تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 14 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح الرابع عشر

عظة 101 شفاء مستسق يوم السبت (لو1:14-6)

” وإذ جاء إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزا كانـوا يراقبونه. وإذا إنسان مستسق كان قدامة. فسأل يسوع الناموسيين والفريسيين: هـل يـحـل الإبراء في السبت؟. فسكتوا. فأمسكه وأبراه وأطلقة. ثم سأل: من منكم يسقط حمـارi أو ثورi في بئر ولا ينشله حالا في يوم السبت؟. فلم يقدروا أن يجيبوه عن ذلك “.

يُجري الرب من جديد معجزات ويمارس قوة إلهية فائقـة، ويعمـل أعمالـه العادية ويظهر مجده، فهو بطرق كثيرة يقدم منفعة للفريسيين الجموحين والمعاندين. لأنه كما أن الأمراض المستعصية أكثر من غيرها لا تستسلم لمهـارة الأطباء، بل تستلزم أقصى قوة من الأشخاص ذوي الذكاء الحاد، كذلك أيضا الـذهن البشرى الذي قد حاد إلى الشر يرفض كل ما يمكن أن ينفعه، حتى أنه ضحية لميل غير مقهور نحو العصيان، وهو قد وصل إلى هذه الحالة بانحرافات عن الطريق الصحيح لم يتم توبيخها.

ويمكن لمن سيعطي انتباهه للدروس الموضوعة أمامنا هنا أن يرى أن هذا الأمر حقيقي لا ينكر، لأن فريسيا من طبقة عالية فوق العادة دعا يسوع إلى وليمة، ومع أن الرب عرف خبثهم مضى معه واشترك معهم في الطعام، وهو أذعن لهذا الأمر تنازلاً منه، وليس لكي يكرم من دعاه، بل بالحرى لكي ينفع أولئك الذين كانوا في صـحبة الفريسي، وذلك بواسطة تلك الكلمات والأعمال المعجزية التي يمكن أن تقودهم إلـى الاعتراف بالعبادة الحقيقية، وهي تلك التي يعلمها لنا الإنجيل، لأنه عرف أنه سيجعلهم شهود عيان لقوته ومجده الذي هو أكثر من أية مجد بشري. لعلهم بهـذا يمكنهم أن يؤمنوا أنه هو إله وابن الله الذي اتخذ شكلنا، ولكنه استمر بغير تغيير، ولم يكف عن أن يكون ما قد كان عليه دائما.

إذا فهو قد صار ضيفا لمن يدعوه، كي يتمم ـ كما قلت .. واجبا ضروريا. ولكن يقول الإنجيل إنهم كانوا يراقبونه، ولأي سبب كانوا يراقبونه، وعلى أي أساس؟ لكي يروا إن كان يتجاهل الإكرام الواجب للناموس، وهكذا يفعل شيئا أو آخر من الأشياء الممنوعة في السبت. لكن أيها اليهودي عديم الشعور، افهم أن الناموس كـان ظـلاً ومثالاً ينتظر مجيء الحق، والحق هو المسيح ووصاياه، فلماذا إذن تتمـسك بالمثـال وتشهره كسلاح ضد الحق؟ لماذا تجعل الظل مقاوما ومضادا للتفسير الروحاني؟ احفظ سبتك بتعقل، ولكن إن لم ترتض أن تفعل هكذا، ستقطع نفسك من حفظ السبت الـذي هو مرض الله، ولن تعرف الراحة الحقيقية التي يطلبها منا من أعطى الناموس لموسى في القديم، فلنكف عن خطايانا، ولنسترح من آثامنا ولنغسل ذنوبنا، ولنتحاش الحـب الجسداني النجس، ولنهرب بعيدا عن الطمع والنهب والمكاسب غير الـشريفة ومـن محبة الربح القبيح ولنجمع أولاً مؤنا لنفوسنا لأجل الطريق، القوت الذي يكفينـا فـي الدهر الآتي، ولنعكف على الأعمال المقدسة، وبهذا نحفظ السبت عقليا وروحيا. أولئك الذين كانت وظيفتهم أن يخدموا بينكم بحسب الناموس، واعتادوا أن يقدموا الله الذبائح المعينة حتى ولو في يوم السبت، وذبحوا الذبائح في الهيكل، وأدوا أعمال الخدمة تلك التي كانت موضوعة عليهم ولم يلمهم أحد، وحتى الناموس ذاته صمت من جهتهم. لذلك فإن الناموس لم يمنع الناس من أن يقدموا الخدمة في السبت. لذلك كان هذا مثالاً لنا، لأنه ـ كما قلت ـ فإنه من واجبنا أن نحفظ السبت بطريقة عقلية روحية لنرضي الله برائحة روحية طيبة، وكما قلت من قبل نحن نتمم هذا حينما نكف عـن الخطايـا ونقدم الله رائحة مقدسة وجديرة بالإعجاب كتقدمة مقدسة، ونتقدم بثبـات نـحـو كـل فضيلة، لأن هذه هي الذبيحة الروحانية المرضية عند الله. لكن إن لم يكن لك شـيء من هذا في ذهنك وتتمسك فقط بحرف كتاب الناموس، وتخليت عن الحق كشيء لا يمكنك أن تصل إليه، فاسمع الله الذي يخبرك بصوت إشعياء النبي فيقول: “غلظ : قلب هذا الشعب وأطمس عينيه وثقل أذنيه لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بأذانهم ويفهمـوا بقلبهم ويرجعوا فاشفهم” (إش 4: 10 س). فكيف لم يكونوا تقيلي (الأذن) وبـدون فهـم
ولهم ذهن أهمل المعونة (للمقدمة) له، وهم الذين عندما كان يمكنهم أن يدركوا أنـه
المسيح بواسطة تعليمه الذي كان يفوق الناموس وبالعجائب التي أجراها، (إلا أنهـم)
كانوا معاندين ووضعوا في اعتبارهم فقط فكرتهم التي سبق فتخيلوها عن الصواب،
أو بالحري كانوا مهتمين فقط بما أحدرهم إلى هوة الهلاك !

لكن ماذا كانت المعجزة التي كانوا معاينين لها؟ كان يوجد أمـام الـرب إنـسـان
مستسق، لذلك يسأل الرب الناموسيين والفريسيين إن كان يحل الإبراء في السبت أم
لا ؟ والكتاب يقول: إنهم، “سكتوا”.
لكن لماذا صمت أيها الناموسي؟ أذكر شيئا من الأسفار يبين أن نـاموس موسـى
يلوم فعل الخير في السبت؟ برهن لنا أن الناموس يريدنا من أجل راحة أجسادنا أن
نكون قساة القلب وغير رحومين أي أنه يمنع الشفقة وذلك من أجل إكرام السبت؟ أن
هذا الأمر لا يمكنك أن تبرهن عليه من أي جزء في الناموس، ولأنهم كانوا صامتين
بدافع من الخبث، فالمسيح يدحض وقاحتهم التي لا تهدأ بواسطة الحجج المقنعة التـي
يستعملها، فيقول: ” من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالا في السبت؟
(لو ٥:١٤). لو أن الناموس يمنع إظهار الرحمة في السبوت، فلماذا تشفقون أنتم علـى
ذلك الحيوان الذي سقط في بئر؟ إذن لا تزعج ذاتك بخصوص ما يتعرض له ابنك من
خطر في يوم السبت! وانتهر حركة العاطفة الطبيعية التي تحرضك على الإحساس
بالحب الأبوي! وسلم ابنك بفرح إلى القبر لكي ما تكرم معطي الناموس إذ تعلم أنـه
قاس وغير رحوم. ليكن صديقك في خطر، ولكن لا تعطه أدنى انتباه مـن الآن، ولا
حتى أيضا لو بكى طفلك طالبا المعونة، بل قل له: “مت فهذه إرادة الناموس . إنـك
لن تقبل هذه الأفكار، بل سوف تمد يد المعونة لمن هو في الضيق، وتعطيه إكرامـا
أكثر من الواجب للناموس، أو بالأحرى أكثر من راحة لا معنى لها، حتى لو لم تكن
تعترف بعد أن السبت ينبغي أن يحفظ بطريقة روحية. إن إله الكل لم يتوقف مـن أن
يكون عطوفا، فهو صالح ومحب للبشر، ولم يؤسس ناموس موسي كوسيط القسوة ولا أيضا جعله معلما للخشونة والوحشية بل بالأحرى كي يقودك إلى محبة القريب.
فكيف كان يليق أن وصية مكرمة هكذا وجديرة بالإعجاب، تفقد قوتها يـوم الـسبت
حسب إرادة الله؟ لماذا إذن تصمت أيها الناموسي؟ هذا اعتراف منك أنه ليس لك شيء
تقوله، لأن قوة الحق هي شيء عظيم لا يقهر، وهي قادرة أن تربك الذهن الحسود
وتبكم اللسان الكثير العيب.
فالمسيح لم يعط انتباها لحسد اليهود وغيرتهم، بل هو أنقذ المـريض المـصـاب
بالاستسقاء وشفاه من مرضه المستعصي.
لقد رأيت أيها اليهودي، المعجزة، إذن فمجد صانعها، أدرك قوته وعظمة سلطانه،
اعترف أنه هو الله، قدم له إيمانك ولا تكن معاندا، بل كما يقول يوئيل النبي: ” مزقوا
قلوبكم لا ثيابكم” (يو 2: 13)، ومتع ذهنك وافتح عين قلبك، وافهم أن الأعمال التي يعملها أعمال الألوهية حتى لو كان هو إنسانا مشابها لنا في المظهر. لذلك اعترف بمن
لأجلنا لبس شبهنا، مع أنه بالرغم من هذا هو أعلى منا جدا، أو بالأحرى هو فوق كل
الخليقة بميلاده الذي لا ينطق به من الله الآب، لأنه هو ابن لمن هو فائق على الكـل.
لكن ومع أنه كان هو الرب، فإنه أخذ شكل العبد، لكي ما يجعل العبد مشابها له، لكنه
لم يتوقف عن أن يكون هو الله، بل ظل كما هو والذي له تسجد الملائكة والرياسـات
والعروش والربوبيات، والسيرافيم يسبحونه، فلنعبده نحن أيضا بالإيمان، وترتفع
بمعونته إلى نصيب القديسين، الذي به وله مع الآب التسبيح والسلطان مـع الـروح
القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة 102 المتكأ الأخير لو14: 7-11

وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قِائِلاً لَهُمْ: «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَانًا لِهذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَل تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ»

لا يكف المخلص عن إجراء عمل أو آخر إلا ويكون مفعما بالفوائـد، كما يرشد بالتحذيرات والنصائح كل من يقترب منـه نـحـو التصرف اللائق، ويعلمه تلك الرزانة التي تليق بالقديسين، كما يقول بـولس: :لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبا لكل عمل صالح” (2تي 3: 17)، وهو يمسك بكل فرصة مهما كانت بسيطة، ويرسم لنا بكلماته نصائح جديرة جدا بانتباهنا، وهو بهذا يشبه مزارعا نشيطاً، لأنه يقطع من أذهاننا كل ما يستوجب اللـوم والتوبيخ وما يجلب العار على أولئك الذين يرتكبونه، ويزرع فينا كـل ثـمر الفضيلة، لأننا كما يقول الكتاب، “فلاحة الله” (1کو 3: 9).

والفائدة التي يكشفها لنا هنا أيضا، هذه نتعلمها من الفقرة التي قرأت الآن، لأنه كان يأكل يوم السبت مع أحد الفريسيين بحسب دعوة الأخير له. أما هدفه من ذلك ودافعه إليه، فقد شرحناه في اجتماعنا السابق، ولكن نظرا لأنه لاحظ بعضا من المدعوين يتمسكون بغباء بالمتكات الأعلى، كشيء مـهـم ويستحق السعي إليه، ولأنهم كانوا تواقين إلى المجد الباطل، فلأجل منفعتهم ومنفعتنـا فإنه ينطق بتحذير عاجل قائلاً: ” متى ذعيت من أحد، فلا تتكئ فـي المتكـا الأول لعل أكرم مالك يكون قد دعي منه، فيأتي الذي دعاك واياه ويقـول لـك أعط مكانا لهذا، فحينئذ تبتدئ بخجل تلك الموضع الأخير”.

والآن فربما تبدو هذه الأمور البعض أنها تقنية، وغير جديرة بانتباه كثير، ولكن حينما يثبت أي واحد عين ذهنه عليها، فإنه يعرف أن هذه الأمور تنقذه من لوم كثير له وتجعل حياته منتظمة انتظاما عظيما. فأولاً، إن الجري وراء الكرامات غير مناسب ولا يليق بنا، بل يظهر أننـا أغبياء، وقعين، متعجرفين، ممسكوين بما لا يناسبنا بل بما يناسب الآخرين الذين هـم أعظم وأعلى منا وكل من يتصرف هكذا هو مكروه، وكثيرا ما يكون أيـضنا موضع سخرية عندما يعيد للآخرين رغم إرادته ـ الكرامة التي لم تكن له ـ لأنه حينما يأتي من هو أكرم منك، فذلك الذي دعاك وإياه سوف يقول لك أعط مكانا لهذا، آه! أي خزي عظيم يكون عندما يتم هذا العمل! إنه مثـل الـسرقة وإعلاة الأشياء المسروقة فينبغي، أن يرد ما قد أخذه، لأنه ليس له حق في أن يأخذه. أما الرجل المتواضع والجدير بالشام، الذي بدون خوف من اللوم يحق له الجلوس بين الأولين، ولا يبحث عن هذا المتكا، بل يقدم للآخرين ما يحـق لهم وهو يبدو غير مغلوب من المجد للباطل، مثل هذا سوف يحصل علـى الكرامة كما يحق له، لأنه سوف يسمع: ” الذي دعاه يقول: ارتفع إلى فوق”.
لذلك فالفكر المتواضع هو خير عظيم يفوق الوصف لأنه يخلص أصحابه من اللوم والاحتقار ومن تهمة المجد الباطل، أما محب المجد الباطل فيقـول: نعم! ” إنني أحب أن أكون مشهورا ومعروفا وليس محتقرا ومهملاً ومعـدودا ضمن غير المعروفين “. فإن كنت ترغب في المجد البشري الزائل، فأنت إنما تضل عن الطريق المستقيم والذي به يمكن أن تصير لامعا حقا، وتصل إلـى المديح الذي يستحق الاقتداء به، لأنه مكتوب: “لأن كل جسد كعشب، وكـل مجد انسان كزرع عشب“ (1بط 1: 24)، كما يلوم داود النبي هؤلاء الذين يحبون الكرامات الزمنية، وعندهم يتكلم هكذا: ” وليكونوا كعشب السطوح الذي ييبس قبل أن يقطع” (مز 128: 6 س). فكما أن العشب الذي ينبت على السطوح ليس له جذر عميق ثابت، ولذا يجف بسهولة، فهكذا أيضا من يجل الكرامة العالميـة، فبعد أن يكون بارزا لوقت قصير، كزهره فإنه، ينحط أخيرا إلى العدم.

 لذلك فإن رغب أحد بينكم أن يجلس أعلى من الآخرين، فدعه يربح ذلك بمرسوم سماوي، وأن يكلل بتلك الكرامات التي يمنحها الله. دعه يتفوق علـى كثيرين بأن تكون له شهادة الفضائل المجيدة. أما أساس الفضيلة فهـو الفك المنخفض الذي لا يحب التفاخر، نعم إنه التواضع، وهذا يحسبه المغبوط بولس جديرا بكل احترام، لأنه يكتب لمثل من يرغبون باشتياق فـي الـسـعـي إلـى القداسة: “أحبوا التواضع” (انظر كو 3: 12)، كما أن تلميذ المسيح يمدح التواضع فيكتب هكذا: ” وليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه وأما الغنى فباتـضاعه، لأنـه كزهر العشب يزول” (يع 9:1). لأن الفكر المعتدل والمنضبط يمجـد مـن الله، لأنه يقول: ” القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله” (مز 17:50 س).

ولكن كل من يظن أمور ًا عظيمة عن نفسا وهو متشامخ ومعجـب بنفـسه ويرفع نفسه بغطرسة فارغة، فهو مرفوض ومكروه، وهو يتبع منهجا مضادا لمنهج المسيح الذي قال: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29)، لأنه مكتوب: ” يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة” ” (ابـط 5:5) كما أن الحكيم أيضا يبين في أماكن كثيرة أمان الفكر المتـضع، ففـي مـرة يقول: “لا ترتفع لئلا تسقط” وفي مرة أخرى يوضح في تصوير مجازي نفس الشيء ويقول: ” المعلي بابه يطلب الكسر” (أم 19:17). إن مثل هذا الشخص مكروه من الله بعدل، إذ أنه قد أخطأ إلى نفسه، وقد استهدف بحماقة أن يرتفع فوق حدود طبيعته. فعلى أي أساس يفكر الإنسان الذي على الأرض أفكـارا عظيمة عن نفسه؟ بالتأكيد إن فكره ضعيف، وينقاد بسهولة إلـى المـلـذات الدنيئة، كما أن جسده خاضع تحت طغيان الفساد والموت وأيضا أجل حياتـه قصير ومحدود. وليس هذا هو كل شيء، لأننا ولدنا عـراة، ولذلك فـالغنى والثروة والكرامة العالمية إنما تأتينا من خارجنا وهي ليست ملكا لنـاف الواقع، لأن هذه الأشياء ليست من خصائص طبيعتنا. لذلك فلأي سبب ينتفخ فكر الإنسان؟ ماذا هناك عنده حتى يرفعه إلى التشامخ والتباهي؟ فإذا نظر أي واحد منا إلى حالته بذهن متفهم، فإنه سيصير مثل ابرآم الذي لم يفتر من جهة طبيعته فدعا نفسه “تراب ورماد” (تك 18: 27)، وآخر يقول أيضا: “كم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود” (أي 25: 6). وهذا الذي هو دود ورمـة وتـراب ورماد، هذا العدم نفسه يصير عظيما ورائعا ومكرما أمام الله إذا مـا عـرف نفسه، لأنه يكلل من الله بكرامة ومدح، لأن مخلص ورب الكل يعطي نعمـة للمتواضعين، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلـى دهر الدهور. آمین.

عظة 103 محبة الفقراء (لو14: 7-11)

” وقال أيضا للذي دعاة: إذا صنعت غداء أو عشاء فلا تدع أصـدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضا فتكون لك مكافاة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع العرج العمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتـى يكأفئوك لأنك تكافئ في قيامة الأبرار “

إن جمال عقل الإنسان هو رائع حقا، وهو يظهر ذاته بطرق متعددة، يتضح في أنماط متنوعة. وكما أن أولئك المهرة في رسم الأشكال في الصور لا يمكنهم بواسطة لون واحد أن يبلغوا إلى الجمال الكامل في رسمهم، بل بالأولى يستخدمون أنواعا مختلفة ومتعددة من تدرج الألوان، هكذا أيضا إله الكل الذي هو معطي ومعلم الجمال الروحاني، يزين نفوسنا بتلك الفضائل المتنوعة التي تكون فـي سـمو حيـاة القداسة، لكي يكمل فينا شبهه، لأن أفضل وأعظم جمال في خلائقه العقلية هو علـى شبه الله، والذي يتحقق فينا برؤية الله الصحيحة وبالفضيلة التي تكمل بالجهد النشط. لذلك لاحظوا كيف أن سيدنا يسوع المسيح يجعل نفوسنا جميلة بواسـطـة كـل زينـة روحية، فهو هنا قد أمر الفريسيين والناموسيين أو بالحري الكتبة أن يفكروا باتـضاع في أنفسهم وأن يقتنوا ذهنا خاليا من محبة المجد الباطل داعيـا إيـاهم ألا يختـاروا المتكآت الأولى. فهو كان يأكل معهم لكي في مصاحبته لهم يمكنه أن يفيدهم حتى ولو ضد رغبتهم، ثم بعد ذلك يحدث الذي دعاهم وجمعهم للوليمة قائلاً: “إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقربـاءك ولا الجيـران الأغنيـاء، بـل بالأحرى العرج والعمي والجدع”.

هل هو بهذا يجعلنا في حالة فكر مكتئب؟ أو هل إرادته أن نكون غير اجتمـاعيين ولا نصادق أحدا، حتى إننا لا نحسب أصدقاءنا، وأقرباءنا مستحقين لتلـك المـشاعر التي تناسبهم بنوع خاص وهي واجبة لهم؟ وهل لا نعطي أي اعتبار لأولئك القريبين منا بالعاطفة والحب؟ وهل هو يمنع واجبات حسن الضيافة؟ بل كيف لا يكـون مـن السخف والجهل أن نتخيل أنه يناقض وصاياه الخاصة؟ ماذا إذا يريد الرب أن يعلمنا؟ ربما يكون شيئا ما كما يأتي: هؤلاء الذين يمتلكون ثروة كبيرة يعطون اهتماما كثيرا لإظهار غناهم والتفاخر أمام الناس، لأنهم كثيرا ما يدعون أشخاصا للغـذاء معهـم، ويعدون موائد ذات تكاليف باهظة، (مهيأة) بأطعمة مجهزة بطريقة تثيـر الفـضول، وهكذا لابد أن يوجه إليهم اللوم بالتبذير. وهذا دأبهم أن يعملوها (الموائـد) ليربحـوا مديح وإطراء ضيوفهم، وبحصولهم على مديح الذين يتملقونهم كمقابل لإسرافهم (في إعداد الموائد)، فإنهم يبتهجون كثيرا كما لو كانوا قد حصلوا على شيء ذي قيمة، لأنه من عادة المتملقين أن يمدحوا حتى لو كانت الأمور التي يمدحونها تستحق اللوم.

لأنه أي نفع يوجد في مثل هذا التبذير الكثير، أكثر مما تستلزمه الضرورة؟ وكما قال المسيح نفسه في موضع ما: ” الحاجة إلى أشياء قليلة، أو إلى واحد فقط” (انظر لو 10: 42)، أي لما هو ضروري لسد احتياجات الجسد. لذلك فلكي نهرب مـن خـطـورة فقدان المكافأة عن الأموال التي ننفقها، فينبغي أن ننفق ثروتنا في الأمور التي سوف تحمل ثمارا طيبة، لذلك فهو يأمرنا أن ندعو المساكين والجدع والعمي، وأولئك الذين يعانون من أمراض جسدية أخرى وبسخائنا في تتميم هذا، فإننا نبلغ إلى الرجاء الآتي من فوق، من الله، لذلك فإن الدرس الذي يعلمنا إياه هو محبة الفقراء، الأمر الذي هو ثمين في نظر الله. هل تشعر باللذة عندما تمدح حينما يكون لديك أصدقاء أو أقـارب يشاركونك الوليمة؟ إنني سأخبرك عن شيء أفضل جدا حيث بواسطته، فإن الملائكة والقوات العقلية من فوق، وكذلك القديسين أيضا، سوف يثنون على سخائك. بل إن الله الذي يفوق الكل، والذي يحب الرحمة والشفقة هو أيضا سوف يقبل سخاءك. أقرضه دون أن تخاف شيئا، وأي شيء أعطيته ستأخذه مع أرباحه، لأنه يقول: ” من يتعطف على المسكين يقرض الرب” (أم 17:19). إنه يقدر ما تقرضه ويعد بالوفاء، لأنه يقول: متى جاء ابن الإنسان في مجد أبيه مع الملائكة القديسين، فإنه يجلس علـى كـرسـي مجده ثم يقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ويقول للذين عن يمينه: ” تعـالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العـالم، لأنـي كنـت جوعانـا فأطعمتموني، كنت عطشانا فسقيتموني، كنت عريانا فكـسوتموني، كنـت مريـضـا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلى”، وأضاف إلى هذا، ” الحق أقول لكم بما أنكم فعلتمـوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم ” (مت 25: 31 -40). فالإنفاق إذن لم يكن هنا بلا ثمر، ولكن العطف على الفقراء سيجعل ثروتك ذات رائحة حلوة. اشتر النعمة التي تـأتي من الله، وأقتن رب السماء والأرض صديقا لك، فإننا بالحقيقة كثيرا ما نشتري لأنفسنا صداقة الناس بمبالغ باهظة من الذهب، أما إن كان من يصطلحون معنا هم من مراتب عالية، فإننا نشعر بسرور عظيم عندما نقدم لهم هدايا حتى لو كانت فـوق مقـدرتنا بسبب الكرامة التي تنشأ لنا منهم، رغم أن هذه الأشياء إنما هي عابرة وسريعا مـا ما تخبو، وهي أضغاث أحلام.

ولكن أن نصير أعضاء في بيت الله، ألا يجب أن نحسب ذلك شيئا يستحق أن نربحه، ونحسب ذلك كما لو كان ذا أهمية قصوى؟ فنحن بالتأكيد بعـد القيامـة مـن الأموات سوف نقف في حضرة المسيح وسوف توجد بالضرورة مكافـاة للرحـومين والشفوقين، ولكن دينونة مساوية لأعمال أولئك الذين كانوا قساة ولـيـس لـهـم مـحبـة متبادلة، لأنه مكتوب: ” الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة” (يـع ۱۳:۲)، وإن كـان الأمر هكذا، فكيف لا يكون هذا برهانا وكمالاً للعقل الفطن، بأنه يجب قبل أن نهـبط إلى هوة العذاب أن نتفكر مسبقا لحياتنا؟ تعال ودعنا نناقش هذا الأمـر فيمـا بيننـا، افترض أنه لسبب أو لآخر من الأمور التي يدينها الناموس قد ساقونا أمام القضاة، ثم بعد الإدانة وضع علينا حكم مناسب لما تستحقه تعدياتنا، أما كنا، وبكل سرور نضحي بثروتنا لننجو من كل عذاب وعقوبة؟ أيمكن أن يوجد أي شك في هـذا؟ لأن الـنفس أفضل من الممتلكات، والحياة أفضل من الثروة. نحن الآن مدانون في خطايا كثيـرة، ويلزم أن نقدم حسابا للديان عن كل ما فعلناه، فلماذا لا نخلص أنفسنا إذن من الدينونة والنار الأبدية مادام الوقت يسمح لنا؟ والطريقة التي بها ننقذ أنفسنا هي أن نحيا فـي  قداسة، ونعزي الأخوة الحزاني بسبب فقرهم، وأن نبسط أيدينا بسعة لجميع من هم في احتياج، وأن نتعاطف مع المرضى.

أخبرني ماذا يوجد أصعب من الفقر، هذا الوحش الذي يفترس بلا هدوء، هذا السم الذي ليس لنصيحة أن تشفى منه، الذي هو أردأ الأمراض، بل بالحري هو أكثر قسوة من أي مرض؟ لذلك يجب علينا أن نمد يد المعونة لأولئك الذين يعانون منه، ويلـزم أن نفتح قلوبنا لهم بسعة، ولا نعبر بدون مبالاة على عويلهم. افترض أن وحشا فظـا وثب على عابر سبيل، أما كان يجب على أي من يشهد الواقعة أن يمسك بأي شـيء يكون في متناول يده، مثل حجر أو عصا، ثم يطرد الوحش الذي يمزق ويقطع الرجل الواقع تحت ضرباته بدون رحمة؟ من ذا القاسي القلب والمملوء بالبغـضة للجـنس البشرى الذي يعبر (بدون اكتراث) على شخص مثل هذا يتحطم في بؤس عظـيم؟ ألا ينبغي أن تعرف أنت أن الفقر ـ كما قلت ـ هو أكثر قسوة من أي وحش مفتـرس؟ ساعد إذن أولئك الذين يسقطون تحت سطوته، أمل أذنيك إلى الفقير واستمع له كمـا هو مكتوب: “من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضا يصرخ ولا يستجيب إليه احد” (أم 21: 13). أعط لكي تأخذ، استمع لكي يسمع لك، أبذر القليل الذي لـك حتـى تحصد كثيرا، وبالإضافة إلى ذلك، فإن لذة الجسد هي قصيرة ووقتية وتنتهي بالتعفن، لكن العطاء والمحبة للفقير يتوجان أولئك الذين يمارسونهما، بالمجد من الله، ويقودانهم إلى تلك السعادة التي لا تضمحل، التي يهبها المسيح لأولئك الذين يحبونه، هذا الـذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

الدعوة إلى العشاء العظيم (لو14: 15-24)

“فلما سمع ذلك واحد من المتكنين قال له: طوبى لمن يأكل خبزاً فـي ملكوت الله. فقال له: إنسان صنع عشاء عظيما ودعا كثيرين. وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين: تعالوا لأن كل شيء قد أعد. فابتدا الجميع براي واحد يستعفون. قال له الأول: إني اشتريت حقلاً وأنا مضطر أن أخرج وأنظرة. أسألك أن تغفيني. وقال آخر: إلـي اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض لأمتحتها . أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إنى تزوجـت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء فأتى ذلك العبد وأخبر سيدة بذلك. حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها وأدخل إلى هنا المساكين والجـدع والعرج والعمى. فقال العبد: يا سيد قد صار كما أمرت ويوجد أيضا مكان. فقـال السيد للعبد: اخرج إلى الطرق والسياجات والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي. لأني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي “.

ومرة أخرى، إن معنى الدروس المطروحة أمامنا يضطرني أن أقـول إن ثمـار الأعمال الصالحة إنما هي جديرة بالثناء، لأن تعب القديسين ليس بلا مكافـأة، لأنهـم يتعبون بمشقة لكي يحيوا تلك الحياة التي هي . حقا جديرة بالإعجاب عند الله والنـاس. فبولس الحكيم يكتب: “الله ليس بظالم حتى ينسى تعبكم ومحبتكم التي أظهرتموها نحو اسمه” (عـب 10:6)، وأيضا يستخدم كلمات مشابهة في موضع آخر: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديا، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى، لأن الأشياء التي ترى وقتية أما التي لا تـري فأبدية ” (2كو 17:4). لأن الأشياء الوقتية هي الأرضية، وهي التي نقول عنها إنها تُدعى الأشياء التي ترى. أما تلك الأشياء الآتية والتي لا ترى في الوقت الحاضر، بل هي الأمـور المرجوة عند الله فهي مخزونة لنا في منازل لا يمكن أن تتزعزع.

أما لمن أعدت هذه الأشياء، ولمن سوف تعطى، فهذا شرحه لنا المخلـص هنـا موضحا كما في صورة بالمثل الموضوع أمامنا، طبيعة وفاعلية التدبير، ولكـن . الضروري على كل حال أن أذكر أولاً المناسبة التي أدت إلى هذا الحديث.

كان الرب يأكل في وليمة عند أحد الفريسيين بصحبة آخرين كثيرين مجتمعين من أصدقاء دعاهم إلى الوليمة، وهكذا فإن مخلص الجميع لكي يفيد أولئك المجتمعـين هناك ـ إذ أنه يحب الرحمة بالحري وليس الكرامة والعظمة ـ فإنه يقود هذا الـذي دعاه إلى الكمال، بألا يسمح له بأن يصرف بإسراف أو يهدف إلى أن يظهر بأكثر مما تسمح له موارده المالية لكي يحصل على مديح الناس، لأنه قال: “إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الأغنيـاء ولا جيرانـك. بـل المساكين، الجدع والعمي”، لأنه يقول: ” إن هؤلاء الذين يفعلون هكذا يكافـون فـي قيامة الأبرار”. و هكذا فإن واحد من أولئك المتكئين معهم على المائدة، عنـدما مثل هذه الكلمات قال: ” طوبى لمن يأكل خبزا في ملكوت الله”. ربمـا هـذا الرجل لم يكن روحانيا ولكنه كان لا يزال نفسانيا وغير مؤهل أن يفهم ما قاله المسيح فهما سليما. لأنه لم يكن بعد واحدا من الذين آمنوا ولا كان قد اعتمد بعد، لأنه افترض أن مجازاة القديسين بسبب أعمال محبتهم المتبادلة سوف تكون بأشياء مختصة بالجسد وبسبب أنهم كانوا حتى هذا الوقت إلى هذه الدرجة من غباوة القلب حتى يفهموا فكرة دقيقة، فإن المسيح صاغ لهم مثلاً يوضح بما يحويه من صور ملائمة، طبيعة التدبير المزمع أن يؤسسه لأجلهم، ويقول: ” إنسان صنع عشاء عظيما ودعا كثيرين، وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أعد “.

دعونا أولاً أن نتساءل هنا، ما السبب في أن المدعوين قد دعوا إلى عشاء ولـيـس إلى غذاء؟ بل بالحرى وقبل هذا أيضا، من هو الإنسان الذي قيل عنه في المثل إنـه أرسل عبده ليدعو إلى العشاء، وأيضا من هو الداعي، ومن هم الذين دعـوا ولكـنـهم احتقروا الدعوة.

لذلك فينبغي أن نفهم أن المقصود بالإنسان هنا هو الله الآب. إن التشبيهات قـد صيغت لتمثل الحقيقة، ولكنها ليست الحقيقة نفسها، لذلك فخالق الكون وأبـو المجـد صنع عشاء عظيما، أي عيدا لكل العالم تكريما للمسيح. إذن ففي أزمنة هـذا الـعـالم الأخيرة ظهر الابن لأجلنا. وفي ذلك الوقت أيضا عانى الموت لأجلنا، وأعطانا جسده لنأكل، لأنه هو الخبز الذي من السماء الواهب حياة للعالم ونحو المساء أيضا وعلـى ضوء السرج كان يذبح الخروف بحسب ناموس موسى. لذلك ولسبب معقول نقول إن الدعوة التي بواسطة المسيح تدعى عشاء.

وبعد ذلك، من هو الذي أرسل، والذي يقال عنه إنه عبد؟ ربما يكون المقصود هو المسيح نفسه. لأنه مع أن الله الكلمة هو بطبيعته إله، والابن الحقيقي الله الآب، الـذي ظهر منه، إلا أنه أخلى ذاته ليأخذ شكل العبد. ولأنه أيضا إله من إله فهو رب الكل، ولكن يمكن استخدام لقب عبد بصواب عنه من جهة بشريته. ومع أنه – كما قلت ـ قد أخذ شكل عبد إلا أنه رب بسبب كونه إلها. 

 ومتى أرسل؟ يقول: “وقت العشاء” لأن الكلمة الابن الوحيد لم ينزل من السماء في بداية هذا العالم ليصير في الهيئة مثلنا، بل بالحرى نزل عندما أراد الكلي القـدرة نفسه ذلك، أي في هذه الأزمنة الأخيرة كما سبق أن قلنا أيضا منذ قليل.

وما هي طبيعة الدعوة؟ “تعالوا! لأن كل شيء قد أعد”. لأن الله الآب قد أعد فـي المسيح لسكان الأرض تلك العطايا التي منحت للعالم بواسطته، التـي هـي غـفـران الخطايا، والتطهير من كل دنس، وشركة الروح القدس، والتبني المجيد له، وملكـوت السموات. وإلى هذه البركات دعا المسيح إسرائيل بواسطة وصايا الإنجيـل قبـل أن يدعو كل الآخرين، لأنه يقول في موضع ما بصوت المرنم: “أنا أقمت منه ملكا ـ أي بواسطة الله الآب ـ على صهيون جبل قدسه، لأكرز بأمر الرب” (مز 2: 6) وأيضا: ” أنا لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 15: 24).

فهل كان تصميمهم إذن لصالحهم؟ هل نظروا بإعجاب إلى لطف ذلك الذي دعاهم، وإلى وظيفة هذا الذي حمل الدعوة؟ ليس هكذا، لأنه يقول: “فابتدأ الجميع للتو بـرأي واحد يستعفون ـ كما لو كان بغرض واحد، وبلا إبطاء يعتذرون. قال الأول: إنـي اشتريت حقلاً وأنا مضطر أن أخرج وأنظره. أرجوك أن تعفيني، وقال آخر: ” إنـي اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض لأمتحنها، أرجوك أن تعفيني، وقال آخر: إنـي تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء”. إنك تلاحظ أنهم إذ استسلموا تماما وبحماقـة لهذه الأمور الأرضية، فإنهم لم يتمكنوا أن يروا الأمور الروحية، لأنهم إذ قد انغلبـوا من محبة الجسد فقد صاروا بعيدين عن القداسة وأصبحوا شهوانيين وجشعين للثروة. إنهم يطلبون تلك الأمور السفلى ولا يعتبرون بالمرة ذلك الرجاء والمواعيد المـذخرة عند الله. كان الأفضل جدا أن يربحوا أفراح الفردوس بدلاً من الحقول الأرضية وبدلاً من الفرحة المؤقتة ـ وهذا هو المقصود بأزواج البقر ـ أن يجمعوا أثمار البر، لأنه مكتوب: “ازرعوا لأنفسكم بالبر، واحصدوا كغلة الكرم ثمر الحيـاة” (هـو 10: 12 س). أما كان يجب عليهم ـ بدلاً من الإنسال الجسدي للأطفال ـ أن يختاروا بـالأحرى الإثمار الروحاني؟ لأن الأول معرض للموت والفساد أما الآخر فهو أبدي وذا غنـى دائم للقديسين.

 ويقول المثل إن رب البيت لما سمع رفضهم، فإنه غضب وأمر أن يجمعـوا مـن الشوارع والأزقة، المساكين والجدع والعمي والعرج. فمن هم الذين يمكـن أن نفهـم عنهم ـ كما قلت لكم ـ أنه من أجل الأراضي والفلاحة والإنجاب الجسدي للأولاد ـ رفضوا أن يأتوا؟ إنهم بالضرورة هم هؤلاء الذين وقفوا في صدارة المجمع اليهودي، الذين هم ذوو ثروات طائلة، عبيد الشهوات، الذين عقولهم منصبة على الربح، الـذي يركزون عليه كل اجتهادهم. لأنه في كل الكتاب الموحى به نراهم مستوجبين اللـوم بسبب هذا الأمر نفسه.

فأولئك إذا الذين هم أعلى مقاما من جماعة الشعب العام لم يخضعوا أنفسهم للمسيح عندما قال لهم: “احملوا نيري عليكم” (مت 11: 29). بل رفضوا الـدعوة ولـم يقبلـوا الإيمان وظلوا بعيدا عن الوليمة، وازدروا بالعشاء العظيم بسبب عصيانهم المتقـي. أما عن كون الكتبة والفريسيين لم يؤمنوا بالمسيح، فهذا ظاهر بما يقوله لهم: “أخذتم مفتاح المعرفة، فلم تدخلوا والداخلون منعتموهم” (لو 11: 52). لذلك فبدلاً منهم دعا الذين كانوا في الشوارع والأزقة الذين ينتسبون إلى عامة الشعب اليهودي الذين كان عقلهم مريضا غير ثابت، مظلما ومتوقفا لأن مثل هؤلاء يمكن أن نعتبرهم عميان وعـرج ولكنهم صاروا أقوياء وأصحاء في المسيح وتعلموا أن يمشوا باستقامة وقبلوا النـور الإلهي في عقولهم. أما عن أن جمعا كبيرا من اليهود لا يمكن إحصاءه بسهولة قـد آمن، فهذا يمكن أن نعرفه من سفر أعمال الرسل.

والمثل يقول إنه بعد أن دعا هؤلاء الذين في الشوارع، فإن الذي كانت وظيفته أن يدعو إلى العشاء قال لصاحب البيت: “يوجد أيضا مكان”. فقال السيد لخادمه: “أخرج إلى الطرق والسياجات والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي لأني أقول لكم إنـه لـيس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي”.

أرجوكم أن تلاحظوا هنا دعوة الأمم بالإيمان بعد أن دخل الإسرائيليون. كان الأمم في الزمان القديم لهم ذهن غير مثقف، وسذجا في الفهم، أي أنهم كانوا خارج المدينة، كما لو كانوا يعيشون في إباحية، ويشابهون البهائم أكثر من البشر، ويستخدمون العقل قليلاً، وبسبب هذا الاعتبار فإن الداعي إلى العشاء أرسل إلى الطرق خارج المدينـة وإلى السياجات في الحقول. بل والأكثر من هذا، فإنه أمر من هذا الذي أرسله، لا أن يدعوهم ويحضهم فقط بل وأيضا يلزمهم. إن الإيمان بالنسبة لجميع الناس هـو فـعـل إرادي، وببلوغ البشر بحريتهم الخاصة إليه يكونون مقبولين لدى الله وينالون عطاياه بوفرة. ولكن كيف (في هذا المثل) أن الناس يلزمون بالدخول. هذا ذكر هنا أيضا عن قصد، وكان هذا ضروريا بل وضروريا على نحو جازم بالنسبة للأمم الـذيـن كـانوا مقيدين بطغيان لا يحتمل، والذين كانوا واقعين تحت نير الشيطان، والـذين كانوا ممسوكين بشباك خطاياهم التي لا تنحل، والذين كانوا جاهلين تماما بهذا الـذي هـو بالطبيعة والحق، الله، فكان يلزم أن تكون دعوتهم بإلحاح كما لو كانت باستخدام القوة، حتى يكونوا قادرين أن يتطلعوا نحو الله، ويتذوقوا التعاليم المقدسـة، وأن يتركـوا ضلالهم السابق، وأن يخرجوا من يد الشيطان. لأن المسيح قال أيضا: ” لا يقدر أحـد أن يقبل إلى إن لم يجتذبه الأب الذي أرسلني” (يو44:6). إن الجذب هنا یعنی ضمنا أن الدعوة هي فعل بالقوة، وهذا لا يصنعه إلا الله. ونجد أيضا المغبوط داود يخاطب الله بعبارات مشابهة بخصوصهم (الأمم): ” بلجام وزمام تكبح (تقيد) فك هؤلاء الـذين لا يقتربون إليك ” (مز 31: 9 س). ها أنت ترى كيف أن رب الكل بلجام يحول إلـى نـفـسه هؤلاء الذين انحرفوا عنه، لأنه صالح ومحب لجنس البشر ويريد أن جميـع النـ … . يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.

لذلك فقد ظل رؤساء الشعب الإسرائيلي بعيدين عن العشاء لأنهم كانوا عنيــــ ومتكبرين وعصاة ومحتقرين للدعوة الفائقة جدا، لأنهم انحرفوا نحو الأشياء الأرضية، وثبتوا عقولهم نحو انشغالات هذا العالم الباطلة. أما عامة الجمع فقـد دعـوا (إلـى الوليمة) وبعدهم مباشرة وبدون إبطاء الوثنيون. لأن ربنا يسوع المسيح بعد أن قام من الأموات صرخ نحو رسله القديسين قائلاً: ” تفع إلى كل سلطان في السماء وعلـى الأرض، اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والـروح القـدس، وعلموهم ان يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام وإلـى انقـضاء الدهر” (مت 28: 18 ،19).

عظة 105 التلمذة للمسيح (لو14: 25-35)

” وكان جموع كثيرة سائرين معه فالتفت وقال لهم: إن كان أحد يـاتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا. ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا. ومن منكم وهـو يريد أن يبني برجا لا يجلس أولا ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله؟. لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به. قائلين: هذا الإنسان ابتدا يبني ولم يقدر أن يكمل. وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخـر فـي حـرب لا يجلـس أولاً ويتشاور: هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفـا؟. وإلا فمـا دام ذلك بعيدا يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح، فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا. الملح جيد. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يصلح؟. لا يصلح لأرض ولا لمزبلة فيطرحونه خارجاً. من له أذنان للسمع فليسمع “.

الذين يقودون جيوشا استعدادا للحرب وقد اكتسبوا لأنفسهم مجدا عسكريا، عنـدما يكون وقت المعركة قد حان، يعلمون الكتائب التي تحـت قيـادتهم كيـف يربحـون انتصارا باهرا إذ يصطفون هم أنفسهم بشجاعة في مواجهة فيالق العـدو؛ ومخلـص الكل إذ يتمثل بمهارة أولئك المذكورين هنا، يبين بكل وضوح لكل من يتبعونه طريق الشجاعة الروحية: إنه بالتقدم بقوة لا يحدها عائق إلى كل ما فيـه نـصرة التقـوى وبواسطة اجتهاد شديد لا يقاوم، يمكنهم بعدل أن يحصلوا على الحق في أن يكونـوا معه وأن يتبعوه.

إذن فهذا الدرس يعلمنا بوضوح أي نوع من الأشخاص يريدنا أن نكـون فـهـو يقول: ” إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا ” (لو 14: 26).

ربما يقول أحد: فماذا يا رب، هل أنت تحتقر العاطفة الطبيعية؟ هـل تأمرنـا أن نبغض بعضنا بعضا وأن نتجاهل الحب الذي يحق للآباء من أبنائهم، وللزوجات مـن أزواجهن وللإخوة من إخوتهم؟ هل سنجعل من هم أعضاء في نفس العائلة أعداء لنا، وللذين من واجبنا بالأولى أن نحبهم يلزمنا أن نعتبرهم كأعداء وذلك لكي نكون معك ولكي ما يمكننا أن نتبعك؟

ليس هذا هو ما يقصده المخلص، حاشا أن يكون له مثل هذا الفكر الباطـل، فـإن الذي يأمر بأن نحب حتى الأعداء وبأن نغفر لكل من يسيء إلينا إذ يقـول:”أحبـوا أعداءكم… وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم” (مت 44:5)، كيف يمكـن أن يريـدنا أن نبغض من هم مولودون من نفس الأسرة، وأن نغفل الإكرام الواجب بالوالدين، وأن نزدري بإخوتنا، بل نبغض أولادنا أيضا وكذلك أنفسنا؟ لأن الذي قد نطق بالدينونـة حتى على أولئك الذين يهملون قانون المحبة المتبادلة، لا يمكن أن يريـد أن يكـون لأحبائه ذهن متوحش أو فكر مقهور، لكن ما يريد أن يعلمه بهذه الوصايا هو واضح لأولئك الذين يمكنهم أن يفهموا ما قيل في موضع آخر عن نفس الموضـوع: “مـن أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت ۳۷:۱۰). إذا بإضافة عبارة ” أكثر مني ” يتضح أنه يسمح لنا أن نحسب لكـن الا نحبهم أكثر منه، لأنه يطلب لنفسه عاطفتنا الرئيسية. وذلك عادل جدا، لأن محبـة الله فيمن هم کاملون في الذهن، فيها شيء ما أعلى وأسمى من الإكرام الواجب للوالـدين وأسمى من العاطفة الطبيعية التي نشعر بها تجاه الأولاد.

لكن يلزمنا أن نوضح ما هي المناسبة التي جعلت الرب يوجه كلماته نحـو هـذا الموضوع. إن النص الذي قرأناه من الإنجيل في اجتماعنا السابق كان عن وصـف عشاء عظيم، دعي إليه كثيرون من قبل من صنع الوليمة، ولكن كان المدعوون غير مبالين بالدعوة، إذ ابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون. قال له واحد إنه اشترى حقـلاً وإنه مضطر أن يخرج وينظره، وقال آخر إنه اشترى خمسة أزواج بقر، وقال ثالث إنه تزوج بامرأة، وبواسطة هذه الأعذار الواهية أغاظوا من دعاهم. لذلك فقد أعطـي لنا أن نفهم بمنتهى الوضوح أنه عندما يدعونا الله إليه ليجعلنا شـركاء فـي جوده وإحسانه، فإنه يلزمنا أن نزدري بشهوات الجسد التي تخدم الجسد. وأن لا نعطي أي اعتبار لأمور هذا العالم بل يتحتم أن نبذل قصارى جهدنا للتقدم نحو تلك الأشياء التي لن نتخل عنها أبدا والتي تملأنا بكل غبطة، إذ أن الله يمنحنا عطاياه بيد سخية مثل من يرحب بنا في وليمة ثمينة ويعطينا الحق أن نبتهج مع باقي القديسين برجاء البركـات الآتية. لأن الأرضيات ليس لها سوى قيمة قليلة ولا تدوم إلا لبرهة قصيرة وهـي تختص بالجسد وحده، الذي هو فريسة للفساد، ولكن الأمور الإلهية والروحيـة هـي دائما وباستمرار تصاحب أولئك الذين حسبوا أهلاً لنوالها وتصل إلى دهور لا نهايـة لها. لذلك فأي قيمة يعلقها العاقلون على المزارع الأرضية أو على حب اللذة الجسدية، أو على الاحترام الواجب للأقرباء بالجسد، إن كان ينبغي أن تتـرك لأجـل محبـة المسيح، مزدرين بكل هذه الأشياء التي ذكرت؟ لأن هناك أمثلة كثيرة كانت لأنـاس راغبين في حياة بلا لوم، الذين حتى بعد أن لمسوا ـ إن جاز القول ـ تراب حلبـة المصارعة، واختبروا المصارعة فيها، وكادوا أن يصلوا إلى حق نوال إكليل الدعوة السماوية، نجدهم قد ارتدوا إلى الخلف إما لارتباطهم بالأقربـاء أو بـسبب كـونهم أضعف من أن يحتملوا معركة المثابرة، أو لكونهم تعرقلوا فـي فخـاخ الـشهوانية، وفضلوا بحماقة اللذة الحاضرة على البركات الموضوعة أمامهم بالرجاء. وأيضا فإن خوف الموت قد أرعب كثيرين، وحينما جاء وقت الاضطهادات ـ حتـى بواسـطة الامتحان ينالون إكليل عدم الفساد ـ نجدهم وقد أنكروا الإيمان وتحاشوا واجب التألم بصبر، وأظهروا أنفسهم ضعفاء وجبناء، فسقطوا من ثباتهم، لذلك فلكي يخلق الـرب فينا ذهنا لا يتزعزع، ويجعلنا غير مكترثين بكل الأمور العالمية، لأجل محبتنـا لـه فإنه يأمرنا أن نبغض حتى أقرباءنا حسب الجسد، بل ونبغض أنفسنا حـيـن يـدعونا الوقت لهذا كما سبق أن قلت حالاً. 

ثم يورد الرب بعد ذلك مثالين، ليشجع أحباءه ليبلغوا إلى ثبات لا يقهر، وليؤسس أولئك الذين يريدون أن يصلوا إلى الكرامات بالصبر والاحتمال، ويجعل فيهم غيرة لا تتزعزع، لأنه يقول: ” ومن منكم وهو يريد : أن يبني برجا، لا يجلس أولا ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتـدئ جميـع الناظرين يهزأون به ” (لو 28:14 و29). لأن الذين اختاروا أن يحيوا حياة مجيدة وبـلا لوم يجب أن يختزنوا مقدما في ذهنهم غيرة كافية لتحقيق ذلك، وأن يتـذكروا الـذي يقول: “يا ابني، إذا تقدمت لخدمة الرب أعدد نفسك للتجربة واجعل قلبـك مستقيما واحتمل” (يشوع بن سيراخ 1:2 و2). أما أولئك الذين ليست لهم مثل هذه الغيـرة فكيـف يمكنهم أن يصلوا إلى الهدف الموضوع أمامهم؟

يقول الرب: ” وأي ملك إذا ذهب إلى مقاتلة ملك آخر في حـرب، لا يجلـس أولا ويتشاور مع نفسه هل يستطيع بالعشرة آلاف التي له أن يتغلب على مـن هـو أقـوى منه؟”. ماذا يعني هذا الكلام؟ “إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤسـاء مـع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية فـي الـسموات ” (أف 6: 12). ونحن أيضا لنا أعداء كثيرون: الذهن الجسداني، الناموس الذي يحارب فـي أعضائنا، الأهواء متعددة الأنواع: شهوة اللذة، شهوة الجسد، شهوة الغنى، وغيرها مـن الشهوات، وينبغي أن نصارع مع هذه الشهوات، فهذه هي كتيبة أعدائنا المتوحشين. كيف إذن سننتصر؟ بإيماننا كما يقول الكتاب: إننا ” بالله سوف نصنع بباس وهو ســبيد أعداءنا” (مز 59: 12 س)، وبهذه الثقة يقول واحد من الأنبياء القديسين: ” هوذا السيد الرب يعينني، فمن هو الذي يجعلني أخزى” (إش 9:50 س). وداود الإلهي يرنم أيـضـا قـائلاً: ” الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب عاضد حياتي ممن أرتعب” (مـز 26: 8 س). لأنه هو قوتنا وبه سوف ننال النصرة، لأنه قد أعطانا أن ندوس على الحيات والعقارب وعلى كل قوة العدو. ولذلك يقول: “الملح جيد ولكن إذا فسد الملح فبماذا يصلح؟ ” ثـم يقول “إنه يطرح خارجا ” وقال أيضا: “ليكن لكم في أنفسكم ملـح” (مر 50:9). أي أن يكون لكم الكلام الإلهي الذي يجلب الخلاص، لكن لو ازدرينا بالكلام الإلهي فإننا سوف نصير بلا طعم وأغبياء. وعليمي الفائدة تماما. ومثل هذه الأشياء ينبغي لجماعة القديسين أن يطرحوها خارجا، بعطية الرحمة والمحبة التي لهم من المسيح مخلصنا كلنا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى