تفسير إنجيل متى أصحاح 10 للقمص متى المسكين

 

الأصحاح العاشر
الحديث الثاني الكبير
إرسالية الاثني عشر [42-1:10]

دعوة التلاميذ وإرسالهم 10: 1-42

يحتوي هذا الأصحاح بدءاً من الآية (5) حتى النهاية واحدة من أطول أحاديث المسيح التعليمية، وتعتبر الثانية بين الخمسة أحاديث الكبرى.

والمدقق في حديث المسيح التعليمي للتلاميذ يمكنه بسهولة استخراج صفات المسيح التي يتحدث ويعلم من خلالها، فمن أول الحديث مع تلاميذه يلحظ القارئ أن المسيح يستعلن مشيئة الآب بروح نبوية واضحة، إذ مع استعلان مشيئة الآب يسبق ويتحدث عن آلام في الأفق تنتظرهم. ومن الآية (16) حتى النهاية يركز المسيح على المستقبل وأحداثه وما ستواجهه الكنيسة. ثم تظهر الروح الكهنوتية التي يتكلم من خلالها عن آلامه من أجل الكنيسة (38) وإنما في عدم وضوح. وبالتالي فالتلاميذ يتحتم عليهم حمل الصليب واتباع المعلم وسيبغضونهم كما أبغضوا معلمهم !

ولكن في النهاية تظهر الروح الملكية (40) ، إذ يتكلم المسيح كملك الملوك (رؤ 14:17)، كملك يُرسل سفراءه إلى كافة الأنحاء ولكن يعضدهم منذ أول آية بسلطانه الخاص (1:10). وهكذا تضاف هذه الصفات على الصفة التي غلبت على كل الأصحاحات السالفة وهي روح القدرة على كل شيء.

ملخص الأصحاح:

يبدأ المسيح بحديث دعوة التلاميذ لتحمل خدمة الرحمة لا الذبيحة” كرعاة لخراف منزعجة لا راعي لها، أو كمساعدين “لراعي الخراف الأعظم” (عب 20:13)، لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها ( 1 بط 25:2) وأول عمل يعمله لهم هو أنه أزرهم بسلطان خاص من عنده على الأرواح النجسة وعلى شفاء الأمراض وكل ضعف في الشعب (1:10). وبعد أن يذكر أسماء الاثني عشر (2-4) يكمل الأصحاح في تعليم خاص بالتلاميذ (5-42).

وكما عهدنا المسيح بحسب ترتيب ق. متى في العظة على الجبل، كذلك هنا فالكلام مرتب والحديث ممسك ببعضه في توافق وامتداد في الفكر. وتحمل العشر آيات الأولى توجيها أمراً محدداً يحدد العمل ومستواه ومكانه (5-15) ، ومن بدء الآية (5) يأخذ التلاميذ خاصة في إنجيل ق. متى لقب “ رسل ” مرسلين من قبل الرب يسوع “هؤلاء الاثني عشر أرسلهم يسوع ” محملين بوصية خاصة محددة إلى أين يمضون، وبماذا يكرزون، وماذا يعملون وكيف يعيشون، مع نصائح للسلوك بين الذئاب والحيات، وكيف يتصرفون أمام المحاكم والمجامع والملوك والولاة ويتحملون الجلد، وهذا يُحسب لهم شهادة لحساب المسيح. وحينئذ يتلقون الكلمة والحكمة والنعمة من فوق ليفحموا بها المعاندين. ولابد أن يتحملوا البغضة والقطيعة من الجميع لأن هذا هو شأن من يدافع عن الاسم والنهاية مضمونة “النصرة” (16-42) ومن وضع إلى وضع يتنقل بهم المسيح وكأنه يراهم ويقابلهم ويعاتبهم دون توقف والحديث يسير بانسجام وتتابع عجيب من (5-42) كوحدة ذات رؤية واضحة. وهكذا يسير الأصحاح من البداية التعيين (1-4) ثم التوصية (5-42).

ولكن تقوم بعض الاعتراضات أن هناك آيات خاصة دخلت في وسط الحديث لتكمل تسلسله تماما لم تكن موجودة أصلاً في كلام المسيح بل مجرد إشارة إليها، مثل عملية الاستشهاد: «وَسَيُسْلِمُ الأخ أخاه إلى الموت والأب ولده (21) ، وأنها نشأت متأخرة في تاريخ الكنيسة، وربما ذكرها القديس متى هنا تسجيلا لقول الرب الذي قاله بعد ذلك في الأصحاح (10:24) ولكن وحدة التعليم والوصايا عامة واضحة في إنجيل ق. متى الذي أنهاها هنا في بدء أصحاح (1:11) هكذا : “ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم” لذلك يدافع المحافظون على وحدة حديث المسيح لتلاميذه وأصالتها الزمنية باعتبار أن المسيح إنما يعطي الانطباعات الكاملة لتلاميذه فيما سيصيبهم في آخر الزمان.

الشرح:

مقدمة الإرسالية وأسماء الاثني عشر [1:10-4]

1:10 «ثُمَّ دَعَا تلاميذه الاثني عشرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْقُوا كُلَّ مَرَضٌ وَكُلَّ ضُعْفٌ».

واضح أن ق. متى يعتمد على أن القارئ يعرف أن المسيح قد سبق واختار تلاميذه الواحد تلو الآخر في مواضع أخرى قبل هذه البداية. فهي هنا ليست بداية اختيار ، بل بداية إرسال بعد كمال الاختيار وإعطاء التعليم العام مع الجموع.

وكون هذا الأصحاح يبدأ بحرف “ و ..Καὶ ” يعني أن الكلام هنا مضاف على آخر ما قيل في أصحاح (9)، حيث كان الكلام عن أن المسيح كان يطوف المدن والقرى يعلم ويكرز ببشارة الملكوت “ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. ولما رأى الجموع تحنن عليهم إذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها. حينئذ قال لتلاميذه … اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده” (35:9-38). ويكمل هنا المسيح أنه دعا تلاميذه ليرسلهم لنفس المهمة التي كان يقوم بها من كافة الوجوه.

علماً بأن هذه الإرسالية هي التي ذكرها المسيح في إنجيل ق. لوقا في وقت حرج جدا قبل القبض عليه: « حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء : فقالوا لا» (لو 35:22). وعلى نفس هذا النمط أرسل التلاميذ السبعين بنفس الكلام والوصية «وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتي … اذهبوا ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية …» (لو 1:10-4)

و هكذا يتحقق لنا أن المسيح ما كان يذهب ويعلم إلا وتلاميذه معه، إما الأخصاء الاثنا عشر أو ومعهم السبعون كلهم ليتعلموا ويتقبلوا روح الكرازة وقوة المعرفة وسلطان التعليم. كذلك لما أرسلهم لم يعودوا معا بكل تأكيد لأنه أرسلهم اثنين اثنين، فالمعقول أن يعودوا اثنين اثنين ليخبروا الرب بما عملوا، حتى اجتمعوا في النهاية جميعاً معه.

وحينما أرسلهم المسيح، اعتبروا من هذه اللحظة رُسُلاً، لذلك لا نسمع في سفر الأعمال عن تلاميذ بل عن رسل، إذ صار لقب تلاميذ يطلق على المؤمنين الجدد (أع 1:6). وبعد انتشار الخدمة وازدياد الخدام، فإنه حتى الرسل أخذوا لقب إخوة: «فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة» (أع 37:2 راجع مت 8:23) كما أخذوا لقب قديسين. والآن يلزم أن نتأمل كيف أعطاهم المسيح سلطاناً. هذا هو السلطان الأعظم الذي له القوة والقدرة أن يهب لمن يرسله سلطاناً بنفس الاقتدار ليعمل عمل المسيح الكرازي في الوعظ والتعليم وعمل المعجزات وإخراج الشياطين.

ولكن تكمن هنا خطورة كبيرة من جهة استلام المرسلين “السلطان” من قبل المسيح، فهو أصبح أمانة تحتم على المرسل أن يصونها، فالسلطان الذي أعطاهم المسيح أصبح منسوباً إليهم كسلطان رسولي يستمد كيانه وقوته من المسيح، فإن لم يصنة التلميذ أو المرسل بالروح والحق ومخافة الله، وبالسيرة المقدسة وسهر الروح على كل تصرف وفكر وعمل، فإنه يُسحب منه وينكشف أمام أعدائه والشياطين. علماً بأنه لا يفيد على الإطلاق أن يعتمد الكارز على اسم المسيح وسلطانه وقوته وهو ليس على مستوى الاسم

والسلطان والقوة. اسمع هذه التجربة + فشرع قوم من اليهود الطوافين المعزّمين أن يُسموا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع قائلين تقسم عليك بيسوع الذي يكرز به بولس وكان سبعة بنين لسكاوا رجل يهودي رئيس كهنة الذين فعلوا هذا فأجاب الروح الشرير وقال: أما يسوع فأنا أعرفه وبولس أنا أعلمه، وأما أنتم فمَن أنتم؟ فوثب عليهم الإنسان الذي كان فيه الروح الشرير وغلبهم وقوي عليهم حتى هربوا من ذلك

البيت عراة ومجرحين …» (أع 13:19-16)

على أن هناك ملاحظة دقيقة في تعبير ق. متى لا ينبغي أن تفوتنا، فالقديس مرقس يقول: وأقام اثني عشر ليكونوا معه وليرسلهم ليكرزوا » مر (14:3). هنا نجد ق. متى وهو يهودي لاوي (رابي) عتيق، لا يذكر كلمة ليكونوا معه” باعتبار أن المسيح هو الله معهم أكثر من أن يكونوا هم معه !! والأمر في فكر ق. متى منذ البشارة ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا (مت 23:1). وهنا ينكشف ق. متى بروحه المتعمقة والملهمة والواعية جداً راجع مت (20:18، وأيضاً حتى إلى نهاية إنجيله: « وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر آمین.» (مت 20:28)

كذلك يلاحظ كيف يضع كلمة “سلطان” في عملها الفائق. فهو يقول أولا إنه أعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة هذا جيد، ولكن عاد وعين فعل هذا السلطان حتى يخرجوها هذا هو قوة السلطان الذي للمسيح. أما قوة الشفاء من الأمراض والضعف فهي في الحقيقة تتم بعمل الاسم، اسم يسوع الذي هو قوة الشفاء بل وقوة إخراج الشياطين أيضاً.

4-2:10 وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فهي هذِهِ : الأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ . يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ فِيلْبَسُ، وَبَرْتُولَمَاوُس. تُومًا، وَمَتَّى الْعَشَارُ. يَعْقُوبُ بْنُ عقوبَ بْنُ حَلْقى، وَلَبَاوُسُ الْمُلقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ القانوي، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ».

أما لماذا اثنا عشر، فالكلام في ذلك كثير جداً، ولكن باختصار هو العدد الذي اختاره الله قديماً ليمثل شعب إسرائيل بجملته، والجميل أنهم كانوا إخوة لأب واحد هو يعقوب رجل البركة الذي ورثها من إبراهيم وورثها للاثني عشر، واختص منهم يهوذا بصورة بارزة وهو السبط الذي قام منه المسيح. هكذا التلاميذ اختارهم المسيح ليمثلوا الشعب الجديد، وقد صاروا بروح المسيح إخوة حقا لأب واحد هو الله يصلون إليه أبانا الذي في السموات فقد تبناهم المسيح الله تمهيداً ليتبنى بهم شعب الله الجديد كله. والأمر الهام جدا الذي نريد أن نوصل حقيقته للجميع هو أن الرسل أخذوا سلطان المسيح وبره وهيبته وصاروا أساس الكنيسة فكرمتهم فوق كل كرامة والذي يريد أن يستزيد من هذا المعنى فليقرأ سفر الرؤيا ويرى كيف هم أساس أورشليم الجديدة وأبوابها اللؤلؤية. وفي ذلك يقول ق بولس: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” (أف (20:2)

أما عن اختيارهم، ولو أن ق . متى لم يذكره، ولكن يليق أن نذكره هنا، فالمسيح اختارهم بعد ليلة أمضاها كلها في الصلاة وكفي! “وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة الله. ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر الذين سماهم أيضاً رسلا ” (لو 6: 12 و 13)

وكما يقول العالم الحكيم القديم بنجل [إنهم أمراء Princes” ملكوت المسيح أو السموات!] ولهم كرامة الأولوية فوق ملوك الأرض طرا. وأسماؤهم أعطيت بترتيب دقيق للغاية، درسته الكنيسة في تقليدها وعرفت أماكن بشارتهم في العالم وأعطيت تواريخ استشهادهم أو انتقالهم لتكون أعياداً +للكنيسة لأنه من المعروف جيدا – بعد دم المسيح – أن دم الشهداء الرسل كان بذار الكنيسة التي ألقيت على أرض العالم فنبتت كاتدرائيات.

ولو أننا نتحاشى دائما عمل المقارنات بين الأناجيل، وعمل الجداول التي تربك فكر القارئ، ولكننا نستسمح طول بال القارئ لنقدم دراسة متانية دقيقة وجميلة للعالم الحكيم بنجل وهو يوحنا ألبرت (1687 -1752م) يعطي فيها بدقة مدهشة قيمة أسماء الرسل وترتيبها كما جاءت في الأناجيل الثلاثة وسفر الأعمال، وهو مثل للدراسة الإنجيلية المدققة التي تخرج بحقائق تظهر جمال الإنجيل وتضيف للكنيسة حكمة:

إنجيل ق. متى (2:10) إنجيل ق. مرقس (3: 16) إنجيل ق. لوقا (4: 14) سفر الأعمال (أع 1: 13و26)

سمعان

وأندراوس

يعقوب

ويوحنا

فيلبس

وبرثولماوس

توما

ومتى

ويعقوب بن حلفي

ولباوس (تداوس)

سمعان القانوي

ويهوذا الاسخريوطي

سمعان

ويعقوب

ويوحنا

وأندراوس

وفيلبس

وبرثولماوس

ومتى

وتوما

ويعقوب بن حلفي

وتداوس

وسمعان القانوي

ويهوذا الإسخريوطي

سمعان 

وأندراوس

يعقوب

ويوحنا

فيلبس

وبرثولماوس

متى 

وتوما

ويعقوب بن حلفي

وسمعان الغيور

يهوذا أخو يعقوب

ويهوذا الاسخريوطي

بطرس

ويعقوب

ويوحنا

وأندراوس

وفيلبس

وتوما

وبرثولماوس

ومتى

ويعقوب بن حلفي

وسمعان الغيور

ويهوذا أخو يعقوب

متياس

1 – الجدول الأول إنجيل ق. متى، والجدول الثالث إنجيل القديس لوقا يذكر ان الأسماء اثنين اثنين.

2 – الجدول الثاني إنجيل ق. مرقس يذكر الأسماء فرادى.

3 – الجدول الرابع (سفر الأعمال يذكر الأسماء جميعاً إنما بالترتيب.

4 – الجدول الأول (ق. متى) والثالث (ق. لوقا ) يقع الجدول زمنيا في زمن تكريسهم مباشرة.

5 – الجدول الثاني (ق. مرقس الترتيب يتعلق بمقتضى قربهم للمسيح قبل آلامه.

6 – الجدول الرابع (سفر الأعمال الترتيب يتعلق بكرامتهم بعد الصعود.

7 – العدد الكلي (12) إذا قسمناه إلى ثلاث مجموعات في كل منها أربعة أسماء، نجد أن في كل مجموعة منها كل اسم فيها لا يمكن أن يتبادل مكانه مع أي اسم في المجموعتين (الأربعات) الأخرتين. فمثلاً أي اسم في المجموعة الأولى للقديس متى وهم سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا، لا يمكن أن نجد واحدا منهم يحل محل أي اسم من المجموعتين (2) أو (3) في الأناجيل الأخرى، بمعنى أن كل اسم في كل مجموعة ثابت في مجموعته على مدى الإنجيل كله! يُثبت أن تسجيل الأسماء في كل إنجيل يتبع قاعدة ثابتة لا تخل. انظر وتعجب، هذا سر الإنجيل.

8 – في الجداول الأربعة نجد أن ق. بطرس يُذكر الأول في المجموعة الأولى ولكن ذلك لا يتبع أي مبدأ إلا مبدأ التسجيل.

9 – في الجداول الأربعة نجد أن ق. فيلبس يُذكر الأول في المجموعة الثانية (انظر يو 1: 42 و44، 22:12)

10 – في الجداول الأربعة نجد أن ق. يعقوب بن حلفى يُذكر الأول في المجموعة الثالثة. 11 – في الجداول الثلاثة الأولى يسقط الخائن كآخر اسم في الخانة الأخيرة وفي الجدول الرابع لا يُذكر جملة.

12 – في إنجيل ق. متى يضع ق. متى نفسه بعد زميله في التعيين أي بعد توما بعكس ما ذكر ق. مرقس وق. لوقا، وبذلك يثبت أنه كاتب الإنجيل ومتواضع.

13 – وهناك بعض المدح أو المحاباة فالقديس لوقا ومعه ق. مرقس وضعا اسم توما بعد متى، ولكن بعد أن اعترف توما بقيامة الرب (يو :20 27 و 28) أراد .ق. لوقا أن يمدحه فوضعه قبل متى وبعد فيلبس مباشرة!

14 – وكل أربعة من الثلاث أربعات أخذنا منها بركة فأخذنا من الأربعة الأولى رسائل بطرس وإنجيل يوحنا ومن الأربعة الثانية أخذنا إنجيل ق. متى، ومن الأربعة الثالثة أخذنا رسالة يعقوب ورسالة يهوذا أخي يعقوب.

الأسماء استغرقت من (2:10) إلى (4:10) والآن نعود للآيات آية آية:

“الأول سمعان الذي يُقال له بطرس وأندراوس أخوه ”

بطرس وأندراوس أخوه كانا من بيت صيدا، ولكن بعد ذلك ذهبا واستوطنا في كفرناحوم مع المسيح وق. متى. وهنا يقف التعداد فلا نجد من هو الثاني، وكأنما أعطى الأول كامتياز ولكن ليس على إخوته، وأيضا ليس مصادفة، لأنه هو وأخوه نظر إليهما – بحسب العالم ماير (100) – أنهما Prwtoklhtoi بمعنى أول من دعيا «كان أندراوس أخو سمعان بطرس، واحداً من الاثنين والثاني هو يوحنا اللذين سمعا يوحنا يقول هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم وتبعاه (تبعا المسيح). هذا وجد أولا أخاه سمعان فقال له قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح» (يو 1: 40 و (41). وهذا يتفق مع الشهرة والصيت المتفوق الذي أخذه بين التلاميذ كأول بين متساويين. ونحن لا ننسى أن أول نطق إيمان بأن يسوع هو المسيح كان نطق سمعان بطرس: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت 16: 16) «فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 17 و 18). فإن كان الرسل قد تدرجوا حسب قدرهم عند المسيح فهذا واضح، وهذا نراه جيداً في اختيار المسيح لثلاثة التصقوا به في أهم وأخطر المناسبات بطرس ويعقوب ويوحنا، فهو أولهم ولكنهم على مستواه !

«يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه»

ويوحنا ويعقوب أخوه أخذا لقب بوانرجس لما أظهراه من طبيعة متقدة، لأن بوانرجس تعني ابني الرعد. علماً بأن ق. يعقوب أخذ إكليل الشهادة مبكراً على يد هيرودس أغريباس الأول (أع 12 1 و 2). أما ق. يوحنا فعاش حتى عبر القرن الأول. وهو آخر من عاش من التلاميذ على الأرض، وكان التلميذ المحبوب عند المسيح، وكتب إنجيله ونفي إلى جزيرة بطمس حيث كتب سفر الرؤيا.

«فيلبس»

كل المعروف أنه من بلدة بطرس وأندراوس من بيت صيدا، من أوائل الذين قبلوا دعوة المسيح للتلمذة، وقدر ما يلزم أن يُطعم به خمسة آلاف شخص بمئتي دينار (يو 6: 5 و7) ، وهو صاحب السؤال البسيط الضخم «يا سيد أرنا الآب وكفانا» (يو 8:14) ، فكان رد المسيح عليه لاهوت في لاهوت “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 9:14) فنشكر فيلبس كثيراً على هذه المعلومة الأزلية. مع ملاحظة أن الأسماء أندراوس وفيلبس وبرثولماوس أسماء يونانية، وللأسف لم تذكر أسماؤهم العبرية التي كانوا مشهورين بها في الوسط اليهودي.

‏«برثولماوس»

فهو يعني “ ابن تولماي” وهو اسم مذكور في (2صم 37:13) «فهرب أبشالوم وذهب إلى تلماي بن عميهود ملك جشور» ولكن اسمه العادي نثنائيل (يو 1: 45 و 49 ،2:21) ونثنائيل هو صاحب الرد المشهور وغير المقبول: «أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح» (يو (46:1)، ولكن وجد قبولاً من المسيح وترحابا: «هوذا إسرائيلي حقا لا غش فيه» (يو 47:1). وهو واحد من السبعة الذين ظهر لهم المسيح بعد القيامة على بحيرة طبرية.

‏«توما»

ولقبه (ديديموس) أي التوأم. وفي سفر الأعمال وتاريخ يوسابيوس يسمى يهوذا المشهور بديديموس، وهو صاحب الإيمان بالعيان الذي وضع إصبعه في جنب السيد .

« لباوس»:

أو تداوس وهو المعروف باسم يهوذا أخي يعقوب، ولباوس مشتقة من القلب الشجاع (من لب = قلب)، وهذا صار اسمه الرسولي بحسب ق. متى في المخطوطات القديمة. أما “تداوس” فأصل الاسم كلداني ويعني الحضن (من ثدى = صدر).

ويهوذا أخو يعقوب مذكور في (يو 22:14) باسم “يهوذا ليس الإسخريوطي” والمعروف عند العلماء ذوي البحث العميق أن لباوس عندما أخذ العماد من المعمدان صار اسمه تداوس وهذا يتمشى مع قوانين الرسل.  لذلك يرى العلماء أن الاسم الذي أعطاه .ق. مرقس له: أي “تداوس” يتمشى مع التقليد القديم.

يعقوب بن حلفي

ولكن حلفى أبا متى غير حلفى أبي يعقوب. وعرف عند ق. مرقس (40:15) باسم يعقوب الصغير وكان قصيراً.

‏سمعان القانوي

ويدعوه .ق. لوقا “الغيور” وجماعة الغيورين كانت جماعة متعصبة محاربة من أجل كرامة الله. ولكن هذا السمعان لم يكن ممن حمل السلاح في هذه الجماعة، بل كانت غيرته محصورة في الدين وحسب.

يهوذا سمعان الإسخريوطي: 

وهو مواطن من قريوت إحدى قرى سبط يهوذا (يش 25:15).

هؤلاء هم الاثنا عشر الذي عنهم صرح إنجيل ق. يوحنا أن المسيح «أحب خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى» (يو 1:13) وارتبطت روحه بهم إلى درجة قوله «شهوة اشتهيت أن أكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم» (لو15:22) وطبعا لأهداف إلهية. وهؤلاء هم أيضا الذين رفعهم إلى الآب بدعاء: «حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب. أما الآن فإني أتي إليك. وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم. أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. قدسهم في حقك. كلامك هو حق. كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم. ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق.» (يو 17: 12-19)

 

تعاليم المسيح للاثني عشر [5:10-42]

هنا تبدأ تعاليم المسيح للاثني عشر رسولاً. والقديس لوقا يقسمها إلى مرحلتين للتعليم، إحداهما للاثني عشر في الأصحاح التاسع، والثانية للسبعين في الأصحاح العاشر ويختص إنجيل ق. مرقس بأنه يذكر أن التلاميذ أرسلوا اثنين اثنين.

5:10 و6 «هؤلاء الاثنا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قائلاً: إلى طريق أمم لا تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لا تَدْخُلُوا . بَل اذْهَبُوا بالحري إلى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضالة».

كان ذلك حوالي سنة 28م. ويلاحظ أن السامرة أصلا كانت موطن أسباط إسرائيل، ولكن بعد العودة من السبي أرسل شلمنأسر (2مل 24:17) جماعات منحلة من عباد الأصنام لكي يُبعدوهم عن عبادة الله الحي، واختلطوا وتناسلوا معاً. ومن أجل هذا حاول السامريون بوضعهم الخليط المنحرف منع يهوذا من بناء الهيكل باستحضار اتهامات وأمر منع من أرتحشستا الملك (عز 7:4-24) بسبب هذا بالإضافة إلى المنازعات اللاهوتية ذات الأصول الليتورجية في العبادة، فبدأت وتعمقت العداوة بين السامرة ويهوذا. لأجل هذا حينما بدأ عصر الخلاص أراد المسيح أن يحتفظ بالتعاليم الصحيحة أولاً لليهود فقال للمرأة السامرية: «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق » (يو 4: 22 و 23)

ولكن كانت هذه التعليمات متبعة فقط حتى صعوده، وبعد ذلك أرسلهم المسيح للسامرة وأقصى الأرض بعد أن نالوا قوة الروح القدس من الأعالي للحفظ والانضباط (مت 28: 19 ، أع 8:1)، لأن المسيح نفسه كان قد ابتدأ يعلم أثناء سيره في السامرة (يو 4).

وهكذا أرسل المسيح الاثني عشر الخراف بيت إسرائيل الضالة، ولكن خراف بيت إسرائيل الضالة لبسوا جلد ذئاب، وقتلوا الراعي الدولة التي أخذت من قلب الله كل إعزاز وحب وكرامة.

 

« إسرائيل ابني البكر » (خر (22:4)، «لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني» (هو 1:11). الدولة الوحيدة في العالم التي كان يحكمها الله بنفسه ويرعى شئون أكلهم وشربهم ولبسهم، ويقودهم بالليل بعمود نور وبالنهار بسحابة غمام؛ الذين في أعز أوقات قربه منهم تركوه على الجبل يتكلم مع موسى وصنعوا لأنفسهم عجلا كعجل أبيس في مصر ليعبدوه. فقد كلمهم الله بالأنبياء مبكراً ومؤخرا وهم أعطوه القفا دون الوجه، وكتفاً معاندة، وصلبوا رقابهم عليه، وغلظوا قلوبهم وسدوا آذانهم وغمضوا عيونهم، وهو يمد لهم يديه طول النهار. فخراف “إسرائيل”، لم تعد تعيش في إسرائيل لأن أرض إسرائيل احتلها السامريون ونجسوا اسم إسرائيل، بل كانوا في اليهودية وأورشليم والجليل الأوسط والأعلى. إليهم أرسل تلاميذه الاثني عشر ليؤسسوا عهده الجديد على مستوى الاثني عشر سبطاً للآباء في العهد القديم (تك 28:49). وهكذا، وبناء على صلواتهم لرب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده، كانوا هم أول الفعلة، مؤيدين بسلطان فائق لخدمة ملكوت السموات: «الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء .» (مت 18: 18)

7:10 «وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ أكْرِرُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ».

ما نادى به المعمدان، ونادى به المسيح هو موضوع الساعة باب السماء مفتوح ؛ دعوة الحياة الأبدية مع الله ؛ الدخول في عهد حب ورضا مع الله لا خروج منه؛ تدشين عهد جديد مركزه السماء، يحكم فيه الله بالحب والمودة؛ وصاياه إنعامات وأوامره للمجد؛ ليس له ليل ونهاره بلا غروب. وليمة خيرات ما لم تنظره عين ولم تسمع به أذن الملائكة تخدمهم، وصناعتهم مديح وتسبيح على آلات سماوية، وترانيم يتعلمونها لتكوين خوارس للمجد تخدم أمام العرش. ولكن لهم زي يبدأ تشكيله على الأرض يُدعى لباس العرس، مغسول بالدموع وبدم الحمل، منسوج كله من فوق، خيوطه ألوان نسك، عبادة سهر، صوم، صلاة، وخدمة وشفاعة وغسيل أرجل والجري وراء الخروف الضال، ومحبة إخوة على محبة أعداء، حزن وضيق، تجارب وأمراض بلا شفاء، تشهير، فضيحة آذان قدور مسخمة بالهباب مربوطة في العنق، مهانة وإهانة في الشيخوخة، ويُحسب أنه ثمن زهيد.

«وفيما أنتم ذاهبون»

وهي استجابة من جهة التلاميذ لأمر المسيح «اذهبوا» في الآية السابقة. فالكلام متصل اتصالاً وثيقاً، وكأنهم تلاميذ مدرسة المعلم العليا، ذاهبين للتمرين والحصول على نتائج لحساب المعلم. إنها أول مدرسة لاهوت في العالم وأول حقل بشارة بالإنجيل سمع عنه، وأقدام مبشرين حلوا على جبال إسرائيل التي شبعت من دموع الآباء والأنبياء وقد حان زمان الإثمار وطبعاً كان نداء المعمدان على ضوء ملكوت الله هو التوبة السريعة، فالعريس قادم. ولذلك كان نداء المسيح هو الاستجابة، لأن الأذن الإلهية سمعت الأنين والتنهد، فنزلت ولبست جسداً ، والعريس يطلب المدعوين على المأدبة. فقد حان زمان مسیا، عزوا عزوا شعبي !! والنعمة على الأبواب، والروح القدس تهيأ لينسكب من السماء بشبه المطر الجارف على الشيوخ أحلاماً، وعلى البنين والبنات نطقاً، والعبيد والإماء تهليل حرية ومجداً. وعلى هذا المنوال يطلب الكارزون توبة، فالعريس داخل على الصليب ويطلب شركاء آلام.

8:10 «اشْفُوا مَرْضَى طَهِّرُوا بُرْصاً. أقِيمُوا مَوْتَى أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانَا أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أعطوا».

ولكن في زماننا الآن نود بكل اهتمام، وكل توعية أن نقلب هذا الترتيب مجاناً مجاناً، لأن الأجرة في الجيب تليق بالعبيد وخدام الأصنام والمدعين والأنبياء الكذبة. أما تلاميذ الرب ورافعو البخور والصلوات والذين قدموا أنفسهم ذبائح ناطقة فلا يستبدلون النعمة والروح القدس بذهب وفضة، والموهبة لا يُدفع ثمنها. فإن استوفى الخادم والمُرسل الشرط الأخير مجانا أعطوا نال الوعد بتتميم الشفاء وتطهير الأبرص وخروج الشيطان صارخاً. وليعلم كل معلم وخادم وكارز أنه يُعلم ويكرز لحساب ملكوت الله، الذي إذا طلبه طالب وسعى إليه ساع فكل أمور الدنيا تعطى له وتزاد، وبيد القادر القدير، والذي لا يريد أن يخدم لحساب الملكوت ما له والخدمة؟ فهي الأساس والهدف والغاية والنهاية!

وليعلم الكارز أن ذهباً وفضة لا تدخل منطقته، التي تعني الآن كيسه وجيبه المنظور وغير المنظور، وإلا فقد الدعوة والقوة على الرسالة، يتكلم كثيراً وما ينفع إلا قليلاً، وصلى وتوسل وأطال الصلاة ولا مجيب. فالخدمة والرسالة والوعظ وأعمال المرسلين كلها إما تؤخذ بشروطها وإلا صارت عبئا على المتقدم للناس وعبئاً على الله. ولكي نشدّد القول والعزيمة نقول إن الخادم والكارز والمرسل لا يعيش منحلاً ومحباً للمال، بل يتكل على بر المسيح والله وعلى سلطان المسيح. انتبه أيها القارئ، فالمسيحالله) أعطاهم سلطاناً خاصاً بهم يعتمدون عليه ويخدمون به ويتكلون عليه ويطلبونه كل لحظة، فيأتيهم إن ظلوا أمناء على شروط الرسالة وأمانتها، وإلا ينتزع منهم السلطان بمعنى أن يكون الخادم والكارز والمرسل قد نقى قلبه وضميره من شهوات خيرات الرعية وبريق ذهب العالم وحاجياته وأدواته الحديثة وتحفه، وربط على قلبه ووسطه، وانطلق متكلا على سلطان المسيح والله الذي ناله، يخدم به، وهذا السلطان لن يفارقه طالما كان أميناً عليه. وحينئذ ينفتح أمامه باب السماء، يطلب فيجد حسب الوعد في كل حال وعلى كل الأحوال، لا يخيب رجاؤه ولا تتعوق استجابة صلاته. وحينئذ لو قدموا له جبالاً من ذهب ما فرط في سلطان الله الذي صار له فثمن سلطان الخدمة يساوي حفظ الإنسان لنفسه من دنس العالم !!

فانظر أيها الكارز المرسل لمعنى الرسالة وشروطها، ولا تأخذ الأمور بخفة وحرارة مؤقتة واندفاع غير محسوب النفقة. فضع الجوع والعطش والكفاف وربما الاضطهاد في الدرجة الأولى بعد مجانية الكرازة. هذه بقناعة والأخرى بفرح !

9:10 و11 «لا تقتلوا ذهباً ولا فضة ولا نُحاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ، وَلَا مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلَا ثوْبَيْن وَلَا أَحْذِيَة ولا عصاً، لأنَّ الفَاعِلَ مُسْتَحِقَّ طَعَامَهُ».

والمعنى هو أن لا تقتنوا لا كميات كبيرة ولا صغيرة ولا فكة ، لأن هذا معناه أنكم تنوون الاعتماد على العالم، لأن هذه تختص بالعالم. أما أنتم فخدمتكم تختص بملكوت الله، والله لا يتعامل بالذهب والفضة والنحاس، والله سيكون هو المتكفل بأعواز الحياة.

«مزوداً للطريق»:

وهي “المخلة” التي يوضع فيها الطعام المخصص للسفر والقصد أن لا ينشغل بال الكارز بشيء من جهة الجسد لتظل روحه مهيأة بالاتصال بالله من أجل خدمة ملكوته.

«ولا ثوبين»

بمعنى يكتفي بالذي يلبسه فقط.

«ولا أحذية»:

بمعنى يكتفي بالذي يلبسه في رجله فقط.

«ولا عصا»:

بمعنى لا للدفاع عن نفسه ولا ليستند عليها ليجعل الله هو المدافع عنه واستناده على ذراع الرب.

والقديس مرقس يوضح مسألة الأحذية والثوب كالآتي: بل يكونوا مشدودين بنعال، ولا يلبسوا ثوبين (مر 9:6)، أما موضوع العصا وضرورتها فيذكرها .ق. مرقس: «وأوصاهم أن لا يحملوا شيئا للطريق غير عصا فقط …» (مر8:6). كل ذلك لأن الفاعل مستحق طعامه وبالتالي مستحق المعونة من كل نوع فهو بمثابة موظف عند الله يقبض الأجرة مباشرة من يده، مع تأمين شخصي وحارس إلهي خاص بودي جارد”. ولكن يرى أحد العلماء الظرفاء أن المرسل والكارز لا يحمل كيساً أصلا ولا مزوداً بأي حال ليس لكي يعتمد على الله في كل شيء فقط، بل ولكي لا يستطيع أن يأخذ شيئا من النقود أو العطايا، إذ لا يوجد عنده ما يضع فيه ويختزنه! فإن أحسن عليه أحدهم بورقة بعشرة جنيهات مثلا يبتسم ويقول لصاحبها ليس عندي مكان أضعها فيه. ومعنى هذا في مفهومنا بحسب الحاضر أن لا يكون في ملابسه جيوب بالمرة.

11:10 وَأَيَّةٌ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا.

ما صنعه الرب مع زكا ومع متى لا ينبغي أن يكون مع التلاميذ، فالمسيح كان الطبيب الوحيد للمريض المديف إلى الموت وفي يده وحده الحياة. أما التلاميذ فلا ينبغي أن يقيموا في بيت ليست له شهادة استحقاق من أهل المدينة ومن روح النعمة الذي يدلهم على بيوت النعمة. وللقديس جيروم قول في هذا : لا تجعلوا استحقاق وعظكم أن يشوّه بتقارير سيئة عن من تعظونه. وهذا يكشف أيضاً لماذا لم يعطهم المسيح أن يذهبوا إلى المجامع أو الأسواق، لأنهم لم يأخذوا بعد القدرة على المواجهة العلنية.

أقيموا هناك حتى تخرجوا

هذا البيت الذي يكون قد وقع عليه الاختيار بسبب سمعته الطيبة يصبح مركز إقامة يستقبل فيه الكارز جميع الآتين إليه من البيوت الأخرى. لهذا سبق وقال أن يكون مستحقاً لمثل هذه الخدمة المباركة، أو حتى إلى أن يستوفي الكارز كرازته ويقبل أهل البيت رسالة الإنجيل ويقبلوا الإيمان بالمسيح يسوع باعتباره مسيا الذي أتى «وجدنا الذي كتب عنه موسى.» (يو 45:1)

والملاحظ أنه بالرغم من اعتماد المسيح على القوة الإلهية التي ستوفر للتلاميذ البيوت والمناسبات والسامعين، إلا أنه شدد على فحص التلاميذ والتأكد من أن اختيار البيت مقبول من الله ومن أهله. وعموماً فإن ضيافة الشرق كله للغرباء والمسافرين أمر معروف، ولكن فيما لإسرائيل كان الوضع ثابتاً وموروثاً:

«لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس (إبراهيم) ملائكة وهم لا يدرون» (عب 2:13). والكارز هو ضيف الله له أن يستقبل كما يستقبل ملاك. ولكن ولأن المرسلين أرسلوا اثنين اثنين، وهذا شرط جوهري يتحتم الالتزام به من جهة ضمان السلوك والأخلاق، لذلك كان النزول كضيوف عند الناس مقبولاً أكثر. كما كانت حركة المرسلين حرة في الدخول والخروج للمناداة بالملكوت. هذا والمؤكد أن بركة الله تحل في الحال على البيت الذي يقبل أن يُكرز فيه بالإنجيل، والله بالأكثر يثبت وجوده معهم وينبههم ويصنع كل ما يناسب إيمان القوم ويفرح قلوبهم. فالكرازة هي بالأخبار السارة، وكانت البيوت تتخاطف هذه الضيافة وتفيض النعمة بالأكثر على كل من اشترك في الخدمة والضيافة والأكل وكل أعواز الخدمة. وإن ينسى الكاتب ” لا ينسى اليوم الذي أضاف فيه وفي بيته خدام مؤتمر مدارس أحد الجيزة سنة 1948م في دمنهور فكانت أعياداً بمعنى الكلمة وكانت الفرحة الغامرة والإحساس بأن البيت والعمل والحياة تقدست في هذه الأيام وأثمرت ما أثمرت وهل يُنسى أن ق. متى صنع في بيته ضيافة ووليمة للرب وتلاميذه؟

12:10 و13 «وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًا فَلْيَأْتِ سَلَامُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًا فَلْيَرْجِعُ سَلَامُكُمْ إِلَيْكُمْ».

سلموا

وهي تعني بالمفهوم المسيحي: “الخلاص”.

‏فليأت سلامكم عليه

هنا السلام تحية قلبية ولكن يرافقها دعاء من القلب لكي يحل بالفعل سلام الله عليهم. فإن قبلوا أو إن كانوا حقا أهلا له كمؤهلين لقبول سلام الله الذي يفوق كل عقل، حل عليهم، وإلا فليرجع هذا الدعاء لكم بالبركة والقوة والسلام. بمعنى لن تخسروا شيئا بل يُضاف لكم ما كان لهم وهذا يعني ويفسّر القول أن كلمة الله لا ترجع فارغة، فإن لم تقابل بالرضى والمسرة ارتدت حاملة سلام الله لكم: «هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليَّ فارغة بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما أرسلتها له لأنكم بفرح تخرجون وبسلام تُحْضرون …» (إش 55: 11و 12)

14:10 و 15 «وَمَنْ لَا يَقْبَلُكُمْ وَلا يَسْمَعُ كَلامَكُمْ فَاخْرُجُوا خارجاً مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْقُضُوا عُبَارَ أَرْجُلِكُمْ الْحَقَّ َأقولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لَأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَة يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أكثرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ».

المعنى صعب والعقاب شديد للغاية ومر، ويا ليته كان محصورا في الإنسان، بل يتعدى ذلك إلى الأرض ذاتها. فالقصد من أن ينفض الخادم رجليه من التراب الذي لصق فيها هو لأن التراب والأرض ستدخل المجازاة والشهادة ضدهم، وكأنه يخلي ذمته من خطية هؤلاء القوم ولكن عودة إلى التعمق مرة أخرى في الموضوع، فالرفض هنا ليس مجرد رفض السلام بل رفض رسول السلام القادم باسم رب الجنود للبشارة بالخلاص والحياة الأبدية فالرفض للخلاص والمسيح والملكوت. فماذا يتبقى لهؤلاء القوم؟

وهنا يتحتم أن تلقي ضوءاً أكثر بشدة. فالخادم والمرسل لم يأت ليأخذ ذهبا ولا فضة ولا لكي يأكل ويشرب، بل جاء ليعطي خلاصاً ابتدأه بالسلام فإن رفض السلام ومعطي السلام يكون الرافض قد رفض رسالة الخلاص بجملتها، وبالتالي يكون قد قبل اللعنة. فإن كان على المرسل أن ينفض غبار رجليه فهو ينفض آثار اللعنة التي ستحل على أصحاب هذا التراب. فإن تجرأ كارز وعمل هذا في بيت رجل مسيحي مؤمن يمارس الخلاص فاللعنة تحل على الكارز نفسه لأنه بمثابة من يلعن الإيمان والخلاص. فالمفروض هنا باركوا لاعنيكم فوصايا المسيح للبركة وليست عصا نؤدب بها المؤمنين ونهدد بها إيمان الأتقياء أو تنتقم لكرامتنا.

إذن، فالتحذير هنا خطير: إن كان الكارز أو المرسل قادماً ليجمع الجراية أو العادة أو الاشتراك أو العطية أو الذي فيه القسمة ” من جنيهات أو دولارات أو ماركات أو فرنكات بالألوف أو الملايين، فعدم السلام هنا، بل ورفض السلام، بل ورفض رسول السلام هو نصيبه الحقيقي من قبل الرب، فعليه أن يحمل الخجل وحده ولا نصيب له في عزاء، فيكفيه عزاؤه من رصيده في البنك أو في البيت أو في الخزنة فالسلام يعود بقوة مضاعفة للذين ليست في مناطقهم ولا مخازنهم ذهب أو فضة، أما النحاس فبطلت عملته. ولهذا يلقي المسيح مسئولية الرفض على أساس رفض الإيمان وليس رفض وفادة جابي الضرائب والحسنات.

16:10 «هَا أنا أُرْسِلُكُمْ كغنم في وسط ذئاب، فكُونُوا حُكَمَاء كَالحَيَّاتِ وبسطاء كالحمام».

کغنم

من طبقة الحمل الوحيد.

إرسالية المسيح من جهته هو أنا أرسلكم»  = أنا. إرسالية فاقدة كل أدوات التسليح والدفاع والنقمة كغنم بلا أنياب، بلا قرن ولا ظلف، والذئاب من حولها تعيش وتتربص والمسيح يقولها وسط ذئاب ليبين مدى الخطورة المحيطة. والآن والحال كذلك لم تعد فرصة، أي فرصة للدفاع عن الذات، أو استخدام الهجوم أو المقاومة أو حتى الاستفزاز. فانتبهوا لأن عينكم على الخروف الضال وعين الذئاب عليه بآن واحد واستدراج الخروف الضال إلى الحظيرة كم يحتاج إلى حكمة لمخاتلة الذئب وإلى بساطة تناسب بساطة الحمام. إنه صراع متبادل على فريسة واحدة ولا سبيل إليها إلا بالحكمة والبساطة، أما استخدام القرن والناب فهذه ليست من وظيفتكم. الحية قيل عنها قديماً أنها ذات مكر: «وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله» (تك 13). وبولس الرسول يؤمن على هذا القول: ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح (2كو 3:11). ولكن ق بولس نفسه استخدم مكر الحية ليخلص نفساً من الهلاك، وهكذا تقمص مكر الحية ليسحق رأسها بمكره هو : «أنا لم أثقل عليكم لكن إذ كنت محتالاً أخذتكم بمكر » (2 کو 16:12). وهنا يود المسيح لتلاميذه أن يكون لهم مكر الحية في استخلاص الحمل من فم الذئب، ولكن ليس في شراسة القوة بل في بساطة الحمام. وسوف نعرف من باقي الوصايا أنه إن جد الجد ورفع السيف فلا مقاومة البتة بل كحمامة وديعة تحني رأسها «وسَيُسلم الأخ أخاه إلى الموت.» (مت 10: 21)

ولكن كلام المسيح يعود أيضاً على سلوك التلاميذ أنفسهم بالنسبة لحياتهم، فالمطلوب بحسب فكر المسيح أن يكون للكارزين وعي يتسم بالحكمة والبساطة معاً وبأن واحد، وذلك في مواجهة الأخطار المحيطة بهم. وأعظم توجيه يمكن أن نستخلصه من كلام المسيح هو الالتجاء إلى الروح القدس فورا الذي سيكشف عنه المسيح في الآية (19) ، إذ معه تبلغ الحكمة والبساطة أوجها فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم» (مت 10: 19 و 20). إلى هنا نكون قد بلغنا ملجأ الحكمة والبساطة، حيث يبقى علينا أن نسلك بوداعة واستقامة دون خوف ولا اضطراب حتى تخرج الشهادة بروح المسيح ونصرة الصليب ولا يوجد ضدنا ما يمكن أن تسأل عنه «أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً وفي الخفاء لم أتكلم بشيء .» (يو 20:18)

17:10 و 18 «ولكن احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وَلَاةٍ وَمُلُوكَ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأمم».

وهكذا تظهر الآية السالفة ممهدة لهذه الآية، ففي الناس مَنْ هُم أشر من الذئاب أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة (مز 21:55). لقد صار هذا الاصطلاح لغة الكنيسة في الحديث عن غير المختارين وقدرتهم في تضليل أولادها: «ذئاب خاطفة»

ولكن هنا الخطر وارد على حياة الرسل، وقد جازوا هذه المواقف بجدارة وسفر الأعمال مليء بما عاناه الرسل، وخاصة بولس الرسول أكثر من انطبق عليه هذا المثل، حيث مثل أمام مجمع وراء مجمع حتى ظفروا به وأسلموه كسيّدِهِ، بعد أن أشبعوه جلداً وضر باورجما، وسيق القديس بولس أمام الولاة والملوك ودافع عن المسيح وعن إيمانه وشهد في أعظم محافل روما القضائية، ونال بالنهاية إكليل الشهادة. إن المسيح هنا في اعتقادنا لا يُحدّر بل يُبشر، ولا يوعي هنا من خطر بل يسبق ويبارك عليه. ويكشف هذا المعنى قوله في النهاية من أجلي شهادة لهم وللأمم». فمخاطر الذئاب الخاطفة وقسوة المجامع والحكام والأحكام جيدة وكلها تؤول إلى صميم خدمة الكرازة. وقد أكمل بها الرسل رسالتهم، وبها انتشر الإيمان أكثر من الخدمة والوعظ الهادئ. فما عرفه العالم من المسيحية ودقائق الإيمان بها عن طريق المحاكمات والسجن والضرب والقتل يُعتبر إنجيلا كاملاً. وأصبحت هذه المواقف الصعبة دروساً في صميم الإيمان المسيحي، بل ومصدراً للكرازة وإذاعة الإيمان، وعندنا محاكمة القديس والشماس استفانوس نعتبرها بداية إذاعة الإيمان المسيحي الحقيقي في وسط الشعب اليهودي وللفريسيين أنفسهم، الذين قاموا بالاضطهاد والتعذيب والقتل. فمحاكمة وتعذيب ق. استفانوس وهو مجرد شماس كان درساً إلهيا بمعنى الكلمة لفريسي عنيد وأشد مضطهد للكنيسة ظهر في العصر الأول، الذي روع الكنيسة وأرعب الرسل وشئتهم وشئت المؤمنين ونكل بهم رجالاً ونساءً. ولكن كانت النتيجة أنه هو الذي التقط الإيمان الصحيح وأصبح جاهزاً للدعوة العليا من السماء من الرب الروح نفسه بل وأثناء سجن .ق. بولس بعد ذلك ودفاعه المتواصل عن نفسه كان أهم موضوع يعرضه على الحكام والملوك هو كيفية اضطهاده للمسيحيين وما نشأ عن ذلك من إيمانه هو. وهكذا وإلى الآن فبذرة محاكمة استفانوس هي رأس مال الكنيسة لاهوتيا وتاريخياً وتعليمياً. أما النعمة والحكمة والإلهام الذي دافع به استفانوس عن المسيح والصليب أمام السنهدرين وضد مضطهدي الكنيسة فكانت أقوى ما سمعنا عن الإيمان المسيحي حتى اليوم. وهكذا وعد المسيح وحقق الوعد !! والكرازة والرسولية والإرساليات تسير !! (انظر دفاع ق. استفانوس في كتاب شرح أعمال الرسل صفحة 327 وما يليها).

19:10 و 20 «فمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلا تَهْتَمُوا كَيْفَ أَو بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطُوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعة ما تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلَّمِينَ بَلْ رُوحُ أبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ».

هنا رسالة خاصة بالقبض والسجن والمحاكمة وكأنما يصوّر المسيح تاريخ الرسل والرسالة بفيديو يعطي الصورة الكاملة المسبقة بكل مواقفها ومخاطرها، ويحولها إلى قصة شيقة قبل أن تكون واقعة تعذيب وموت وسفر ! ويلاحظ أن اتجاه المسيح ذو الشعبتين: لا تهتموا لا كيف ولا بما( …How &  What) تدافعون”، فهنا المحامي جاهز وقد درس القضية وأعد المذكرات والدفاع واستخدم كل وسائل تعجيز المحقق والقاضي والحاكم، ورتب بنود موجبات البراءة لموكله والبراءة الكاملة دون نقض هي طلباته التي يلزم بها المحقق والقاضي اسمع أقوال التعجيز التي استخلصها ق بولس بروح الله من فم الحاكم والملك عنوة مما أذهل الشهود والسامعين والمحلفين والقضاة فقال للملك أغريباس وهو يستمع إلى مراحل قضية ق. بولس التي تزاحمت وملأت دوسيها بأكمله، وق بولس لا يكف عن الدفاع ومراوغة الملك وملاطفته حتى استدرجه للإيمان:

+ «لأنه من جهة هذه الأمور، عالم الملك الذي أكلمه جهاراً ، إذ أنا لست أصدق أن يخفى عليه شيء من ذلك، لأن هذا لم يفعل في زاوية بل أمام محاكم). أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء؟ أنا أعلم أنك تؤمن. فقال أغريباس لبولس: بقليل تقنعني أن أصير مسيحيا. فقال بولس: كنت أصلي إلى الله أنه بقليل وبكثير، ليس أنت فقط بل أيضاً جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا، ما خلا هذه القيود .» (أع 26: 26-29)

نعم، فقد صدق ق بولس في تعليمه حينما قال: «لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله التي نتكلم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يُعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات» (1 كو 2 :12 و 13). ويعرف .ق. لوقا هذا الموقف بقوله: «أعطيكم فما وحكمة .» (لو 15:21).

والمعروف والمؤكد أن في محاكمات وتعذيبات الرسل والمسيحيين أن الذي كان يُحاكم هو بالفعل المسيح، لذلك تكفل المسيح بالدفاع عن حق، لأن القضية قضيته بالدرجة الأولى، فهو المتهم وهو المسئول عن الاتهام ثم تأتي التعاذيب والآلام، فقطعاً كان يشترك فيها المسيح بأكثر من النصف أو كقول أحد الإخوة: لم أكن أحس بالضرب بكعب البندقية الذي كان يصوب إلى ركبي وظهري حتى ظننت أنهم طحنوا عظمي، فبعد أن وصلت أمام الضابط قمت واقفاً أتحسس شيئاً من الكسر فلم أجد ولا أثر لكدمة واحدة !! فأعادوا الضرب !!

وق بولس ينقل لنا خبرة شاول من السماء عن كيف يُضرب المسيح حينما يُضرب المسيحي: «شاول شاول لماذا تضطهدني ؟!» (أع 4:9)، «أما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه.» (أع 41:5)

21:10 و 22 «وَسَيُسْلِمُ الأخ أخَاهُ إلَى الْمَوْتِ، وَالْأَبُ وَلدَهُ، وَيَقُومُ الْأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغِضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلٍ اسْمِي. وَلَكِن الَّذِي يَصْبِرُ إلَى الْمُنْتَهَى فَهذا يَخْلُصُ».

هنا بغضة الأقربين للإنسان الذي يشهد للمسيح خوفاً من العار والفضيحة، كيف يصير أخوهم مسيحيا، فالعار الذي يلحق بالعائلة لا يطيق أن يتصوره الأهل، فيشتركون لا في التسليم للموت وحسب بل ويرتكبون الموت بأيديهم. سمعنا عن قتل الأم ورأينا كيف تتضافر جهود كبيرة ومسئولة لتسليم أخت بكل تدبير ممكن أن يكون. ولكن رأينا كيف ينقذ المسيح ابنته من أيديهم نهاراً جهاراً، لا في زمان مضى بل في هذه الأيام. فالخوف والاستهتار بالاسم يبلغ حد الخيانة والبيع المجاني. سمعنا عن أخ مؤمن حبسه أهله توطئة لإغراقه في النهر، وإذا في نصف الليل جاء العريس المنقذ وفتح له الباب ودفعه قائلاً: اهرب لحياتك. يخططون ويسلمون بلا رحمة وأب الرحمة يفك ويطلق السراح. قصص ألوف ومئات الألوف نصفها مفزع في كيف تصنع البغضة، والنصف الآخر مذهل إذ كيف تصنع المحبة والبغضة تسرح وتمتد لا تعرف أخا أو أبا أو أما لأن اسم المسيح لا يُطاق، كفيل أن يزلزل العلاقات ويبدد كل أثر لا للمحبة ولا للصداقة ولا للرحمة وحسب، بل وللإنسانية. فما يعمله ذئب أرحم مما يعمله أخ أو أب أو عم !! وكأن البشرية كلها ورثت من حنان وقيافا جنون الحقد والتشفي عندما ذهبا ليعاينا الصليب ليطمئنوا أنه قد ذبح بالتمام ومات. فاطمأنوا … ولكنه قام !!

وقول المسيح لا يزال يُردَّد في أرجاء الكنيسة حتى اليوم “وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت22:10). يصبر على البغضة القاتلة بالأمانة للاسم وباستعداد الموت، فهذا يخلص!

23:10 “وَمَتَى طَرَدُوكُمْ في هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إلى الأخرى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَا تُكَمِّلُونَ مُدْنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِي ابْنُ الْإِنْسَانِ”.

شرح هذه الآية أخذ من العلماء كل مأخذ، وأعلنوا أن حل هذه المعضلة غائب تماماً من أمام عيونهم، وهذا صحيح للغاية، لأنه لا يوجد لها حل، إذ أن المسيح سبق وحدد أن مجيئه لا يمكن أن يُحسب حسابه زمنيا، أو على حوادث زمنية أو في محيط قدرة الإنسان في قياسات الأزمنة والأوقات وتحديد مجيئه بأي حال من الأحوال. والواقع الذي يتكلم أمام أعيننا اليوم هو أن مدن إسرائيل، ربما كلها، أبعد ما يمكن عن حتى البدء بأن تقبل كارزين باسم المسيح. فإسرائيل تحت اللعنة إلى اليوم، ولم يحدث أن عبر الرسل كل مدنها لا أيام المسيح ولا بعده وحتى اليوم. إذن فقول المسيح هنا هو صادق وسيستمر صادقاً حتى يجيء المسيح ليعلن أن إسرائيل لا تزال بعيدة عن الإيمان. لأن وعد المسيح هو أن مجيئه يتعلق برفض كل مدن إسرائيل له وليس قبوله، وهي إلى الآن لا رفضته ولا قبلته ويبدو أن لإسرائيل نصيباً في مجيء ابن الإنسان حيث يرفع عنها اللعن لتقبله في يوم واحد:

+ «مَنْ سمع مثل هذا ؟ مَنْ رأى مثل هذه؟ هل تمخض بلاد في يوم واحد أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها. هل أنا أمخض ولا أولد يقول الرب أو أنا المولد هل أغلق الرحم قال إلهك ؟ افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذذوا من درة (ضرع) مجدها. لأنه هكذا قال الرب هأنذا أدير عليها سلاماً كنهر ومجد الأمم كسيل جار ف …» (إش 66: 8-12)

وهكذا نرى مع العالم جوندري أن بقية مدن إسرائيل ستنتظر خلاصها إلى أن يجيء المسيح حقا. ونحن نضيف أيضاً: ألم يقل بولس الرسول: «البقية ستخلص» (رو27:9). وما هذه البقية إلا تعبيراً عن بقية المدن وبقية الشعب وبقية اليهود في العالم !!

24:10 و 25 «ليس التلميذ أفضلَ مِنَ المُعلّم، وَلا الْعَبْدُ أفضلَ مِنْ سَيِّدِهِ. يَكْفِي التَّلْمِيدُ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَالْعَبْدَ كَسَيْدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ فكم بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ!»

إذا كان المعلم لم يوقر فالتلميذ لن يُحترم. ولهذا إن كان التلميذ أو العبد يُعامل باحتقار فهذا ليس مستغرباً، إن كان المعلم والسيد أهين وسلبت كرامته وواضح من الآية أنه إن كانوا قد لقبوا المسيح أنه أداة في يد الشيطان فيكفي أن يُقال على التلاميذ بالمثل. ولكن وعلى هذا الأساس نأتي إلى الإيجابيات، فإن كان التلاميذ والعبيد هكذا ارتبطوا بالمعلم والسيد وصار لهم نفس المعاملة والنصيب من الأعداء، فيتحتم أن يكون بالمثل لهم الحماية والولاية من الله كما المعلم والسيد. إذن وبالتالي وحتما أصبح عليهم أن لا يخافوا أعداءهم.

26:10 و 27 «فلا تخافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لن يُستَعلن، ولا خَفِيُّ لَنْ يُعْرَفَ الَّذِي أَقولُهُ لكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّور، وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الْأَذن نَادُوا بِهِ عَلَى السطوح».

فلا تخافوا الأقوياء والرؤساء والمعاندين، لأن علاقة كل منكم كتلميذ وعبد بالمعلم والسيد تجعلكم كما كنتم شركاء له في لقب الإهانة ببعلزبول سيكون هو مسئولاً عنكم، ومسئوليته تتعدى راحة الجسد إلى راحة النفس، سواء هنا أو عنده في ملكوته فتهديدهم ووعيدهم لا يتعدى الجسد. إذن فهذا لا ينبغي أن يخيفكم. كذلك إن كانوا يدبرون الخطط في الخفاء لاضطهادكم وتعذيبكم فسوف تعرف تلك الخطط وسيقدمون عنها حساباً لدى الله. لذلك إن كرزتم بدون خوف من أحد فلا تكتموا شيئاً، فكل ما علمتم علموا به. فالأمور الخاصة التي كنت أقولها لكم في الأذن فيما يخص مجيء المسيا علموا بها علنا وجهاراً ونهاراً.

مكتوم وتعني: مُغطى”. لذلك تأتي كلمة يُعلن بمعنى يكشف

مخفی وتعني: “سري”، ويأتي في مقابلها كلمة يُعرف 

28:10 «ولا تخافوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خافوا بالحري مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ».

هنا كشف أخير لمعنى الكرازة باسم المسيح والملكوت فهي دعوة إلى الحياة الأبدية التي لا يعرفها العالم. لذلك أصبح من غير المعقول لخادم أو كارز الملكوت والحياة الأبدية أن يخاف لئلا يقتل، لأن الجسد خارج عن موضوع الحياة الأبدية والملكوت. فلا خوف على الجسد، بل الجسد مقدم عند اللزوم ثمناً للحياة الأبدية بجملته، فأصبح عدم الخوف من قتل الجسد أساساً لعدم الخوف من الذين يهددون بالقتل، وليس في أيديهم بعد ذلك أن يعوّقوا دخول الملكوت والحياة الأبدية.

وهنا أصبح الخوف الحقيقي محصوراً في الذي في يده أن يحرم النفس من الحياة الأبدية. فالذي لا يخاف من الذين يقتلون الجسد هو أسد الله، هو يخيف بالروح ولا يخاف بالجسد.

31-29:10 «أليس عُصْفُوران يُبَاعَان بفلس؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لا يَسقط عَلَى الْأَرْضِ بِدون أبيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاهُ. فَلَا تَخَافُوا أَنْتُمْ أفضلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ».

انتهينا من الآية السابقة بأن الله أبقى لنا حياة النفس مضمونة عنده وفي مجده إزاء خدمة الملكوت وتمجيد اسمه. ويجيء هنا ليصف أن عصفورة واحدة لا تقع على الأرض أو تموت بدون أبيكم، فإن كانت هكذا العصافير وهي تافهة القيمة حيث يُباع عصفوران بفلس واحد، أو عند ق. لوقا الخمسة بفلسين على أساس واحدة فوق البيعة بالجملة، نعم إن كانت هكذا تافهة في نظركم وتقديركم، ولكن عند الآب عصفورة واحدة لا تقع على الأرض بدون أبيكم. فكم يكون بالحري إنسان كارز بالملكوت، وهو بالضرورة مواطن سماوي مكتوب اسمه في سفر الحياة، هل يُقتل بدون إذن أبيكم؟ وعليه تكون حياتكم على الأرض محسوباً عدد أيامها ومحدداً يوم رحيلها، وبالتالي فهي ثمينة عند الله وذات قيمة عالية، هي قيمة اسمه وملكوته الذي نخدمه ونباركه ونحيا له ومن أجله. فإن كان موتنا محسوباً هكذا ومكرَّماً، فكيف نخاف من قاتلينا أو نرهب الموت، والموت يُحضرنا في اللحظة والتو إلى حضرة الآب في السماء وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة»:

والمعنى أنه ليست أجسادكم ونفوسكم معروفة ومحسوبة أيامها ومستقبلها أمام الله وحسب، بل وحتى شعور رؤوسكم محصاة. فالذي على دراية دائمة بعدد شعور رؤوسنا، هل يغيب عنه عدد أيام حياتنا على الأرض، أو مستقبل حياتنا عنده؟ أما كيف يعرف الله عدد شعور رؤوسنا فهذا هو علاقة الخالق بما خلق متى يولد ومتى يموت، يحيا وينمو ويتطور ، يزيد فيه ما يزيد وينقص فيه ما ينقص، كل حركة لها أصلها عنده، فهي متصلة به إتصالها بالإنسان. لأن الإنسان بجملته يحيا ويتحرك ويوجد به فانظر نازفة الدم كيف لما لمست هدب ثوبه بدون معرفته أحس بقوة خرجت منه إذن فحركة نزيف هذه المرأة كان لها اتصال بالمسيح بنوع ما من الشعور !؟ إذن كيف يموت إنسان يكرز باسمه لحساب ملكوته دون علمه، بل دون شعوره وإحساسه، بل دون ألم منه؟ اسمع ما قاله المسيح لشاول لما دعاه للتوبة وهو يقتل أولاده ويضرب النساء ويجرهن إلى السجن والموت، اسمع ما قاله تعليقا على أعماله هذه «شاول شاول لماذا تضطهدني (أع 4:9) أليس هذا معناه أن كل معاناة أولاده كانت كأنها عليه، كأنها في جسده، وكان يتألم بألم هؤلاء الأمناء لاسمه؟

تأكيد كرامة المعترف

32:10 و 33 «فكُلَّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قَدَّامَ النَّاس أعترف أنا أيضاً بِهِ قَدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قَدَّامَ النَّاسِ أنْكِرُهُ أَنا أَيْضاً قَدَامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ».

لا زلنا في آثار الخوف الذي إذا استسلم له الكارز انتهى به إلى إنكار المسيح كما خاف بطرس من الجارية أو بالتالي من الحكم أو الموت. وهنا يظهر الكارز الواثق من حياته الأبدية من الكارز الذي يكرز عن موضوع اختاره لنفسه كمهنة يأكل منها عيشه أو ينتفع بها من أجل كرامة بين الناس، فالحياة الأبدية ليست شغله الشاغل وليست هي جوهر كرازته فهو إن انحرف بالهدف ضاع منه شخص المسيح صاحب الحياة الأبدية الذي يكرز باسمه، وأصبح من السهل أن ينكره، لأنه لم يضع في قرارة قلبه وفكره وإيمانه أنه سيذهب لمقابلته فوق. وهنا يضع المسيح الأساس القوي الذي يقف عليه الكارز أثناء ما يكرز بالملكوت وهو الإيمان والثقة المطلقة بالمسيح حاضراً أمامه سامعاً دفاعه، وفي حضرته هو يعيش ويحيا ويتحرك، وليس فقط هو الديان الذي ستنتهي الحياة أمامه رفضاً أو قبولاً ، بل هو الذي يمد الحياة الآن أياماً وساعات ودقائق لتكميل رسالة الخلاص التي تكرس الكارز لحسابها.

يا آدم أين أنت (تك 9:3) لما أنكر آدم الله برفضه وصيته دخله الخوف واختبأ من وجهه، فقد ضاع منه إحساسه ببنوته الله وصار غريباً عنده. إذن هي فرصة جديدة لآدم في شخص أولاده الذين تبناهم المسيح لنفسه ليكونوا أولاد الله، بأن يعترفوا بالله في شخص المسيح لضمان العودة إلى حضرته، لمسح عار أبينا الأول، حاملين اعترافنا في قلبنا وبروحنا للمسيح والله حتى الموت. وهنا كلمة “حتى الموت” لازمة من لوازم شرط الاعتراف، لأننا بالموت سنصعد للتو !!

فإذا سألتني ما هو أعظم عمل يعمله الإنسان في حياته على الأرض؟ تصير الإجابة من واقع ما قلنا أنه هو الاعتراف بالمسيح والتمسك بالاعتراف بالمسيح حتى الموت، لأن به نفوز باعتراف المسيح بنا أمام أبيه. وهذا أعظم ما نفوز به، فهي بمثابة عودة إلى الفردوس.

36-34:10 «لا تظنوا أنّي جِئْتُ لألْقِي سَلاماً عَلى الأَرْضِ مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلَامًا بَلْ سيفا. فإنّي جِئْتُ لأفرِّقَ الإِنْسَانَ ضد أبيه، والابنة ضدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ».

السيف هنا في إنجيل ق. متى جاء في إنجيل ق. لوقا (51:12) انقساماً فهو إذن سيف الحق الذي يصرع المنافق وهكذا تبدأ الفرقة بسقوط المنافق الرافض للحق وقيامة البار والمتمسك بالحق. ليس أداة حرب وعراك بل فرقة، وإذا بلغت الفرقة حد الشدة والخطورة غير المعقولة اعتبرت أنها كالسيف كالأمر الذي يفرق الابن من أبيه كما سيأتي.

هنا يقدم المسيح حقيقة تائهة لا تصدق، لأنه محسوب أنه رئيس السلام، فكيف يكون أنه جاء يلقي سيفاً عوض السلام؟ هنا السيف سيف الحق، هذه الحقيقة التائهة، قدم لها بالآيات السابقة تكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي فاسم المسيح (الحق) الحلو المملوء سلاماً ومجداً هكذا بسببه يكون المبشرون به موضع بغضة أليمة وقاتلة عند الذين يرفضون الاسم. فهنا العداوة والبغضة تولد حينما يولد النداء بالاسم وهي العلامة التي تنبأ عنها سمعان الشيخ عندما حمل يسوع الطفل على يديه وقال لمريم أمه ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تُقاوم (لو 34:2). ويلاحظ القارئ هنا أن سمعان الحكيم النبي قدم الذين يسقطون على الذين يقومون ” لأنهم هم الذين يصرعهم سيف الحق. فالمحصلة لميلاد السلام على الأرض الناس كان ميلاد البغضة والعداوة والسقوط. لأنه يمثل الحق، والحق غريب في عالم الكذب والرياء وبين والباطل والإثم، ويمثل النور الحقيقي في عالم يعيش في ظلمة البعد عن المعرفة الحقيقية الخالدة، ويمثل القداسة في عالم يعيش الإباحية والنجاسة والتمرد على كل ما هو طاهر والذين يحبون الحق ويعيشونه قلة في هذا الدهر، والذين انفتحت قلوبهم ومعرفتهم للدائم الخالد غير المتغيّر قلة كذلك. أما الذين يطلبون ما هو قدوس وطاهر في هذا العالم فهم أكثر قلة وندرة. من هذه النسبة غير المتوازنة رفعت البغضة والعداوة والاضطهاد القاتل قرنها وجلست على كراسي الأباطرة والملوك والولاة والرؤساء والحكام. وأخذت في طريقها السنهدرين واللاويين والشيوخ وأئمة الرياسة والحكام والحكمة في إسرائيل حيث ولد الحق، فكانوا أول من ذبحوه. وهكذا قصة ميلاد معرفة يسوع المسيح في كل مدينة وقرية على وجه الأرض تولد معها البغضة نفسها وارتفاع مقدار العداوة القاتلة حتى تسحق هذا الميلاد الغريب عن هذا الدهر. أما لماذا وضعت النبوة في فم سمعان الشيخ السقوط قبل القيام، لأن المسيح جاء أساساً ليُقاوم ويضطهد ويقتل الكذب والغش والجهالة والنجاسة وكل ما هو تافه في هذا العالم المسيح هو البادئ بالعداوة والبغضة والقتل، فالسقوط سببه المسيح وليس العالم، سببه الحق وليس الباطل، سببه النور وليس الظلمة، والقداسة وليست النجاسة!

فكيف ندين العالم والظلمة والباطل والقسوة المجنونة في العالم، والمسيح جاء أصلا ليدين هذه كلها؟ المسيح جاء ليضع هذه كلها تحت الوعد والتصميم للقضاء عليها، فهي مهددة بالفناء، لذلك تحارب من أجل البقاء بالكذب والسيادة الكاذبة لعلها تفلت من المصير المشئوم. انظر إلى الليل القائم وانظر إلى شروق النور وكيف يبدد فلول الظلام الهاربة من أمامه، إنه يكتسحها اكتساحاً، فإن تأخر النور أو غابت الشمس استبدت الظلمة وأكدت وجودها الكاذب الوقتي الذي ماله حتما إلى زوال. وهكذا وبين الأخين يوجد من يتبع النور ومَنْ يتمسك بالظلام، وهنا الشقاق والخصومة والعداوة والقتل ولكن يستحيل أن يكون النور هو القاتل بل الظلمة الحاقدة على النور، ولكن النور لا يموت الظلمة تموت والنور يولد من جديد دائماً لأنه هو الباقي إلى الأبد. هكذا الأمر في كل بيت وفي كل مدينة وقرية وركن من هذا العالم، النور يولد وعمله الوحيد والأساسي أن ينهي على الظلمة والظلمة تقوم وتقتله، ولكنها بقتلها للنور تحكم على نفسها بالفناء على هذا الضوء يقول المسيح لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد لأنه زائل أصلا أما النفس فهي بنت النور وباقية إلى الأبد بقاء النور الأزلي (انظر تقديمنا لمعنى النور والظلام في كتاب شرح إنجيل ق. لوقا صفحة 495).

وليس للنور مهادنة مع الظلمة وإلا فإنه يفني نفسه بنفسه ! ولكن أحبوا أعداءكم !! أما الظلمة فلا تحبوها !

فالنور يتعقب الظلمة ولكن ليس الظالمين.

37:10 «مَنْ أَحَبَّ أبا أو أما أكثرَ مِنّي فلا يَسْتَحِقَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنَا أَوْ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلَا يَسْتَحِقْنِي».

كيان الأسرة أصلا هو الحساب العالم، فالتوجيه الذي استلمه الإنسان الأول هو هكذا: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض» (تك 1: 27 و 28). لذلك فكل العواطف الأسرية للأب والأم والأولاد وتمسكهم ببعضهم البعض إلى أقصى درجة هو أصلا لقيام العالم وملء الأرض وضماناً لعدم فناء الجنس البشري. ولكن المسيح جاء – آدم الثاني الجديد – ليصنع من الإنسان الجديد ككل، أسرة سماوية لحياة أخرى أبدية، تعلقها الفردي مع المسيح أبي الحياة وهو الحياة، وتعلقها معاً لحساب أسرة المسيح رب البيت” الكنيسة ملكوت الله ! هناك الجذب الشديد من الأسرة لحساب الجنس البشري ودوامه في العالم للعالم، وهنا الجذب الشديد من المسيح والكنيسة لحساب المسيح والله والحياة الأبدية للإنسان الجديد. ولكن المسيح لم يأت ليلغي الأسرة في العالم أو العالم، ولا الجذب داخل الأسرة الذي يحفظ النوع وجنس البشرية، ولكن جاء ليجعل لها كياناً جديداً سماوياً تنتقل إليه بكل كيانها البشري الأسري. أما إن تخلف عضو في الأسرة أو أكثر ورفض النزوع إلى فوق، إلى الحياة الأبدية بالالتصاق بالمسيح والروح، وتعصب لغرائزه الأسرية لحساب كيان العالم والالتصاق بالعالم دون الامتداد إلى فوق، هنا وجبت التضحية بالعلاقة بهذا العضو مهما كان أبا أو أما أو أخا أو أختا أو زوجة أو أولاداً !! الأسرة والعالم أولاً ولكن ثانيا الحياة الأبدية والمسيح والله ، بحيث لو أولاً تشبثت بالأرض دون ثانيا السماء، وجب التضحية بأولاً”.

العاطفة البشرية وغرائز الطبيعة في الإنسان هامة جداً وهي قوام الحياة السوية، ولكن بعد أن افتتح المسيح للإنسان حياة جديدة وأسرة جديدة فوق، أصبح امتداد الأسرة بعد نضوجها الطبيعي الغرائزي ليس ناحية العالم وإلا فهي تجري نحو الفناء والزوال، وإنما امتدادها الهام جداً هو نحو المسيح والحياة الأبدية الذي يضمن لكل فرد فيها الخلود والدوام والسعادة الأبدية فشعار المسيح والمسيحية: «أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة (أبدية) وليكون لهم أفضل (سماويا).» (يو 10: 10)

38:10 «وَمَنْ لَا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَلَا يَسْتَحِقَّنِي».

الصليب هنا علامة التضحية والبذل، التضحية بالذات وكل ما يشدها إلى الأرض والعالم والأسرة، وبكل العواطف والغرائز التي تطالب بمزيد من استقلال الذات وتنعيمها أو راحتها أو إعزازها وكرامتها ومجدها. هذه كلها تشد الإنسان إلى العالم والأسرة والمال ومسرات هذا الدهر. وبمقتضى ما سبق وشرحنا فإن المسيح قد جاء ليهب الإنسان بكل غرائزه الطبيعية وآماله وطموحاته حياة أفضل، ليس في هذا العالم ولا لحساب الجسد أو الذات المربوطة بالجسد. فانفتاح مجال الروح والحياة الأبدية هو انفتاح لغرائز الإنسان وآماله وطموحاته للامتداد في المجال الروحي لإشباع القلب والروح بأكثر مما يعطي أو يهب. فامتداد الإنسان في العالم بكل كيانه المادي وغرائزه محدود وينتهي إلى الصفر ثم العدم أما امتداد الإنسان بكل كيانه الروحي وغرائزه نحو الروح والمسيح والحياة الأبدية هو امتدد لا يضعف ولا ينتهي. بمعنى أن المسيح لم يأت ليحرم الإنسان من نموه وامتداده وإسعاده، بل على العكس تماماً فهو قد جاء ليفتح له المجال الذي لا يضيق به بل يتسع له باتساعه ويمتد به بأكثر من امتداده ضماناً لحياته الممتدة مع الله في الأبدية. فحياة الإنسان بأعظم ما فيها إنما تنتهي بالقبر ، أما مع المسيح وبالروح فهي إنما تنتهي بما لا ينتهي بالله.

ولكن شدة الجذب الذي يعانيه الإنسان المنطلق بالروح نحو الله – ممسكاً بالمسيح والإنجيل ونداء الروح – من حب العالم وغرائز الأسرة والمتعة الوهمية في الأرض تبلغ في عنفها إلى حد التمزق وكأنه صلب الذات المسيح يُدرك هذا مقدّماً ويقول: نعم خذ صليبك هذا وتعال اتبعني، وإلا فلن تستحق الحياة الأبدية وملكوت الله ! فالخلود له ثمن التضحية بالزائل الفاني!! والسماء والحياة الأبدية لها ثمن احتقار الأرض وأباطيل العالم. وعشرة القديسين في أسرة المسيح لها ثمن التضحية بغرائز الأسرة والصداقات الوهمية المتغيرة الفانية. ومواجهة هذا التوتر والجذب بين قطبي العالم والله ، الجسد والروح، الأسرة والسماء، هو صليب الإنسان في هذا العالم. فإذا لم يحمله الإنسان بوعي قاطع ومسرة فلن يستحق الخلاص والتبني والمصالحة مع الله في المسيح، وتصير له مجرد آمال وأماني ورجاء غير محقق.

أما الفارق بين صليب الإنسان وصليب المسيح، فالأول إماتة والثاني موت! وعجيب أن يُحسب صليب الإماتة عن العالم مساوياً ومستحقاً لصليب الموت الذي للمسيح!!
إلى الدرجة التي يُقال فيها عن إنسان يمارس إماتة الذات أنه مات عن العالم !

بهذا نفهم قول المسيح إنه إن لم يأخذ الإنسان (بإرادته) صليبه ويتبعني فلا يستحقني! ولكن لا نستطيع أن نغفل حق الذين يحملون صليب الاضطهاد من أجل المسيح، ويعانون من الظلم والحرمان في أموالهم وصحتهم وسلب حقوقهم، ويحتملون بشكر وفرح، فهذا ليس من أجل صليب المسيح بل هو صليب المسيح!

39:10 «مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا».

لقد جمع المسيح جماع كل ما قلناه عن جذب هذا العالم الشديد للجسد والغرائز والشهوات والمسرات والغنى والأملاك والبنين والبنات، وبالاختصار بهجة الحياة الأرضية، جمعها كلها في كلمة واحدة وقال: «من وجد حياته». إذ يتهيأ للإنسان أن حياته أخذت كل وجودها وأمانيها، ولكن الحقيقة أن هذه كلها أخذت حياته وسلبتها وجودها، ونهايتها إلى القبر والفناء. مع أن الذي عمله المسيح هو أنه أعطى الإنسان هذه كلها، وفوقها ضمن له حياته الحقيقية أي الحياة الأبدية، أما هذه المتعلقات كلها فستزول وتفنى أما حياته فتبقى.

والفرق بين الاثنين طفيف للغاية ولكن أثره لا يمكن أن يُقدَّر ! فالذي جعل حياته ثمناً للمتعة والمال والأملاك والتمتع بالأسرة، فحياته الأرضية تذهب بذهابها كأمور مادية مالها إلى الفناء،

ولكن الذي أمن على حياته أولاً عند المسيح وصار مواطناً سماويا، فهذه الأمور كلها – أي متعلقات العالم والجسد وحياة الأرض – لا يُحرم منها، إلا أنه لا يدعها تحرمه من حياته الأبدية وعلاقته مع المسيح. فالروح والروحيات والإنجيل والكنيسة والخدمة والبذل هي حياته الحقيقية، أو حياته الأبدية، فلها الأهمية القصوى. أما متعلقاته بالعالم والأسرة والمال والأملاك فهي في نظره إنما تخدم حياته الحقيقية. وحينئذ يُقال عنه بجهالة: فلان ضيع حياته في الجري وراء الكنيسة والخدمة والوعظ، كل ما له رايح على الفقراء، وكل صحته ضيعها في الخدمة واللف على البيوت والأسر وخدمة الشبان ومن بلد لبلد، وعمره ما هنى نفسه بقعدة في وسط ولاده ومراته. فإذا سألته هل حقا ما يقال عنك، يكون رده أنا أسعد إنسان في الوجود، فالمسيح هو حياتي وأنا لم أخسر شيئاً وأحب أسرتي وأولادي وزوجتي في عيني !! «مَنْ أضاع حياته من أجلي يجدها» ! والآخر أيضاً خيب حياته وأحزن أباه وأمه وعائلته وراح اترهبن ولبس أسود، ومسكين مات عن الدنيا، فإذا سألته، قال لك أنا أسعد إنسان في الوجود، أنا قد وجدت المسيح وكفاني، أنا بعت العالم واشتريت اللي اشتراني بدمه !! «مَنْ أضاع حياته من أجلي يجدها» وطبعاً يكللها من يفرط في حياته الدنيا بالاستشهاد !

ولكن لا نستطيع أن نغفل حق الذين يعيشون في العالم بعيداً عن الخدمة والتكريس ولكن يدفعون ضريبة انتمائهم للمسيح في الاضطهاد وعدم الترقي وسلب حقوقهم وأموالهم من أجل اسم المسيح الذي يحملونه. كذلك الذين يفضلون الالتزام بوصية الله – مهما كانت الخسارة – عن استرضاء الناس أو الأسرة.

40:10 «مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

والآن يأتي المسيح إلى تكريم الكارز والخادم والواعظ والمعلم والمُرسَل، كل من ينادي باسم المسيح ويعلم الإنجيل والخلاص، هذا يعطيه المسيح امتيازاً شخصياً بأن يحسبه مُرسَلاً من قبله، له حق المسيح على السامعين والمتعلمين، فكل من يسمع له يسمع للمسيح شخصيا، بل كل من قبله في حدود خدمته الإنجيلية” فكأنه قبل المسيح ذاته. هذا التمييز نسمعه واضحاً في إرسالية بولس الرسول: «هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل» (أع 15:9). ومن المهم جداً هنا أن نعرف قيمة ومعنى يحمل اسمي”. فالاسم هو التعبير عن الشخصية بالمفهوم اللاهوتي. ولهذا كانت للقديس بولس جرأة نادرة ودالة مدهشة، جرأة أن يتكلم باسم المسيح ودالة عنده بأن واحد.

فقول المسيح هنا: «مَنْ يقبلكم يقبلني» ليس مجرد تكريم الذين يحملون اسم المسيح للبشارة والتعليم فحسب، بل تأكيد أنه سيمدهم بالقوة الشجاعة والحكمة المقتدرة. وهذا الوعد قادر أن يجعل المرسل لا يهاب الناس بل يحس في أعماقه أنه حامل لشخص المسيح ومعطى أن يتكلم باسمه متكلا على الروح القدس الذي سينطق في فمه حسب الوعد.

فلو استخدمنا آية بولس الرسول: فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في (غل 20:2) تكون معبرة أقصى التعبير عن وضع الكارز، وبالتالي يندرج تحتها باتفاق أن نقول: لست أتكلم أنا بل المسيح المتكلم في وقد اعتادت بيوتنا أن ترحب بالكاهن أو الأسقف بالقول: “زارنا المسيح ” لأنه حقا كان يتكلم بفم المسيح وروحه. أما هو فلم يكن له هذا الإحساس بل يعتذر ويتصاغر، ولكن النبي الكذاب هو الذي يفرض على الآخرين أن يقبلوه كالمسيح.

ومَنْ يقبلني يقبل الذي أرسلني هنا ندخل إلى تعريف لاهوتي، فالمسيح مرسل من قبل الآب، باعتباره ابنا مُرسَلاً من أبيه له كل ما للاب أبيه من كرامة ومجد وعز وسلطان. فالجزء الأول من المعنى هو أن المسيح والله واحد. والجزء الثاني من المعنى يأتي التزاماً وهو أن من يقبل المسيح يُعتبر أنه قبل الله الآب وهنا تزداد جداً قيمة الإرسالية وبالتالي المُرسل. فالمعنى النهائي أن المرسل الكارز للملكوت باسم المسيح هو موفد مِنْ قِبل الله :

+ «ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة، أي إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله.» (2 کو 5: 18-20)

هنا يكاد الإنسان يذهل من تفريط الله في اسمه وعمله وحبه وكرامته ومجده للإنسان الذي قبل المسيح وأرسله المسيح ليكرز بملكوت الله فكأن الكارز يطوف ويخدم مدعماً مِن قِبل الآب والابن ومؤازراً بالروح القدس!

وهكذا تمت طلبة المسيح على المستوى العملي: «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو23:17). وأيضاً أعظم آيات إنجيل ق. يوحنا وهي الأخيرة في نهاية الأصحاح السابع عشر: «عرفتهم اسمك (شخص الآب) وسأعرفهم ليكون فيهم ( كأبناء) الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم (بنوة واحدة)!» (يو (26:17)

فبمفهوم المدرسيين نقول إن الكارز المرسل يكرز حاملا اللاهوت في قلبه وروحه وفكره. لذلك لا يمكن أن نستكثر عليهم رؤية دانيال «والفاهمون يضيئون كضياء الجلد والذين ردُّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور .» (دا (3:12)

هذه الآية تجعل قبول الكارزين بالملكوت وباسم المسيح والآب محبوباً ومرغوباً، بل ويتهافت عليه ويصيرون ككنز يسعى الناس لاختطافه، وهذا صدق للغاية إن كان الكارز فيه روح الله.

41:10 «مَنْ يَقْبَلُ نَبِيًّا باسم نبي فأجر نبي يَأخُدُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارًا بِاسْمِ بَارٍ فَأَجْرَ بَارٍ يَأْخُدُ».

بحسب العالم الكبير بنجل فالنبي هو الذي يتكلم ويعلم. والبار هو الذي يعمل. وهذا وذاك باسم الله، وله من كلامه أو عمله ما يثبت صدق شخصيته. فالتلميذ المرسل يجمع بين عمل النبي والبار معاً.

ويلاحظ القارئ أن المسيح كان مغرماً بذكر الأنبياء والأبرار ويقدّر إرساليتهم ويكرمها: «فإني الحق أقول لكم: إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا (مت 17:13)؛ على أساس أن المسيح كان هو شهوة هؤلاء الأنبياء والأبرار، فحجزت عنهم، وصارت من نصيب تلاميذه الأوائل، ونحن من بعدهم. هم أكلوا وشبعوا ونحن من ورائهم نجمع الفتات.

والمعنى بديع، فالإنسان مثلك ومثلي، في بساطة قلب ورجاء حب، إنما يقبل شخص النبي والبار بدافع واحد وهو طاعتنا لكلام الله ووصاياه، وحبًّا في أنبيائه وأبراره وقديسيه. وكأننا بهذا صرنا مثلهم أنبياء وأبراراً بالشبه والتقليد والتوصيل، كتلك التي لمست – ليس جسده بل هدب ثوبه !! وهذه المعادلة في صالح الإيمان بالله جداً وهي مماثلة لقول ق. بولس: «ولكن (الذي) يؤمن بالذي يبرّر الفاجر فإيمانه يُحسب له برا» (رو (5:4) ، فهنا أجر الإيمان عال جداً جداً لا يتناسب مع كيف يبرر الله الفاجر ؟ ولكن هكذا يهون الله الوسيلة لإتيان البر.

وهذه الآية تمهد جداً لاستقبال الكارزين والمبشرين والمعلمين باسم المسيح والله. وكأننا بقبولهم نقبل المسيح نفسه ونستضيف الله ذاته. فهي آية تقوية وتأكيد للآية السالفة: «مَنْ يقبلكم يقبلني» على أن هذه الآية مهدت لوراثة كرامة الرسل وقبولهم بالنسبة للذين ترسلهم الكنيسة بعد ذلك في كل جيل وإلى مدى الدهر ، التي يؤازرها ويؤكدها قول المسيح القائم من الأموات: ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 20:28). فالمسيح الذي كان في الرسل يبقى كما هو في كل رسول باسمه ترسله الكنيسة ليخدم ملكوته.

وقد أوضح الرسل في قوانينهم التي بعنوان “الديداخي ” أصول استقبال وضيافة الرسول أو النبي وباختصار فإن الرسول يُقبل لضيافة يومين، فإذا أراد أن يمكث في الثالث فهو نبي كاذب (الديداخي 51:11)، وإذا أمر بمائدة وأراد أن يأكل منها فهو نبي كاذب (9:11) ، وإذا طلب نقوداً فهو نبي كاذب (12:11). وبقية القوانين تسير هكذا لتحكم وتضبط سلوك المرسلين (الديداخي فصل 11 و 12 و13 )

42:10 «وَمَنْ سَقى أحد هؤلاء الصغار كَأسَ مَاءٍ بارد فقط باسم تلميذ، فَالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ».

يجب أن تفهم هذه الآية على أن «أحد هؤلاء الصغار » يقصد بهم التلاميذ.

والآية هنا تشجع ضيافة التلاميذ، أي الرسل المحسوبين في نظر المسيح أنهم الصغار اللائقون لدخول ملكوت الله: «مَنْ لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله» (مر .15:10). وهي محاولة من جهة المسيح ليصور التلاميذ بأنهم أولاد الله الخصوصيين جداً، وأن تقديم مجرد كأس ماء بارد على أنه لتلميذ لن يضيع أجر من يعطيه. أما المائدة التي تمدّ لهم فهي محسوبة أنها وليمة ملكوت لكل من يشترك فيها من أهل البيت.

لذلك فترجمة هذه الآية الترجمة الصحيحة تكون هكذا : ومَن سقى أحد هؤلاء الصغار ولو كوب ماء بارد لأنه تلميذ فالحق أقول لكم أنه لا يضيع أجره (110) ، وبالتالي فالذي يعطي هؤلاء يعطي المسيح.

ولكي يؤكد المسيح أن أجره لن يضيع جعل لن” مضاعفة التأكيد فهو نفي مثنى أو مغلظ = لا ولن .

تعقيب على مبادئ المسيح التي بثها في قانون إرساليته العظمى لرسله وبالتالي للكنيسة:

يهمنا هنا أن نوضح بعض المبادئ التي وردت في هذا الحديث بما يخص المرسلين:

1 – يُلاحظ في البدء القول إن المسيح أعطى لهم سلطاناً خاصاً ، سلطاناً يمكن أن يُسمى سلطان الرسولية والقصد خطير وهو أن لا يعتمدوا على سلطان المسيح وتكون سيرتهم ليست على مستوى سلطان المسيح، الأمر الذي يستحيل معه إجراء الآيات ولا حتى التعليم الصحيح، فإذا أخفق الرسول يأتي باللوم على سلطان المسيح. فالرسول والكارز يعتمد على النعمة والقوة الروحية الموهوبة له كسلطان يخدم به ويشفي ويُخرج شياطين، التي بدورها تعتمد بالدرجة الأولى على مدى طاعة الكارز لوصايا الله والمسيح وأوامره وبقية بنود الإرسالية. ولكن – وهذا هام للغاية – إن سلطان الخدمة والكرازة يعتمد على سيرة الكارز والرسول ومدى تطبيقه لوصايا المسيح من جهة الذهب والفضة والنحاس والملابس والأكل، وحمل الصليب واحتمال المشقات وعدم الانحياز لعواطف الأب والأم. وبالأكثر الاعتراف بالمسيح جهارا وبدون خوف. فإذا أصاب الكارز أو المرسل عيب من هذه العيوب توقف عمل السلطان الذي له ودخل تحت مساءلة الدينونة، لأنه يصبح عثرة في الخدمة وويل للذين تأتي بواسطتهم العثرات. وهكذا حينما يخفق المرسل في تأدية الرسالة يلزمه أن يأتي باللوم على نفسه وليس على المسيح.

2 – حينما قال المسيح: ها أنا أرسلكم كحملان وسط ذئاب طلب أن السلوك بمقتضى هذه الورطة يكون بالتمسك بالحكمة والبساطة. ويُلاحظ هنا أن المسيح لم يعد بأنه سيدافع عنهم أو يمنع التشهير بهم أو يحميهم من المحاكمات والجلد والضرب، بل جعل هذه الآلام جزءاً حتميا من الرسالة والكرازة. ولما لمح عن تسليم الأخ للأخ للموت كان يقصدهم. وأوضح أن أعداء الكارز والخادم أهل بيته. ولم يعدهم أنه سيحفظهم من الاضطهاد أو الموت ولما أعطى مثل العصفورة التي لا تقع إلى الأرض أي تموت بواسطة صياد أو غيره بدون علم الآب السماوي، هكذا الكارز، فكل ما ينبغي أن يتكل عليه الكارز هو أن الله يعرف تماماً كيف سيموت ومتى سيموت باليوم والساعة. وكل ما يهم الآب والمسيح أن لا ننكر الإيمان. إذن فالجسد لا يدخل في حساب الآب السماوي من جهة الحفظ من الموت، بل الذي يهم الآب هو الحياة الأبدية للنفس. كل ما يقوله المسيح والأب أن نتشجع لنحتمل الآلام «ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك» (لو 32:22). لذلك كرر أن لا يخاف الكارز من الذين يقتلون الجسد، فالجسد سيموت حتما ولكن الخوف كل الخوف على النفس لكي يحفظها الله ويرعاها لتحيا في ملكوته ولا تهلك بإنكار المسيح.

هذه المفاهيم مطبقة على المسيحي عامة، لأن كل مسيحي ينبغي أن يكون مستعداً لمجاوبة كل من يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه، وعن إيمانه وصليبه وحياته وموته. فالمسيحي كارز بإيمانه أينما كان. وقد تسربت أخطاء في التعليم والصلاة أضرت بحياة الإيمان المسيحي، كأن نصلي أن يحفظنا الله من الاضطهاد أو نشتكي منه، أو من الظلم أو تتظلم منه، أو من التعيير باسم المسيح أو الصليب أو الموت، مع أن هذه كلها جزء أصيل في الإيمان المسيحي. فكل وصية المسيح هي أن لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، بل خافوا الله الذي له أن يلقي الجسد والنفس في جهنم إن أنكرنا إيماننا المسيحي. أما الضيقات فهي سمة المسيحي وفخره وإكليله، وأي صلاة لرفعها تحسب حنثا للإيمان المسيحي اسمع ق. بولس أبا الاضطهاد يقول: كي لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات فإنكم أنتم تعلمون أننا موضوعون لهذا.» (1تس 3:3)

أما الاضطهادات فهي أرخص مصدر السعادة الإنسان وتأمين نصيبه في الملكوت “فطوبي لكم إذا عيروكم وطردوكم” (مت (11:5).

تفسير إنجيل متى – 9 إنجيل متى – 10 تفسير إنجيل متى تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل متى – 11
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل متى – 10 تفاسير إنجيل متى تفاسير العهد الجديد
 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى