تفسير سفر الرؤيا اصحاح 6 للأنبا بولس البوشي

الأصحاح السادس

من الرؤيا: «وبعد هذا رأيت الحمل لما فت أحد الخواتم سمعت أحد الحيوانات يصرخ بصوت كمثل الرعد قائلاً: تعال. فرأيتُ فرسا أبيض ومع الراكب عليه قوش، وقد أعطي أكليلاً وخرج وقهر وغلب.

ولما فك الخاتم الثاني سمعت الحيوان الثاني يقول تعال، فرأيت فرشا أحمر جميعه كمثل النار، والجالس عليه أعطي له أن ينزع السلامة من على كل الأرض، لكي يقتلوا بعضهم بعضا. وأعطى له سيفا عظيمًا.

ولما فكَّ الخاتم الثالث سمعت الحيوان الثالث قائلاً تعال. فنظرتُ وإذا فرس أسود، وراكبه في يده ميزان. وسمعت صوتا شديدا في وسط الأربعة حيوانات مثل صوت نسر طائر قائلاً: مدى[1] قمح بدينار وثلاثة أمداد شعير بدينار، ولا تضر الخمر والزيت شيئا.

ولما فك الخاتم الرابع سمعت الحيوان الرابع يقول تعال. فرأيتُ وإذا فرسُ أخضر، وراكبه اسمه الموت، والجحيم يتبعه. وأعطي له سلطانًا على ربع الأرض ليقتلهم بالسيف والجوع والموت وسباع الأرض.

ولما فك الخاتم الخامس رأيث تحت المذبح أنفس الناس الذين قتلوا من أجل كلمة الله والشهادة التي معهم، قائلين بأصوات عالية: حتى متى أيها السيد القدوس لا تحكم وتنتقم من الذي ظلمنا وعن دمنا من سكان الأرض. فأعطي لكل واحد منهم لباسا أبيض، ثم قيل لهم لكيما يستريحوا زمنًا يسيرا حتى يكمل نظراؤكم العبيد إخوتكم الذين يقتلون مثلكم» (رؤ6: 1-11).

التفسير: الخاتم الأول هو الألف الأول من سبي العالم. وفيه آدم وشيث وأنوش ومن هم مثلهم. جيل بار، فلهذا قيل إن «الفرس أبيض في منظره»، أعني جميل فعلهم قدام الله، وقهر الرذيلة بعمل الفضيلة.

والخاتم الثاني (يشير إلى) الألف الثاني. قال إن (لون) «الفرس كلون النار»، غني القوم الذين تعلقوا بفعل الآثام في حياة نوح، فأوجبوا عليهم غضب الله كمثل النار، ونزع منهم سلامه. كقول الله لنوح: «إن روحي لا يحل على هؤلاء القوم لأنهم جسد»، أعني أنهم تبعوا أغراض الجسد. وقوله «قتلوا بعضهم بعضا» لأنهم سببوا لبعضهم البعض السقوط في الخطايا بغير تورع، فصاروا سبب هلاك بعضهم البعض. لأن من آدم إلى الطوفان ألفي ومائتي وأربعين سنة، فكان خطأهم في أعقاب الألفين والبقية كان الله يمهلهم بأناة منه لتحننه.

والخاتم الثالث يشير إلى الألف الثالث. قال إن «الفرس أسود في منظره» عني أفعال أولئك قدام الله، لأن في ذلك الزمان عبد الناس  الأوثان، فكانت بحق أفعالاً مظلمة بعيدة من النور والضياء. وكان ذلك بعد بنيان البرج عندما تفرق الناس وكثروا. لأن من آدم إلى بنيان البرج ألفي وثمان مائة سنة، فكانت عبادتهم للأوثان في أعقاب الألف الثالث. ثم إن الله دعا إبراهيم بعد بنيان البرج بستمائة سنة وأربعين سنة، وأخرجه من بيت أبيه ومن جنسه بأسره عبده الأوثان، وجاء به إلى أرض القدس المشار إليها بالخيرات، ليست خيرات مادية، بل لأجل ما كان مزمع أن يكون فيها، وهو آلام الرب المحيية وقيامته المقدسة، التي كان بها خلاص الكافة.

وقوله: «كان بيد راكب الفرس ميزان والصوت الذي ذكر به القمح والشعير»، لأن الله ضربهم بالغلاء في تلك الأيام والفناء وقصر الأعمار وموت الأطفال والبنين قدام آبائهم، لأن المكتوب في سفر التوارة أن الغلاء بدأ يستمر إلى أيام إبراهيم وقتاً بعد وقت، فنزل إبراهيم إلى أرض مصر وإلى أبيمالخ. وأما موت الأبناء قدام آبائهم فقد أظهر ذلك سفر الخليقة. من أن أخا إبراهيم أبا لوط مات في حياة أبيه، وهذا لم يبينه الكتاب على الإطلاق، إلا أنه أول ولد مات قدام أبيه. ومع هذا بأسره لم يتأدبوا لكثرة جهلهم بمعرفة الله

والخاتم الرابع هو الألف الرابع. فذكر أن الفرس أخضر لأن فيه أعطي الناموس، لأن من آدم إلى موسى ثلاثة آلاف وثمانمئة وثمانون سنة وكان الناموس. وقوله «راكبه اسمه الموت» عني أنه حسن في منظره لمن عمل به، ومن تعداه يقتل بالعدل قتلاً جسدانياً بالموت كما يأمر فيه. «والجحيم يتبعه» عني عقاب الله أخيرا لكل من (يتعدى الناموس). لأنه كما أن الناموس جسداني كان ينتقم جسدانيا، (وذلك) قبل ناموس الكمال الذي كان بتجسد المسيح الرب الذي أظهر بعد ناموس موسى بألف وستمائة وعشرين سنة، وهي كمال خمسة آلاف وخمسمائة سنة للعالم.

وقوله: «أعطي الراكب عليه سلطاناً أن يقتل ربع الأرض بالسيف والجوع والموت والسباع» عني بهذا الانتقام النقمات التي أصابت غير المطيعين للأنبياء، نبياً بعد نبي في تلك الأيام، من حرب الملوك كما كتب عنهم. والغلاء والضربات التي كان يضربهم بها ليبيدهم، ووحوش الأرض يعني ملوكها ورؤساءها الكافحة لهم. وقوله «ربع الأرض» لأن الضربات لم تذيع في كل المسكونة بالسوية. ولم يقصد الله بها إبادة البشر بل إبادة الشر وزواله من بني البشر.

والخاتم الخامس هو الألف الخامس. ذكر فيه أنه رأى «تحت المذبح أنفس الذين قتلوا من أجل كلمة الله والشهادة». عني بهذا الذين قتلوهم الملوك الكفرة أيام العتيقة قبل تجسد الرب، مثل منسى ملك يهوذا لما عبد الأوثان وقتل جمعا كثيرا ونشر إشعياء النبي. وكذلك أنطياخس ملك أنطاكية الذي قتل جماعة من بني إسرائيل لحفظهم كلمة الله ورجائهم لمجيء المسيح المخلص، وقتل الطوبانية اشموبيت وسبع بنيها كل  واحد منهم بعذاب مختلف قدامها، وقتلها أخيرا. وغير هؤلاء في الأجيال المختلفة كثير جداً كما ذكر في كتب المقابيين الثلاثة فنختصر في ذلك.

وقوله «إنهم طلبوا من الإله أن ينتقم عن دمهم فدفع لهم لباسا أبيض» عني عربون النياح. ثم «أمرهم أن يصبروا حتى يكملوا أخوتهم الشهداء مثلهم»، أعني الذين صاروا بعد التجسد، كما كتب بولس الرسول في رسالته للعبرانيين عن هؤلاء قائلاً: «هؤلاء الذي ثبتت لهم الشهادة بإيمانهم لم ينالوا الوعد، لأن الله قدم النظر في منفعتنا نحن، لئلا يكملوا دوننا»، لأن التمام والكمال والحياة والخلاص بتجسد الرب له المجد إلى الأبد، هذا الذي كمل أصفياءه بكل بهاء ومجد، الذين هم خواصه رسله الموالي السادة الأطهار، الأفاضل التامين أئمة كل المسكونة، وبعدهم شهدائه وقديسيه، ثم ألحق هؤلاء أيضا معهم، ولم ينس تعبهم في الأجيال الماضية بين أولئك الأشرار، ليكمل قوله أن: «الأولين يصيرون آخرين والآخرين أولين»، نمجد صلاحه ونشكر نعمته إلى الأبد آمين.

من الرؤيا: قال: «ولما فك الخاتم السادس، كانت رجفة عظيمة. صارت الشمس سوداء كالشعر، والقمر كالدم. وتساقطت النجوم من السماء على الأرض كورق التين إذا  تساقط من الريح العاصف. وطويت السماء مثل السجل. واضطرب كل جبل وتل والجزائر من مواضعها. وجميع ملوك الأرض ورؤساء الألوف والأغنياء والأقوياء، وكل الأحرار والعبيد، اختفوا في الكهوف وتحت الصخور والجبال قائلين للصخور غطونا والجبال اقعوا علينا وغطونا من قدام الجالس على الكرسي، ومن غضب الحمل الحقيقي، لأن يوم غضبه العظيم قد دنا، ولا يستطيع أحد (أن) يقف أمامه» (رؤ 6: 12-17).

التفسير: عني «بالخاتم السادس» الألف السادس، الذي فيه كان ظهور الرب متجسداً. وعني «بالرجفة العظيمة» وقت صلبوته،  وكان اضطراب عظيم جدا في العناصر لما رأت خالقها على الصليب: الشمس أظلمت، والقمر لم يعط ضوءه، والجو اضطرب، والأرض تزلزلت.

وعني «بتساقط النجوم» المخفيين المقدسين كيف نظرت باريها ولم تبلغ مرادها. وقوله الطويت السماء» عني كف يد القوات التي فيها عن هلاك الأرض عليها. وعني «بالجبال» الملوك غير المطيعين ورؤساء الشياطين. «والجزائر» الذين هم في نزوة العالم ولم يخضعوا للإيمان فإنهم يزولون سريعاً ويبيدون من الحياة المؤبدة. وبين «الزلزلة» التي كانت وقت الصلبوت، ثم والمزمعة أيضاً عند مجيئه في انقضاء الزمان،  وإنه ستكون شدة عظيمة، كما قال بولس الرسول: «الذي زلزل صوته الأرض مرة وأوعد أنه يزلزلها أيضاً ثانية، وليس الأرض فقط بل والسماء أيضاً»، أعني في القيامة الجامعة للكل. وإن كان زلازل كثيرة تحدث، لكن لم تكن مثل زلزلة الصلبوت، لأن تلك عمت الأرض بأسرها، ولم يخل منها موضع واحد كما شهد بذلك ديوناسيوس الأريوباجيس تلميذ بولس الرسول، وحتى إلى أساسات العمق اضطربت[2].

  1.  المد: مكيال قديم… وتقديره بالكيل المصري حوالي نصف قدح (المعجم الوسيط ص ٨٩٣).
  2.  ميمر ديونسيوس الأريوباغي (من كتابات القرن الخامس الميلادي)، اعتادت الكنيسة أن تقرأ هذا الميمر بعد الساعة السادسة يوم الجمعة العظيمة (كتاب دلال وترتيب جمعة الآلام وعيد الفصح المجيد، القمص فيلوثاؤس المقاري والقمص برنابا البرموسي والمعلم ميخائيل جرجس، 1920م، ص 134. نشرته مكتبة المحبة في كتيب بعنوان: مخطوط میمر ديوناسيوس الأريوباغي).

تفسير سفر الرؤيا – 5 سفر الرؤيا – 6 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد تفسير سفر الرؤيا – 7
الأنبا بولس البوشي
تفاسير سفر الرؤيا – 6 تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى