجلاً من شيوخ الشعب وأوقفهم حوالي الخيمة. فنزل الرب في سحابة وتكلم معه وأخذ مـن الـروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ. فلما حلت عليهم الـروح تنبأوا ولكنهم لم يزيدوا، وبقي رجلان في المحلة اسم الواحد ألداد والآخر ميداد فحل عليهما الروح وكانا من المكتوبين (أي عـــدهم 72)» (عـد 11: 24-26). وهكــــــــــذا في التقليـد القديم كان العدد سبعين بالإضافة إلى اثنين. وللعجب يحدث هذا الأمر نفسه في موضـوع السبعين رسولاً، إذ وجدت مخطوطات مثل النسخة الفاتيكانية وبعض النسخ القبطية والسريانية تقرر أنهـم كانوا اثنين وسبعين.

ولكن يلاحظ القارئ أن حديثنا قد توقف في نهاية الأصحاح التاسع . عند وجود المسيح والتلاميذ في رحلتهم نحو أورشليم، وقد غيروا خط السير بناء على رفض السامريين أن يجعلوهم يمرون إلى أورشليم، فاتجهوا إلى تخم الفلسطينيين. لذلك نندهش إذ أن ق. لوقا لا يزال يعطي أخبار السبعين (أو الـ 72) وكأنه في الجليل.

 على أن ما يسرده ق. لوقا هنا هو مجموعة من التعاليم والأقوال غير مرتبطة ببعضها، مما يدل على أنها عملية تجميع جديدة مكملة لما فات، إنما تحوي من الدرر الإنجيلية ما يبهج قلبنا. وهنا يذكر المسيح (2:10) أن الحصاد كثير والفعلة قليلون حتى بعد تعيين السبعين (أو الـ72)، ملمحاً إلى حتمية امتداد الكنيسة لتواجه حاجة الخدمة الشديدة. ثم يذكر المسيح بشيء من الأسى ما سيتعرض له السبعون من المخاطر (3:10)، وكما سمعنا في توجيهات المسيح للاثني عشر عن مستلزمات خدمة الملكوت الهامة، يعود هنا ويوصي السبعين أن لا يحملوا معهم أي زاد أو (زواد) أي من الحاجيات، لكي يختبروا الإيمان بالله الذي سيوفر لهم كل ما يحتاجون إليه (4:10). وابتدأ الرب يعلمهم عن بروتوكول أو أصول آداب الخدمة في البيوت بضرورة إعطاء السلام (5:10)، على أنه لو رفض السلام عليهم أن ينسحبوا إلى بيت آخر، ولكن متى قوبلوا بالترحاب فعليهم أن يعتمدوا على ما يقدم لهم لأن هذا استحقاق الخدمة. غير أنه أوصاهم أن لا ينتقلوا من بيت إلى بيت، والذين يرفضون الدعوة ينذرونهم بأن ملكوت الله قد قرب وهم سيحرمون أنفسهم بأنفسهم وسيكونون تحت السؤال في الدينونة. وفي النهاية يبدأ المسيح يكشف بحزن عن مصير المدن التي سترفض الملكوت المقدم لها. ولكن أخيراً يعلن هذه الحقيقة الإلهية التي ترفع من قيمة الخدمة إلى السماء، إذ أن كـل مـا يعمل معهـم إنما سيكون موجهاً له شخصياً (16:10). وبعودة الرسل في الأعداد (17 -20) يتجلّى الفصل كله، حيث تظهر النصرة من داخـل الرفض كطبيعة حتمية للرسالة.

وقصد ق. لوقا أن يعطي تعاليم المسيح فيما قبل القيامة لتكون مثالاً لما يجب أن تتبعه الكنيسة، وواضح من إرسالهم اثنين اثنين أنه لتكميل الخدمة بالمعجزات. ولا يفوت علينا إصرار المسيح وعنه ق. لوقا في تقديم خدمة السبعين رسـولاً كعينـة لانفتاح الكنيسة لتكـون إسرائيل الجديدة مشددة بالسبعين الجدد، كتصوير أخروي لانفتاح الكنيسة على أمم كثيرة (حيث عدد أمم الأرض المذكورة في سفر التكوين الأصحاح العاشر هو سبعون أمة بالذات). وهذه الحملة الكرازية القوية الجديدة جددت فكرنا من نحو خدمة المسيح التي اختزلت في الأناجيل لتقرأ في ساعة، مع أنها قد ملأت ثلاث سنوات ونصف، وهذا ما عبّر عنه المسيح بنفسه حينما قال: إن الحصاد كثير والفعلة (72) قليلون، إشارة للملايين القادمة. ولكن تدخل الكنيسة رسمياً في هذه المسئولية إذ يقول المسيح: صلوا واطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة على قدر الاتساع، الأمر الذي أهملناه، لأنه على أكتاف الكنيسة الحية يستعلن الملكوت، لأنه حتماً بقوة الروح ستنتصر الكنيسة وتمزق قوى الشيطان. رجع وهكذا مثل لنا ق. لوقا بقصة السبعين صورة حية لامتداد الكنيسة الأخروي ليوقظ فكرنا أننا سائرون والسلام على أكتافنا، ومنتصرون منتصرون لأن قوة المسيح ستكتسح برودة الكنيسة لتشهد الشهادة الأخيرة، بحسب قول ق. لوقا الذي استلمه من المصدر الزمني الذي ربما رأى بعينه كيف السبعون فرحين ومنتصرين: «حتى الشياطين تخضع لنا باسمك» (17:10) لا عن رضى بل بالقوة الغالبة التي غلب بها الرب.

هذه الصورة البهية التي يقدمها ق. لوقا لخدمة الكنيسة المتّسعة بالسبعين الراجعين بالفرح والانتصار المطابق الحي الناطق بنفس الصورة التي يقدمها إشعياء النبي عن تصوره الرؤيوي لكنيسة آخر الأيام: «ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بالترنم وعلى رؤوسهم فرح أبدي. ابتهاج وفرح يدركانهم. يهرب الحزن والتنهد. أنا أنا هو معزيكم.» (إش 51: 11 و12) 

1:10 «وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً، وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع . حيث كان هو مزمعاً أن يأتي».

 لغة القديس لوقا في افتتاحية هذا الأصحاح تنطق بالأصالة وبلغة التقليد الكنسي السائد وقتها، فهي بروح تحمل خبراً جديداً لم يذكره أي من الإنجيليين الثلاثة الآخرين، إلا أن اللغة تقليدية . الكنيسة؛ فهو هنا إنما ينقل إما عن مصدر شفاهي أو عن أصل مكتوب يحمل الخبر بلغة التأكيد.

«سبعین آخرین»: ἑβδομήκοντα 

وتقـرأ في بعـض المخطوطات كالفاتيكانيـة وبعض النسخ القبطية والسريانية اثنين وسبعين ἑβδομήκοντα δύο ، والعلماء يؤكدون حسب معظم المخطوطات أنها كانت في الأصل اثنين وسبعين، ولكن لسهولة الكتابة والقراءة جعلوهـا سـبعين. وذلك بحسب عـدد الشعوب الـتي ستستقبلها الكنيسة الجديدة كالمذكورة في سفر التكوين (10) حينما كانت الأرض تتكلم بلسان واحد (تك 1:11)، وحسب عدد شيوخ إسرائيل السبعين (خر 1:24) مضافاً إليهم ألداد وميداد ليكونوا اثنين وسبعين، كذلك أعضاء السنهدرين أيضاً كانوا سبعين. والعجيب أيضاً أن عدد الذين قاموا بترجمة التوراة إلى اليونانية كانوا اثنين وسبعين. كما أرسلهم المسيح اثنين اثنين وهي دعوة دائماً لحضور المسيح كالثالث بينهما. وقد عيّن لهم المسيح المدن التي سيمر عليها ليعدوا له مكاناً حيث يكون القوم قد استعدوا لقبوله.

2:10 «فقال لهم: إن الحصاد كثير، ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده».

يجيء القول عن الحصاد هنا موافقاً وكأن المسيح قد وضع البذار وهو يجول جولته الأخيرة، ولكن فكر المسيح في الكنيسة وهي على امتداد الزمن. فالذي يزرع الكلمة عليه أن يرعاها إلى أن يحصد الثمار لحساب المسيح، حيث الحصاد هنا يعني انتهاء موسم الأرض وبداية الجمع في الأهراء لحساب ملكوت الله. فالكلام فيه تلميح واضح لخدمة الملكوت. أما أن يضع على الكنيسة أن تطلب من رب الحصاد، أي رب الملكوت، أن يرسل فعلة لحصاده فهي دعوة ملحة لعمل الخدمة وتكميل الرسالة. لأن اقتراب الملكوت يكون معه مباشرة اقتراب النهاية والدينونة، فالكنيسة مسئولة لإعداد الحصاد للنهاية السعيدة. فالذي لا تحصده الكنيسة يحصده العدو، فالمسألة في حقيقتها الزمنية صراع بين الكنيسة ورئيس هذا العالم. فالكثرة في عدد الفعلة ضرورة حتمية لزيادة نصيب الرب في الحياة الأبدية وملكوته الذي أعد، قبل أن يأكل المنجل: «ثم نظرت وإذا سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن إنسان له على رأسه إكليل من ذهب وفي يده منجل حاد … فألقى الجالس على السحابة منجله على الأرض فحصدت الأرض.» (رؤ 14: 16 – 14)

ويلاحظ القارئ أن المسيح يقول: إن «رب الحصاد يرسل فعلة إلى حصاده» نعم قبل أن يأتي المنجل، فهي فرصة ليكون الحصيد لحسابه، ولكن إنه لأمر محزن أن يقع الحصيد على الأرض لقلة الفعلة.

3:10 «إذهبوا. ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب».

اعتراف جيد من جهة الله أن يقول ذلك، فهو عالم أننا ضعاف جداً أمام شراسة العالم المحيط. ولكن الأمر الإلهي: اذهبوا جعل ذهابنا على حساب الراعي الأعظم الذي يعد غنماته كل لحظة، يجمع الضعيف على منكبيه ولا يستكد السير من أجل الحوامل، وديع ولكنه أسد على الذئاب، عيناه على القريب وعلى البعيد لا تخطئ الرؤية، وفي يده أن يرد الضال عن ضلاله. يقول: «ها أنا أرسلكم » وهو يسبق ويعد الطريق ويسير في المقدمة نتبعه بقلوبنا ونفوشنا مطمئنة، نصمت وهو يحارب عنّا، ومهما طال الطريق وضاقت الدنيا فلن نعيا ولن نكل فأمامنا الراحة العظمى. فإن كان قد ضمن لنا النهاية فنفوسنا ملك يديه، وماذا تعمل الذئاب ونحن محمولين على كفيه؟ لقد بعنا الحياة والموت لنا ربح، فلا خوف لنا من قاتل أو من ذئب . كلمة الحياة التي نقولها تضيء لنا الطريق وهي سلاحنا الوحيد الذي عليه نتكل. وما أصغر ذئاب الغاب أمام ذئاب البشر، فأسنان الذئب أرحم من لسان البشر. ولولا أن الرب راعينا ماكرزنا وما علمنا وما بقينا.

4:10 «لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية، ولا تسلموا على أحد في الطريق».

الرب رفع عن خادمه والكارز باسمه هم الدنيا الذي غرق فيه الكثيرون، فلا مال يعتمد عليه ولا مزود يضمن له ملء بطنه، ولا أحذية تقيه العثرات. عجيب هو طريق الكارز باسم يسوع، فقد وضع على من يكرز باسمه أن يجوز اختبـار مـن يحيا في الملكوت حقا، حيث لا يكون عمل إلا التسبيح والمديح والشكر المتواصل، أما حاجات الإنسان فيتكفل بمـا رب الملكوت. فالذي اغتذى من يديه خمسة آلاف رجل من خمس خبزات أيقصر عن أن يقيت إنساناً مما له وهو خبز الحياة؟ لقد أكلناه مرة وها نحن نحيا به كل يوم.

لقد أراد المسيح فعلاً أن يجعل الإنسان الذي يؤمن به وقد سلمه حياته، أن يذوق سره الإلهي ويتحقق بروحه أنه هو الحياة وخبز الحياة، وقد غلب الموت وضمن لنا الحياة. فعندما يختبر من يؤمن به كيف يعتمد عليه، يرى بعينه كيف يعتني به وقد صار وكأنه ليس من هذا العالم حقا. فعندما قال: « ليسوا من العالم» (يو 16:17) فقد ضمن لنا كيف نحيا وكيف نأكل ونشرب ونلبس من يديه إن صدقنا وإن قلنا لقولته هذه: آمين.

هي وصايا ليست لأهل هذا العالم، بل هي وصايا للذين آمنوا وصمموا وعاشوا على أنهم ليسوا من هذا العالم، وقد تحقق ذلك لألوف وملايين من خدامه في كل أنحاء الدنيا كيف يعيشون حقا على كلمته هذه. لهذا أراد المسيح لخدامه والكارزين باسمه أن يكون لهم أول ما يكون خبرة حية تسند قلبهم وروحهم لينطلقوا بالروح ويكرزوا بالحق. وإذ يكونون قد أخذوا هكذا من روح المسيح يستطيعون أن يسلموه للآخرين كخبرة حياة سابقة ولاحقة: «ثيابك لم تبل عليـك ورجلك لم تتورّم هذه الأربعين سنة.» (تث 4:8)، «والرب سائر أمامك، هو يكون معك، لا يهملك ولا يتركك. لا تخف ولا ترتعب .» (تث 8:31)

وأما قوله: «لا تسلموا على أحد في الطريق» لا تفيد إلا حفظ القلب والفكر منحصرين في الله وكلمته. لأن معظم إيحاءات النعمة تجيء للإنسان أثناء المسيرة الهادئة ورفع القلب الله. فالكارز يرفع قلبه وهو يسير فليس عنده لا المكان ولا الزمان ليقف ويعطي السلام الكاذب الذي لأهل العالم. فسلام الكارز يحمله الروح القدس ليحل على من يقبله. لذلك أصبح من المحتم على الكارز أن يتحفظ على كلامه وعلى سلامه لأنه يعطي كلمة الرب وسلامه.

5:10 «وأي بيت دخلتموه فقولوا أولاً: سلام لهذا البيت».

 هنا السلام لم يعد مجرد شالوم اليهودي، بل سلام مسيا الذي يهدي قلوب الناس إلى ملكوت الله، سلام دفع ثمنه المسيح دماً ذكياً مسكوباً على الصليب ليرفع العداوة التي تأصلت في قلب الإنسان ضد الله والناس. فهو سلام للحياة الأبدية وليس سلاماً لراحة النفس على أرض الشقاء التي لا تعرف سلاماً. هو سلام وصفه ق. بولس أنه سلام يفوق كل عقل، أي سلام رؤيوي يستمد كيانه من فوق، الحياة الأبدية التي ليس فيها حزن بعد ولا كآبة ولا تنهد. ولكن الذي يهمنا جداً أن نقوله إنه بمجرد إلقاء السلام يكون . معه نعمة الله العاملة في القلوب، فإذا لم ينفتح قلب السامعين إلى السلام فقـد حرموا أنفسهم من النعمة، لذلك يحسب أن إلقاء السلام على أهل البيت هو بمثابة اختبار حي واقعي متدخل فيه الله، حتى إذا ارتاح سلام الله ونعمته في القلوب حينئذ تتم بعد ذلك الكرازة، وإلا فاخرجوا من هذا البيت. وقد عبر المسيح عن الإنسان الذي يقبل السلام ومعه نعمة الله «بابن السلام» وابن السلام يعني أنه مختار لتحل عليه النعمة والبركة ويقبل رسالة الخلاص، لهذا سبق المسيح ومنع الكارز أن يلقي سلامه على الناس في الطريق لأنه سلام خاص بالله والخلاص لا يعطى إلا لابن السلام.

6:10 «فإن كان هناك ابن السلام يحل سلامكم عليه، وإلا فيرجع إليكم».

هذا هو الاختبار الإلهي الذي سلمه المسيح للكارز باسمه لحساب الملكوت: إنه سلام محمول على النعمة، فلن يقبله إنسان شرير أو مقاوم لله ولاسمه، أما من يقبله فيكون ذلك في الحال علامة على أنه أو أنهم على مستوى النعمة وعملها الإلهي، حينئذ على الكارز أن يسلم وديعة الإيمان والخلاص بلا خوف ولا حذر. وفي حالة رفض السلام الذي هو بالتالي رفض نعمة الله، يقول المسيح شيئاً عجيباً: إن سلامكم يرتد إليكم، فما معنى هذا؟ هنا عمق بديع، لأن الإنسان وهو إنسان حينما يرفض أو يرفض سـلامه قـد يفقـد سـلامه ويمتلـى غـضـباً. لذلك فالمسـيح وهـو يـريـد أن يضمن لأولاده الكارزين باسمه أن يحتفظوا بهدوئهم وسلامهم كشرط أساسي في الخدمة، فقـد وعـد أن النعمة التي رفضت برفض السلام تعود إلى الكارز لتملأه سلاماً ومزيداً من النعمة.

7:10 «وأقيموا في ذلك البيت آكلين وشاربين مما عندهم، لأن الفاعل مستحق أجرته. لا تنتقلوا من بيت إلى بيت».

 هذا المبدأ أن الفاعل مستحق أجرته يبدو في البداية أنه منطق دنيوي؛ أن الذي يعمل لابد أن يأكل فلابد أن يأخذ أجرته: «ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة، من الهيكل يأكلون؟ الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح؟ هكذا أيضاً أمر الرب: أن الذين ينادون بالإنجيل، من الإنجيل يعيشون» (1كو 9: 13و14)، حيث “يخدم المذبح” في العهد القديم يعني: يقدم ذبيحة على المذبح لإنسان عليه أن يقدم ذبيحة، وبذلك فكل الذين يقدمون الذبائح لهم فيها جزء حدده الناموس شرعاً أن يأخذه إلى بيته ويأكله هو وأولاده، إذ أن سبط لاوي الذي يخرج منه الكهنة لا نصيب له في تقسيم الأرض لأنه : يخدم الله وليس الأرض، لذلك وجب أن يكون له نصيب مـن كـل الشعب الذي يأتي للرب. ولكن انتقل الوضع إلى حال المسيحية حيث مذبح الرب ليس على الأرض بل في السماء، لذلك كل من يخدم اسم المسيح أصبح له نصيب من كل الشعب لأن نصيب الخادم هو الرب: «الرب نصيبي قسمتي وكأسي» (مز 5:16)، «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئاً في الأرض» (مز 25:73). وانتقـل مـذبـح الـرب القديم إلى السماء لأن عليـه طـلـب المسيح كذبيحـة حـب وسـلام وخلاص، ونحن شركاء هذه الذبيحة: «لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه» (أف 30:5)، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه» (يو 56:6)، «جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق» (يو 55:6). فإن كان الخادم والكارز يكرز بالخلاص بجسد المسيح ودمه للشعب فقد أصبح نصيبه الأعظم في المسيح، ولكن أن يعوله الشعب من جهة حاجيات الجسد الأرضي أصبح حقا له. فإن كانت الكنيسة أصبحت بالحق مسئولة عن خلاص الشعب وتعطيه بالفعل نصيباً في الخلاص من جسد المسيح ودمه، أصبح خدام الكنيسة لهم الحق أن يعولهم الشعب: «أما الشيوخ (الكهنة) المدبرون حسناً فليحسبوا أهلاً لكرامة مضاعفة، ولا سيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم، لأن الكتاب يقول: لا تكم ثوراً دارساً، والفاعل مستحق أجرته» (1تي 5: 17و18)، كذلك: «من تجند قط بنفقة نفسه؟ (الجيش والملك يعطيه لبسه وأكله) ومن يغرس كرماً ومن ثمره لا يأكل؟ أو من يرعى رعية ومن لين الرعية لا يأكل؟» (1كو 7:9) 

وقوله: «لا تنتقلوا من بيت إلى بيت» ذلك لأن هذا تبديد في الوقت والجهد، فإذا تركزت الإقامة في بيت أصبح مركزاً للخدمة والتعليم ويسهل على جميع الأسر الحضور وسماع كلمات الخلاص. علماً بأن هذا كان أيام المسيح ولم تكن قد وجدت كنائس، ولكن صارت البيوت التي تقبل الكارز محوراً للخدمة ككنيسة. وبالفعل بدأت الكنيسة بعد ذلك مركزة في البيوت التي أخذت على عاتقها خدمة الكرازة والكارزين.

وعلى هذا الأساس جاء في إنجيل ق. متى ما يوضح هذا الأمر أكثر إذ تقول الآية: «وأية مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق وأقيموا هناك حتى تخرجوا» (مت 11:10). وهذا يوضح كيف بدأت الكنائس في كل مدينة وقرية كبيوت ثم تطورت إلى كنائس. وهذا الفكر أيضاً مأخوذ من إنجيل ق. مرقس (10:6) وهو أصلاً أقدم تقليد.

8:10 «وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم، فكلوا مما يقدم لكم».

هنا يأتي على مستوى المدينة ما سبق أن جاء على مستوى البيت. ويلزم أن نفهم معنى: «كلوا مما يقدم لكم» إذ القصد هو عدم العودة إلى الطاهر والنجس لأن الكرازة هنا تشمل اليهود والأمم. لذلك جاءت في موضع آخر: «غير فاحصين من أجل الضمير.» (1کو 27:10)

9:10 «واشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله».

هنا ندخل في صميم عمل الإرسالية حيث تصبح المدينة التي قبلت المرسل أهلاً لعمل المعجزات. أي أن هناك قاعدة إيمانية بالمسيح والملكوت، عليها يمكن إجراء مواهب الشفاء عن استحقاق. لأن قبول الدعوة إلى الملكوت مقابله في الحقيقة قبول عمل النعمة على أعلى مستوى مؤيداً لإيمان هذه المدينة، فالمعجزة، كالشفاء، تأتي مدعمة لإيمان أهل المدينة. هنا إيمان أهل المدينة هو الأساس الذي يبتدئ به الله يظهر ذاته علناً في المعجزة ليزداد الإيمان ويتقوى. فمعجزة الشفاء التي سيعملها الكارز تصير جزءاً هاماً جداً من كرازته وتحقيقاً لكل وعودها وتأكيداً على صدق مجيء ملكوت الله. وقد كانت الكرازة في أيام الكنيسة الأولى يلازمها دائماً المعجزة كتدبير من ا الله لغرس الإيمان الوثيق في قلوب الناس، ولكن من جهة مفهوم الإيمان اللاهوتي لا يصح أن يقوم صدقه على المعجزة والآية: «طوبی للذين آمنوا ولم يروا» (يو 29:20). ولكن في البداية كان يتحتّم أن يلمس الشعب شيئاً فوق الطبيعة ليؤمنوا بإيمان المسيح الذي هو فوق الطبيعة: «ولكن إن كنت بإصبع الله أُخرج الشياطين (المعجزة) فقد أقبل عليكم ملكوت الله.» (لو 20:11)

ولكـن جـاءت المعجزة الموازية والمؤازرة للكرازة بملكوت الله هنا في إنجيل ق. لوقا مقصورة على الشفاء، ولكننا نجد في إنجيل ق. متى عرضاً لمعجزات أكثر: «العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر في.» (مت 11: (6,5

«اقترب منكم ملكوت الله»:

«اقترب»: Ἤγγικεν

وهذه الكلمة تعني أيضاً باليونانية: “وصل إلى” أي على المستوى العملي: “الملكوت وصل إلينا ويمكن أن نمسكه: «أمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت» (1تي 12:6). هذا يعطي للإيمان بملكوت الله الإحساس الشديد بالقرب والتحريض على الإمساك فعلاً لا باليد بل بالقلب كما يمسك الإنسان بحمامة طائرة ويظفر بها: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله» (مر 15:1). والقرب هنا أيضاً على مستوى الوصول إلى Ἤγγικεν ، هنا: «كمل الزمان» أي: “بلغ نهايته”، فأصبح الواقع ملتصقاً بالملكوت أي أصبح ملكوت السموات حاضراً تماماً. لأن انتهاء الزمان حقق بالفعـل بلـوغ الملكوت. وهذا شرحه المسيح بوضوح حينما قال: «فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (لو 20:11). كل هذا يعطينا وعياً إلهياً يتحتم علينا أن نمسك به مسكاً وهو أن ملكوت الله ـ أي قوة المسيح للخلاص والحياة الأبدية ـ حاضرة الآن حضوراً صادقاً واعياً لا يحتاج من الإنسان إلا الإمساك بها بالإيمان في القلب. ولكن يلزم أن نفرق بين الاقتراب الزمني والاقتراب الإلهي، فالاقتراب الإلهي أقوى وأوثق وهـو يعني المسافة الروحية التي بينك وبين المسيح!! وفي الفهم الروحي البسيط تعني: “حضرة المسيح” أي حضوره اللازمني، فهو عينه الملكوت. لذلك فمفهوم الكرازة التي أرسلهم المسيح ليكرزوا بما أن ملكوت الله قد اقترب أو قد وصل، مضمونه أنه اقترب ووصل بنفس كرازة التلاميذ. وبمعنى بسيط عملي يكون المفهـوم هـو أن التلاميذ يحملون لهم حضور المسيح بالفعل. وهنا يصبح القـرب والحضـور زمنياً أيضاً بوصول التلاميذ. إذن، فعمل الكرازة في حقيقته أمر إلهي خطير!

وإن أردنا أن نمثلها، نمثلها بأن الملكوت حمامة طائرة فوق رأسك إن لم تمسكها طارت. فأنت عليك أن تمسك بالحياة الأبدية وتحضرها زمنياً لك وإلا عبر زمانك فارغاً! والزمان إذا امتلأ بالحضور الإلهي أصبح لا زمن، أصبح لمحة من الخلود، وهذا هو: «لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله» (لو 10:8) والـذي يعنينـا منـه الآن هـو سـر الخـلاص والكــــــرازة بـــالملكوت هـي عـرض حالة حضور إلهي في شخص يسوع المسيح، إما تقبل أو ترفض. لذلك كان قبولها أعظم غنيمة ورفضها أفدح خسارة. لذلك لا نستكثر العبارات المريعة التي يصدرها المسيح الآن بالنسبة للرفض: «رفضوني أنا الحبيب مثل ميت» (مز 37: 21و22)، وهي بعينها جريمة إسرائيل، تتكرر في الذين يرفضون الخلاص بالمسيح في وجه الكارزين.

10:10و11 «وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم، فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا: حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم. ولكن اعلموا هذا إنه قد اقترب منكم ملكوت الله».

هذا التعبير بديع حقا أن المدينة التي لا تقبل كرازة الرسل باسم المسيح لا يتركونها في جهلها، أو كأنه بلا شاهد يكون عقابها، بل ليخرجوا إلى أوسع شوارعها ويقولوا رافعين صوتهم بما هو حادث لأن الحدث خطير: إن ملكوت الله قد اقترب منكم وجاء إليكم وانتهى إلى مدينتكم، كإعلان تحذيري ضروري وهام. لأن بعد ذلك سيحل بها عقاب شديد، فلابد أن يكون قد تم إعلامهم على يد شهود. على أن القول بأن الملكوت قد اقترب إليكم يعني أنه قد أصبح عندكم وقد جاءكم لتأخذوه إن أردتم وهو الحياة المعروضة عليكم، إن آمنتم بها مدوا أيديكم واقبلوها وافتحوا قلوبكم لتأخذوها. أما الغبار الذي لصق بأرجلهم ومسحوه ونفضوه فهو مجرد شهادة كغسل القاضي ليده قبل الحكم بالإعدام، الذي عمله بيلاطس إعلاناً لبراءته من دم إنسان بريء يسفك ظلماً وحراماً.

12:10 «وأقول لكم إنه يكون لسدوم في ذلك اليوم حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة».

هنا عودة على لماذا صار لسدوم ما صار؟ لقد ضربت كلها بخطية الزنا القبيح وإهانة أجسادهم بين ذواتهم وارتضوا بالفجور عملاً وصناعة. وإلى هنا يلزم أن نفهم أن رؤية العهد القديم بالنسبة لرفض الله والارتماء في أحضان الأوثان بكل طقوسها الفاجرة أن هذا زنا روحي لا خلاص له ولا شفاء منه، إذ معناه تعاهد رسمي مع الشيطان لإغاظة الله. وتحليله كالآتي: الإنسان الذي يؤمن بالمسيح ويحبه يلتصق به بروحه ويكون واحداً مع المسيح، ويحسب ذلك حالة زيجة مقدسة . مع المسيح: «خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح» (2كو 2:11)، وتحسب عهداً أبدياً بين الإنسان والله. وهكذا أصبح رفض عبادة الله والازدراء بالمسيح واحتقار الخلاص والجنوح إلى الشر والخطية هو الآخر زنا نجس لحساب الشيطان كزيجة أبدية لا خلاص منها.

أما لماذا يكون نصيب المدينة التي ترفض المسيح وبالتالي الملكوت والحياة الأبدية أكثر من سدوم، فذلك لأن سدوم لم يرسل لها الله كارزا ولم ترفض عرضاً مقدساً مقدماً لها، ولكنها شبت بالفطرة مولعة بالنجاسة والفجور الذي أغضب الله خالقها. أما المدينة التي ترفض الكرازة باسم المسيح لحساب الملكوت الذي اقترب إليهم فعقابها أشر من عقاب سدوم لأن الدعوة أنتها وملكوت السموات أعلن لها جهاراً. وفي الحقيقة عزيزي القارئ يلزم أن نفهم ونتيقن أن ما قيل لمدينة هو مصوب للإنسان، أي إنسان .

13:10 «ويل لك يا كورزين! ويل لك يا بيت صيدا! لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما، لتابتا قديماً جالستين في المسوح والرماد».

قبل هذه الآية نجد فراغاً أو بدءا لفقرة جديدة لينبه القارئ أن هنا نقلة إلى موضوع آخر غير الإرسالية التي للرسل السبعين. فهنا يعود المسيح على كرازته هو في هاتين المدينتين التعيستين. ولأول مرة نسمع هنا بكورزين فلم يأت ذكرها في الأناجيل، ويبدو أن المسيح قد صنع في هاتين المدينتين كثيراً من معجزاته ولم تستجيبا لدعوة الخلاص. فهنا يضمهما ق. لوقا تحت غضب الله مع المدن التي رفضت كرازة المسيح. وبيت صيدا هي مدينة رفضت كرازة المسيح، والآيات التي صنعت فيها لم تؤثر في شرها. ويبدو أن نصيب المدن المستهترة ومواطن الإثم والفجور سيكون لها نوع من العقاب العلني في اليـوم الأخير. ولكن الكلام معظمه موجه لنا نحن الذين عاصرنا كثيراً من الكارزين والخدام ولم ننتفع بكلمات التوجيه ولا كلمات التحذير. فهل يمكن أن ننجو؟

«جالستين في المسوح والرماد»:

حالة التوبة التي كان الإنسان يقدمها لابساً ثوباً من شعر الماعز الخشن جداً على لحم عريه، ليقتص من جسده الذي جرّه للخطية والإثم. والرماد هو بقايا الحريق وهو تراب أسود ناعم يمسح به التائب نفسه، إمعاناً في ظهور الحقارة والمهانة لجسده، لعله يفوز برحمة الله. ولكن المسيح أغنانا هذا العقاب اليدوي، فالرب قدم نفسه ذبيحة إثم ليرفع كل خطايا الخطاة لكي لا يكون لإنسان ما آمن بالمسيح الفرصة أن يعود إلى هذه الأعمال التي لا قيمة لها من جهة الخلاص عن وغفران الخطايا.

14:10 «ولكن صور وصيداء يكون لهما في الدين حالة أكثر احتمالاً مما لكما».

صور وصيداء مدينتان للأمم سيدانان بسبب شرهما، ولكن سيكون لهما حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينتين، لأن خدمة المسيح فيهما رفضت ورفضوا الخلاص والحياة الأبدية، وأما صور وصيداء فلم يكرز فيهما المسيح ولم يكن لهما فرصة للتوبة. فمدن الجليل التي رفضت كرازة المسيح ستكون عبرة. وقد كانت، لأن يوسيفوس المؤرخ يحكي أن أيام الحرب السبعينية نالت صور وصيدا بلاء فظيعاً مع كفرناحوم وكانت الجثث تملأ شوارعها وليس من يدفن. ومن هذه الآية نفهم تماماً أن هناك درجات في عقاب الدينونة للأشخاص والمدن على السواء.

15:10 «وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء، ستهبطين إلى الهاوية».

نحن نذكر تماماً أن كفرناحوم كانت مركز خدمة المسيح وموطناً له ولأقربائه بالجسد، ونالت من الإعزاز وعمل الآيات ما لا حد له. ولكن انقلبت على المسيح ورفضته. ويحكي المؤرخ يوسيفوس الذي عاش هناك زمناً بعد الحرب السبعينية أنها خربت وهجرت، وسواحلها على البحيرة التي كانت تسمى هناك جنيسارت أي جنة السرور امتلأت خراباً وعفناً، ومئات الجثث مطروحة للفساد.

«الهاوية»:

وتعني موطن الموتى. ويقول الرحالة إن مكانها أصبح مهجوراً يحكي عن أمجاد سابقة ولعنة لاحقة. ويصفها الزائرون كوصف إشعياء: «أهبط إلى الهاوية فحرك رئة أعوادك. تحتك تفرش الرمة وغطاؤك الدود.» (إش 11:14)

هكذا يكون، وويل لمن يخاصم جابله ويا حسرتاه لمن أتاه الخلاص وأعرض عنه.

16:10 «الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني».

عودة مرة أخرى إلى المرسلين وكرازتهم. وهنا رفع من سلطان الرسل رفعاً غير متوقع فجعلهم مثل شخصه، فكـل مـن يـكـرز باسم المسيح يكون المسيح هـو الـكـارز به، ويكون الله هـو السامع لـه والمستجيب. فكل عمل حسن يعمل لهم كأنه قد عمل للمسيح، وكل إساءة تصيبهم كأنها أصابت المسيح بل الله، هكذا ارتفعت قيمة الكرازة بحد ذاتها، فمن يقبلها كأنه قبل المسيح بل الله أيضاً، ومن يرفضها يكون قد رفض الله والمسيح.

+ «فقال لهم يسوع (بعد القيامة) أيضاً سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنـا.» (يو 21:20)

هكذا سلم المسيح بعد القيامة سلطانه الخاص للكنيسة لتعمل به وتتقبل عنه المجد والإهانة. فهو الممجد فيها وهو المهان، فإذا تمجدت لا تحسب أن المجد لها وإذا أُهينت فليس هي التي أهينت بل هو. نعم فالكرامة للمسيح في أعمال الكرامة التي تقدم لخدام المسيح، أما الإهانة فإن كنا نحن السبب فيها فهو يهان ونحن نحرم من محده، أما إن كانت الإهانة لاسمه ولم يكن اللوم علينا فنحن نتمجد بها وهو أيضاً يمجدنا.
يا ويلنا يا إخوة إن تعالينا عن الإهانة ونحن سبب لها،
ويا لبؤس حالنا إن طالبنا بالمجد ونحن لسنا أهلاً له.

لقـد وهـب المسيح حبـه وكـل محـده وكل سلطانه لربح النفوس، فإن هي لم تربح فسيطالب!

4 – رجوع السبعين رسولاً (17:10-20)

 

17:10 «فرجع السبعون بفرح قائلين: يارب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك».

فرح السبعين هنا لم ينتبه المرسلون عن سببه ومصدره، فسببه ليس أن الشياطين خضعت لهم بل أن أسماءهم قد كتبت في السموات بمعنى سفر الحياة الأبدية. هذه الحقيقة يمكن أن تغيب عن الإنسان بالرغم أنه فيها ويمارسها لأنها تتم من قبل الله دون أن يعلم بذلك، مثل هؤلاء الرسل. أما كون أسماؤهم قد كتبت في السموات فلأنهم قد قبلوا الدعوة وتبعوا الرب وشاركوه في تعب الخدمة: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي. وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً.» (لو 22: 28و29)

وهنا يتدخل المسيح في أمر إخراجهم للشياطين قائلاً إنه آزرهـم هـو أيضاً بقوته وسلطانه، ورأى الشيطان ساقطاً من السماء. ولكن إن كان فرحهم أو إن كان خضوع الشيطان لهم، فهذا له تفسير واحـد مبدئي أنهم نالوا الخلاص الذي سجل اسمهم في سفر الحياة. لاحظ هنا هذه الثلاث ركائز : الفرح، والقوة الروحية والسلطان الذي نالوه قبل قيامهم، وأسماؤهم التي كتبت في سفر الحياة. هذه مفردات تجمع معاً لتوضح أن ق. لوقا يقدم هنا فصلاً منسجماً للاهوت الخدمة والإرسالية. 

ولكـن لـو عـدنا نحن إلى حقيقة أنفسنا نجد أن الفـرح مـوجـود حقا، واسمنا نثق أنه مكتوب في السموات، ولكن لا نعمل قوات لأن عمل القوات إنما يلازم الكرازة في حقول بدائية تحتاج إلى المعجزة .

أن لا ننسى أما كيف تعرف ق. لوقا على لاهوت الكرازة بالنسبة للمرسلين فهو انتخابه ليكرز مع القديس بولس الرسول، لذلك فهو يكتب من خبرة حية. لذلك أحتسب هذا الجزء من الكلام في غاية الأهمية بالنسبة لنا سواء كنا كارزين “بالاسم” أو خداماً له. أن دخول المختارين للخدمة وينبغي وبدء الكرازة بـ “الاسم” إن كان حقا باختيار النعمة، فالملاحظ أن سلطان المسيح يؤازرهم، إذ يتحركون في مجاله القوي الفعال والمؤثر فيهم وفي الذين يخدمونهم. ونجاح الخدمة متوقف بالفعل على هذا المجال الروحي الذي يحتسب كحضرة دائمة للمسيح يمكن أن يتم فيها عمل المعجزة بلا جهد.

18:10 «فقال لهم: رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء».

 هنا يكشف المسيح علناً أن قوة اسمه التي كرز بها الرسل السبعون أحدرت الشيطان من علو السماء بحالة سقوط مخز. ومعروف أن الشيطان له اسم لوسيفورس أو حامل النور، لأنه رئيس ملائكة عصی أمر الله فانحجب عنـه نـور الله وأصبح نوره مزيفاً قابلاً للزوال. ولأنه ملاك أصلاً وذو قوة فإن الملائكة تحترس منه لأنه يقاومها ولا تستطيع أن تغلبه لأنه كان رئيساً عليها بقوته وسلطانه – بحسب ما جاء في التوراة قديماً سواء مع ملاك دانيال (دا 10: 12-14) أو الملاك المدافع عن جسد موسى (يه 9). ويصف إشعياء النبي سقوط الشيطان كنبؤة، وهي التي تميت بواسطة المسيح: «كيف سقطت من السماء يا زهيرة بنت الصبح» (إش 12:14)، وبالسبعينية: “كيف أن لوسيفر هذا الزهرة في الصبح سقط من السماء” (إش 12:14)، وكمالتها هكذا: «كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم. وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال» (إش 14: 12و13)، وأصلها في السبعينية: ذلك الذي أرسل أوامر إلى كل الأمم قد تحطم حتى إلى الأرض، ولكنك قلت في قلبك سأصعد إلى السماء وأجعل عرشي فوق نجوم السموات وأرتفع على جبال الشمال العالية وأذهب فوق السحب وأكون مثل العلي. ولكن الآن سوف تذهب إلى الجحيم حتى إلى أسس الأرض (السفلى).” (إش 14: 12-15)

والعلماء (مثل كيتل) إذ يحللون هذه اللغة يقولون إن قول المسيح يرجع إلى رؤية له قبل التجسد، ولكن الأصح الذي يقول به العالم شميد إنها تعبير رمزي. ولكن في اعتبارنا أن إشعياء كتب رؤيته على أساس المستقبل الذي يتناسب مع المسيا وما سيصنعه بهذا الملاك الساقط “لوسيفر ، فهي رؤية حاضرة ومستمرة والآن هي في تكميلها.

وكلمة شيطان Satanen” توضح أننا في جو يهودي تقليدي حيث يرى المسيح بالرؤيا الروحية الشيطان وهو في حالة سقوط من السماء. وقول الآية كالبرق ـ تترجم كشعاع من نور ـ يعبر عن سقوط مفاجئ له. فتشبيه الشيطان هنا بالبرق ليس بسبب شدة ضوئه بل بسبب سقوطه السريع، حسب ما يقول العالم فورستر.

هذا كله يردده سفر الرؤيا كتقليد يهودي موروث للمستقبل:
+ «وحدثت حرب في السماء: ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته ولم يقـووا، فلـم يـوجـد مكانهم بعد ذلك في السماء. فطرح التنين العظيم، الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان، الذي يضل العالم كله، طرح إلى الأرض، وطرحت معه ملائكته. وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت. من أجل هذا، افرحي أيتها السماوات …» (رؤ 12: 7 -12)

وإخراج الشياطين باسم يسوع يوضح أن الشيطان مهزوم وفاقد سلطانه القاتل: وسيقابلنا في الآية القادمة مباشرة ما يوضح أكثر جداً علاقة المسيح بسقوط الشيطان.

19:10 «ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء».

يعتبر هذا القول الثاني الذي يمنح فيه المسيح سلطات فائقة للمرسلين السبعين: «لتدوسوا الحيات والعقارب» وأنه بعد سقوط الشيطان تعتبر أن قواته الأخرى قد وطأوها بأقدامهم. أما الحيات فهي منسوبة للحية القديمة التي تمثل المكر والخداع والمرواغة والانقضاض ودفع السم في جسم الإنسان بالعض لأن أسنانها تحوي السم. وطبعاً كحيوانات مؤذية أخذوا عليها سلطاناً أنهم إذا داسوا عليها لا تؤذيهم: «إذا أرضـت الـرب طرق إنسـان جـعـل أعـداءه أيضـاً يسالمونه» (أم 7:16). وفي المقابل كل الخطط الخبيثة المدبّرة للإنسان للإيذاء والضرر به يعبرون عليها دون أن تلحقهم أذية. أما العقرب فهو رمز الشر المستتر وسرعة الإيذاء مع سرعة الاختفاء، وسمه مميت. والعقارب تقابل الحيل والخطط المدبرة للضرر والإساءة الشديدة. وكثير من الناس يحكون أن فلاناً أو فلانة “ده عقرب”، ليس مثل عقرب بل هو عقرب إذ يتقمص كل مؤذيات العقرب وصفاته. وقد اعتاد الكتاب المقدس أن ينسب صفات الحيات والعقارب للإنسان (حز 6:2 ومز 4:58 و3:140)، والناس أخذوها أيضاً للذم والشتيمة أو للنصيحة والاحتراس من أشخاص لهم صفاتها. والآية تقول إنها محسوبة مع غيرها أنها قوات العدو أي مصادر الإيذاء والضرر.

وتحقيقاً دقيقاً لهذا الوعد تم مع ق. بولس عند جزيرة مالطة لما أمسكت الحية في ذراعه والتفت عليه لكي تعضه وتفرز سمها، فقذفها عن ذراعه فوقعت في النار (أع 28: 3-5).

ولكـن أشـد مـا يقصده المسيح مـن هـذه النعمة المعطاة للتلاميذ هي أرواح الشر التي لها هذه الصفات، فهي محسوبة بالفعل أنها قوات العدو لتخريب الإنسان، وإن الحية والعقرب مجرد رمز لشدة الفتـك بالإنسان بالحيلـة والغـدر. فهي أصلاً أرواح للعدو ثم تتقمص الناس فيصير النـاس لهـم ذات الصفات وذات القوة على الإيذاء. سئل إنسان كبير ذو حيثية عن لماذا ترفع قضايا كثيرة تضر بالناس، فأجاب للمناوأة فقط!! إذ توجد شخصيات صناعتها أن تمثل دور الحية وآخرون دور العقارب بنفس الصفات والحركات حتى ليعجب الإنسان كيف تتقمص الشخصيات روح العدو على كل المستويات المؤذية. «على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك، على الأسد والصل (الحية الكبيرة الخبيثة) تطأ، الشبل والثعبان تدوس» (مز 91: 12و13). هذه هي قوات العدو التي أبطل المسيح مفعولها بقوته وأعطى لأولاده أماناً ضدها: «يلعب الرضيع على سرب الصل (أي فوق جحر الثعبان المؤذي جداً) ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان، لا يسوؤون ولا يفسدون …» (إش 11: 9.8)

20:10 «ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات».

المسيح هنا يرفع من التوعية الروحية للتلاميذ لئلا يظنوا أن هذه المساعدات التي أعطاها لهم لها قيمة بالنسبة لخلاصهم، لأن كثيرين تاهوا بسبب ما كان لهم من مواهب مثل هذه. ولكنه ثبت نظر قلوبهم إلى فوق إلى الحياة الأبدية والسفر المكتوب، وأن اسمهم يكتب في سفر الحياة. هذا هو الفرح العظيم المقـيـم والـفـرح الوحيـد الـذي يـدوم. لأن كثيرين يجرون وراء المواهـب فـإذا نالوهـا بـأي طريقـة تسببت في ضياع حياتهم. فالمواهب مهما ارتفعت قوتها وقيمتها إن لم تدعم على قاعدة الخلاص والإنجيل والصليب فهي تطوح بالإنسان بعيداً عن خلاصه هو!!

 فيا ليت كل إنسان يقرأ هذا ويتدبر حتى لا يمد رجله وينزلق في طريق المواهب التي تباع وتشترى وهي عمل العدو المتخفي لاقتناص الأقوياء والطامحين.

«أن أسماءكم كتبت في السموات»:

أول مرة نسمع عن كتابة الأسماء في السماء جاءت في سفر الخروج حينما صنع الشعب عجل الذهب وعبدوه، ولما جاء موسى وسمع ما سيعمله الله في الشعب إذ مات ثلاثة آلاف رجل، فوقف موسى أمام الله يتذلل لئلا يفني الشعب، وبدأ الحوار مع الله هكذا:
+ «والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت. فقال الرب لموسى: من أخطأ إلي أمحوه من كتابي. والآن اذهب اهد الشعب إلى حيث كلمتك. هوذا ملاكي يسير أمامك، ولكن في يوم افتقادي أفتقد فيهم خطيتهم.» (خر 32: 32-34) 

وقد ذكر دانيال في رؤياه بوضوح:
+ «وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت. وفي ذلك الوقت ينجى شعبك، كـل مـن يوجد مكتوباً في السفر.» (دا 1:12)

+ «نعم وقد ذكرت عدة مرات في العهد الجديد: أسألك أنت أيضاً يا شريكي المخلص ساعد هاتين اللتين جاهدتا معي في الإنجيل مع أكليمندس أيضاً وباقي العاملين معي الذين أسماؤهم في سفر الحياة.» (في 3:4)
+ «بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلى ربوات هـم . محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات .» (عب 12: 22و23)
+ «من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحو اسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته.» (رؤ 5:3)

هكذا نجد أن هذا التقليد ابتدأ من أيام موسى حتى إلى نهاية العهد القديم، ثم ظهر في العهد الجديد بصورة غامرة.

أما هنا فوضع الفرح بأن يكون اسمنا معروفاً ومكتوباً أي مسجلاً عنده في السماء حتى يكون أيضاً هو فرحنا منذ الآن الذي يشدد قلوبنا، ولا نفرح قط بمواهب تعطى وتؤخذ. ونعتقد أن هذا التقليد وصلنا مـن فـم المسيح نفسه ليكون هو فرحنا الحقيقي والوحيد في حال توقف عمل المواهب والمعجزات، كما هو الحال.

وكتابة الاسم في سفر الحياة يوضح لنا جداً أن الخلاص فردي وليس في قوائم. على أن كلمة سفر الحياة” أو “المكتوبين في السماء” أو “في الكتاب الذي كتبت ” يلهب حنين الإنسان جداً إلى المكان الذي ذهب المسيح وأعده، حيث الدخول بالاسم والمكان أيضاً بالاسم:
+ «فقال له واحد: يا سيد أقليل هم الذين يخلصون؟ فقال لهم: اجتهدوا (والأفضل لغوياً اجهدوا) أن تدخلوا من الباب الضيق!!» (لو 13: 23و24)

5 – المسيح يقدم الشكر الله الآب (21:10-24)

(مت 25:11-27، 17,16:13)

إن عودة التلاميذ فرحين بانتصارهم على الشيطان وإتيان المعجزات أبهج قلب المسيح أن الرسالة سلمت لأيد تستطيع حملها. فبعد أن حذرهم من الكبرياء ليظل فرحهم بأن أسماءهم مكتوبة في سفر المخلصين للحياة الأبدية هو فرحهم الوحيد، بدأ المسيح يقدم الشكر أمام تلاميذه ليعلموا من أين أتت المعونة، وكيف يفرح الله الآب والابن بخلاص أي فرد. بعدها طمأنهم جداً أن كل شيء، وطبعاً كل سلطان، دفع ليده وأنه هو والآب واحد في معرفة ذاتية واحدة غير منقسمة، وفي النهاية فاضت أحشاؤه بالحب الأبوي وباركهم وبارك عيونهم وآذانهم التي سمعت صوته ورأته، الأمر الذي لم يوهب لكل الملوك السابقين وكل الأنبياء بلا استثناء. وهذا يعني أن درجة التلاميذ ارتفعت لتكون بعد المسيح مباشرة وفوق كل قوة وسلطان ومحد آخر. وهذا سبب تهليله الذي توجه به إلى الآب يشكره أنه انفتحت عيونهم باستعلان الآب خاصة، الأمر الذي كان يشتهيه كل حكماء إسرائيل وملوكها ولم يروه ولم يسمعوه.

والقديس لوقا لا يسرد علينا هنا خبراً تاريخياً أو لاهوتياً؛ بل يسلمنا هنا ككنيسة تسليماً سجلته السماء يوم كتب وظل قائماً فوق كل قوى التخريب والحرق والإتلاف، تتسلّمه الكنيسة من يد ليد ومن فم لفم ليصبح أفخر تقليد فيها وضعته الكنيسة كصلاة قبل كل قراءة للإنجيل كالتزام، وأثناء ذلك يبخـر الكـاهـن مـن حـول الإنجيل وأمامـه ومـن فـوقـه كأنها تشكرات الكنيسة مع تشكرات الابن الوحيد مقدمة للآب كل يوم وكل مساء وكل صباح إلى نهاية الأيام.

أوشية الإنجيل: وتتلى في رفع بخور عشية وباكر وفي القداس:
[أيها السيد الرب يسوع المسيح إلهنا: الذي قال لتلاميذه القديسين المكرمين ورسله الأطهار : إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا، أما أنتم فطوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع. فلنستحق أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة بطلبات قديسيك].

21:10 «وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك».

يأتي هذا الشكر كخاتمة لمجموعة من التعاليم الخاصة بالمرسلين ومقدار الامتياز الذي صار لهم من قبل الآب والابن ابتدأت من (51:9)، الآب يهب والابن يسلم.

وفي مقدمة هذه الصلاة، وكأنها تسبحة بنغمة صلاة، ولكن صلاة تحليل، يشرح المسيح السبب في تهليله، لأن هكذا أراد الله أن يعلن لتلاميذه الأمور المخفية منذ الدهور ـ وهنا تأتينا نبرة ق. بولس – أخفاها منذ الدهور كلها وأعلنها في هذه الأيام لتلاميذه وقديسيه بالروح (أف 3: 4-6). لذلك لست أوافق جميع الشراح الذين حصروا هذه الصلاة والتسبحة على السبعين تلميذاً بعد أن عادوا منتصرين بعد إخراج الشياطين والأشفية التي أجروها. فأنا واثق أن المسيح قالها بعد أن سأل التلاميذ: « من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسیح الله» (لو 20:9) وفي إنجيل ق. متى: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت 16:16). فكل اعتقادي أن المسيح قالها بعد ذلك، لأن الموضوع الذي كان مخفياً منذ الدهور وأعلن الآن لتلاميذه وقديسيه هو يسوع المسيح نفسه وليس أي شيء آخر مهما كان. وهذا واضح من قول المسيح لبطرس: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات» (مت 17:16). إذن هنا الاستعلان جاء من الآب وهذا مذكور مباشرة في صلاة المسيح: «لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال» أما الحكماء والفهماء فهم بالذات الكتبة والفريسيون والحاخامات ومعلمو إسرائيل المدعوون حكماء إسرائيل إلى اليوم. أما الذين أعلن لهم فهم التلاميذ المدعوون أطفالاً أو أولاداً. في حين أنه في هذا المقطع بأكمله الذي نحن بصدد شرحه في الأصحاح العاشر لا يوجد أي استعلان خاص أعلنه الله للتلاميذ، ولكن الاستعلان الوحيد الرسمي والـذي اعـتـرف بـه المسـيح هـو اسـتعلان وع أنـه مســــا”، وهـذا كـان أقـوى استعلان، والاستعلان الوحيد الذي التقطه تلميذ وهو بطرس، مما أبهج قلب المسيح جداً . وبعدها بدأ في الإعلان عن آلامه وموته مباشرة كما هو في إنجيل ق. مرقس. ولكن ولأنها أقوى مقطع في الإنجيل كله ظلت محفوظة وقائمة بذاتها، فسهل على ق. لوقا أن يلتقطها ويضعها هنا عن إنجيل ق. متى أو ربما عن المخطوطة الضائعة المسماة Q. والذي يؤكد لنا هذا هو كيف حفظها التقليد واحتفظ بها وأين وضعها؟ واضح أنه أرفقها بالصلاة التي تقدم قبل قراءة الإنجيل الذي هو البشارة المفرحة باستعلان مسيا”. كذلك واستناداً على ق. بولس ما هو الذي كان مخفياً منذ الدهور وأعلنه الله لرسله والقديسين بالروح إلا سر المسيا ونصيب الأمم فيه!! «الذي بحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل.» (أف 3: 4-6)

من هذا نفهم أن إعلان بطرس بأن “يسوع هو المسيا” كان هو الاستعلان الوحيد الذي كان مخفياً في كل الدهور السالفة وعن كل الأجيال، وقد أعلنه الله لبطرس أولاً بشهادة المسيح نفسه. لذلك كان هو السبب الوحيد الذي من أجله لما سمعه المسيح تقلل بالروح واعترف أن الآب استعلن هذا السر لتلاميذه، فكانت هي الشرارة الأولى التي منها انطلق المسيح يكشف سر آلامه والصليب والموت والقيامة، معتبراً أن إعلان الآب لبطرس هو اكتمال الزمان ليبدأ الصليب . 

ولكن أن يضعها ق. لوقا هنـا بعـد عـودة السبعين فرحين منتصرين، لا بأس، ولكن استحالة أن تنسجم مع ما استعلن للتلاميذ آنئذ وهو لا شيء!!

وقد حاول ق. لوقا أن يضمها إلى أقرب كلام قاله المسيح يساويها، إذ بعد أن ذكر تشكرات المسيح أضاف إليها ما يعرف نفسه به، أي نفس سر المسيا: «والتفت إلى تلاميذه وقال كل شيء قد دفع إلي من أبي وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له »(لو 22:10)، وحينئذ بدأ يزكي عيون تلاميذه وآذانهم لأنهم رأوا المسيا وسمعوه، الأمر الذي تاق إليه في القديم جميع الأنبياء ولم ينالوه وجميع الملوك ولم يعلن لهم والآن هو في وسطهم!

وتأتي الكنيسة بإلهام الروح وبالتسليم تضع صلاة المسيح وتحليله وشكر الآب قبل قراءة الإنجيل حتماً كصلاة تفتتح بها أي قراءة، لماذا؟ لأن الشعب سيستعلن ما استعلنه التلاميذ بسماع الأذن وبالرؤيا للموهوبين عـن مـن هـو مسيا وما الذي قاله وعمله. فقراءة الإنجيل هي استعلان للمسيح بالدرجة الأولى، حتى أن الكثيرين مـن القديسـيـن كـــانوا يستلهمون مـن القـراءة الرسميـة في الكنيسـة توجيهات حياتهم، كالقديس أنطونيوس الذي استلهم من قول المسيح بترك كل شيء من أجله، فترك في الحال وهو مسنود على ما سمعه باعتباره إعلاناً خاصاً به أكمله أعظم تكميل. وهكذا برهن أقوى برهان أنه بقراءة الإنجيل يحدث الاستعلان المناسب لكل من صمم أن يحيا حسب كلام المسيح ووصاياه، وأثبت أن وصية المسيح حية وكأنها منطوقة من فم المسيح. فلما أخذها وأطاعها بإيمان قوي أثبت بها أنها تصلح لتكون حياة!!

والكنيسة واعية لذلك حتى أنه في نهاية أوشية (صلاة) الإنجيل تقول الصلاة التالية: [فلنستحق أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة]. بمعنى أن بالسمع نستلهم العمل والأداء الذي يطلبه المسيح!!

22:10 «والتفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إلي من أبي. وليس أحد يعرف من هو الإبن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الإبن أن يعلن له».

الآن استراحت نفس المسيح أن الآب أعلن المسيا (بواسطة بطرس) : «أنت هو المسيح» لذلك أصبح على المسيح أن يعرف نفسه لتلاميذه، أن كل شيء قد دفع له من الآب، بمعنى السلطان والقوة والملكوت فوق كل شيء. يعني أن المسيح هو المعين من الله للكشف عن الملكوت وإعطاء القدرة على قبوله ودخوله، لأنه كان على التلاميذ أن يعلنوا باقتراب الملكوت أو وصوله. إذن فالذي أصبحنا محتاجين إليه هو من يعلنه ومن يعطي الاستحقاق لدخوله. وهنا ابتدأ المسيح يقدم نفسه أن كل شيء يختص بالملكوت قد أعطي له، وطبعاً على رأس كل شيء استحقاق دخوله بذبيحة نفسه، كذلك معرفة الآب أمـر حتمي لدخول الملكوت لأن معرفة الآب هي المؤهـل الأول والأعـظـم لـدخول الملكوت . ومعرفة الآب تحشد لها الابن خصيصاً ليعلن الآب، كون الابن متجمداً ومنظوراً، فمن رأى الابن رأى الآب، ومن عرف الابن عرف الآب، ومن قبل الابن قبل الآب. وحول هذه القضية الأساسية كانت كل تعاليم المسيح وآياته، إذ كان يقول دائماً أنها من الآب وأن كل ما يقوله ويعمله هو من الآب لكي بالنهاية يعرفنا بالآب حتى نستحق بذبيحة المسيح أن نصير له أولاداً. فالبنوة الله الآب تتوقف على الاستحقاق، وهذا يقدمه المسيح بذبيحة نفسه من أجل كل من يؤمن به، وعلى معرفة الآب بواسطة الابن واستعلانه للآب قولاً وعملاً. وهذا كم هائل من الضرورات التي يتحتم توافرها لدخول الملكوت، ولكن استطاع التلاميذ وبطرس ينوب عنهم ليعلن أن يسوع هو المسيا، وهذا يعني أن التلاميذ قـد استوعبوا ما يؤهلهم لدخول الملكوت . هذا هو سر تهليل المسيح وتقديم الشكر للآب لأنه استعلن يسوع أنه المسيا للتلاميذ ـ أي لبطرس.

23:10 «والتفت إلى تلاميذه على انفراد وقال: طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه».

المسيح هنا يفصح عن ما هو الاستعلان الذي يتمنى أن يحصل عليه تلاميذه ثم الكنيسة كلها والعالم. وهو حقيقة “المسيا” أنه الابن والمخلص الذي دفع إليه كل شيء يلزم للخلاص ومعرفة الآب والتأهل لدخول ملكوت الله، لأنه بتقديم نفسه لتلاميذه أنه مسيا أي المخلص وقبول التلاميذ له حقا وإيمانهم به يكونون قد قبلوا الآب وعرفوه، وهنا التأهيل الكامل للملكوت: «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.» (يو 7:14)

وليتنا نتذكر هنا قول المسيح أن من الآن لست أدعـوكـم عبيداً لأني عرفتكم بكـل مـا عنـد الآب، أنتم أحباء (راجـع يـو 15:15)، وكلمة “أحبـاء” أكبر من “أبناء” في مفهوم الإنجيل فهي تعني: “أبنـاء أحباء”. 

وهكذا نرى أن فرحة المسيح الكبرى التي جعلته يتهلل ويشكر الآب في صلاته العلنية، هذه التي يقصد أن نسمعها بل نعيها ونحفظها: أنه استعلن أنه هو المسيا المخلص. لذلك بعدها انطلق يتكلم عن الصليب.  وعجيب جداً أن المسيح نفسه يطوب عيون التلاميذ لأنها أبصرته، يا لهذه البساطة الإلهية العجيبة، ولكن ليس مجرد رؤية عين بل نظر الروح الذي هو يقين المعرفة الإلهية. وماذا تنظر؟ تنظر الله يهوه في يسوع الحبيب!! تنظر مسيا الله مسيح الرب الذي هو منتهى القصد، الألف والياء!!

ويا لحظنا السعيد بل ويا للطوبى أي السعادة التي تحققت لنا نحن أيضاً بهذا القدر عينه بواسطة الإنجيل الذي يعطينا كلمة الله الحية، بل حضرة الله الكاملة بالآب والابن لنحققها بالعيون الجوانية ونتأمل في الله كلما تأملنا في المسيح، ونرى الآب وتصير لنا الطوبى. وعليك أن تتصور أيها القارئ العزيز إلى أي مدى تنطلق الروح حينما يقف الكاهن والمبخرة في يده واقفاً على باب الهيكل ويعلن، والإنجيل مفتوح، ويقول بصوته الـرحيـم الهـادئ: طوبى لأعينكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع!! تنساب الروح من قيدها وتتخطى ألفين من السنين في لحظة رؤيا وترى المسيح وتسمعه بنفس ا الكلمات التي نطقها، هو هو يقول لنا طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع. اسمع جيداً يا صديقي: المسيح نفسه هو الذي يطوب عيوننا وآذاننا لأننا نراه ونسمعه عبر هذه السنين كلها التي يختزلها الروح إلى لحظة وترتفع الرؤيا لرؤية ما لا يرى. أليس هذه هي الطوبي !! ويختمها الكاهن: فلنستحق أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة بطلبات قديسيك. وهكذا يحدرنا من المرتفعات إلى الواقع الحي لنرى أنفسنا فنتعجب أين نحن؟!

نعم، نشكرك أيها الآب بالمسيح ابنك الذي جعلنا نراك ونسمعك!! ونعمل بأناجيلك المقدسة.

24:10 «لأني أقول لكم: إن أنبياء كثيرين وملوكا أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا».

المسيح يضع هنا القديم أمام الجديد، فالقديم بكل ذخائره وأمجاده ومحاباة الله للشعب وظهوره بينهم وبصوته يكلمهم، يهوه العظيم والمجيد بأقواله وحكمته. كـل هـذا لا يعادل صورة ابن الإنسان في بساطتها بل احتقارها وذلها، وأخيراً وهو معلق على صليب العار ثم القبر البارد!

ولكن بقيامة المسيح من الأموات واستعلان قوة خلاصه من خلال آلامه بدمه المتقطر على الصليب واكتشاف الفـداء الذي تم وإكماله للمصالحة العظمى بين يهوه في السماء وإنسان الأرض، نعـم فاستعلان يسوع المسيح كابن ا الله مسيا الدهور فاق كل العهد القديم بأمجاده بالنسبة للإنسان. فأنبياء كثيرون أو في الحقيقة كل الأنبياء الذين تكلموا عن مجيء الفادي والمخلص تاقت قلوبهم وكلت عيونهم أن يروه، ولو من خلال الرؤى.

اسمع إشعياء النبي يقول: «إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر» (إش 26: 8 و9). ومع كل هذا الحنين الضخم لم يتحقق له الرؤيا فأخذ يعاتب الرب: «حقا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص» (إش 15:45). أي في النهاية رضي أن يتكلم معه ويتكلم عنه من وراء حجاب. نعم كان لابد أن يتمزق الحجاب من فوق (أي بمبادرة الله) إلى أسفل بواسطة الصليب قبل أن يرى الإنسان ابن الإنسان وتندفق الحياة من “الباب” المفتوح!

كان من والملوك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم يحملون صورة باهتة لملوكيته ويجلسون على عرشه إلى أن يجيء، تاقت نفوسهم أن يروه وما رأوه. كان المسيا حلم إسرائيل منذ أن دعاها من مصر ليملكها أرض الأمم. وظل هذا الحلم يتناقل من جيل إلى جيل إلى أن تحقق في أوضع صورة وأحقر مكان على الأرض. شيء المحال أن يتصوره فكر. هكذا جاء مشتهى الأمم، في مذود!

والمسيح إذ يقول ما قاله هنا إنما قاله على مستوى سره كمسيا الذي لا يستعلنه إلا مختاروه والذين أحبوه وساروا وراءه حتى الموت. فالطوبى التي أعطاها المسيح للعيون التي تراه الآن والآذان التي تسمعه الآن، هي الطوبي من وراء الاستعلان الحقيقي الذي كان يعيشه المسيح في سره الأزلي وأعلنه للأطفال بقلوبهم، إذ استتر المسيح وراء تواضعه واختفى اللاهوت وراء الناسوت، فإنسـان تـراه وهـو خـالق الإنسان، وعبد محتقر وهو السيد بأن. مات مظلوماً مهاناً وهو الديان، رضي بالموت وهو رب الحياة. فطوبى للعيون التي ترى ما لا يرى والآذان التي تميز صوت الله.

(ب) مميزات وصفات التلاميذ (10: 25  – 11: 13)

1- رأي المسيح في قضية الفواصل العرقية والدينية
مَنْ هو قريبي؟ والسامري الصالح (10: 25-37)

(تث 6: 5 و لا 19: 18 )
(مت 22: 34 -40)

(مر 12: 28 -34)

قصة من أبدع القصص التي استودعها ق. لوقا ذاكرة الكنيسة لتصبح أقوى سند لكسر حاجز العنصرية وتحطيم سياج التفرقة الجنسية. قالها المسيح بتلقائية مدهشة دون تفكير، قالها من عمق قلبه المجروح من قساوة قلب الإنسان على أخيه الإنسان. وصارت قصة السامري الصالح رمزا للمسيح بل ولقباً له في قلب الإنسان وسلاحاً مورا في يد الواعظ والمعلم. وتبدأ بسؤال رحل ناموسي للمسيح: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ وطبعاً قالها ولم يدر أن مَنْ يسأله هو الحياة الأبدية ذاتماء التي كانت مخفية في الله وأظهرت لنا يوما من الأيام. هو ملء الحياة الأبدية وهو يهبها لنا بقيامة الجسد الذي أخذه منا من الأموات بمجد فريد. ولكن المسيح لم يقل له كالسامرية: «أنا الذي أكلمك هو» (يو 26:4) ولكنه أخذ بيده ليقرأ ناموسه من الأول: كيف تقرأ؟ ومن إجابته الصحيحة حنه أن يعمل بما يقول ولكنه تمادى في جهله بالناموس ليسأل: ومَنْ هو قريبي؟ لأن اليهودي صعب عليه بل ويستحيل أن يعمل معروفا في أممي ولا يقربه لأنه نحس. ومن هذه الخصلة الرديّة بدأ المسيح يكوّن هذه القصة من مخيلته حتى بلغ فيها إلى مركز الحرج حيث جعل السامري المكروه النحس يعمل معروفاً في يهودي وقع بين اللصوص وجرحوه وتركوه يلفظ أنفاسه؛ في الوقت الذي مر بجانبه كاهن فأعرض عنه ولاوي فتجاهله وسار في طريقه. فماذا سمي هذا السامري الذي أنقذ حياة اليهودي؟ أما يحسب على مستوى قريبه؟ وأخرج المسيح من فم ذلك الناموسي هذا الاعتراف» وطبعاً بقي كما هو ولم ينتفع بكلام المسيح شيئا. فاليهودي لا يمكن أن يكون إلا يهودياً حتى آخر نفس. لذلك كان حتمياً أن يموت المسيح على الصليب ليفك العداوة من قلب الإنسان تجاه أخية الإنسان في ” اليهودية والسامرية وإلى أقصى الأرض” (أع 1: 8)

 

25:10 «وإذا ناموسي قام يجربه قائلاً: يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟»

القصة خالية من تحديد الزمان والمكان، ويبدو أنها مختارة بدقة ليسرب ق. لوقا مبداً خطيراً لإسرائيل بجملتها، لا بل للعالم بأسره كعنصر أساسي للكرازة بالمسيح في اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. أو بعبارة أخرى ليحل قضية العرق والعداوة بين الأجناس والألوان التي التقطها ق. بولس وقال قولته المشهورة: «ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيني، عبد حر، بل المسيح الكل وفي الكل »(کو 11:3). القضية التي برزت أخيراً لتوجع رأس الدنيا بأسرها وتطورت أخيراً إلى قتل وتخريب وهدم مؤسسات وإحراق مصانع وبيوت وبنوك ومدن لا لشيء إلا لكراهية الآخر إن اختلف عرقه أو لونه أو دينه أو حتى عقيدته.

والناموسي هو فريسي متخصص في دراسة الناموس وهو على مستوى دارس القانون أو المحامي عندنا الآن، ويسمى أيضاً: «معلماً للناموس »(17:5)، ويقدمه القديس مرقس لنا بصفته: “كاتب” (مر 12: 28 و32). وهو هنا قام ليجرب المسيح لامتحانه لأنه معلم دارس وله دراية بمهنته، وهو هنا يستصغر المسيح كمعلم، فالاختبار فرض للتعجيز. ويلاحظ القارئ أن الاختبار هنا وضع ليس على أساس المعرفة بل العمل: «ماذا أعمل؟» وهو ينتظر بطبيعة الحال والمهنة أن يكون الرد بكلمة واحدة ليحاوره فيها، ولكن المسيح أعطى إجابة لترفع القضية كلها إلى نوع الحياة برمتها وليس بعمل من الأعمال. فالحياة الأبدية لا تكسب إلا بحياة تؤهل لها، فلو تماشينا مع فكر الكنيسة التقليدي نجد أن العمل الوحيد هو الإيمان. ولكن هذا وحده لا يكفي في عرف ق. يعقوب: «أرني إيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني» (يع 18:2). ولكن المسيح بناحية تحت الحياة كلها وتكشفها الله والناس بلا لبس وتحسب عملاً يتخطى الحياة الأرضية كلها ويدخل إلى الله نفسه كشهادة استحقاق فعلاً!! وهي المحبة بكل أصولها وفروعها، وهي التي أشار إليها السائل وهو لا يدري إذ طالب بعمل له القدرة أن “يورثه” الحياة الأبدية، أي عمل هنا يصلح ليكون قاعدة للامتلاك هناك، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالمحبة في كل أوضاعها وبالأخص من نحو الله كأساس، لأن الحياة الأبدية هي عطية الله العظمى، فلابد أن يصل العمل إلى قلب الله نفسه ليهب للإنسان أعظم وأغلى شيء عنده وهو الحياة معه هنا ينتحي إلى الأبد.

26:10و27 «فقال له: ما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ؟ فأجاب وقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك».

هكذا استطاع المسيح بكل مهارة أن يجعله هو ينطق بهذا العمل القادر على توريث الحياة الأبدية. لقد استطاع الناموس بهذا القول أن يسيطر على حياة الإنسان سيطرة كاملة ليجعلها حسب فكر الله وعمله كما سيظهر مما يلي:

«تحب الرب إلهك من كل قلبك»:

فالقلب مركز الشعور والوجدان ومصدر كل ما هو صالح: «من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح» (لو 45:6). وليسأل القارئ نفسه من أين يأتي بالحب الصادق والعمل الصالح والحنو الأبوي الحقيقي والصدق في القول والعمل؟ مـن القلـب . إذن فأصبح الله عند الإنسان هو القطب الجاذب للحب الصادق والعمل الصالح. فهنا ضمن الله حياة صادقة وعملاً صادقاً إن استطاع الإنسان أن يحب الله أنه لا يوجد شخص آخر يقاسم حب الإنسان الله، أي أن يكون من كل قلبه، حيث كل هنا تعني ” الله أولاً وآخراً عندي.

«ومن كل نفسك»:

النفس مربوطة بالقلب فهي تترجم حركات القلب إلى أماني وشهوات، وهي مركز الفرح والحزن. ومرة أخرى نسمع قوة الشهوة حينما توجه نحو الله: «إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر» (إش 26: 8و9). انظر حينما سرب القلب حبه الصادق إلى النفس سهرت النفس تناجي الله وتتشبب بحبه بإخلاص يساوي الحياة ولا يقطعه إلا الموت .

«ومن كل قدرتك»:

القدرة هي الإرادة الذاتية وهي تعمل بحسب ما تملي عليها النفس (الشهوة) ويدفعها القلب (العاطفة). فالقدرة هي جماع حركات القلب والنفس المتحفزة للعمل. فما يحمله القلب وما تحمله النفس ينصب في الإرادة المهيئة للفعل. ولكن إذا تقاعست الإرادة عن التنفيذ ضاع رأس مال القلب وكل آمال النفس وشهوتها. فالإرادة تتحرك بضعف أو بقوة وإلى اليمين أو اليسار كما يتحكم فيها الفكر. فالفكر يصفي كل الحواس ويخرج منها بالحكم على الأمور : فإذا تشبع الفكر بالحقائق الإلهية وامتلأ بمعرفة الإنجيل ووصايا الله اغتنى بالروح.

«ومن كل فكرك»:

الفكر ابن التعليم والتقليد والقراءة والنظر والسمع، وهو مخزن كل الحوادث السابقة والمعرفة والتلقين، وهذا كله يصفيه الفكر ويلتقط منه الإيحاء الذي قد يتدخل فيه الله ويقرر نوع الاستجابة للعمل. فإذا اغتنى الفكر بوصايا الله وأقواله وأحبها حقا فإنه ينفتح على الله وتسري فيه إيحاءات من الله تجعل تصرفه فوق الطبيعة.

وهكذا نجد أن الله وضع للإنسان كل القوى التي إذا تشبعت بحب الله والأمانة له : الإنسان يصبح هو الإنسان في صورته الحقيقية: «فخلق الله الإنسان على صورته.» (تك 27:1)

28:10 «فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا».

هنا نرى أنه ليس المسيح الذي وضع في الاختبار بل الناموسي نفسه إذ وقع تحت يد المعلم الأعظم. وهكذا استطاع المسيح أن يجعل الناموسي ينطق بكل ما يطلبه الله من الإنسان ليعمله، ويحيا به. هنا تقابل الفكر الناموسي الحائر مع إله الناموس وواضعه فوجد نفسه ووجد الحق الذي يسعى إليه وأمسك بيده طرف الحياة الأبدية، فما عاد للوصول إلى الله والمسيح شيء إلا الطاعة والاتباع بكل دقة حتى لا يغيب هذا الحق من قلب الإنسان. وإجابة المسيح هنا ترفع القضية إلى مستوى الحركة والتنفيذ. لقد انتهى الحوار والمناقشة إلى عمل واحد: «افعل هذا فتحيا» لذلك يلذ لي جداً أن لا أكتفي بأن المسيح الكلمة إذ يلزم جداً أن أحددها من أي نوع هذه الكلمة، أقول لك هي “الفعل”. «افعل هذا هو فتحيا»

الناموسي جاء وهو يفكر أن ينتهي بكلمة فانتهى بالفعل.

الانتقال من الكلمة إلى الفعل: السامري الصالح

هي في ذاتها قصة بديعة سهلة ارتجلها المسيح ارتجالاً ليوفي حق الناموس في محبة القريب كالنفس حسب السؤال الذي رفعه الناموسي إلى المسيح ليبرر نفسه.

والقصة تكشف كشفاً فاضحاً عـن عـدم وجود الرحمة والحنو وبالتالي المحبة تجاه الآخر في قلب الكاهن واللاوي. ووضعها المسيح في قالب مثل ينتهي بسؤال يحتم على السامع بالإجابة من نفسه على: من هو قريبي، وهذا منتهى الإبداع في القصة، وهي تدور على من يكون قريبي، وقد حبكها المسيح لكي يظهر أن: الوصية الأولى والعظمى لم تشعف اليهودي في أعلى مستواه ككاهن ولاوي أن يربح الحياة الأبدية لأنها لم تحفظ بالصدق القادر أن يحولها إلى عمل، الأمر الذي كشفه بولس الرسول كشفاً فاضحاً: «ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر، لأن البار بالإيمان يحيا. ولكن الناموس ليس من الإيمان، بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها» (غل 3: 11و12). ففي هذه القصة كشف المسيح أن الناموس ولحفاظ الناموس لم يفعلوا بالوصية مع أنهم يحفظونها عن ظهر قلب، مع أنه ـ كما يقول ق. بولس – شرط الحياة بالناموس هو تكميله بالفعل. فالذي يحفظ الوصية عن ظهر قلب ولا يفعلها لن يدخل الحياة، وهو الذي قاله المسيح للناموسي في نهاية تلاوة الوصية الأولى والعظمى إذ قال له: «افعل هذا فتحيا» وفي الحال روى المسيح هذا المثل الذي خاب فيه الكاهن واللاوي من أن يفعل بالناموس: «لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها.» (رو 5:10)

والمسيح هنا يقدم هذا المثل ليوضح أن السامري المكروه والمحتقر والمحروم من اليهود استطاع أن يكشف عملياً أنه أقرب صدقاً من الناموس من الكاهن واللاوي. ثم إن المسيح استطاع أن يشرح عملياً من هو قريبي ليس في وضعه الشفاهي بالكلمة بل في وصفه الأقرب بالروح للممارسة وليس للمعرفة. لأنه من الوجهة اللاهوتية وأعماقها داخل الناموس ينكشف لنا أن الناموس لا يقف عند الوصية: تحب الرب إلهك والقريب، بل يتجاوزها إلى الفعل فينكشف أن المحبة تطالب بالرحمة. إذ وضح من تصرف الكاهن واللاوي أنهما فضلا راحتهما وأمان أنفسهما عن أن يتمما واجب الناموس أي المحبة. وانتهى المسيح بأن أي إنسان يحتاج الرحمة والمساعدة هو هدف وموضوع الحب للقريب. فالقريب هو “المحتاج” إلى محبتي وعمل الرحمة معه، وهذا ينبغي أن يكون أقرب الناس إلي وأكثرهم حاجة إلى عطفي وبذلي.

ويلاحظ أن المسيح رد على الناموسي الذي أراد أن يبرر نفسه بالمعرفة وحسب، إلى أن البر بالناموس هو أن تعمل به، افعله وأنت تحيا به.

29:10 «وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه، قال ليسوع: ومن هو قريبي؟»

في الحقيقة واضح أن هذا الناموسي قد أظهر حماقة، لأنه يسأل سؤالاً قد أجاب عنه هو بنفسه. فالمسيح كأنه يقـول لـه أنت لست في حاجة أن تسألني عن الحياة الأبدية، كناموسي أنت تعرف الإجابة، فكل ما أنت محتاج إليه الآن هو أن تمارس ما تعظ به أنت.

ولكنه إذ وضح له أنه غير قادر أن يفعل بما قالـه عـن الناموس بدأ يبرر عجزه بإعطاء السؤال كيف ينفذ هذا عملياً بقوله: «ومن هو قريبي؟» ولسان حاله يقول: إن الناموس يقول بمحبة ا ولكن ما هي الحدود التي تحكم هذا؟

30:10 «فأجاب يسوع وقال: إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوص، فعروة وجرحوه، ومضوا وتركوه بين حي وميت».

هو هنا لم يذكر المسيح عن قصد: من هذا الإنسان وهويته، وجعله أي إنسان، ولو أنه على مستوى الفهم اليهودي يكون هذا الإنسان يهودياً. وهنا يلذ لنا أن نتأمل أن المسيح لم يذكر هوية هذا الإنسان لكونه كان يتكلم عن نفسه، لأن اليهود رفضوه عن قصد وأهانوه، بل لم يتركوه حتى قتلوه، في حين أن السامريين قبلوه وحيوه وأرغموه أن يبقى في مدينتهم يعلم ويشفي، في قصة السامرية التي اعترفت به أنه المسيا الذي يترقبه اليهود. ولكن هذا الشرح على الهامش لأن قلب القصة يحمل اتجاهاً آخر. هذا الإنسان كان مسافراً من أورشليم إلى أريحا في طريق ينحدر بشدة من أورشليم حوالي 3300 قدم بميل، على مسافة طولية قدرها 17 ميلاً، وهو طريق يمر بين الصخور يصلح أن يختبئ فيه اللصوص فعلاً كما يقـول يوسيفوس المؤرخ. وكما يخبرنا المؤرخ سترابو أن بومبي هاجم اللصوص في هذا الطريـق وأبادهم، وأيضاً ق. جيروم يذكر مثل ذلك في شرحه لسفر إرميا (2:3)، وكانوا عرباً لصوصاً في أيامه. وفي يد مثل هؤلاء وقع هذا الإنسان في كمين وصنعوا به ما صنعوا ومضوا بعد أن عروه، أي سرقوا كل ما معه حتى ملابسه، ولم يكتفوا بذلك بل وضربوه وتركوه يلفظ أنفاسه وهو نصف ميت .

31:10 «فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق، فرآة وجاز مقابله».

حتى الذي نفهمه من القصة أن الطريق مهجور لا يمر فيه الناس بكثرة فيبدو أنه مكث واقعاً مدة أتاه الكاهن، فانتظر المسكين منه مساعدة ولكنه تركه ولاذ بنفسه يسعى لأمان نفسه إما صاعداً نحو الهيكل للخدمة وإما نازلاً من الهيكل إلى بيته، ولكن على أي حال فالمسيح لم يعطه أي عذر، فغير معقول أن يعطيه الشراح العذر، فهو خسر فرصة محبة مائة بالمائة.

32:10 «وكذلك لأوي أيضاً، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله».

وما حدث من الكاهن حدث من اللاوي، علماً بأن اللاويين في أيام المسيح كانوا في درجة أقل من الكهنة ولكن كانوا جماعة مميزة في المجتمع اليهودي، وكانوا مسئولين عن الصلوات الليتورجية أي الطقسية داخل الهيكل وحمايتهـا كـأفراد بوليس: «حفظوا كلامك وصانوا عهدك، يعلمون يعقوب (إسرائيل) أحكامك وإسرائيل ناموسك» (تث 33: 9و10). هذا أيضاً اقترب من الإنسان الواقع والمجروح ونظر إليه وتركه ومضى إلى طريقه، إذ اعتبر أن هذا عمل لا يدخل في اختصاصه.

33:10 «ولكن سامريا مسافراً جاء إليه، ولما رآه تحتن».

 ويلاحظ أنه إذا جاء الاسم أو الفاعل في بداية الجملة اليونانية يكون للتأكيد أو للأهمية للفـت النظر. ولكن لماذا يقارن السامري بالكاهن واللاوي وليس بأي يهودي آخر؟ يسأل بعض العلماء ويعطون أجوبة سخيفة لأن القصة من مبدأها تتكلّم الناموس وحفظ الناموس والسائل ناموسي، فهنا استحضر المسيح في القصة القوامين على الناموس الكاهن واللاوي. فإذا وضعنا الكهنوت وخدمة اللاوي جانباً فنحن نسأل أين الإنسانية!! فلما جاء السامري أظهر تحننه نحو الإنسان الواقع يلفظ أنفاسه خلوا من عقيدة أو جنس أو دين، وبدأ في الحال يعمل أقصى الجهد لإنقاذه.

34:10 «فتقدم وضمد جراحاته، وصب عليها زيتاً وخمراً، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به» .

يقصد هنا بالضمادة ما يسد النزيف ولكن بعد ذلك عرى الجراح وصب عليها زيتاً وخمراً لتطهير الجرح وإيقاف الألم معاً. هذا أقصى ما يمكن أن يعمله إنسان في ذلك الزمان. وهكذا بعد أن عمل له الإسعافات الأولية أقام الجريح وأركبه دابته وسار بجواره يسنده من واقع الحال، وأخذه إلى أقرب خان (فندق) وأوصى به .

35:10 «وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعتن به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك».

والمعنى أن السامري أمضى الليلة مع المريض، وقبل أن يذهب أعطى لصاحب الفندق دينارين وأوصى به على أنه حينما يعود من رحلته يوفيه بقية الأجر على قدر ما يصرف على المريض. وماذا نقول في أمر ذلك السامري الذي رفعته الكنيسة الأولى إلى أمجد لقب إذ جعلته أنه هو هو المسيح في هذه القصة الجميلة؟ وواضح في كلمة عند عودتي” أنه يقصد مجيئه الثاني المجيد لكي يتيقظ ذهن القارئ ويعرف إلى أين يضرب المسيح المثل.

36:10 «فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟»

والآن جاءت مساءلة الناموسي ليحكم أي الثلاثة صار قريباً للرجل الجريح. المسيح هنا وضع القضية في أحرج مراحلها، لأنه وضع الناموسي مكان الرجل المصاب، وجعله يستشعر بحسّه الإنساني أن الذي تحنّن عليه هو أقرب الناس إليه مع أنه سامري.

37:10 «فقال: الذي صنع معه الرحمة. فقال له يسوع: اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا».

يلاحظ القارئ أن المسيح إذ يعرف دواخل النفس البشرية تقمّص هو شخصية الناموسي، فتوقع ما لابد أن يقوله الناموسي: «الذي صنع معه الرحمة» قال الناموسي هذه الجملة لكي يتهرب من ذكر اسم السامري !! 

لقد أبدع المسيح في تصوير دور السامري متجاوزاً بغضة اليهود، وفي تصوير قسوة رجال الكهنوت وأيضاً اللاويين.

ولكن ق. لوقا يضعها هنا لا لتكون قصة أو مثلاً بل لتكون عبرة لرجال الكهنوت وخدام الكنيسة، لأن القصة كلها تدور حول دور الكاهن واللاوي.

2 – مريم ومرثا والنصيب الصالح (38:10-42)

إنجيل ق. لوقا وحده

كانت القصة السالفة تقوم على عمل المحبة بناء على الوصية الأولى والعظمى. وارتأى ق. لوقا أن يضم إليها هذا الموضوع: هل الخدمة أفضل أم الجلوس تحت قدمي المسيح. وهو يحتسب أنه موضوع متفرع من السابق، كواجب الاستماع إلى المسيح كمعلم لكلمة الله. وهذا يفيد أن ق. لوقا استطاع أن يدرك قصة السامري الصالح كعمل روحي، الأمر الذي علق عليه في الآية (41) القادمة المتصلة بهذا الموضـوع، حينما امتدح المسيح مريم لأنهـا اختارت أن تجلـس لتستمع إليه، ولم يوافق مرثا في طلبها منع مريم من الاستماع إليه لأن هذا هو النصيب الصالح، لأن الاستماع إلى كلمته له الأهمية الأولى. والسبب أن مرثا وهي تخدم لم تستطع أن تسمع ما يقوله المسيح، ولكن رأى المسيح أن الاستماع إليه له الأولوية وكان يمكن أن لا تتعب مرثا نفسها بخدمة كبيرة تمنعها من الاستماع إليه ـ فإن طعاماً بسيطاً كان يكفي، وفي الحقيقة كانت سيكولوجية مرثا ذات هدف واضح وجيد، وهـو أن تحتفي بالمسيح وتصنع له طعاماً فاخراً، ولكن لا يصح أ أن نأخذ هذا القول الذي للمسيح ونجعل . منه مقارنة بين الخدمة والاستماع إلى الكلمة، لأن المسيح لم يغن هذا بكلامه، ولكن قول المسيح انحصر في النصيحة الآتية: إنه من الأفضل أن يتسع لنا الوقت لسماع كلمة الله من أن نستغرق الوقت في خدمة كثيرة تحرمنا من الله. أو باختصار شديد أن يتزن تصرفنا حتى يشمل هذا وذاك، سماع الكلمة وخدمة أقل، حتى لا تطغى على كلمة الله

ولكن الكنيسة الأولى أخذت هذه القصة لتستدل على أن حياة التأمل أفضل من حياة الخدمة، وهكذا فتحوا الطريق إلى الحياة الرهبانية.

وفي رأيي أن حفظ الكلمة والتأمل فيها وحتى خدمتها لا يعني أن التأمل أفضل من العمل، لأن الراهب الذي لا يؤدي عملاً يتعرض إلى نقصان واضح في التعمق في الإنجيل واختباره. إذن، العمل للإنسان ضرورة مطلقة ولكن ليس على حساب كلمة الله والإنجيل كدراسة وتأمل وحياة.

وواضح هنا أن المسيح أعطى المرأة حق الاستماع إلى التعليم وبالتالي التعليم، لأن من يخدم المرأة إلا المرأة؟

ومن هذه القصة على الطريق الصاعد إلى أورشليم نعرف أننا بالقرب من أورشليم الآن، لأن بيت عنيا تبعد عن أورشليم بخمس عشرة غلوة أي نحو ثلاثة أرباع الساعة من أورشليم.

38:10 «وفيما هم سائرون دخل قرية، فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها».

نحن لا زلنا على الطريق الصاعد إلى أورشليم، ربما عن طريق جانبي يمر على أريحا ثم أورشليم، وهذه القرية نعرفها بأنها بيت عنيا (يو 1:11)، وهي القرية المحبوبة جداً من المسيح، لأنه طالما ذهب إلى هناك للراحة. ويبدو أن الضيافة في هذا البيت ممتازة، فعرج هو وتلاميذه على هذه القرية واستضافتهم الأخت مرثا، ويبدو أنها كانت صاحبة البيت الذي أقام فيه لعازر من الموت كما في إنجيل ق. يوحنا. والعالم مارشال يقول إنها ربما كانت أرملة فاستقبلتهم في بيتها. 

ويلاحظ أن المسيح – في رواية ق. لوقا ـ في نهاية ظهوراته بعد قيامته من بين الأموات، أخذ تلاميذه إلى هذه القرية وودعهم وصعد من هناك أمامهم إلى السماء (لو 50:24).

39:10 «وكانت لهذه أخت تدعى مريم، التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه».

وهنا يعرفنا ق. لوقا بأخت مرثا وهي مريم، وتنطق ماريام Mariem . والقديس يوحنا في إنجيله أفاض في ذكر صفاتها. وكان على مرثا أن تعد الطعام، ويبدو أنها كانت تهتم جداً بإعداد أنواع كثيرة من الأطعمة، مزيداً في إكرام الضيف، خاصة وأنه المسيح. ولكن يبدو أن مريم أختها كانت تميل أن تتركها وحدها. وفي إنجيل ق. يوحنا الأصحاح (3:12) تظهر مريم وهي تدهن الرب بالطيب. وهنا يقول ق. لوقا فقط أنها جلست تحت رجليه حسب طقس المعلمين الذي وصفه القديس بولس الرسول هكذا: « أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكية، ولكن ربيت في هذه المدينة مؤدباً عند (تحت) رجلي غمالائیل ، (أع 3:22). فعملت مريم كما يعمل التلاميذ المخلصون للتعليم، ويبدو أنها أظهرت غيرة كبيرة في التعليم بالسؤال والجواب وكان المسيح يشجعها على ذلك. وهنا يتضح لنا عمـل مـن أعمال المسيح التقدمية جداً ذلك الزمان لأنه كان ممنوعاً تعليم المرأة، وهنا يفتتح المسيح بمثاله تعليم المرأة وبالتالي الشموسية أي خدمة النساء في الكنيسة، وربما البيوت أيضاً. لأننا سمعنا كثيراً عن النساء اللاتي كن يتبعن يسوع وسرن معه حتى أورشليم وبقين هناك وحضرن الصلب وبشرن بالقيامة، وكن أول من ظهر الرب لهن وكلمهن. لهذا نسمع في سفر الأعمال (1:6-4) تعيين الكنيسة رسمياً لمن يخدمهن. وفي رواية ق. لوقا يتضح أن الاتجاه بالنسبة لمرثـا كـان الخدمة والضيافة، وبالنسبة لمريم كان التلمذة والتعليم. والكنيسة في أشد الحاجة للاثنين، ويبدو أن المسيح صنع ذلك ليفتتح في العهد الجديد ضرورة التعليم والدراسة للمرأة وتدبير الخدمة معها. غير أن المسيح لم يكن يهتم أبدأ بالضيافة أو حتى بالأكل، إذ رأينا أنه بعد انقضاء يومين في الوعظ والتعليم اكتشف التلاميذ أنه لا يوجد طعام مع الخمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال. إلى هذا الحد كان المسيح قادراً أن ينسي الإنسان جوعه، وهذا الاتجاه وضح الآن في بيت مرثا. وهكذا نفهم أن عند يسوع المسيح صحنين: صحناً للكلمة والخدمة وصحناً للطعام، يمكنك أخذ الاثنين، ولكن إن أخذت الأول غير مهتم بالثاني فهو مزمع أن يعمل  لك المعجزة بعد أن تكون قد خدمت، ولكن يبدو أن أنطونيوس أخذ الأول واتكل على الله.

+ «كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً.» (مز 25:37)

أنطونيوس حفظ عن ظهر قلب: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله.» (لو 4: 4) وعلى كل حال يوجد نوعان من الخبز: الخبز الساخن الخارج من الفرن والخبز الحي النازل من السماء، هذا يقيت إلى يوم وذاك يقيت إلى الأبد.

40:10 «وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة. فوقفت وقالت: يارب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تُعينني!».

مريم: «مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته.» (نش 12:1)

الكلام هنا واضح لا يحتاج إلى شرح ولكن المعنى عميق للغاية. مريم ومرثا هما اتجاهان في الحياة: الاتجاه المرثاوي هو الاهتمام بالأمور الكثيرة التي بالنهاية حتماً تكشف عن التعب والهـم والحاجة. والاتجاه الثاني المريمي لا يهتم ولا يعتاز إلا إلى المحبوب، يجلس تحت قدميه سامعاً متعلماً متحكماً بكل علم الروح وانفتاح القلب والعين لمعرفة ورؤية ما لا يرى، وبالأذن المفتوحة يسمع الصوت الخفيف جداً من وراء ضجة الدنيا وصخب الحياة. فالاتجاهان هما في وهما فيك ولك أن تقدم الواحد وتؤخر الآخر ليكون لكل واحد منهما زمانه ومكانه. ولكن يا لبؤس الذي لم يعرف زمان الحب فهو يمضي الحياة كلها مرتبكاً بهموم كثيرة ولن يمدحه أحد! «أما تبالي» !!

41:10 «فأجاب يسوع وقال لها: مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة».

تكرار النداء بنفس الاسم يحمل عند المسيح إما الشفقة والعاطفة أو التوجيه والتوبيخ. الشفقة هنا على مرثا، والتوجيه والتوبيخ مثل: «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم …» (لو 31:22)

على كل، التكرار توجيه للانتباه أو كنداء الصدق : آمين آمين أي الحق الحق أقول لكم.

هنا المسيح يدعو مرثا أن تنتبه إلى حالتها التي بلغت إلى الاضطراب الداخلي بسبب الاهتمام الزائد في الخدمة: مثلاً كانت تعجن وتخبز وتطبخ بآن واحد. مع أن رغيفاً بايتاً يكفي. وهنا نلتقط مبدأ هاماً أن الاهتمام الزائد يوصل إلى حالة اضطراب، والاضطراب يوقف الفكر لأداء سليم فيحدث النكد. وهكذا العمل الزائد والمتعدد الأنواع والأهداف يبلبل النفس فلا تستطيع أن تقرر ما هو نافع بهدوء. لذلك في الحياة الروحية، الطموح في بلوغ أهداف متعددة يشتت القلب والفكر. أما الذي يحدد هدفه ويحدد عمله فإنه يتقن عمله بهدوء ويبلغ إلى نتائج جيدة، ويستطيع أن يوفر الوقت والفكر للروحيات .

42:10 «ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها».

هنا ارتبك الشراح : بسبب قراءات قديمة في المخطوطات لم تعين هذه الحاجة بوضوح. فقالوا ما قالوا واتفقوا على حل تافه وهو أن الحاجة إلى صحن (طبيخ) واحد ومريم اختارت الصحن الأفضل!! إلى هذا الحد بلغ التفكير، مع أن اختيار مريم لتتعلم تحت رجلي المسيح يوحي في الحال بالحاجة التي تحتاجها مرثا، لأن الأمور المادية إذا امتصت اهتمام الإنسان لن تتركه يختار بعد ذلك، بل تجبره إجباراً على التفكير والهموم والاضطراب. فواضح أن المسيح يريد أن يوجه فكر مرثا نحو الروحيات أهم، أو نحوه هو أعظم من كل اهتمام. فالحاجة بالفعل إلى المسيح الذي هو أمامها الذي تركته وذهبت تعد أنواع الطعام مع أن لقمة حاف ستتحول في يديه إلى حمل.

حاجتنا إلى المسيح يتحتم أن تفوق أي احتياج آخر، لأن المسيح إذا نلناه في القلب يكون هو كل حاجتنا وزيادة: «نصيبي هو الرب قالت نفسي» (مرا 24:3)، «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئاً في الأرض.» (مز 25:73)

المنطق بالعقل الروحي يقول لك إن كان هناك “واحد” قادر أن يعطيك كل شيء وأنت في حاجة شديدة إلى كل شيء فاقتن هذا الواحد. إن المسيح هو سر الكفاف وسر الفائض الزايد أيضاً، فإن أردت الكفاف فاض قلبك فرحاً وسروراً، وإن أردت الزيادة والفائض هو سيعطيك إن استطعت أن تعطيه قلبك بكل طموحاته.

كان هناك واعظ في لندن اسمه سبرجن كان أب اعتراف الملكة فكتوريا صاحبة العصر الذهبي لخدمة الإنجيل من مالها الخاص. كان يصلي لله ويقول: أعطني لندن وإلا أموت. كان طموحاً إلى درجة غير معقولة وكان يتوب على يديه في الوعظة الواحدة ثلاثة آلاف نفس كوعظة بطرس الأولى. كان يذهب للملكة كل يوم سبت ليأخذ المال اللازم لإقامة خيمة الوعظ فسألته أين سيعظ هذا الأحد؟ قال لها: في ميدان بيكادللي. قالت له ستقفل مداخل ومخارج سبعة شوارع. قال لها: نعم أنا محتاج إلى كل الذين في السبعة شوارع.

سيكون منظر اليهود العائدين إلى المسيح عندما يستعلن لهم، مثل هذا المنظر الذي يصوره إشعياء النبي هكذا:

– + «من سمع مثل هذا من رأى مثل هذه ـ هل تمخض بلاد في يوم واحد أو تولد أمة دفعة واحدة. فقـد مخضت صهيون بل ولدت بنيها … . افرحوا مع أورشليم وابتهجـوا معهـا يـا جميع محبيها. افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزياتها. لكي تعصروا وتتلذذوا من درة مجدها.» (إش 66: 8-11)

نعم الحاجة إلى ذلك الواحد الذي به ستولد أُمة في يوم واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى