تفسير سفر الرؤيا اصحاح 11 لابن كاتب قيصر
الأصحاح الحادي عشر
الفصل الحادي عشر
53 – (1) وأعطيت قصبة من ذهب تشبه قضيبا وقيل لي قم قس هيكل الله والمذبح والساجدين فيه (2) والدار التي من خارج الهيكل اسقطها من خارج لا تمسحها لأنها أعطيت للأمم مع مدينة القدس يدوسونها اثنين وأربعين شهرا.
ينبغي أن نذكر أولا مقصد هذا الفص ، ليكون ما نحله من رموزه ومشكلاته على وفق مقصده مطابقا له ، فيحسن تصـوره وينتظم فهمه ، فنقول :
لقد كشف للرسول بهذا الفص ثلاثة أمور ، الأول : إنشاء بيت له تعالى بمدينة القدس ، وهو بيعة القيامة المعظمة والإقـرانيـون الثاني : مقـدار الساجدين فيه بالروح والحق . الثالث : الدار التي من خارج الهيكل ، وهي مكان البيت الأول الذي خرب على يد تيطس ، لا تعمر هيكلا ، بل تبقى في الدولة الدجالية مع مدينة القدس تدوسها الأمم مدة تلك الدولة المظلمة.
فهذا مقصود الفص ، وأما حل رموزه ومشكلاته ، فقوله : «وأعطيت قصبة من ذهب تشبه قضيبا » ، الإعطاء رمز على الإعلام، والقصبة رمز على القضاء الإلهي الذي تقدر به الحوادث الكائنة وتوزع في صورة من الصور الواقعة في الوجود ، وكونها ذهبا ، قد تقدم لنا أن الذهب رمز على العدل لاعتداله وتشبيه هذه القصبة بقضيب يدل على أنها قصبة قياس واعتبار معلوم غير مجهول ، ليعلم ما يقدر ويقاس بها ؛ فكأن تقدير ما رمز عليه القول : إنني أعلمت بالقضاء الإلهي العادل المقدر من لدنه إنشاء هيكل ومذبح يرضيه ومقدار الساجدين فيه قوله : «قم قس هيكل الله والمذبح والساجدين فيه» القياس رمز على العمارة ، وقد رمز بها لحزقيال لما تنبأ على عمارة البيت الثاني ، فقال : « وإذا ثم منظر الله فأتى بي إلى أرض إسرائيل وأحلني على جبل عال جدا وكان هناك فيه مثل المدينة مبنية ورأيت ثم رجلا منظره مثل منظر النحاس ومعه خيط من كتان في يده قصبة المساحة وكان قائما في الباب فقال لي انظر يا ابن الإنسان بعينيك واسمع بأذنيك واجعل في قلبك كل شيء أريك لأنى لرؤيتك أتيت إلى ها هنا وكل شيء ترى فأره لبني إسرائيل وقال إن طول القصبة ست باعات ونصف » ، ثم وصف مثال البيت ومساحته . وكذلك رمز به لزكريا النبي لما تنبأ على عمارة أورشليم ، فقال : « ونظرت رجلا بيده حبل مساحة ليمسح أورشليم طولها وعرضها . وقال الملاك الآخر ستكثر قرى أورشليم وتعمر من كثرة الناس والبهائم المجتمعة». وأما أية عمارة هذه على التخصيص ؟ فهي عمارة بيعة القيامة المعظمة والإقرانيون ، التي أنشأها قسطنطين الملك الكبير ، وما احتوت عليه من هيكل ومذبح في سنة اثنين وعشرين من ملكه وهي سنة خمسة آلاف وثمانمائة إحدى وخمسين سنة وستة أشهر وثمانية عشر يوما للعالم ، على ما ساقه سعيد بن بطريق تاريخه المجموع ، وكانت الرؤيا قبله بنحو مائتين خمسة وخمسين سنة.
وأما الفرق بين المذبح والهيكل ، ففي العتيقة كان المذبح كصندوق مربع من خشب مصفح بالنحاس طوله خمسة أذرع وكذلك عرضه خمسة أذرع وسمكه ثلاثة أذرع ، وكانت نصبته في القسم الثاني من القبة وهو القدس ، والذي يعمل ، عليه أن ينضح على زواياه من دماء الذبائح ، وتراق بقية دمائها عن حافته ، وتحرق عليه الصعائد وبقية الثرب مع إضافة الكبد والكليتين والشحوم وأما الهيكل فهو كصندوق مربع من خشب مصفح طوله ذراع وعرضه ذراع وسمكه ذراعان ، ومكان نصبته في الجزء الثاني من القبة قدام التابوت ، ويرفع عليه بخور الطيب كل غداة.
وأما الفرق بين المذبح والهيكل في الحديثة ، فإن المذبح بناء مربع غير معتبر بقياس ، ونصبته داخل الهيكل ، وتوضع عليه القرابين . وأما الهيكل فمعروف ، وهو بناء مربع أكثر من المذبح ، يرفع فيه خبز التقدمة وخمرها كما يرفع فيه البخور أيضا ، ونصبته في الجهة الشرقية من الكنيسة.
وأولئك الساجدون فيه هم الساجدون بالروح والحق كما ذكر في بشارة هذا الرسول : « إن الله إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين له بالروح والحق » وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الهيكل وهذا المذبح في المدينة الجديدة أورشليم السمائية وهذا باطل بما جاء في فص [١٢٥] عن هذه المدينة : «ولم أر فيها هيكلا لأن الرب الإله القدير والحمل هما هيكلها » ويستحيل إنه أراد بالهيكل والمذبح الله والحمل لوجهين، أحدهما : إنه قال هيكل الله والمذبح ، ولو كان أراد به الله تعالى لما أضافه لله تعالى ، إذ لا يضاف الشيء إلى نفسه . والآخر : إن القرائن تمنع من ذلك ، لأن الله تعالى لا يقاس ، والحمل لا يسجد فيه ، فقد بان بطلان هذا.
وذهب مفسر آخر إلى رأى آخر ، فقال : إن هذه الرؤيا قد ذكرت في نص سبعة وثلاثين مذبحا من ذهب يقف عنده ملاك يحمل البخور أمام العرش ، وذكرته أيضا في الفص الثامن والأربعين ، وقبلهما في الفص التاسع والعشرين لما فتح الختم الخامس ، قال إنه رأى من أسفل المذبح أنفس الشهداء تستغيث . فالإشارة إذن إلى هذا المذبح ، وإلى أن هؤلاء النفوس هم الساجدون . ويظهر إن هذا باطل بدليلين ، أحدهما : إنه ذكر هيكلا ومذبحا ، ولم يذكر في هذا المكان سوى مذبح البخور . الثاني : إنه ذكر بعد ذلك ، في هذا الفص ، دارا خارج الهيكل وأنها تعطى للأمم ليدوسوها اثنين وأربعين شهرا . وكيف تصل الى مذبح أمام العرش ؟! فقد بان بطلان هذا أيضا .
وأما قوله : «والساجدين فيه» فهو مشكل لأنه معطوف على قياس الهيكل والمذبح . فإن القياس على ظاهره لم يصح فيهم ، وإنما يصح إحصاؤهم لا قياسهم . وإن لم يكن القياس على ظاهره كما قلنا ، لزم استعمال اللفظ الواحد في حقيقيته ومجازه معا في مكان واحد ، وهو محال . والجواب : أن لفظ القياس ، وإن كان على ظاهره ، غير أنه رمز بمعناه في الهيكل والمذبح على عمارتهما ، وفي الساجدين على إحصائهم.
قوله : «والدار التي من خارج الهيكل اسقطها من خارج لا تمسحها » ، يريد بهذه الدار من مكان البيت الذي أخربه اسبسيانوس وطيطوس ابنه لأنها باعتبار ونسبة خارج عن بيعة القيامة المعظمة ، وإسقاطها من المساحة رمز على أنها لا تعود تعمر كما توعد الله اليهود . ولا ينبغي أن تعبر بما هي عليه الآن في عصرنا من عبادة الأمم الخارجة بها فإنها ليست بهيكل . والتوعد هو أن لا تعود تبنى هيكلا لله تعالى ترفع عليه الذبائح والمحرقات ، وقد صح قوله : «لأنها أعطيت للأمم مع مدينة القدس يدوسونها اثنين وأربعين شهرا » أما إعطاء الدار للأمم إطلاقا فظاهر ، لأنها من حيث أخربها طيطس بيد الأمم ، وهذه المدة إلى عصرنا هذا قريبة من ألف ومائتين سنة . أما إعطاؤه للأمم مدينة القدس يدوسونها بهذا التخصيص في هذه المدة المعينة فإشارة إلى الدولة الدجالية فإنها نصف أسبوع ، ومستقرها بمدينة القدس ومذهب الدجال الذي يتظاهر به أولا مذهب اليهودية ، ثم يدعى الألوهية ومقامه بالبيت ، لأن الرسول بولس يقول إنه يجلس في هيكل الله، فسمى المكان بما كان عليه أولا وبما لعله يكون عليه .
54- (3) وأعطى شاهدي أن يتنبأ ألفا ومائتين وستين يوما ومسوح عليهما (4) وهاتان شجرتا الزيتون والمنارتان القائمتان أمام الرب (5) والذي يريدانه هما يفعلانه وتخرج نار من فيهما تأكل أعداءهما والذي يريد أن يضربهما هكذا يقتلانه (6) لأن لهما سلطانا أن يغلقا السماء أن لا تمطر على الأرض في أيام نبوتهما جميعا ولهما سلطان أيضا على المياه أن يقلباها دما ويضربا الأرض بكل ضربة يريدانها هما.
هذا الفص هو اعتبار أول القسم التاسع في هبوط الشاهدين وحوادثهما إلى حين صعودهما.
قوله : «وأعطى شاهدي أن يتنبأ ألفا ومائتين وستين يوما » ، العطية التي أعطياها هي النبوة لأهل ذلك العصر بمجيء الدجال عن قرب سريع والكشف عن آياته التي يظهر أنها آيات كاذبة ، وأن آياته غير صادقة ومدة تعزيتهما للأبرار ووعظهما للأشرار وإنذارهما بهذه الأسرار ثلاثة سنين وخمسة أشهر ونصف شهر شمسية ، وهذا معنى قوله : « ألفا ومائتين وستين يوما » . ثم يظهران تلك الآيات الباهرة والمعجزات الحقة دليل على صدقهما وقد تقدم ذكر بعضها في الأبواق الستة ، وسيذكر هنا البعض الآخر.
قوله : « ومسوح عليهما » ، لما أورد وصفهما ، ذكر ملبسهما الخشن الشظف الذي ينال من الجسم ولا ينال الجسم منه ، ولا يألفه البدن شعارا ولا دثارا ، ولا يلصق بالجسم لبيبه ، ولا يصون من حر ولا برد لتخلخل نسجه وعدم التئامه، وليس فيه سوى منفعة واحدة وهي السترة لا غير.
قوله : « وهاتان شجرتا الزيتون» على طريق التشبيه وهو التشبيه الذي تحذف أداته للمبالغة ، كما يقال للكريم : هذا بحر ، ويريد : كالبحر في إعطائه وإنما شبههما بالزيتون لأسباب ستة ، أولها : أن الشجر ذا الساق أشرف من البقول والحشائش وثانيها : أن الشجر المورق أشرف مما ليس بذي ورق وثالثها : أن الشجر الذي ينتثر ورقه أفضل من الشجر الذي لا ينتثر ورقه ورابعها : أن الشجر المثمر أفضل مما ليس بمثمر وخامسها : أن الشجر الذي فيه دهنية أفضل مما ليس له دهنية . وسادسها : أن الشجر الذي يعيش مدة أطول أفضل من قصر المدة . فالزيتون لما جمع هذه الفضائل المتميز بها على أنواع النبات ، شبه به الشاهدان لما جمعاه من الفضائل العلمية والعملية .
قوله : « والمنارتان القائمتان أمام الرب» ، هذا التشبيه كالأول مبالغة وإنما نسبهما بذلك لمعنيين أحدهما : تبتلهما فأشبها بدوام قيامهما بالمنارتين ولذلك قال : «القائمتان أمام الرب » والآخر : كونهما محلا للأنوار ، ولهذا التشبيه والذي قبله نظير ومثيل من قول زكريا النبي في زربابل الملك ويشوع بن يوزاداق الكاهن متوليى البيت الثاني ، فإنه قال : « ثم قال لى الملاك ما رأيت قلت رأيت منارة من ذهب وكفة على رأسها وعلى الكفة سبعة سرج ولكل سراج سبعة أفمام وفوق الكفة شجرتا زيتون عن يمين الكفة واحدة وأخرى عن شمالها ثم قال والشجرتان أبناء الخصب القائمتان أمام الرب ».
قوله : « والذي يريدانه هما يفعلانه» ، وقد أكمل هنا ما تقدم تفصيله في الأبواق.
قوله : « وتخرج نار من فيهما تأكل أعداءهما » ، هذه آية لم تذكر فيما تقدم من الآيات الست فهي سابعة لتلك.
قوله : « والذي يريد أن يضربهما هكذا يقتلانه» ، هذه الآية ثامنة لما تقدم ، وهي تحتمل وجهين من حيث قوله هكذا ، الوجه الأول : إشارته إلى خروج النار من فيهما ، أي والذي يريد أن يضربهما يقتلانه بنار من فيهما الوجه الثاني : إشارته إلى النوع الذي يضربهما به ، إن كان قتلهما بسيف قتل هو به ، أو بنار أو غير ذلك ، فكذلك يصيبه بإرادتهما أو قولهما ، وكان هذا الوجه أنسب للحال.
قوله : «لأن لهما سلطانا أن يغلقا السماء أن لا تمطر على الأرض في أيام نبوتهما جميعا » ، كيف قال في هذه الآية لأن وهي العلة ، فكأن هذه الآية علة لما تقدم ؟ وليس كذلك ، بل لأنها تدل على فعل الأصعب ، إذ إمساك السماء عن أن تمطر مثل هذه المدة ، مع أنه أصعب مما تقدم وأعظم مما دونه من الآيات ، فهو هين سهل بالنسبة إليهما . فكأن تقدير القول : لأن من يمسك السماء أن تمطر يسهل عليه أن يقتل عدوه . وهذه الآية تاسعة لما تقدم تفصيله ، وإن كانت قبل الكل عملت ، لأنها عمت من أول مدتهما إلى آخرها . ولهذا قال : «أيام نبوتهما جميعا »
قوله : «ولهما سلطان أيضا على المياه أن يقلباها دما » ، يحتمل أن تكون هذه الآية هي آية البوق الثاني ، وقد تقدمت في مكانها [فص 40] .
قوله : « ويضربا الأرض بكل ضربة يريدانها هما » ، جمع في هذه الجملة ما فصله آيات البوق الأول [فص 39] والثالث [فص 41] والرابع [فص 42] والخامس [فص 44) والسادس [فص 48] .
فهذه تسع آيات إلى هنا وقعت حسبما كشفت الرؤيا عنها وأما قول ملاخي النبي في آخر نبوته : « وها أنذا مرسل إليكم إيليا النبي قبل إتيان يوم الرب العزيز المخوف ليرد قلوب الآباء على البنين والأبناء على آبائهم قبل أن يأتى ويضرب الأرض بالهلاك »، فإن الإشارة في هذا باسم إيليا إلى يوحنا المعمدان لا إيليا النبي لأن إتيان إيليا الأخير يكون مع أخنوخ ، ولو أراد بذلك الإتيان الأخير لذكر أخنوخ معه . ولما لم يذكره معه علمنا إنه لم يرد ذلك الإتيان الأخير . وأما قوله : «قبل إتيان يوم الرب العزيز المخوف» ، فإنه مشترك بين مجيء يوحنا في الأول ومجيء إيليا في الآخر ، لأن كليهما قبل إتيان يوم الرب العزيز المخوف في مجده ، وذلك ليرد قلوب الأبناء على الآباء والآباء على الأبناء . وإذا خصص المشترك بقرينة عينته ، تمير بها وانحاز.
55- (7) فإذا كملت شهادة نبوتهما حينئذ يصعد الوحش من العمق ويحاربهما ويغلبهما ويقتلهما (8) وتكون جثتاهما في شارع المدينة العظيمة المدعوة روحيا سدوم ومصر حيث صلب سيدهما فيه (9) ويعاينون جثتيهما ثلاثة أيام ونصفا ولا يترك أحد يضع جسديهما في القبور (10) ويفرح( الفرح هنا بمعنى الشماتة) جميع السكان على الأرض بهما ويتنعمون ويرسلون هدايا لبعضهم قائلين هذان النبيان اللذان أتيا يعذبان الذين يسكنون على الأرض (11) ويكون بعد ثلاثة أيام ونصف يدخل فيهما روح الله فيقفان على أرجلهما ورجفة عظيمة تحل على كل الذين ينظرون إليهما (12) وسمعت صوتا من السماء يقول لهما اصعدا إلى ههنا فصعدا إلى السماء في سحابة وأعداؤهما ينظرونهما.
هذا الفص متسق مع الفص الخمسين.
قوله : «فإذا كملت شهادة نبوتهما حينئذ يصعد الوحش من العمق» علق صعود الوحش على كمال شهادة نبوتهما ، كما أن كمال شهادة نبوتهما تكمل بكمال شهادتهما ، وكمالها بستة أمور أولها : تعزية الأبرار لأن صلواتهم وطلباتهم واستشفاعهم من أكبر أسباب هبوطهما وثانيها : تبكيت الكفار والأشرار على أفعالهم وآرائهم وتأديب من أصر منهم بالضربات السالف ذكرها . وثالثها : البشرى بمجيء المخلص في مجده ورابعها : الإنذار بقرب الدولة الدجالية ، والنهي عن الميل إليها أو تصديق صاحبها أو الإذعان لمن يدعو إليهـا وخامسها : تبكيت الدجال نفسه وتكذيبه ومواجهتـه وقتاله . وسادسها : نيلهما إكليل الشهادة بعد ذوقهما الموت كسائر البشر وعند هذا ، تبلغ الحكمة الأمد وينتهي اجتهادهما وجهادهما ، وتبدأ تلك الدولة كالليل المظلم والسبيل المهلك والوحش رمز على الدجال والعمق غور البحر وهو رمز سيرد الكلام عنه في مكانه.
قوله : « ويحاربهما ويغلبهما ويقتلهما » ، عندما يظهر الدجال ، يبكته الشاهدان ويكذبانه جهرا ، فيتجرد لحربهما ، وهذه الحرب تحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن تكون جسمانية ، وذلك بأن ينضم إليهما من أمن بإنذارهما وبشراهما فيحارب معهما وعنهما والثاني : أن تكون روحانية ، وذلك بأن تظهر أقوى كما تقدم ، ويظهر الدجال ما يعاند به قواهما أو يماثلها ، شبيها لموسى مع سحرة المصريين ، ولبطرس مع سيمون ، وليوحنا الرسول مع دميس ، وغيرهم والثالث : أن يكون منهما روحانيا ومن المحاربين لهما جسمانيا كما جری لأحدهما ، وهو إيليا ، مع إيزابل الملكة ، فإنه قتل جماعة من الجند بمجرد القول ، وأخيرا طلبته إيزابل الملكة ، فلم يجد من نفسه القوة التي يعهدها ، فعلم أن الأمر سماوى بتخلى العناية العالية ، فهرب إلى الجبال وعلى كل تقدير ، فإنما يغلبهما الدجال بسماح من هذه العناية بحكمة يقصر عن إدراكها البشر ، وتدهش لمصادرها العقول حيرة وتعجبا من تمكينه منهما وقتلهما وفساد العالم بعدهما ، وليس إلا التسليم والرضى لأحكامه وإحكامه وحكمه ، فهو أعلى وأجل من أن تدرك طرقه أو تقتفى آثاره ؛ وإنما يقتلهما بالسيف لتتم شهادتهما كما قتل يوحنا المعمدان.
قوله : « وتكون جثتاهما في شارع المدينة العظيمة المدعوة روحيا سدوم ومصر » ، عندما يغلبان ويقتلان ، تترق جموعهما والمؤمنون بإنذارهما ، فتبقى جثتاهما لقى(مطروحة) في الأرض ، عبرة لكل ناظر وسامع وحاضر وغائب . وهذه المدينة التي ذكر استشهادهما بها سماها باسمين مجازين ليس فيهما اسم لها حقيقي ، واسمها على الحقيقة لم يذكر ، بل ذكر وصف يدل على المسمى ويغني عن الاسم . وأما وصفها بأنها عظمى ، فلأنها تكون في ذلك الوقت مقر المملكة المنبسطة على المسكونة ، وأنها تكون أكبر المدائن وأعمرها وأعظمها ، فعظمها بالشرف وبالمقدار . وقوله إنها مدعوة روحيا ، سمى الوصف الذي عدل به عن الوضع لغة روحانية لتداول المخاطبة به بين الممثلين والروح ، ولهذا سماها باسم يشتق لها من أفعال أهلها في ذلك العصر ، فسماها سدوم لاستغراق أهلها في خطايا أهل سدوم ، وهي اللواط والتظاهر به من غير حشمة كالدواب البادية بطباعها البهيمية بلا حياء ، وسماها مصر لاستغراقهم كأهل مصر قديما في عبادة الأوثان . وهؤلاء القوم هم الذين قالت عنهم الرؤيا إنهم ، مع ما أظهر فيهم الشاهدان من الضربات العظيمة ، لم يتوبوا عن عبادتهم للأوثان وسحرهم ونجاساتهم ، إلى غير ذلك من الرذائل . وقوله : «حيث صلب سيدهما فيه» ، وصف ذلك على مدينة القدس . وقد ظهر من هنا إنها موضع إنذارهما ومقر مملكة الدجال.
قوله : «ويعاينون جثتيهما ثلاثة أيام ونصفا ولا يترك أحد يضع جسديهما في القبـور » ، يريد أن جثتيهما تظلان مطروحتين ثلاثة أيام بلياليها ، وفي النهار الرابع الذي هو نصف اليوم يصعدان. واعلم أن لفظة soro في اللغة القبطية مشتركة بين اليوم الذي هو مجموع نهار وليلة . ولرب قائل يقول إن هذه الثلاثة أيام ونصف أراد بها ثلاث سنين ونصف لقوله بعد ذلك : « ويفرح جميع السكان على الأرض بهما » ، ولقوله إنهم يرسلون بعضهم لبعض هدايا فرحا بهما . وهذه مدة لا يذاع في مثلها الخبر في إقليم القدس فضلا عن الأرض كلها ، فكيف يتسامع أهلها ويفرحون أو يهيئون هدايا ويرسلها بعضهم إلى بعض لو لم تكن سنينا ؟ ومع هذا ، فقد قال الله تعالى لحزقيال النبي : « وتحمل إثم آل يهوذا أربعين يوما وقد جعلت لكل يوم سنة»، وعلى ذلك يكون المراد بالثلاثة أيام ونصف ثلاث سنين ونصف والجواب : إن الذي يدعو إلى تأويلها بأعوام هو التوهم بأن إذاعة خبرهما في المسكونة كلها يكون في ثلاثة أيام ونصف هو غير ممكن والفص لم يقل ذلك . والذي يجب أن يوول هو قوله : : « جميع السكان على الأرض» ، فإنه أطلق اللفظ عاما وأراد به الخصوص ، إذ أشار بالأرض إلى أرض القدس وهي المدينة وأعمالها ، بدليل قوله : « ويعاينون جثتيهما ثلاثة أيام ونصفا » ومحال أن يكون المعاينون هم أهل المسكونة جميعا ، سواء كانت المدة أياما أو أعواما ، وإنما الممكن حضور جميع أهل إقليم القدس ويعاينون جثتيهما وذلك اعظم شأنهما وفخامة أمرهما بما تقدم لهما من الآيات ، وخروج صيتهما وشهرتهما ، وما وقع في قلوب الناس من رعبهما والخوف منهما . وإنما تترك جثتاهما ثلاثة أيام ونصف ، ولا يقبران ليعاينا من القريب ويشهر أمر موتهما ويتسامع خبرهما البعيد ، ولتكن عدم مواراتهما أهبة لهما.
قوله : « ويفرح جميع السكان على الأرض بهما» ، وإنما يفرح الكفار والأشرار الذين قاسوا من ضرباتهما وتبكيتهما ما قاسوا ، ولذلك ابتهجوا بقتلهما ، وشمتوا بموتهما ، وكان عندهم الهناء بذلك.
قوله : « ويتنعمون ويرسلون هدايا لبعضهم» ، بلغ من مسرتهم بما جرى أن عملوا ولائم ، ولبسوا ملابس فاخرة وتطيبوا ، فهذا تنعمهم . وتهادوا بذخا وتلذذا لما حصل عندهم من الطرب لقتلهما وموتهما والراحة من عذابهما ، بدليل قوله : «قائلين هذان النبيان اللذان أتيا يعذبان الذين يسكنون على الأرض»
قوله : «ويكون بعد ثلاثة أيام ونصف يدخل فيهما روح الله فيقفان على أرجلهما » ، ولم يقل أن نفسيهما تعودان إليهما ، بل قال : « يدخل فيهما روح الله » . والجواب : إنه أراد بروح الله قوة الله ومعلوم إنهما لما استشهدا ، بانت رأساهما عن جثتيهما وبعد ثلاثة أيام ونصف ، دخل روح الله في الجثتين ليصححهما ويصلحهما ، ويعدهما لأن تستوكرهما ( تقطن ، تسكن) روحهما الكريمتان ، وعند ذلك تعود نفساهما فيقومان على أرجلهما حيين سويين بقوة الله.
قوله : « ورجفة عظيمة تحل على كل الذين ينظرون إليهما » تلك العقول الخسيسة التي فرحت وشمتت بسخافة عقل عند قتلهما ، هي التي ارتجفت هذه الرجفة العظيمة عند قيامهما . وهذه عاقبة كل حركة جهلية متعلقة بأغراض رديئة خارجة عن البصيرة المعتبرة ، لا سيما وأنها تتوجه إلى معاندة خالق العالم ، كما عاند فرعون وسنحاريب والهما وغيرهما . وإنما رجفتهم من أن يحل بهم مثلما تقدم من تلك الضربات الهائلة التي فعلها الشهيدان ، لا سيما وقد أظهروا من الشماتة بهما والفرح بقتلهما ما ذكر لكن خوفهم هذا لم ينجهم.
قوله : « وسمعت صوتا من السماء يقول لهما اصعدا إلى ههنا فصعدا إلى السماء في سحابة وأعداؤهما ينظرونهما » هذا السماع مختص بالرسول في رؤياه ، وقد عرفت ما رمز بالسماع عليه . فأما عند خروج هذه القضية إلى الفعل فلا يسمع شيء بل يمكن رؤيتهما بعد قيامتهما صاعدين على سحابة تعملهما إلى السماء بمشهد من الموالي والمعادي. ولقد خص هذان الشهيدان بأمور غريبة هي حياتان وموت واحد وصعودان وطول مدة وآيات عظيمة عدة ، ومثل هذه لم تجتمع لسواهما.
56 – (13) وفي تلك الساعة حدثت زلزلة عظيمة فسقط عشر المدينة ومات من الزلزلة سبعة آلاف اسم من الناس والباقون امتلأوا خوفا ومجدوا إله السماء (14) الويل الثاني مضى وهوذا الويل الثالث يأتي سريعا.
قوله : « وفي تلك الساعة حدثت زلزلة عظيمة» ، إن الحوادث العظيمة تحدث قبلها أو معها الزلازل والرعود والبروق والأصوات ولما كان قيام الشهيدين حادثا جليلا حدثت معه هذه الزلزلة العظيمة تنبيها للنفوس وتعظيما للأمر.
قوله : «فسقط عشر المدينة ومات من الزلزلة سبعة آلاف اسم من الناس» ، أثر حدوث هذه الزلزلة أمران ، أحدهما : سقوط أهل المدينة والآخر : موت سبعة آلاف اسم . وأراد بالاسم المسمى ، وموتهم من الخوف المفرط من الزلزلة ، كما قال الإنجيل : «إن كثيرين يموتون من صوت البحر » ، ولعل هؤلاء الذين ارتجفوا تلك الرجفة العظيمة عند مشاهدتهم قيام الشهيدين وهم المتظاهرون بالفرح والشماتة بقتلهما.
قوله : «والباقون امتلأوا خوفا ومجدوا إله السماء» ، ظاهر إن هؤلاء الباقين هم المؤمنون الأبرار . ويجوز أن يمجد الكفار والأشرار الله تعالى عند الخوف المفرط والشدائد المهولة ، فإن هذا هو شأن الجبلة عند ضعفها وانقطاع حيلها أن تلجأ إلى جابلها بالطبع.
قوله : «الويل الثاني مضى وهوذا الويل الثالث يأتي سريعا » ، قد مضى تفسير الويل إنها لفظة تدل على العذاب . أما الويل الثاني فإشارة إلى ستة أمور مضى ذكرها ، أولها : الضربة التي كانت عن البوق السادس وثانيها : خروج النار من فم الشهيدين لقتل أعدائهما وثالثها : قتل الشهيدين أعداءهما بالنوع الذي يريدون قتلهما به ورابعها : الرجفة التي كانت عند قيامتهما وخامسها : سقوط عشر المدينة . وسادسها : موت سبعة آلاف اسم . ونظير هذا ما قاله حزقيال النبي في الإصحاح الثالث « ويطلبون السلام فلا يجدون إلا الويل على الويل يأتي عليهم».
57- (15) وبوق الملاك السابع فكانت أصوات عظيمة من السماء تقول مملكة العالم صارت للرب إلهنا ومسيحه ويملك إلى أبد الأبد (16) والأربعة والعشرون شيخا الجالسون أمام الله على الكراسي خروا بوجوههم وسجدوا لله (17) قائلين نشكرك أيها الرب الإله ضابط الكل الكائن والذي كان والآتى لأنك أخذت القوة وملكت (18) وسخطت الأمم لأن غضبك آت وزمان دينونة قضاء الأموات وتعطى عبيدك أجرهم الأنبياء والأطهار وكل الذين يخافون اسمك الصغار والكبار وتهلك المفسدين للأرض.
قوله : «وبوق الملاك السابع فكانت أصوات عظيمة من السماء تقول مملكة العالم صارت للرب إلهنا ومسيحه ويملك إلى أبد الأبد» ، هذه الأصـوات هی من من أصوات ملائكة السماء ، وهذه بشرى بأن مملكة العالم صارت للآب والابن وإن كانت لم تزل كذلك ، لكن مراده بطلان الملوك والممالك العالمية وانتهاء الملك إلى الله تعالى وربنا يسوع المسيح له المجد من غير انتسابه لأحد البشر ، والمراد بأبد الأبد ما لا نهاية له ولا آخر.
قوله : « والأربعة والعشرون شيخا الجالسون أمام الله على الكراسي خروا بوجوههم وسجدوا لله قائلين نشكرك أيها الرب الإله ضابط الكل .. إلخ» ، قد عرفت أن هؤلاء الشيوخ هم الأنبياء ، ومكان جلوسهم وكراسيهم قد مضى تفسيره في الفص التاسع عشر ، وكونهم خروا بوجوههم وسجدوا فهو رمز على تواضعهم بنفوسهم لله ، لأن أجسادهم بعد لم يلبسوها ، بل عند خروج هذه النبوة إلى الفعل يكونون قد لبسوا أجساد البقاء ، فيكون القول عند ذلك على ظاهره . وأما شكرهم لله تعالى فقد ذكره من أجل وصول الملك إلى الابن ، ولذلك سموه الرب الإله ضابط الكل . والدليل الأول على أن الإشارة للابن قولهم : «الكائن والذي كان والآتي» فإن الإتيان والحركة إنما يصحا بالحقيقة على الابن بما إنه إنسان . والدليل الثاني قولهم : : «لأنك – بكاف المخاطبة . أخذت القوة وملكت » ، والآب لم يأخذ القوة ولا ملك ولكنه ما زال قويا وملكا ، وكذلك قولنا في الابن إنه ما زال قويا وملكا وإنما الإشارة إلى الجسد الذي أخذه من طبيعتنا وصيره واحدا مع لاهوته فالوجه هو ما ذهبنا إليه . وظهور هذا الملك عند ورود الألف الثامنة بعد انتهاء ممالك الأمم.
قوله : « وسخطت الأمم لأن غضبك آت وزمان دينونة قضاء الأموات » السخط هو الغضب ، وسخطت الأمم يعني غضبت . وأما غضبه الآتي فهو في يوم الرب العظيم الذي قال إن فئات الأمم الضالة تفنى فيه . وأما قوله وزمان دينونة قضاء الأموات فالإشارة به إلى الألف سنة التي فيها قيامة الأبرار ومجازاتهم بالصالحات ، ولهذا قال : « وتعطى عبيدك أجرهم الأنبياء والأطهار وكل الذين يخافون اسمك الصغار والكبار» ، فقد قسم الأبرار إلى أنبياء وأطهار وحائفين اسمه تعالى على اختلافهم من صغار وكبار قوله « وتهلك المفسدين للأرض» ، هكذا في يوم الرب العظيم وسيأتي بيانه في فص مائة وخمسة فإن في ذلك اليوم يهلك الأشرار والمفسدين للأرض .
58 – (19) وانفتح هيكل الله الذي في السماء وظهر تابوت العهد في الهيكل وكانت بروق ورعود وأصوات وزلازل وبرد من السماء
هذا الفص متسق في المعنى مع الفص الستين الذي يرمز إلى معاندة الشيطان لأبناء المعمودية وسيد الكل ، وقصده قهرهم منذ التجربة السيدية وهلم جرا ، لا سيما بعد سقوطه الأخير قبل الدولة الدجالية لقد أغرى عليهم الدجال أخيرا حتى تشتتوا في الجبال والقفار مدة دولته . وأما حل رموزه:
فقوله : « وانفتح هيكل الله الذي في السماء وظهر تابوت العهد في الهيكل» ، هذا الهيكل هو الذي تقدم الكلام فيه في فص خمسة وثلاثين وبينا إنه أمام العرش ، وهو الذي رأه موسى بعين النبوة عندما كان في الجبل. وقيل له أن يعمل الهيكل الأرضى على مثاله ، وبحسب ظني أن الكلام فيه على ظاهره ، بدليل قوله : «الذي في السماء» ، وتابوت العهد هذا لا يقصد به الذي عمله موسى ووضع فيه لوحي العهد وجرة المن وعصى هرون ، بل هو الأصل الممثول الذي صنع موسى على مثاله ، وفي بعض التواريخ : إن تابوت العهد الذي عمله موسى نقل إلى ملك الحبشة ، وإنه موجود عندهم الآن، وإنهم يحملونه في مقدمة حروبهم . وكذلك نقل إلينا بعض رهبانهم ، وفي التاريخ المأثور ، أن آنية البيت جعلها بعض كهنتهم في مغارة بجبل المنقطعين وأن الجبل انطبق عليها والتحم فلم يعرف لها مكان . وقصدهم الرديء بذلك إن الآلات التي أودعها سليمان قبة الزمان غير التي عملها موسى . وليس هذا الرأى بالقول الذي يعتد به.
قوله : «وكانت بروق ورعود وأصوات وزلازل وبرد من السماء»، الأرجح فيما أراه أن هذه الآثار لتنبيه الرسول فقط على تأمل هذا المثل العجيب والرمز الغريب ، والوقوف على حقيقته والإنباء بما يظهر منه.
تفسير سفر الرؤيا – 10 | سفر الرؤيا – 11 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 12 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 11 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |