تفسير انجيل لوقا أصحاح 3 للقمص متى المسكين

ثالثاً: يوحنا المعمدان والمسيح (1:3 – 13:4)

الأصحاح الثالث :

( أ ) خدمة المعمدان (1:3-20)

1- بدء خدمة المعمدان (1:3-6)

(مر 2:1-4)

1:3 «وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر، إذ كان بيلاطس البنطي والياً على اليهودية، وهيرودس رئيس ربع على الجليل، وفيلبس أخوة رئيس ربع على إيطورية وكورة تراخونيتس، وليسانيوس رئيس ربع على الأبلية».

واضح أن القديس لوقا يلتزم هنا بتقليد الكنيسة الأولى: أن الإنجيل باعتباره خدمة الرب وأعماله إنما يبتدئ بخدمة المعمدان، كما جاء واضحاً في أعمال الرسل:

«أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا: يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه.» (10: 37و38)

ومن الأمور الملفتة للنظر جداً أنه في افتتاح الإنجيل نجد أن القديس لوقا يربط ميلاد المعمدان بكل الحوادث الكبرى التي كانت جارية وقتها، وخاصة أسماء الملوك والولاة، التي إذا جمعتها معاً تعطيك تاريخ ميلاد المسيح وبالتالي خدمته لأقرب سنة، هذا بالنسبة لزمن ميلاده. ثم يعود ق. لوقا وبنفس الدقة والفحص التاريخي ليعطي أسماء الملوك والولاة أيضاً، خاصة الذين كانوا معاصرين لبدء خدمة المعمدان. ولم يحاول هذه المحاولة في بدء خدمة المسيح، لأنه كان يعلم أن قصة خلاص العالم وظهـور المسيح تبدأ من المعمدان. هذه اللفتة التاريخية الهامة جداً نضعها أمام القارئ ليستوعب أعماقها على مستوى الإنجيل والروح. وعلى سبيل المثال نقول: إن الإيمان المسيحي لم يأت من فراغ إنما هو تسليم الأنبياء، وانحدار مسلسل مرصود لإعلانات الله على نفس مستوى التأريخ الذي انشغل به هو القديس لوقا. لذلك نجد أنه بمجرد أن أكمل المعمدان الرسالة على الأردن وسلّم المسيح الروح النبوية، استدعي في الحال للارتحال إلى فوق لأنه لم يبق له عمل على الأرض. وحينما ارتبك المعمدان لميا شعر بالمؤامرة ضده، والموت ابتدأ يبرز له أنيابه، استصرخ المسيح وأرسل له من يسأله هل أنت الآتي أم ننتظر آخر، لأنه اعتقد أنه يُسند بالمسيا. فكان رد المسيح إن رسالتي قد بدأت حتى يفهم المعمدان أن رسالته  قد انتهت .

وشخصية المعمدان عجيبة لأنه محسوب أنه ختام الأنبياء؛ بل ومحسوب أيضاً أنه أول صارخ بالعهد الجديد، فهو يقف في مركز التسليم والتسلّم، يمسك ملاخي بيده ويسلم المسيح رسالة ملاخي بحروفها ونقطها.

 كان قصد ق. لوقا من إبراز هذه الوقائع التاريخية المدنية الثابتة، وأهمها المعلومة الأولى وهي في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر ـ أما باقي التحديدات التاريخية فهي للكشف عن حالة البلاد السياسية في تلك الأيام ـ كان قصده أن يأخذ الإنجيل موقفه التاريخي في تاريخ الامبراطورية الرومانية وتواريخ القادة المحليين. فهنا بدأ تاريخ الخلاص يشق طريقه وسط العالم.

ويرى المؤرخون والباحثون في أصول الكلمات والصيغ أن ق. لوقا استمد أصـل مادته التاريخية الروحية من ق. مرقس الرسول، ولكنه أضاف إليها معلومات أخرى أخذها عن وثيقة أخرى كانت غائبة نوعاً ما عن ق. مرقس (Q)، لذلك اختفت معالم الاستعارات من ق. مرقس تحت ظل المصادر الجانبية الأخرى. ولم يبق على القديس لوقا بعد تجميع هذه المصادر إلا تحديد التواريخ. والقارئ المحب للتقليد الإنجيلي القديم (التوراة) لا يصعب عليه أن يلتقط الطريقة التي بدأ بما ق. لوقا افتتاح صُلب إنجيله في هذه الآية، فهو طبق الأصل من إشعياء الذي افتتح كتاب نبواته هكذا :

+ «رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا: اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلّم …» (إش 1:1و2) 

ونفس الأسلوب التاريخي والتدقيق بجده عند إرميا النبي هكذا:

+ «كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين، الذي كانت كلمة الرب إليه في أيام يوشيا بن آمون ملك يهوذا في السنة الثالثة عشرة من ملكه، وكانت في أيام يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا إلى تمام السنة الحادية عشرة لصدقيا بن يوشيا ملك يهوذا إلى سبي أُورشليم في الشهر الخامس. فكانت كلمة الرب إلي قائلاً: قبلمـا صـورتك في البطن عرفتك …« (إر 1: 1-4)

وهكذا، فالذي يلتفت إلى أسلوب ق. لوقا وتسجيلاته يتعجب لأنه يؤرخ بأسلوب نبي.

فإذا سار العلماء وراء توقيعات ق. لوقا ينتهـون تقريباً إلى أن هذا التاريخ كان في سنة (25-26م) أو (26-27م). وقد حسبها العالم جودت وراجعها العالم الألماني زاهن والعالم رامزي الذي ألف كتاباً خاصاً يؤكد فيه ميلاد المسيح في بيت لحم. كل هؤلاء اتفقت كلمتهم على أن هذا التاريخ : خدمة المسيح العلنية وهو ابن 30 سنة على أساس ميلاده سنة 4 ق.م. وغيرهم حسبوها وقالوا لا بل سنة (28-29م)، أي أن تحديد ق. لوقا استطاع بواسطته العلماء أن يحددوا تاريخ بدء خدمة المسيح بسنة (26-27م)، وأن يحددوا عمره بثلاثين سنة إلى أقرب سنة بالزيادة أو النقص، وهذا مدهش يحدد بدء حقاً.

على أن هيرودس هنا هو هيرودس أنتيباس بن هيرودس الكبير من زوجته مالثاس Malthace وهو حاكم الجليل ومنطقة بيرية من 4 ق.م حتى 4 ق.م حتى أسقطه كاليجولا سنة 39م.

وفيلبس هنـا هـو أخـو هيرودس أنتيباس وابن هيرودس الكبير من كليوبترا، كان رئيس ربع على إيطورية وتراخونيتس من 4 ق.م حتى موته سنة 33-34م. وكانت ولاية مملكته هذه تقع في الشمال الشرقي من الجليل وعاصمتها كانت قيصرية فيلبس. ولو أن ما وصلنا في العهد الجديد شحيح . للغاية فيلبس هذا، إلا أنه كان معروفاً أنه أفضل الهيرودسيين جميعاً، وولايته هذه كانت متاخمة لأراضي لبنان.

أما ليسانيوس الذي كان رئيس ربع على الأبلية، فهو من عائلة ليسانيوس الذي كان ابنـاً لبطليموس الذي قتـل بيـد مـارك أنطوني بتحريض كليوبترا، والأصح أن يكون والياً على خلكيس (بحسب ماير) على حدود لبنان.

2:3 «في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية».

كان اليهود يعطون رئيس الكهنة إذا تعين حق الوجود حتى موته رئيساً للكهنة، تماماً كما تعطي الكنيسة القبطية هذا الحق، إلا في حالات المرض والضعف حيث ينتخب آخر. فهذا تقليد مستمد من العهد القديم. ولكن الحكومة الرومانية كانت تغيّر هذا التدبير كيفما تشاء.

وحنان المذكور في (يو 13:18؛ أع 6:4) انتخب منذ سنة 6 ق.م حتى إلى أيام إقصائه بأمر الدولة في أيام جراتس سنة 15م(3) وخلفه ابنه أليعازر من سنة 16-17م. وبعد ذلك قيافا نسيبه من سنة 18ـ37م(4) وأعقب هذا أيضاً أربعة أولاد له(5). والحقيقة أن حنان ظل يحتفظ بقوة شخصيته في إدارة رئاسة الكهنوت من وراء الأحداث كما ظهر في إنجيل ق. يوحنا (18: 13-37)، وهذا هو السبب الذي حدا بالقديس لوقا أن يدعوه هنا رئيس كهنة وهو لم يكن رسمياً، كذلك في (أع 6:4)، لأن رئيس الكهنة المعزول يظل محتفظاً بلقبه.

والقديس لوقا يذكر رئيس كهنة واحداً وهما في الواقع اثنان: «رئيس الكهنة حنان وقيافا» ولكن في هذا تلميح إلى أن رئيس الكهنة المتقاعد أو المعزول هو صاحب السلطة (أع 6:4).

وعلى هذا الحال بدأت كلمة الله على يوحنا. أما وصفه أنه ابن زكريا، فلكي يعطيه سياق الرواية التي بدأت من زكريا أبيه. أما قوله «في البرية» فهو ليعطيه شخصيته النبوية المنحدرة من إيليا وإشعياء (3:40)، وهي وإن كانت رمزية إلا أنها محسوبة أيضاً أنها صحيحة جغرافياً؛ بمعنى أنه لم تأته كلمة الله وهو مع أسرته وبين أ أهله، ولكن في مكان إقامته التي هيأها لنفسه (80:1)، أما تحديد مكانه في هذه البرية فلم يُعرف.

وعلى كل حال، فبهذه الافتتاحية الفرحة وبقوله: «كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا» يكون قد انفتح إنجيل العهد الجديد رسمياً، لأن الإنجيل في كليته وكيانه هو كلمة الله”، وذلك بعد أن حدد ق . لوقا بأكثر دقة زمان البدء في امبراطورية الرومان وفي تشكيلة رؤساء الأقاليم في فلسطين، كما حدد أسماء رؤساء الكهنة المتولى والمتقاعد.

وكـأن القديس لوقا لمـا قـرأ إنجيل ق. مرقس أراد أن يضع بداية تاريخية موقعة على الأحـداث الجارية قبل أن يلتقط منه «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (مر 1:1). لأن هذه الأحداث الجاريةكانت هي هي الحادثة عند بدء خدمة المسيح لا فرق. وبهذا يكون ق. لوقا قد دخل بهذه المقدمة عتبة إنجيل ق. مرقس، لأن الواقع المقروء في إنجيل ق. لوقا أنه بمجرد أن اعتمد يسوع من يوحنا المعمدان توقف ق. لوقا عن الحديث عن المعمدان والتفت إلى سجلات الأنساب ليحدد انحدار المسيح من يوسف إلى آدم إلى ابن الله، ليبدأ رسمياً خدمة المسيح لإنجيله.

3:3 «فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا».

واضح هنا أن المعمدان التزم في البداية بالأراضي الواقعة على ضفتي الأردن من شرق ومن غرب .

«یکرز»: κηρύσσων 

وهي المناداة بالصوت العالي للإعلان والبشارة. وهي نفس الكلمة التي قيلت عن المسيح. ولكن لم يركز قي. لوقا على المعمودية ذاتها، بل ركز كلامه على الوعظ باعتباره أن يوحنا نبي يعلن عما خفي عن الشعب من مصيره القادم فيما يخص علاقته بالله. وكان وعظه يدور أساساً قيمة المعمودية كعملية توبة أو عودة إلى الله والكف عن أخطاء وخطايا الحياة الماضية، وهي عبادة الأوثان التي كانت تحسب زنا. مؤكداً على ضرورة الخضوع وقبول التعليم، ثم يتم غسيل الجسم كله كناية عن غسيل الخطايا، كما فهمها حنانيا القديس في دعوته لبولس الرسول: «والآن لماذا تتـواني قُم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 16:22). ولكنها لم تكن مجرد أعمال ظاهرية عابرة، ولكن ككل طقوس العهد القديم، وكل طقوس العهد الجديد، سواء بسواء، فهي تُعرف كعمل يرمز إلى فعل داخلي له أثر، ويستحيل أن يكون له أثر دون أن يكون هناك موقف داخلي في صميم الاعتقاد. فمعمودية يوحنا إن صدقها من اعتمد تهيأ بالحق لمعمودية الروح القدس ونال فعله الداخلي المطهر بالروح: «أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (لو 16:3). وبهذا تكون معمودية يوحنا كمدخل رسمي من السماء لدخول المعتمد في شركة التطهير الآتي بالروح القدس لمغفرة الخطايا.

وكان يوحنا يشترط للغسل بيده، أي العماد، أن يعترف المعتمد ويقر بخطاياه كلها علناً، وعند ق. لوقا تعتبر المعمودية هبة من الله ممنوحة للإنسان كفرصة سماوية ختمها المسيح بدمه:

+ «هذا رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة (إلى الله) وغفران الخطايا.» (أع 31:5)

+ «فلما سمعوا ذلـك سكتوا وكانوا يمجدون الله قائلين إذا أعطى الله الأمـم أيضاً التوبة للحياة.» (أع 18:11)

كذلك فالتوبة حتى على يد يوحنا المعمدان لها شرط الاعتماد الذي يعادل قداستها كعمل ا الله من السماء: «فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة …» (لو 8:3)، «لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.» (لو32:5)

أما علاقة التائب بالله فهي العودة إليه كالابن الضال فتكون على مستوى فرح الآب وتهليل ملائكته بابنه العائد بعد ضلال:

+ «هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب.» (لو 10:15)

وهكذا صارت التوبة عمل الكارزين على وجه الأرض وغاية ما يسعى إليه كل خادم إنجيل باسم الله :

+ «كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم.» (لو 24: 46و47) 

يلاحظ هنا أن التوبة إلى الله تؤدي إلى مغفرة الخطايا.

ومعروف علناً وسرا أن المعمودية كدعوة إلى الرجوع إلى الله، تعطي مغفرة الخطايا، وهذا أساس مجيء يوحنا لتنفيذ هذا الوعد الإلهي والنبوي: «وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم» (لو 76:1و77). ولو أن هذا هو كارت الدخول إلى عهد النعمة حيث يمنح مستقبلاً هذا الغفران والخلاص، لأن معمودية يوحنا وحدها لا تعمل شيئاً إذ لابد من الإيمان بالمسيح: «فقال لهم: بماذا اعتمدتم؟ فقالوا: بمعمودية يوحنا، فقال بولس: إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع.» (أع 19: 3و4)

أما في الكنيسة فمعمودية الماء ومعمودية الروح القدس اتحدا معاً في طقس واحد حتى صارت هبة مغفرة الخطايا وهبة الروح القدس متحدة في العماد والإيمان معاً: «فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس» (أع 38:2). ولكن وضعت الكنيسة العماد بالماء باسم الآب والابن والروح القدس معاً بالتغطيس ثلاث مرات على الاسم المبارك، ثم كان الأسقف في البداية يضع يده على رأس المعمد ويصلي فيحل الروح القدس. وبعدها وضعت الكنيسة سر مسحة الميرون المقدس الذي قد يتممه الكاهن ويسمى مسحة الروح القدس فيحل على المعمد.

أما في تاريخ الكنيسة المبكر جداً فلم يكن هناك ما يفرق العماد عن حلول الـروح القدس، بل وحدث في أمر كرنيليوس قائد المائة التقي هو وعائلته أنه قبل أن يعمده ق. بطرس حل الروح القدس تماماً على مستوى ما حدث في يوم الخمسين، إذ حل الروح القدس على التلاميذ والمجتمعين وبعد ذلك تم عماد المؤمنين الجدد.

نفهم من هذا أنها عطية سماوية يصعب تحديد بنودها ومفاعيلها إنما تقوم أساساً على العودة إلى الله من كل القلب . 

وهذا ما يحير العلماء، لأن ق. يوحنا في إنجيله امتنع من أن يسجل مغفرة الخطايا لمعمودية يوحنا، لذلك انتبهت الكنيسة وحددت أن مغفرة الخطايا إنما هي لمعمودية المسيح بالروح القدس

4:3 «كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعياء النّبي القائل: صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة».

بمعنى أن يوحنا المعمدان إنما جاء ليتمم نبؤة قيلت من سبعمائة سنة بظروفها وحروفها، لأن الآية تبدأ بكلمة «كما ول» وهي تفيد التطبيق الحرفي. وقد التزم الإنجيليون الأربعة بهذه الآية من إشعياء، إلا أن ق . لوقا أضاف إلى هذه الآية ما جاء بعدها، أي نقل قول إشعياء (3:40-5) كله، في حين أن إنجيلي ق . متى وق. مرقس اكتفيا بالآية الأولى فقط (3:40). وهذه تعني أنه يتحتم العودة إلى الله من كل القلب قبل مجيء المسيح ليعمل عمله، وبقية الآيات وهي على مستوى شعري إنما تعني أنه يلزم أن المسيح يعلن خلاصه لقلوب مستعدة، كما أكد هذا ملاخي: «لثلاً آتي وأضرب الأرض بلعن.» (مل 6:4)

لذلك كان المعمدان عزيزاً جداً عند المسيح، أحبه وكرمه وأشاد باسمه وذكره، وأسماه المصباح المنير !!

5:3 «كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجات مستقيمة، والشعاب طرقاً سهلة».

«واد»: 

 التشبيه هنا يشير إلى تضاريس الأرض للمرتحل على الطريق غير المعبد. وهنا التعبير عميق وشعري، فالرب لا يريد أن يتعامل مع شعب انحطت نفسه وانبطحت روحه دون المستوى، وحقا جاء المعمدان وصرح في المنبطحين على بطونهم أرضاً ليقوموا ويستقيموا ويرفعوا الرؤوس، فنجاتهم قد قربت والفـادي أشرقت أنوار أمجاده:

+ «انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه…» (إش 17:51)

+ «لذلك اسمعي أيتها البائسة والسكرى وليس بالخمر، هكذا قال سيدك  … ها أنذا أخذت من يدك كأس الترنح ثفل كأس غضبي لا تعودين تشربينها بعد!!» (إش 51: 21و22)
+ «قالت صهيون قد تركني الرب وسيدي نسيني: هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها. حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك.» (إش 14:49)
+ «استيقظي استيقظي البسي عزك يا صهيون البسي ثياب جمالك يا أُورشليم … انتفضي من التراب قومي اجلسي يا أورشليم انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون.» (إش 52: 1و2)
+ «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يرى، فتسير الأمم في نورك والملوك
في ضياء إشراقك.» (إش 60: 1-3)

«وكل أكمة تنخفض»: 

إسرائيل لا يوجد فيها جبال عالية إلا في الأطراف، أما أرضها فيعلوها تلال وآكام فقط.

«تنخفض»: 

 يقصد بها تواضع النفوس العالية والمتعظمة بنفسها حتى تتقبل روح وداعة المسيح وتواضع نفسه المنسحقة ليحل الروح القدس بلا مانع. وهذا مطلع نشيد التعظمة للعذراء القديسة: «أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين »(لو 52:1). هذا كان موضوع احتداد المعمدان وصرخاته النارية في وجـوه المتكبرين ببرهم وعلمهم ومعرفتهم: «يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي … والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار» (لو 3: 7و9)، « لا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم» (لو 8:3)، «اصنعوا أثماراً (= أعمالاً) تليق بالتوبة.» (لو 8:3)

«المعوجات»: 

وهي النفوس الملتوية، تتكلم بلسانين وتسلك بوجهين وتلعب على الصفين وتدلي برأيين، تمسك بالرأس والذيل معاً، وتطمح بأن تكسب الدنيا والآخرة معاً، وترضي الله والشيطان، تزني وتقف في الهيكل تصلي، تأكل بيوت الفقراء والأرامل وترفع يديها تصلي وتزيد الصلاة لتأخذ المزيد. تضحك في الوجه والخنجر معد باليد، تسرق كل ما يقع في الصندوق وتدافع عن الأمانة والشرف والحق. ومن أجل الفضة تخون الشرف والإيمان وحق المسيح: «أيها الحيات أولاد الأفاعي…»

«والشعاب طرقاً سهلة»:  (تراخونيتس أي الأراضي الوعرة)

الكلمة اليونانية لا تفيد الشعاب بل الأرض الخشنة الصخرية التي تحتاج إلى تسوية لتكون سهلة . والنفوس الخشنة معروفة مثل العسكر الذين جاءوا ليعتمدوا من المعمدان. آه! كم من نفوس خشنة جـداً وقعت تحت صوت النعمة واعتمدت وصارت أدوات مسح لكـل نفـوس المؤمنين. عجيب هو اختيار الله لمثل هذه النفوس التي يظهر فيها قوته وقدرتها لتصير من شراسة النمر إلى وداعة الحمل. والذي يطلب المثل يسأل بولس.

6:3 «ويبصر كل بشر خلاص الله».

هذا نص نهاية آية إشعياء: «صوت صارخ في البرية فيعلن مجد الرب فيراه كل بشر معاً لأن فم الرب تكلم» (إش 5:40). هنا استبدل ق. لوقا مجد الرب بخلاص الله، وهذان الاثنان استعلنا معاً عند ميلاد المسيح: «المجد الله في الأعالي، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»

هي استحالة أن نرى محد الله الحقيقي في الخليقة، فالخليقة للأسف تتغير ومجد الله لا يتغيّر، الخليقة تنتن وتموت والله لا يموت، أجمل ما في الخليقة يذوي ويتحول إلى قبح، وجمال الله من جمال إلى جمال يبقى ويدوم . إذن، فكيف يرى الإنسان وهو خليقة ترابية مجد الله إلا إذا عبر من حياة التراب إلى حياة المجد!!! وهذا هو الخلاص. أما كيف يراه “كل بشر” فكل بشر تعني البشرية في ملئها وكمالها، والبشرية أخذت هذا الاندفاع الفائق من المحدود إلى اللامحدود، من الجزء المنسحق إلى الكل الممتلئ في المسيح الكل في الكل. بمعنى أن البشرية المفدية أو المخلصة بحد ذاتها كل البشرية، فالذي لم يتحول من مستوى التراب إلى مستوى الكل في المسيح لن يكون إلا صفراً بحساب الكل. والصفر لا يزيد الكل إلا صفراً. 

 إذن، فقول ق. بولس، ويؤيده قول النبؤة من يد إشعياء، هو حق. فالبشرية صارت في المسيح هي الكنيسة جسده المحبوب والمكرم، وقد صب فيه المسيح كل ما له حتى الملء: «وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة ـ التي هي جسده ـ ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 22و 23). حينما ترف الكنيسة للمسيح تستعلن حقيقة هذه الآية التي تحسب قمة الرؤيا ونهاية المحد! متى يحين وقت الزفاف؟ لأسمع صوت الهتاف وأرى محد الحمل؟؟ هذه أمنيتي أيها القارئ بل هي أمنية المسيح لنا: + «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو 24:17)

2 – المعمدان يعظ (9-7:3)

(مت 3: 7-10)

 حينما بدأ المعمدان يعظ هب الشعب يتلاحقون للعماد، مدركين مـن وعظه وتحذيراته النبوية أن الدينونة حتمية، وأدركوا من يوحنا أن المعمودية هي الطريق الوحيد أمامهم للانعتاق الدينونة وغضب الله العتيد، ولكن هذا صار في عجلة وعدم فهم وكأنها عملية إنقاذ من غرق. فجاءوا وتزاحموا دون أن يكون لديهم الوعي بضرورة التغيير وحتمية الإقلاع عن حياة الخطية التي تفشت بينهم بكل أنواعها دون خوف أو حياء أو هيبـة مـن معلم أو مرشد! لذلك بادرهم المعمدان بقوله بضرورة التوبة. لأن امتيازهم كجنس اليهود ونسبتهم لإبراهيم كأولاد لن تعفيهم من محنة الدينونة دون أن تتغير حياتهم وتصير كحياة إبراهيم. فالتوبة إذن، هي محور كرازة المعمدان التي انصب فيها كل تعليمه، لأن قوله إن الفأس (البلطة) قد وضعت على أصل الشجر يعني أن زمن الدينونة قد صار، والقطع من سفر الحياة قد ابتدأ. والطامة الكبرى أن بعضهم جاء يستفسر وكأنه ممكن أن يعبر المحنة القادمة دون توبة ودون معمودية، أليسوا هم أولاد إبراهيم وبني الموعد؟ هؤلاء وجه إليهم قوله: يا أولاد الأفاعي الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم.

7:3 «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟»

القديس لوقا هنا يعمم هذا الهجوم قبل أن يخصص قوله للمجموعات الآتية كل بنوعيتها، والذي جاء في الآيات (10-14). أما ق. متى فيقول هذا التوجيه العنيف للصدوقيين والفريسيين بنـوع خصوصي. ويظهر أن ق. لوقا اعتبر أن يوحنا قصد بهذا الهجوم كل الذين يأتون بدون نية التوبة سواء من جماعة الشعب أو الفريسيين والصدوقيين.

وإن كانت مواجهـة المعمدان خشنة فهو يقصدها لإيقاظ النائمين من الشعب واللاهـين عـن خلاصهم، حيث أن سلوكهم هذا يتنافى نهائياً مع ادعائهم أنهم أولاد إبراهيم، وهذا يشبه قول المسيح لهم إن أولاد إبراهيم ينبغي أن يعملوا أعمال إبراهيم. وملاقاتهم بهذه الشدة تقطع عنهم أعذارهم الواهية.

«الأفاعي»: 

في الأوضاع الطبيعية ليست الأفعى بنت الحية، ولكن لعنة الأولى من لعنة الثانية، والأولى خبيثة ومؤذية والثانية حكيمة ومجنونة بآن. والقصد من القول إن الشرور تتوارث لأنها لعنات واللعنات أصلها واحد والحية نالت النصيب الأول، ودائماً أبدأ تكون صفات الآباء مورثة للأبناء، فهو هنا يذكر شرور آبائهم. ولكن أشد صفة للسمية هي في الأفعى فهي شريرة ومخربة. ومعروف في نبوات إشعياء أن المؤمن في عهد الخلاص لا يضره الثعبان ولا تؤذيه الأفعى كناية عن انكسار شـر أولاد الشيطان: «يلعب الرضيع على شرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي.» ( .» (إش 11: 8و9)

أما المثل فهو تشبيه للحيات والأفاعي التي إذا أحست بالنار تلتهم الشجرة خرجت من جحورها وهربت ، هكذا بدا ليوحنا هروب العصاة من الشعب والصدوقيين والفريسيين من نار جهنم. وهو استنكار الالتجاء إلى أعمال المعمودية وما يماثلها للهرب من جهنم دون توبة وندم وانسحاق .

8:3 «فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم».

يوحنا المعمدان يعطي هنا الطريق الصحيح الذي جاء يعده للآتي بعده لنوال الخلاص والتخلص من عقوبة الدينونة. حقا إن الثمار هي التي تحدد أبناء الله المتغربين: «من ثمارهم تعرفونهم »(مت 16:7). أما الثمرة العظمى وتكاد تكون الوحيدة التي تؤدى إلى الخلاص والخروج من عقوبة الدينونة فهي التوبة التي جاء يوحنا ينادي بها: «من ثم أيها الملك أغريباس لم أكن معانـداً للرؤيا السماوية. بل أخبرت أولاً الذين في دمشق وفي أورشليم حتى جميع كورة اليهودية، ثم الأمم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله عاملين أعمالاً تليق بالتوبة.» (أع 26: 19و20)

ويعود المعمدان يلح على التوبة بصورة شديدة للغاية، فيعطي التصور أن الدينونة بدأت لا محالة والفأس وضعت على أصل الشجرة. وهنا الكلام خطير للغاية، فالدينونة ستبدأ من رؤساء الشعب، الشجرة التي زرعها الله ورعاها واعتنى بها ونقلها من مصر. لأن أول ما قطع قطع الهيكل وقطعت خدماته وذبائحه وصلواته. فالمسئولية تقع على الشعب وتبدأ من الرئاسة، حيث لن تقبل شفاعة إبراهيم أو أي بشر: «لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع» (1تي 2: 5و6)، إذ لن يشفع في أي إنسان إلا الدم الذي شفك على الصليب: «واشتريتنا الله بدمك» (رؤ 9:5) 

«من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم»:

المعنى يضرب في الأعماق، ويضعها إشعياء بالكناية الشديدة الوضوح والتطبيق هكذا: «اسمعوا لي أيها التابعون البر الطالبون الرب (أقول لكم): انظروا إلى الصخر الذي منه قطعتم وإلى نقرة الحب التي منها خفرتم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم وإلى سارة التي ولدتكم …» (إش 51: 1و2). فهذا هو تصوير قول المعمدان بالنبوة، فلم يكن إبراهيم وسارة في لغة اختيار الله وإقامته للشعب إلأ كمن يقطع من صخرة ويحفر في نقرة، بمعنى أنه مما لا يرجى منه أقمت رجاء ومن الحطيط أنشأت أولاداً. والعجيب أن الرب يستخدم نفس هذا المثل العجيب والعميق في قدرة الله مرة أخرى مع بطرس الرسول: «أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي» (مت 19:16)، بمعنى إقامة الكنيسة على الإيمان الصحيح. فصخرة العهد القديم كان إبراهيم وصخرة الجديد الكنيسة، من الأولى قطع بنو إسرائيل، ومن الثانية هي ولد الله بنون .

ويقول علماء اللغة الأرامية إن هناك توافقاً شديداً بين الصخرة والأبناء هكذا: فالحجارة تسمى بالأرامية أبنايا abnayyA والأبناء يسمون benayyA. لذلك تبدو الآيات المحبوبة والمختارة للقديس بولس مضيئة: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 20:2)، وبالنهاية نصير «هيكلاً مقدساً في الرب» (أف 21:2). وبناء الحجر كبناء البشر كل منهما يحتاج إلى معلم: الأول للبناء الصامت والثاني للبناء المتكلم الساكن فيه روح الله.

9:3 «والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار».

المعمدان متعجل من أمره: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 30:3)، فهو يرى الأيام مقصرة والدينونة كالملكوت على الأبواب. فإما ثمر أو قطع وإلقاء في النار.

«الفأس على أصل الشجر»:

«الفأس»: ἀξίνη

وهي البلطة، كناية عن حكم الدينونة القاطع. وهنا تلميح ليد الله الممدودة بالضرب، والتشبيه لا يزال نبوياً شديد الوضوح:

+ «فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور (الفرن) وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي، قال رب الجنود، فلا يبقي لهم أصلاً ولا فرعاً.» (مل 1:4)

3 – التعليم الأخلاقي للمعمدان (10:3-14)

كانت تعاليم المعمدان بصفة عامة نابعة من هاتف التوبة التي أعطي سلطان النداء بها من ا الله رأساً. لم يتبع خطاً يهودياً ولا مسيحياً في اتجاهه المنهجي، ولكن مناداته بالتوبة مع سلطان التوبيخ والإنذار أثارت مكامن المشاعر في قلوب الذين أعطوه آذانهم، فبدأت الأسئلة الملحية: ماذا نعمل، وما هي مطالب الله لكي لا يأتي علينا الغضب المعلن؟ فجاءت ردود المعمدان وفق أصناف الجماعات التي جاءت تطلب الخلاص.

وللأسف يدعي معظم العلماء أن هذه التعاليم التي أعطاها المعمدان هـي مـن عنـديات ق. لوقا، كونها لا تتبع خطأ يهودياً يتناسب مع معرفة وثقافة المعمدان. ولكن من الواضح أن المعمدان يختط فكراً نبوياً لا يعتمد أبداً على موحيات فكرية معاصرة لزمانه، لأنه إنما جاء من الله ليفتتح عهداً جديداً من التوعية لردع القلوب الغليظة وإيقاظ النفوس الهالكة في خطاياها، فجاء أسلوبه ثورياً بمعنى الكلمة. فهو النبي الثائر بالدرجة الأولى، فكيف يخضع العلماء مثل هذا الأسلوب لمناهج فكرية مدروسة، إنها محنة غياب الوعي اللاهوتي عند العلماء النقاد. فالمعمدان الذي وقف أمام أعتى ملك مستهتر يقول له لا يحل لك، هل يمكن إخضاع أسلوبه لمنهج مدروس؟

ولكن لو تمعنَّا صيغ المعمدان التي نادى بها وعلم بما نجدها أقرب ما يمكن لتكون العتبة التي أشرفت على مدخل تعاليم المسيح. فيوحنا ضخم الخطايا وأرعب بها قلوب المستهترين، وقد استلم المسيح هذه القلوب ليشفي جراحها، يوحنا عرى قروح ونتن خزي إسرائيل، والمسيح ضمد وشفى. 

10:3 «وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟»

واضـح مـن السـؤال أن هناك رغبة ملكية جاءت رداً على إنذارات مخيفة للذين غرقوا في خطاياهم وجاءوا يطلبون الخلاص، أو يرغبون رغبة ملكية في معرفة ما هي إرادة الله من جهة ما حياتهم. وهذا وذاك يعطي انطباعاً أن هناك وعياً جديداً بدأ يتكون عن ما هي طبيعة التوبة ومستلزماتها .

11:3 «فأجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا».

واضح أن جماعة السائلين هنا هم من طبقة فقيرة، أغناهم يملك ثوبين، وطعامه بالكاد يكفي فقيراً آخر يشاركه فقره. ويلاحظ أن كلمة ثوب هي ما يستر اللحم تحت الملابس الخارجية. والذي يملك ثوبين هو بالكاد يكفي حاله، فهنا النداء دعوة للشركة في الفقر تلمح من بعيد على محبة العطاء للفقير أو على الوجه الصحيح “للأفقر”. هنا الإرهاصة الأولى لروح المسيحية. وكذلك في أمر الطعام، فرغيف المحبة يشبع جائعين ويفيض: «وبركة الرب هي تغني ولا يزيد معها تعباً» (أم 22:10). لذلك قلنا إننا في المعمدان نقف على عتبة الإنجيل. هي خطوة خطاها المعمدان باستحياء نحو رؤية حياة الشركة والأغابي في المسيحية مع : تخلص تدريجي من أحكام الناموس الملزمة. وفي النهاية تفـوح مـن تعـاليم المعمدان أول رائحة المحبة التي ستجرف البشرية في تيار البذل المهيب لتتوافق مع «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد …» (يو 16:3) 

هكذا عجن هذا النبي الماهر روح التوبة بملح المحبة ليخرج أول كعكة مسيحية ذات طعم لذيذ يمكن أن تقدم قرباناً مقبولاً الله عوض القرابين الخالية من كل ملح.

12:3 «وجاء عشارون أيضاً ليعتمدوا فقالوا له: يا معلم، ماذا تفعل؟».

كانت طبقة العشارين في حقيقتها طبقة من الفلاحين تعمل كموظفين تحت رؤساء رسميين لجباة الضرائب الذين يورّدون مباشرة لمكاتب الدولة. وكانت هذه الطبقة الفلاحية لها حدودها الضيقة في جمع ما يشبه العوايد المفروضة على الممتلكات الصغيرة أو المقتنيات المحدودة. وكانت هذه الطبقة مكروهة للغاية ومزدرى بما في أعين إخوتهم من الشعب كونهم يعملون لحساب المستعمر، ولكن بالأكثر جداً باعتبارهم يشتغلون بالعملة الرومانية النجسة في نظر اليهود. لذلك اعتبروا أنهم نجسون دائماً، كما نعتبر نحن الآن الأموال “القذرة” التي تجمع بالحرام. لذلك اعتبرت هذه الطبقة بالجملة أنها متغربة عن الله أو حتى في عداء عند الأتقياء من اليهود. وهذا ما يشير دهشتنا جداً حينما نعرف أن هذه الطبقة بالذات كانت الطبقة المحبوبة والمعززة عند المسيح!! وهذا الفارق الهائل في المضمون الأخلاقي يعطينا معنى بديعاً كيف بدأ المعمدان ثورة الانقلاب الأخلاقي المنقطعة النظير، إذ قبلهم ورحب بهم وبدأ يشذب من أخلاقهم إعداداً لدخولهم قلب المسيح.

ويلاحظ القارئ كيف بدأوا خطواتهم الأولى باستحياء شديد نحو فجر عهد التوبة والعودة إلى أمانة الله حينما خاطبوا المعمدان: يا معلم (رابي)، التي لا يقولها إلا تلميذ يريد أن يتبع!!

13:3 «فقال لهم: لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم».

هنا يضع المعمدان أول خطوط معنى العدل القائم على الرحمة والذي ينبع أصلاً من  المحبة. هنا ضفر المعمدان خيطاً ملوناً من الأخلاق فخرجت خامته شديدة المتانة شديدة الإبداع، وبهذا النسيج البهيج فهمت العدالة في المسيحية على مستوى الدولة، ولكن على مستوى الفردية المسيحية مالت كفة العدالة نحو محاباة الفقير والمحتاج، فأصبح العدل عند الإنسان المسيحي قد يقنعه بإعطاء ما عنده على نمط عدالة المسيح الذي افتقر وهو غني ليغني المغدم، لأن في هذا ترتاح المحبة. ولكننا في دائرة المعمدان لا نلمح إلأ حدود العدالة في أضيق محيط لها.

14:3 «وسأله جنديون أيضاً قائلين: وماذا نفعل نحن؟، فقال لهم: لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائفكم».

الجنديون هنا هم جنود قوة هيرودس أنتيباس الخاصة المعسكرون في بيريا. وربما يكونون من المنوط بهم مساعدة العشارين في جباية الضرائب. والإجابة على سؤالهم تنم في الحال عن القبائح التي يمارسونها في تأدية مهامهم، من ظلم ووشاية، التي تؤدي حتماً إلى الإساءة للشعب والتنكيل بالضعفاء، حيث الخروج الفاضح عن الآداب والأخلاق اليهودية.

هنا المعمدان واجههم بعيوب أدائهم لمهنتهم من استخدام القوة والظلم في سلب أموال الناس بالقوة والعنف. أما كلمة «تشوا» فترجمتها الصحيحة هي: “ابتزاز المال تحت تهديد الوشاية”، وبالنهاية تكون سرقة مغطاة. وهـذا المعنى يكشف الوصية المكملة أن يكتفوا بعلائفهـم أي أجورهم الممنوحة لهـم بالحلال، أو على وجه الأصح ما هو مفروض أن يأخذوه بالحق.

4 – الاعتراف بالأقوى الآتي صاحب الرسالة (15:3-17)

(مت 3: 11و12 ، مر 8,7:1)

كانت دعوة المعمدان المفاجئة وسط صمت الدهور التي طالت، وكانت دعوة ذات بريق وسلطان إلهي، فظنه الكثيرون لعله هو المسيح الموعود. فكان المعمدان في موقف حرج حتّم عليه أن يأخذ منذ البداية حجمه الطبيعي الذي أتى ليؤدي رسالته كمجرد خادم جاء ليؤدي دور الإعداد لمجيء من هو الأقوى وصاحب السلطان. فكشف مستوى خدمته كمن يغسل بالماء تمهيداً لمن سيجيء ليغسل بالروح القدس. والموضوع الذي تدور عليه هذه الخدمة وتلك هو واحد وهي الخطية، هو يغسل مظهرها بالماء ليعد الضمائر ليغسلها الآتي بالروح القدس لكي لا توجد. والفارق بين عمل الماء وعمل الروح القدس هو الفارق بين المظهر والجوهر. لهذا كان المعمدان شديد الاتضاع أمام من سيجيء بعده، فكان إلحاحه على معمودية التوبة من صميم غيرته الملتهبة أن يصلح طريقاً في قلوب الناس لقبول عمل الروح القدس المهول الذي يفوق تصور كل إنسان .

ولكـن الـذي أحسّه المعمدان في أعماقه من جراء خدمته وتعامله مع ا الشعب الآتي نادماً . إحساسهم المزيف أنه قد يكون هو المسيا القادم، وهذا أشعل غيرته بالأكثر أن يؤكد مراراً وتكراراً أنه ليس هو، وأن معموديته لا تزيد عن عمل الماء بالنسبة لعمل الروح القدس المقتدر بيد الآتي الأقوى. هو خطورة

15:3 «وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح».

لغة القديس لوقا هنا تعبر عن انتظار شعب اليهود كله الذي بدأ يحركه نداء المعمدان، الذي أهاج في قلوب الأتقياء لهفة انتظار المسيا، إذ صار الشعب فعلاً في حالة ترقب شديد، حسّاساً جداً لأي حركة سماوية جديدة، والتي أوحت إليها بشدة خدمة المعمدان بالرغم من النفي المتواصل الذي أعلنه عن نفسه أنه ليس المسيا!

ولكن الواقع أن المعمدان لم يستطع أن يقطع تماماً بهذا الأمر مما جعل هذا الإحساس الخاطئ بأنه المسيا يظل شديداً في وجدان كثير من المقربين إليه، وبالأكثر تلاميذه الذين احتفظوا بأمانتهم له ولم يتحولوا إلى المسيحية، مما أربك الوعي العام لليهود حتى أنشأ اقتناعـاً بـل عقيدة أن المعمدان هو المسيا. وظلت هذه العقيدة قائمة يتبعها كثيرون بعد موت المعمدان بأزمنة ليست قليلة، ونقرأ عن هذا بوضوح في أصحاح (33:5 و18:7 و1:11)، وفي إنجيل ق. مرقس (29:6) وفي إنجيل ق. يوحنـا (25:3)، وفي سفر الأعمال (25:18)، ولو أنه لم يعثر على عقيدة محددة ذات صبغة مسيانية تتبع المعمدان بالرغم من الاحترام والتوقير الذي أحاط بشخصيته. وقد اهتم إنجيل ق. يوحنا جداً في نفي هذه الهالة الكاذبة عن يوحنا وتجريده تماماً من أي صورة مسيانية. وقد تضافرت الأناجيل الثلاثة في وضع حد فاصل قاطع بين المعمدان والمسيح، مع أن المعمدان لم يدع أبداً أي صفات أو أعمال مسيانية على الإطلاق. ولكن هذه الهالة الكاذبة بقيت فعالة تسري بين بعض الأتباع حتى القرن الثاني.

16:3 «أجاب يوحنا الجميع قائلاً: أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار».

في إجابة رزينة، ولكن يعلوها شيء من الجدية بإحساس من يدافع عن نفسه في ثقة، يكشف أمام أعينهم عن رسالته المتواضعة إزاء رسالة الكبير والأقوى الذي سيأتي بعده، فهو إنما بالماء فقط يعمد، والماء لا يزيد عن كونه واسطة وأداة تمهد لفعل أقوى فعال ودائم وهو الروح القدس. وفوق هذا وذاك فيوحنا في موقف انتظار ليستقبل الآتي بعده الأقوى منه، ومن واقع هذا الانتظار للأقوى يضع نفسه في الموضع الأقل جدا. والمعمدان لا يلمح بوضوح عمن هو الأقوى الآتي، ولكن على أي حال هو ليس من مستواه، فإن كان يوحنا يثق أنه النبي الآتي بروح إيليا فالآتي بعده أكثر بكثير من نبي، ولكن من هو؟ يقول يوحنا: «أنا لست أعرفه» وكل ما عرفه عنه أنه هو سيعمد بالروح القدس. أما إذا أردتم أن تعرفوا من أكون أنا بالنسبة لهذا الأقوى الذي سيعمد بالروح القدس، فأنا لست أهلاً أن أقف موقف المنحني الذي يحق له أن يحل سيور حذائه. وبهذا الوصف يكون يوحنا قد حدد موضعه من الآتي أنه غير لائق أن يحسب له خادماً أو عبداً، لا من جهة العمل الشرقي بل من جهة الترفع في الجنس، لأن من حق أي إنسان مهما كانت وضاعته أن يحل سيور أعظم ملك. ولكن إن كان يمتنع المعمدان على حق حل سيور الآتي بعده فهو أعلى ليس مقاماً بل جنساً. وهنا نجد المعنى ينحصر بقوة في مفهـوم الألوهة ومجدها. 

وهنا ينكشف طرف من سرية هذه الرسالة العجيبة التي أنيط يوحنا المعمدان بأدائها على وعي واضح. فهو يفهم تماماً مدى العلاقة السرية بين معموديته ومعمودية الروح القدس القادمة على يدي الآتي بعده، بمعنى أنه يمهد لها تمهيد من يفتح الباب ويعد لها الطريق.

 ولكن يدعي هنا بعض العلماء النقاد أن هذا القول مدسوس على المعمدان، المعمدان لم يعرف الروح القدس بدليل أن أحد تلاميذه وهو أبلوس صرح بأنه لا يعرف الروح القدس:
+ «فحدث فيما كان أبلوس في كورنثوس، أن بولس بعد ما اجتاز في النواحي العالية جاء إلى أفسس. فإذ وجد تلاميذ قال لهم: هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟ قالوا له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. فقال لهم: فبماذا اعتمدتم؟ فقالوا: بمعمودية يوحنا. فقال بولس: إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة، قائلاً للشعب: أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده، أي بالمسيح يسوع، فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع.» (أع 19: 1-5)

واضح هنا أن بعض التلاميذ لم ينتقلوا من تعليم المعمدان ليؤمنوا بالمسيح، هذا القصور من جهة الذين آمنوا بيوحنا لا ينسحب على يوحنا نفسه، وكأن يوحنا لم يكن يعرف معمودية الروح القدس. والدليل الصارخ على قصور هؤلاء التلاميذ الذين آمنوا بالمعمدان فقط أن يوم الخمسين حضر ليس بعد المعمدان بأكثر من ثلاث سنوات وملأت الآفاق أعماله الإعجازية. فالمعمدان تكلم عن حقيقة الروح القدس الذي جاء بالفعل في وقته مدعماً صدق المعمدان ومكملاً معمودية الماء التي اضطلع بها كضرورة مسبقة. إذن، فجحد العلماء النقاد لقول المعمدان عن معمودية الروح القدس القادمة مردود عليه بشدة بل ومحسوب أنه مهانة لتفكيرهم وللإنجيل لا تغتفر. لأن الروح القدس كان معروفاً قبل المعمدان أيضاً، فها هو يوئيل النبي (28:2) يحدد مجيئـه وعمله، وكذلك المزامير (11:51) وإشعياء (10:63 و15:32 و2:44) وحزقيال (31:18 و25:36-27 و14:37 و29:39).

«الروح القدس ونار»:

إن معموديـة الـروح القدس ونار في اعتبار المعمدان كمقابل لمعمودية الماء فقط توضح عملين خطيرين: الأول أنه روح الإحراق والتطهير. فالروح القدس له فاعلية إزالة الخطية كما تحرق النار ثوباً مدئساً، فليس غسيل يد بالماء بعد، بل حرق خطايا لتطهير لا يبقي للخطية أثراً. هذا من جهة، والجهة الأخرى هي الفناء للذي لا يقبل عمل التطهير بالروح، الأمر الذي كشفه المعمدان في فرز التين من القمح ثم حريق التين بالنار. فالريح رمز الروح والمذراة مذراة الدينونة التي تفرز التبن، أي الإنسان الذي فقد هويته كإنسان الله، الذين آمنوا وتبعوا وكانوا من الأخصاء والمختارين. فهنا عمل الإحراق هو عمل الدينونة. وهذا التصوير الخطير في ذهن المعمدان يوضح في اعتباره هو خطورة المناداة بالتوبة كعمل يختص بـالخلاص والنجــاة مـن المزمع أن  يكـون لمـن لا يقبـل التوبـة، وتتعـذر عليه دعوة الآتي القوي وعطية الروح القدس.

 ولكن ما يقوله المعمدان قاله إشعياء، فروح النبوة تسليم وتسلم دون تعليم وتعلم: ويصير جمهور أعدائك كالغبار الدقيق وجمهور العتاة كالعصافة المارة، ويكون ذلك في لحظة بغتة. من قبل رب الجنود تفتقد برعد وزلزلة وصوت عظيم بزوبعة وعاصف ولهيب نار أكلة.» (إش 29: 5و6)

إذن، فدعوة المعمدان المعمودية التوبة بالماء هي على أساس معمودية حتمية قادمة بالروح  القدس ونار للتطهير والإحراق معاً. وواضح جداً أن الكنيسة المرتشدة بالروح القدس أخذت الثلاثة: الماء والروح القدس والنار، توبة وتطهيراً وإحراقاً، أما الإحراق فقد قبلته وتم لها بالصليب ذبيحة المحرقة الإلهية التي كسحت الخطية والموت والدينونة معاً. 

17:3 «الذي رفشه في يده، وسينقي بيدرة، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التين فيخرقه بنار لا طفاً».

وفي النهاية يحضرنا المعمدان أمام منظر ختامي درامي شديد الضراوة لذلك القوي الآتي بعده حتماً. فنحن في حقل بمثابة مسرح يعرض القصة الأخيرة لحصيلة المعموديتين معاً: أهراء من قمح منقى وأعرام من تبن مذرى، تم تذريتها بمذراة الروح القدس، القمح يجمع باحتراس لا تضيع منه حبة ويحفظ في مخزن الحياة مختوم عليه باسم الخلاص وعهد الله القدير. أما الذي وزن بموازين النعمة والحق فوجد ناقصاً معيباً كتبن فقد نبض الحياة وامتصت عصارته ونضارته شمس التجارب ولفحته شهوات الموت فحفظ ليوم نقمة شديد الهول، أوار ناره لا تخمد.

5 – يوحنا في السجن (18:3-20)

كان لدى المعمدان كلام كثير اعتنى جداً أن يبوح به للشعب عن عمله وعمل الآتي بعده، ولكنه كان ذا صوت عالي النبرة لم يأخذ بوجه كبير أو عظيم، وأصابت كلماته ملكاً صفته الغدر والمراوغة، كلمه المعمدان عن خطاياه فلم تطق عظمته الإنذار حتى ولو جاءه من الله، ولكي يكمم فم ذلك النبي الحدث الغر في عينيه، سجنه.

وهكذا، وعلى غير استعداد، وجد المعمدان نفسه وقد وضع لمساته الأخيرة على إرساليته العظيمة. أما ق. لوقا فيبدو أنه شارك المعمدان في هذه المفاجأة الحزينة فقفل صفحة المعمدان وما كاد يفتحها، وضـرب صفحاً عما تم على يدي المعمدان في الأردن ومقابلة الأقـوى وتكميـل الـبر. فلم يذكر دور المعمدان في عماد الرب ولا رؤيته السماء مفتوحـة والـروح نازلاً وصوت السماء يدوي، وكيف رأى وشاهد وشهد أن هذا هو ابن الله. أمر يحير العقول، ولعل ق. لوقا ارتأى أن يجعل من سجن المعمدان الحد الفاصل الحزين بين العهدين، وكأنه يقول ليس عبد أفضل من سيده، فبالدم انتهى العهد الأول وبالدم ابتدأ العهد الجديد، وكما انصبغ الأول انصبغ الثاني .

وبالرغم مما اجتهده ق. لوقا في المقابلة بين المعمدان والمسيح في البشارة والميلاد وكأنما سيسير بالاثنين الهُويني على درب الرسالة العليا، إذ به فجأة يجمع كل أوراقه ليخدم بها قضية المسيح بعد أن فتح صفحة المعمدان وأغلقها على عجل. وكأنما انصاع لفكر المعمدان نفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 30:3). علماً بأن ق. لوقا لم يعزم أن يجمع في إنجيله كل ما جمع في أناجيل غيره وإنما أصر على إلقاء الأضواء على ما خفي في أناجيل الآخرين.

18:3 «وبأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشرهم».

 «يعظ»:  وتعني أيضاً يعزي .

هنا يتخطى ق. لوقا مرحلة المناداة بالتوبة والإعلان عن الإنذارات والتوبيخات، ويبدأ المعمدان يعظ الشعب، بمعنى تعزية النفوس التي انزعجت من شدة الإنذارات، والتي أثارها الإحساس بقرب مجيء النجاة والخلاص. ولكن للأسف لم يبلغنا أكثر من هذه الشذرة الصغيرة جداً عن المستوى المعزي للمعمدان، لأن صورته المرهبة التي انعكست عليه إيليا وروحه أخفت وجه المحبة والحنان التي ناسبت الذي تلاقى معه في البطن وركض بابتهاج كأول إنسان نضح عليه المسيح من روحه وحبه وحنانه . فالمعمدان وإن كان آخر نبي للعهد القديم قفل مصاريع نبواته، فهو نبي الرب الذي أعد له طريق الحب والبذل والخلاص. 

لذلك بقدر ما نادى بالتوبة لم يفته أن يبشر بالإنجيل الآتي وملكوت الله العتيد أن يكون وطريق الخلاص المزمع وشيكاً. ولم تكن روح يوئيل النبي بعيدة عن روحه كما يقول الكتاب: «وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء.»(1کو 32:14)

19:3 «أما هيرودس رئيس الربع فإذ توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه، ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها».

بينما لغـة المعمدان لم تزد عن توعية الشعب بخطاياه، إلا أن لغته تجاه هيرودس كانت للمذمة والتوبيخ، لا كأنه يطلب له التوبة ولكن كمن يعلن قضاء الله.

فالمعروف أن هيرودس بعد أن طرد امرأته بنت الملك العربي أريتاس، عاد وتزوج هيروديا امرأة أخيه، وكما يقول القديس مرقس: إنه كان فيلبس، فكان زواجه الأخير سنة 26م ضد الناموس اليهودي وأهاج مشاعر اليهود. وإن كان الشعب قد بلغ حالة السخط المكتوم تجاه ملكه، إلا أن المعمدان لم يستطع أن يخفي سخطه، فواجهه بزناه المكشوف فوضع نفسه في معاداته العلنية.

20:3 «زاد هذا أيضاً على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن».

وهيرودس بلغ الذروة في قباحاته كلها التي اقترفها بأنه سجن النبي المنادي بالحق للتوبة، فكانت خاتمة حزينة للغاية لا تتناسب مع رجاء الشعب ولهفته في الاستمرار في كشف تدبير الله الحادث بقوة، بل وكانت خاتمة مقبضة لنفسية المعمدان العظيم الذي كان يعتبر نفسه القوي الآتي بعده من هو أقوى منه، بمعنى أنه كان يشعر أنه يستمد قوته من الآتي بعده ليعد له بقوة الروح وبأس إيليا ما يتحتم أن يكون بداية صالحة في طريق الآتي من فوق .  

وهكذا جاء حبس السجن مخيباً لأمال يوحنا المعمدان، حتى أنه تساءل هل حقا الأقوى الذي جاء وبلغت أخبار مجيئه أسماع يوحنا ـ “يسوع” ـ هو حقا الآتي أم ينتظر آخر أقـوى؟ قادراً أن يفك سجنه ويطلق لسانه ليكمل الرسالة: حتى أنه أرسل تلاميذه إلى المسيح يسأل مستوثقاً هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؟ ولكن كما قلنا سابقاً إن كان الأقوى قد جاء فصاحب معمودية الماء يتحتّم أن ينسحب ليسلم لصاحب معمودية الروح القدس عمل الخلاص، الذي جاء هو لمجرد الإعداد له.

(ب) معمودية المسيح (22,21:3)

(مر9:1-11)

يختص القديس لوقا بسرد رواية عماد المسيح في مشهد لا يظهر فيه إلا المسيح وحده، فلا يذكر كيف تم العماد بواسطة يوحنا المعمدان كما ذكـره كـل مـن ق. متى وق. مرقس، وذلك لا بقصد أن يحجب دور المعمدان، ولكن ليضع حداً فاصلاً شديداً بين عمل المعمدان وعمل المسيح، كما وضع السجن كحاجز شديد الوطأة لينهي به عمل المعمدان عند بداية عمل المسيح. مع أن ق. لوقا لم يقطع التسلسل الحادث في عملية العماد نفسها بالنسبة لكيف بدأت بالشعب وانتهت بالمسيح، إذ يقول صراحة أن بعد ما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً! بمعنى أن المعمدان هو الذي أجرى العماد للمسيح. وقول ق. لوقا إن يسوع اعتمد أيضاً يوضح أن “يسوع” لم يكن واحداً من الشعب بل المساوي للشعب كله، وبالحري الذي احتوى عماد الشعب كله حتى لا يسقط أحد دون عماد، ليكمل أيضاً عمل الروح القدس لكل من آمن واعتمد. 

21:3 «ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً، وإذ كان يصلي انفتحت السماء».

يرفع القديس لوقا الرؤيا هنا رفعاً شديداً مباشراً من منظر معمودية الشعب على مستوى العمل البشري الأرضي إلى منظر المسيح على مستوى العمل الإلهي السمائي، بخفة واختصار وإبداع تمثيلي وكأنه يرى بالعين. وهنا ينكشف سر قصد ق. لوقا لماذا ألح في الفصل بين عمل المعمدان وعمل المسيح بسرعة وقطع لا يحتمل التداخل. لأن الأخطاء التعليمية والتاريخية التي اختلطت في أذهان الشعب عن قيمة المعمدان كانت قد زادت عن حدها، وبدأت تخلخل البداية الباهرة التي ابتدأ المسيح بها تعليمه . فهنا ينقلنا ق. لوقا بلا مقدمات من معمودية الأرض إلى معمودية السماء. فالمسيح لم يعتمد على يدي المعمدان إلا لينقل معمودية الشعب من تحت يد المعمدان إلى “المعمودية من فوق” في شخصه: « ينبغي أن تولدوا من فوق.» (يو 7:3)

وإلى هنا يكون قد بلغ المعمدان قمة عمله ونهاية رسالته والتي عندها ينبغي أن يتوقف مباشرة بلا أي مزيد. وهذا يعبر عنه ق. لوقا بالسجن كحد قاطع نهائي توقف وراءه كل عمل المعمدان، إعـداداً للشهادة بالدم.

«وإذ كان يصلي انفتحت السماء»:

«انفتحت السماء»: 

ولو أن ق. مرقس يقول إنها انشقت معبراً تعبيراً أكثر التصاق بالتقليد القديم : «ليتك تشق السموات وتنزل» (إش 1:64). والفارق ليس بسيطاً، فالسماء إذا انشقت فهي من رؤية بشرية، ولكن إن تنفتح السماء فهي من رؤية إلهية. فالسماء تنشق في نظر الرائي على الأرض، ولكنها تنفتح للواقف يصلي ليتقبل ما له من السماء خاصة!! 

ويلاحظ القارئ أنه لا يقول هنا صلى وكأنه يطلب شيئاً، ولكن كان يصلي باستعداد ما قد تقرر أن يتم بعد تقبله العماد بالماء مكملاً كل بر حسب قول المسيح للمعمدان: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت 15:3). أما بعد تكميل البر الذي بحسب البشر فقد آن الوقت لاستعلان كمال البر الذي له من السماء: «أنت ابني الحبيب بك سررت» (22:3)، بنزول الروح القدس على المسيح كإعلان سماوي لاستعلان المسيا وشهادة وملء المثيـل للمثيل. علماً بأن المسيح ولد ممتلئاً من الروح القدس ولم يكن هناك زمـن قـط دون الملء الكلي للروح القدس. فانفتاح السماء وحلول الروح القدس كان لاستعلان المولود من الروح القدس والعذراء مريم أنه هو المسيا وقد بدأ عمله.

22:3 «ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة. وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيب، بك سررت!»

«بهيئة جسمية»: σωματικῷ εἴδει

ليس هذا هو الروح القدس، ولكن هذه الهيئة الجسمية حققت للرائين كيف نزل الروح القدس كفعل حقيقي منظور للتأكيد والشهادة. فالمظهر الخارجي بالنسبة للإلهيات يخص العين البشرية الكليلة التي لا ترى إلا الأجسام والهيئات، أما جوهر الإلهيات فلا يرى بالحواس البشرية قط! ولكن قد تكون الهيئة الظاهرة الجسمية المنظورة ذات علاقة بالفعل الذي يأتيه، كعلامة ألسنة النار التي حلت على رؤوس التلاميذ يوم الخمسين تعميقاً لمعنى فعل الروح القدس في النطق الإلهي وفي التطهير الناري. أما الحمامة هنا كهيئة جسمية فواضح أنها تعميق لاستعلان وداعة المسيح وحلمه كمسيا المخلص الفادي، ولكن من رؤية بعيدة تمثل الحمامة روح الله الذي كان يرف على وجه المياه في بدء الخلقة، حيث يبدو التماثل شديد العمق، لأن بالروح الذي رف على وجه الماء في البدء المخلوق أرضياً، يأتي المثيل هنا بالروح الذي رفَّ على هامة المسيح للخلق السماوي، لأن المعروف والمحقق لاهوتياً «أننا مخلوقون في المسيح يسوع» (أف 10:2)، فالبشرية خلقت ثانية خلقة روحية سماوية من جسد المسيح القائم من الأموات!

 كما ينقلنا منظر الحمامة بهيئتها الجسمية وهي نازلة على المسيح إلى منظر الحمامة التي أطلقها نوح من الفلك لتأتي ببشرى انحصار فيضان غضب الله للهلاك الذي دمر الخليقة، وفي فمها غصن زيتون . أفليس هنا أيضاً بشارة من نفس الحمامة أنه قد انقضت أزمنة الغضب الإلهي وكف هلاك الخطية الذي دمر وجه الأرض وجاء غصن البر ينادي بالحياة الأبدية للإنسان الذي أشقاه غضب الله؟
+ «ويخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب.» (إش 11: 1و2)

 فإن كان المعمدان بالماء والإنذار والتوبيخ بالدينونة العتيدة كـان يمثل طوفان نوح، فقد جاءت الحمامة لتحكي عن عالم جديد ملؤه سلام الله وله حياة لا تموت. ويكاد بطرس الرسول يختم على هذه الرؤية:

+ «مُماتاً في الجسد ولكن محييي في الروح، الذي فيه (أي في الروح) أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن، إذ عصت قديماً، حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح، إذ كان الفلك يبنى، الذي فيه خلص (أناس) قليلون، أي ثماني أنفس بالماء. الذي مثاله يخلصنا نحن الآن، أي المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح ء الله، بقيامة يسوع المسيح، الذي هو في يمين الله، إذ قد مضى إلى السماء، وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له.» (1بط 3: 18 -22)

ولكن بأقصى تعبير صادق وحقيقي شرح المسيح نفسه هذا الذي حدث على مياه الأردن ونزول الروح القدس لبدء عمل المسيا وافتتاح زمان الخلاص وتكميل كل العهد والوعد السابق، حينما ذهب في أول ظهوره للناس بعد العماد ودخل مجمع الناصرة، ولم يكن صدفة ولا هو حدث هين أن يستدعى المسيح ليقرأ فيجد صفحة من سفر إشعياء النبي تحكي بصوت مدو يهز السماء والقلوب الواعية الصاحية: «روح الرب علي لأن الرب مسحني … لأنادي بسنة مقبولة للرب» (إش 61: 1و2) كما سيرويه ق. لوقا في الأصحاح (4: 16-20).

ولكن لا يفوتنا هنا أيضاً كيف تم حرفياً ما قاله المعمدان: «أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني… هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (لو 16:3). هنا النقلة منظورة ومشاهدة بالروح وملموسة جسمياً بعجـب يـفـوق العقـل ـ فـإذ والماء تحت رجـل المسيح يحـل الـروح القدس لينتقـل العماد من الماء إلى العماد المزمع أن يكون بالروح القدس جهاراً بآن واحد.

«أنت ابني الحبيب بك سررت» :

وهكذا يتم معنى انفتـاح السماء للمسيح وهـو يصلي، إذ يأتي المضمون قوياً واضحاً أن انفتاح السماء بالنسبة للمسيح هو أعظم حدث تم على الأرض بعد الميلاد المقدس والمبارك المحسوب حضوراً ذاتياً متجسّداً للابن، إذ يعني هنا أيضاً حضور الله الآب حضوراً ذاتياً مسموعاً لاستعلان بدء جديد لعلاقات تربط الله بالإنسان في شخص يسوع المسيح الابن المتجسّد. هذا هو معنى انفتاح السماء للمسيح الابن وهو يصلي!! أما هذا الصوت الذي جاء من المجد الأسنى مسموعاً عند ذوي الآذان المفتوحة والشاهدة فهو أعظم كشف لاهوتي لحقيقة التجسّد واستعلان ماهية الله كاب وابن لأول مرة، ليقبلها الإنسان كصميم قضية الإيمان بالخلاص المزمع أن يتم في بذل الآب للابن، أي التدخل الذاتي الله لرفع معاناة الإنسان من ربقة عبودية الخطية والشيطان والموت، باقتدار إلهي ينهي نهائياً على أزمنة شقاء الإنسان ويفتح لها مجالاً سماوياً لخلق روحي فائق يعزله عن الأرض عزلاً أبدياً، ويضمه إلى خاصة الله ضماً يكاد يكون شخصياً وأبدياً لحياة هي حياة الله

فبقول الآب من ملء العلاقة الذاتية الأبوية للمسيح: «أنت ابني» يكون قد بلغ التحشد أجلى صورة لحضور الله ظاهراً في الجسد، لاكمجرد شهادة يسلمها الله للعالم من جهة المسيح، بل كحقيقة لاهوتية هي بحد ذاتها تعني أن الله الآب ارتبط بالإنسان في المسيح ارتباطاً أبوياً لن ينزع من الإنسان إلى الأبد، طالما بقي المسيح ابنا الله وهو باقي بقاء الله. وهكذا في هذه الشهادة الأبوية الرفيعة المستوى يكون الله قد وثق للإنسان وجوداً بنوياً في المسيح الله أبدياً لن تزعزعه قوة ما في السماء أو في الأرض.

وكما سبق ولاحظنا أن الآية في إنجيل ق. مرقس تقول: «السموات قد انشقت … وكان صوت من السموات: أنت ابني الحبيب الذي به سررت» (مر 1: 10و11)، وأدركنا أن الانشقاق هنا وسماع الصوت كان يخص الناظرين والسامعين من حول المسيح (راجع شرح الآية السابقة 21:3 «انفتحت السماء» صفحة 172 أعلاه)، وذلك يتأكد بقول الآب للمسيح في صيغة الشخص الثالث الغائب « الذي به سررت» وهكذا جاءت في إنجيل ق. متى أيضاً. أما ق. لوقا هنا فيتميز جداً بجعل الخطاب مباشراً من الآب للابن حيث الصوت لا يخص الناس بل المسيح نفسه. فالسماء فتحت له هو وحده والآب يتكلم له هو وحده بصيغة الشخص المخاطب: «أنت ابني … بك سررت» لذلك قلنا إن هذا فتح جديد في المفهوم اللاهوتي، فنحن أمام استعلان أعماق الله وذات الله، لا للمعرفة ولكن لقبول حق جديد للإنسان.

وليحترس القارئ من أن يأخذ بآراء العلماء النقاد الذين يحاولون الإضعاف من هذه الحقيقة اللاهوتية، إذ يعتبرون أن الذي وهب للمسيح من الآب هنا هو كرامة البنوة. وهذا شطط فاضح ومحاولة خسيسة لرفع البنوة الذاتيـة مـن المسيح لله لتكون مجرد هبة أو عطية. هذا طغيان لا نجهل مصـدره الشيطاني للإطاحة بلاهوت المسيح كابن ذاتي لله، لأن صوت الله الآب مـن السماء ليس هو مجرد إعلان ولا يتضمن الكلام نوعاً من العطية أو التكريم، بل هو من صميم كشف علاقة أزلية تربط الآب بالابن ربطاً هو بعينه الأنا العظمى الله الواحد الأحد. فالابن المخاطب هنا هو والآب واحد.

فـ”أنا الابن” هو الله، و”أنا الآب” هو الله و الله هو الأنا المطلق وهو الآب والابن معاً. 

والقديس لوقا هنا لا يختط خطأ لاهوتياً جديداً بل يلتزم التزاماً حرفياً وروحياً بديعاً بقول الملاك للعذراء القديسة: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود مني يدعى ابن الله.» (لو 35:1)

والمسيح لم يترك هذه اللمسة اللاهوتية وهو في بكور صبوته ليعلنها صارخة في وجه من رأوه كمن يستمد كيانه البشري من أب بشري، إذ رد على أمه القلقة التي أوحت إليه بقلق يوسف عليه، فكان رده فيه المؤاخذة والاستهجان معاً مع تصحيح في صميم هويته: «ينبغي أن أكون في ما لأبي.» (لو 49:2)

غير أن التعريف بالابن الخاص لله بالنسبة للآب لا يقف عند عتبة ما هو الله فقط، بل هو ا اللقب المسياني الذي بمقتضاه يتملك المسيح ملكه الأبدي فيما يخص الإنسان. إذن، فمناداة الله الآب من السماء بحقيقة الابن الحبيب قائماً متجسّداً هو إعلان لبدء دخول المسيح في القيام بتأسيس ملكوت الله على الأرض وفي السماء. فلحظة قول الآب للمسيح المتجسّد «أنت ابني» تعين في الحال ملكاً أبدياً على كل ملك الله، لا ليحكم ويسود بل ليضع الله أبيه ملك المحبة ليملك الله بحسب طبيعته على خليقة خلقها الابن لتكون على مستوى مسرة الآب. فالله لا يملك إلا بالحب والحب عند الله عطاء ذات: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه.» (يو 16:3) 

ولكـن مـن المحزن أن نسمع بعض العلماء اللاهوتيين الكبار يشكُّون في أن المسيح كان يشعر أو يدرك أنه ابن الله، ويرد عليهم العالم مارشال بأن يسوع دُعي “المسيا بسبب كونه أصلاً ابن الله وليس العكس. وقـول المـسـيـح الـذي قالـه مـرة وهـو يـقـطـع بأنـه حقــا ابـن الله يـرد علـى هـؤلاء العلماء بمنتهى الوضوح والإصرار: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله.» (يو 36:10)

ويعود العالم شفايزر فيقول إنه إذا كان المسيح قد شرح شرحاً وعمل عملاً طوال حياته مؤكداً أنه عمل ابن الله، فكيف يمتنع أن تكون ألقابه كابن الله متأصلة منذ سني حياته الأولى، خاصة هذا اللقب المسياني المحدد؟ 

«الحبيب»: 

 الصفة هنا شديدة الصلة بالابن أكثر منها صفة مستقلة منفصلة، فهي تخصصية إلى أقصى حد للابن حتى أنها قد تأتي عوضاً عن اسم الابن، فالحبيب أو المحبوب هو الابن وليس آخر. والابن هو المحبوب، لذلك إذا أُضيفت إلى الابن أفادت “الوحيد”. (قارن لوقا 13:20 مع مرقس 6:12). وعلى العموم فإن عبارة «ابني الحبيب »  تستبعد نهائياً مفهوم الاختيار أو التعيين، بل تعطي معنى العلاقة شديدة الصلة بين المسيح كابن بالنسبة لله كآب كصفة جوهرية.

«بك سررت»: 

وتعني أكثر من مسرة، إذ تفيد آخذ مسرتي take delight. وقد جاءت أقوى ما جاءت معبرة عن هذا المعنى الاتصالي أو الينبوعي العجيب في إشعياء: «هذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه» (إش 1:42). وبشيء من التعمق في فهم الوضع هنا بين حلول الروح عليه وبين قوله سرت به نفسي يتبين الوضع التبادلي السري العجيب بين حركة الروح وحركة الحب. الروح يحل والحب ينبع، وهو تبادل جوهري مذهل بين الآب والابن، روح بحب وحب بروح . فالابن بمثابة حب الآب والآب بمثابة روح الابن، وكأنه بقدر ما يمتلئ الآب بحب الابن يمتلئ الابـن بـروح الآب. وهكذا يبدو لنا جوهر الله روح وحب في غليان متبادل لا ينقطع، يطرح على العالم حياة وحباً في صميم بذل الآب للابن من واقع حب الله والحياة الأبدية التي يريدها واقعاً فعالاً في العالم!  

( ج ) النسب الميلادي للمسيح (3: 23-28)

ربما يأتي جدول أنساب المسيح في هذا الموضع غريباً عن اعتياد ذهن القارئ العادي، إذ أن موضعه الطبيعي أن يكون في بداية قصة الميلاد.

ولكن لو لاحظ القارئ أنه في الآية (21:3) أتى اسم يسوع لأول مرة – بعد الميلاد – يمكن أن يرى كيف أن ق. لوقا حينما أراد أن يبدأ الخدمة العملية للمسيح بعد العماد أراد أن يعرفنا بنسبه البشري من آدم في مقدمة إنجيله ـ بمعنى أخباره السارة.

 وبالرغم من أن كثيراً من العلماء یری أن تقديم سلسلة أنساب المسيح من آدم تُحسب غير مناسبة أبدأ مع التقليد الثابت الإنجيلي من جهة ميلاده العذري المبارك دون رجل! خصوصاً وأن لقب ابن الله جاء ليعطي شخصيته المسيانية ذات الأصول الإلهية الكاملة؛ ولكن الواقع أننا لو فحصنا فكر ق . لوقا نفسه نجده لم ير في إيراد ميلاده العذري المقدس ما يعارض ذكر نسبه البشري، وكأن يوسف خطيب مريم من اللائق أن يغطي دور الأبوين مع مريم العذراء في نظر العالم الذي لا يتسع ذهنه لمفهوم أبوة الله الحقيقية للمسيح. لأننا لو تتبعنا الوضع الرسمي ليوسف خاصة بعد الاكتتاب بجده محسوباً رسمياً وفي مضابط التعداد الرومانية أنه يمثل الأب للمسيح في فكر العالم. وهذا نجده يمر بسهولة مطلقة عند الذين ألفوا جدول أنساب المسيح من يوسف وكأنه أمر عادي.

ويؤكد لنا العالم يواقيم إرميا اليهودي المتنصر أن حفظ الأنساب في أيام المسيح كان ضـرورة حتمية كعمل رسمي هـام جداً للعائلات الكهنوتية والعائلات غير الكهنوتية على السواء. وأن هذه الأنساب لم تكن تلفق بل كان يتخذ فيها الحيطة الدقيقة بمنتهى الدقة على قدر كبير من الاجتهاد العاملين في تسجيلها، حتى ولو حدث فيها بعض الفجوات فهذا لا يثني القائمين بالأمر من تكميل التسجيل على أكثر صحة ممكنة.

كما يمدنا العالم م. د. جونسون أنه كان هناك اهتمام شديد بنقاوة الأنساب، وكانت العائلات تحتفظ دائماً بتاريخ أنسابها كتابة وشفاهاً، وكانت حاضرة دائماً في أذهانهم وعلى لسانهم، لذلك أصبح من غير العدل أن لا يعترف بها تاريخياً. ولهذا أصبح هناك ضرورة لاعتبار نسب المسيح المذكور هنا على مستوى تاريخي إلى حد قاطع.

ولكن يقابلنا في سجلات النسب التي وضعت للمسيح في إنجيل ق. متى وإنجيل ق. لوقا اختلافات ليست بسيطة، حيث نجد الأنساب في سجلات ق. متى تبدأ من إبراهيم إلى المسيح، بينما نجدها عند ق. لوقا تسير في الاتجاه المخالف، إذ تبتدئ من المسيح عائدة إلى خلف، كما نجدها مطولة. ونجدها أيضاً تمتد بالتسجيل من إبراهيم إلى آدم ثم الله لتعطي ما مجموعه 78 اسماً. وبينما ق. لوقا يضع في الحقبة الزمنية من إبراهيم إلى المسيح 57 اسماً نجد ق. متى يضع 41 اسماً. أما في الحقبة من داود إلى المسيح فيختلف التسجيل بين ق. متى وق. لوقا اختلافاً كلياً ولا يتقابلان إلا في اسمي . شألتئيل وزربابل، بل ويختلفان حتى في الاسم الذي أعطي للشخص الذي يمثل أبا يوسف حتى أصبح من العسير الحصول على توافق بين تسجيل إنجيل ق. متى وإنجيل ق. لوقا.

وقد قام العالم القديم أنيوس الذي من فيتربو (سنة 1490م) ببحث هذه الأنساب فقال: إنه بينما يعطي ق. متى أنساب المسيح من يوسف، فالقديس لوقا يعطيها من العذراء مريم. فإذا أخذنا بهذه الأبحاث يكون والد العذراء هو هالي كما جاء في إنجيل ق. لوقا هكذا: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف ابن هالي …» (على اعتبار أن يوسف يدعى تجاوزاً ابن حميه هالي). ولكن هذا التسلسل لا يأخذ في الاعتبار تركيز ق. لوقا بأن يوسف من بيت داود (لو 27:1)، فلم يؤخذ به.

ثم قام عالم آخر هو المدعو بالأفريكانوس ووضع خريطة أنساب معقدة انتهى فيها إلى أن يوسف خطيب مريم كان حقا ابن هالي كما جاء في إنجيل ق. لوقا. ولكن قام علماء نقاد ولم يأخذوا بنظرية أفريكانوس.

أما النظرية التي اكتسبت حديثاً قبولاً عاماً فهي نظرية لـورد أ. هارفي إذ يقول: إن ق. متى يعطي الخط الرسمي المنحدر من داود محققاً من هو المستحق لعرش داود في كل حالة. أما القديس لوقا فيعطي المنحدرين من داود كفرع الأسرة التي ينتمي إليها يوسف .

أما دقائق الأبحاث لهذه النظرية فهي تختلف من محقق لمحقق. وقد جاء أحد الأبحاث التي توفق بين سلسلة الأنساب هذه بين الإنجيليين: فهو يعتقد أن يعقوب في سجل إنجيل ق. متى كان بدون أولاد ذكور، وأن يوسف الابن الجسدي لهالي المذكور في سجل ق. لوقا اعتبر أنه وريثه. ولكن قامت بعض المشاكل في الخطوط التالية بالنسبة لمتثات (في لوقا) ومتان (في متى) إذ يسأل هل هما شخصان أم هما شخص واحـد؟ يطرح هذا السؤال ويرد عليه العالم البحاثة ماشين (صفحة 207_209 من بحثه المذكور أسفله) إذ يقدم بحثاً يخص إمكانيات حلها. وقد قامت مشاكل وصعوبات بالنسبة لهذه النظرية أيضاً. ولكن يبدو  أنها ليست بلا حل.

ولكن يحق لنا فقط أن نقول: إن المشكلة الحادثة بسبب وجود مسلسلين للأنساب . لا زالت بلا حل بالنسبة للأبحاث التي تمت وتحت أيدينا، ولكن لا يمكن أن نجزم بالقول إن هذين المسلسلين هما مجرد عملين تأليفيين. على أية حال يمكن بوضوح أن نستخرج من مسلسل أنساب المسيح في إنجيل ق. لوقا، الذي ينتهي بوصف المسيح كابن الله، معنى عميقاً يهدف إليه ق. لوقا بحكمة وتأن عبر سلسلة الأنساب التي أجهد نفسه في جمعها ليبلغ بها إلى تأكيـد القـول الإلهي الصادر من الآب في السماء: «أنت ابني الحبيب بك سررت» (لو 22:3)، مؤكداً ومتحدياً للشيطان الذي يشك وحده في كون المسيح ابن الله: «إن كنت ابن الله» مرتين: (3:4 و9:4). فالقديس لوقا لا يقف أبدأ عند مجرد أسماء وألقاب بل ينشغل أصلاً بأن يظهر أن كل الأسماء التي أوردها من يوسف حتى آدم ما هي إلا أبوة واحدة عظمى تفقد مفهومها التناسلي لتبلغ بالمسيح إلى أبوة الله الفريدة، متحدية هذه الأنساب جميعاً التي تتضاءل حتى وكأنها تتلاشى في معجزة ميلاده من عذراء بالروح القدس

فالقديس لوقا لا يمانع بأن يعطي جدول أنساب المسيح كما يظن العالم وكما يشتغل الكهنة والربيون، وبآن واحد ليعطي ميلاده الإلهي بالروح القدس بلا أب جسدي ليحقق أنه وإن كان مولوداً من عذراء فهو الابن الوحيد المحبوب للآب. فهو حقا ابن آدم أو ابن الإنسان ولكنه بأن ابن الله الوحيد.

فالقديس لوقا إن كان قد أعطى نسبه البشري لآدم فلكي يضعه ضرورة ضمن جنس البشرية المخلوقة بيد الله، فإن نسبه لآدم جسدياً فلكي ينسبه إلى ابن العصيان، وإن كان قد نسبه الله روحاً ولاهـوتـاً فلكي يظهـره كـابن الحضن الأبوي المحبوب لكي يحتمل ثقل العصيان كله ويرفعه عـن كـاهـل البشرية كلها ليلبسها حب الآب في ذاته. فهو وإن لقب حقا بابن آدم فلكي يرفع بنوة آدم العاصية إلى بنوة الله المحبوبة.

كما لا ننسى أن كون ق. لوقا ينسب المسيح لآدم فهو لكي يجمع الدنيا كلها في حضنه ويلملم البشرية التي تمزقت وتفرقت وتفتت، في ذاته، في إنسان واحد كامل كمال الله!! ليمحو التشوه الذي أصاب وجه الإنسان ومن ورائه الخليقة كلها، وليعود بالصورة إلى شبهها ومثالها الإلهي الذي خلقت على أساسه كصورة الله وأكثر. فآدم في المسيح لم يعد آدم الجنة بل دخل في المسيح ليملك مع الله ويرث ميراث الابن الوحيد.

23:3 «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي».

حينما يقرر ق. لوقا أن المسيح كان قد بلغ ثلاثين عاماً لميا ابتدأ رسالته، يوجه فكر القارئ إلى أنه كان قد بلغ تمام السن اللائق للقيام بالرسالة، بقدر رجاحة ما هو مزمع أن يرصد من نسبه البشري المظنون عند الناس.

والقديس لوقا يضرب لبعيد بهذه المقدمة الملكية للمسيا الذي جاء ليقيم مملكة داود الدهرية. فهذا هو داود نفسه: «كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك …» (2صم 4:5)، بل وإلى أبعد من داود يذهب ق. لوقا ليكشف مدى مناسبة هذا السن لأعظم مملكة في العالم القديم يتبوأها ابن لإبراهيم: « وكان يوسف ابن ثلاثين سنة لما وقف قدام فرعون ملك مصر، فخرج يوسف من لدن فرعون، واجتاز في كل أرض مصر.» (تك 46:41)

ويلاحظ القارئ أن بدء خدمة المسيح وهو ابن ثلاثين سنة يتوافق مع التاريخ الذي وضعه ق. لوقا أنه في السنة الخامسة عشر لطيباريوس قيصر .

وقول القديس لوقا: «على ما كان يظن» لا يفيد كما يقول العلماء أن ق. لوقا لم يكن متأكداً من التاريخ الذي يقرره، ولكن في الحقيقة ق. لوقا ينقل ما كان يظنه الناس خطأ أنه ابن يوسف. أما قوله: «ابـن هـالي» ففهمت على أن هـالي والـد للعذراء القديسة وبذلك يحسب المسيح أنـه ابـن لجده هالي أبي مريم. ولو أن هذا يغاير كثيراً التقليد القبطي الكنسي الذي يؤكد أن يواقيم هو والد القديسة العذراء مريم. والبعض يعتقد أن هالي هو والد يوسف. أما اسم هالي فهو بالعبرية : إيلي”.

24:3 «بن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينَّا بن يوسف».

«متثات»: Μαθθὰτ

مكرر أيضاً في (29:3) ويقرأ بالعبرية MattAt وهو شبيه أيضاً باسم Ματταθὰ الذي جاء في (31:3) وكذلك شبيه باسم Ματταθίου  (25: 3 و26)وهو مطابق للاسم الذي جاء في إنجيل ق. متى كجد ليوسف (مت 15:1).

«لاوي»: Λευὶ

وقد جاء أيضاً في (29:3)، (27:5و29) وينطق بالعبرية Lfwi. 25:3

3: 25«بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجاي»

«متاثيا»: Mattaq…ou

” متاثيا” أي Mattitya وهو اسم شائع، أما عاموص Ἀμὼς فهو يمثل Amon’ وهو اسم ملك (2مل 18:21). وعاموص هو أبو إشعياء النبي وأيضاً اسم نبي. اما ناحوم Naoum فهو أيضاً اسم نبي (نا 1:1)، وحسلي هو Ἑσλὶ ، أما نځاي …Nagga فهو أيضاً Ναγγαὶ أو Nagah (1أي 7:3).

26:3 «بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا».

مآث  وهـو يرادف Mahat (1أي 35:6)، ويقـول العـالم كـوهـن إن هذا الاسم هو أصلاً كلمة Mfet التي تعني “من ’ from.

شمعي Seme وهو Σεμεῒν (خر 17:6) أو Smaya (1أي 4:5). و‘یوسف” هو Ἰωσὴχ ، و يهوذا هو yehida أو yoyadA وباليوناني Ἰωδὰ.

27:3 «بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شالتئيل بن نيري».

يوحنا هو Ἰωανὰν ولأول وهلة يكون هو Yohanan الاسم العبري له نفس معنى Ananif = hananya (1أي 19:3)، والفرق بين هذين الاسمين هو في وضع اسم الله في المقدمة أو المؤخرة وقد يكون هو اسم أحد أولاد زربابل، ولكن بين يوحنا و زربابل” يأتي ریسا Ῥησὰ وقـد يـكـون اسـم علـم risy أو raseif (1أي 39:7). ويقول بعض الباحثين إن هذا الاسم هو تغيير لاسم resA بمعنى أمير = برنس، وهو قد يؤدي بنا إلى اعتبار أن ق. لوقا كان يرجع إلى مصدر أرامي الذي لم يكن معتمداً على السبعينية.

زربابل Ζοροβαβὲλ وهو اسم قائد لليهود أثناء السبي عندما عادوا إلى أورشليم. أما اسم أبيه فجاء هنـا شـألتئيل”  Σαλαθιὴλ. أما اسم أب شـألتئيل هنـا فـهـو نير وقد يكون هنا هو يكنيا’ الملك (1أي 17:3).

28:3 «بن ملكي بن أدي بن قصم بن المودام بن عير».

وهنا يدخل الجدول في أسماء غير معروفة في العهد القديم بعد داود من ابنه ناثان. أمـا اسـم مـلكـي فقـد جـاء في الآية 24. وأما “أدي” فهـو عـدو (1أي 21:6)، أما قصم فهو غير معروف، أما المودام فهو أيضاً الموداد (تك 26:10).

29:3 «بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي».

يوسي هو Ἰησοῦ، وأليعازر  Ἐλιέζερ قريب من eliezer (تك 2:15)، ويوريم هو Ἰωρὶμ و متثات ولاوي” قد ذكرناهما.

30:3 «بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن الياقيم».

شمعون هو Συμεὼν أما يهوذا فمعروف، أما يونان فهو  Ἰωνὰμ كذلك هو  y’hohanan = ‘Iwn£n (1أي 3:26)، وألياقيم مــذكور في (2مـل 18:18)

31:3 «بن مليا بن مینان بن مثاثا بن ناثان بن داود».

مليا  Μελεὰ ، ومينـان Μεννὰ ، ومتانـا Ματταθὰ هـو Mattaté ، وناثـان  هو Ναθὰμ وهو natan وهو ابن داود.

والآن وصل المسلسل إلى داود Δαυὶδ الملك .

32:3 «بن يسى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون».

ومن داود إلى إبراهيم نجد أن المسلسل في إنجيل ق. لوقا يسير موازياً لمسلسل القديس متى مـع فروقات طفيفة.

كان لابد أن نذكر كل هذه الأسماء التي في الحقيقة لا نتقن نطقها لأنها باللسان اليهودي، ولكنها أسماء كنجوم زاهرة في سماء العهد القديم أدت رسالتها وسلّمت وديعتها وعبرت، ولكن اخترقها جميعاً سهم من نور الله ذي الاختيار الذي لا يخفق أن يجمع منها مسلسلاً تعيّن منذ الأزل ليعبرها جميعاً، وليحط في النهاية على رأس مختار الله يسوع الذي حمل أقنوم الابن الوحيد ليكمل مقاصد الله الأزلية في بني الإنسان.

تفسير إنجيل لوقا – 2 إنجيل لوقا – 3 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 4
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل لوقا – 3 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى