تفسير سفر الرؤيا اصحاح 14 لابن كاتب قيصر
الأصحاح الرابع عشر
الفصل الرابع عشر
رؤ14: 1-5
65- (1) ورأيت الحمل واقفا على جبل صهيون ومائة ألف وأربعة وأربعين ألفا معه واسمه واسم أبيه مكتوبان على جباههم (2) وسمعت صوتا من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم والصوت الذي سمعته صوت مثل قيثارة (3) وهم يسبحون بتسبحة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ ولم يقدر أحد أن يعلم التسبحة إلا المائة ألف والأربعة والأربعين ألفا الذين اشتروا من الأرض (4) وهؤلاء هم الذين لم ينجسوا ثيابهم مع امرأة لأنهم أبكار وهؤلاء هم الذين يمشون مع الحمل حيثما يذهب وهؤلاء الذين اشتروا من الناس باكورة لله وللحمل (5) ولم يوجد أحد كاذب فيهم لأنهم أطهار.
قوله : « ورأيت الحمل واقفا على جبل صهيون ومائة ألف وأربعة وأربعين ألفا معه واسمه واسم أبيه مكتوبان على جباههم» ، وقوف سيد الكل الحمل ومن معه مشعر ببشرى الأبرار وإنذار الفجار ، وأن وقت المجازاة قد قرب ، وأن الحرب العظيمة حانت . وتخصيص جبل صهيون بالوقوف لأن هناك تكون حرب اليوم العظيم ، والجمع المذكور عدته هو نفوس أبرار أبكار من جملة من آمن بالمسيح من أسباط بنى إسرائيل ، وقد مضى الكلام فيهم في الفص الثالث والثلاثين ، وهم الذين رسموا ، وهو معنى قوله : « واسمه واسم أبيه مكتوبان على جباههم».
قوله : « وسمعت صوتا من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم» ، سلف لنا أن السماع يريد به إدراكا خفيا ، وكونه مثل مياه كثيرة ورعد عظيم لأنه أصوات جمع كبير متفق في التصويت فيشبه صوت خرير المياه وصوت الرعد العظيم.
قوله : « والصوت الذي سمعته صوت مثل قيثارة» ، قوله مثل مشعر في الحقيقة بأنه ليس صوت نورانيين ، فإذن مصدره في الرؤيا عن أنفس بقية الأبرار ، لأنهم متشبهون في تسابيحهم بالنورانيين الذين هم الملائكة.
قوله : « وهم يسبحون بتسبحة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ» ، هذا دليل على أن مصدر التسبحة هو أنفس الصديقين لأنهم شبهوا بالملائكة . قوله إنهم أمام الأربعة الحيوانات والشيوخ دليل آخر على اختصاصها بنفوس البشر . وأما التسبحة فلا نعرفها إذ لم يذكرها ولا يعلم سبب إخفائها . أما معنى قوله إنهم : «اشتروا الأرض» ، فقد مضى تقريره في فص أربعة وعشرين.
قوله : « وهؤلاء هم الذين لم ينجسوا ثيابهم مع امرأة لأنهم أبكار» ، أي لم يضاجعوا امرأة حلالا ولا حراما ، وقد مضى تفسيره في الفص الخامس عشر.
قوله : « وهؤلاء هم الذين يمشون مع الحمل حيثما يذهب» على ظاهره خلا لفظة الحمل فإن المراد بها سيد الكل باللغة الروحانية ، والمقصود بالقول اختصاصهم به وقربهم منه وملازمتهم له ، لأنه قال في بشارة يوحنا : « وحيث أكون أنا هناك يكون خادمی».
قوله : « وهؤلاء الذين اشتروا من الناس بأكورة لله وللحمل» ، الشراء قد مضى تفسيره في الفص الرابع والعشرين ، وبقية القول على ظاهره خلا الحمل فإنه كما تقدم .
قوله : « ولم يوجد أحد كاذب فيهم لأنهم أطهار» ، وإن هذه لسيرة عظيمة ، ولو لم يكن لهؤلاء إلا هاتان الفضيلتان لعظم التعجب من إتقانهم لهما مع صعوبتهما ، أعنى العفة والصدق ، فلهذا استحقوا هذا الشرف الباذخ والعز الراسخ . رحمنا الله بصلواتهم وبركاتهم أجمعين ، آمين .
رؤ14: 6-7
66- (6) ورأيت ملاكا يطير في وسط السماء معه بشری الإنجيل الأبدى يبشر السكان على الأرض وكل شعب وكل قبيلة وكل لسان وكل لغة (7) ويقول بصوت عظيم خافوا الله ومجدوه فقد أتت ساعة حكمه واسجدوا للذي صنع السماء والأرض والبحر والمياه.
قوله : « ورأيت ملاكا يطير في وسط السماء معه بشرى الإنجيـل الأبدى » ، قد وصفت حركات الملائكة بالطيران لسرعتها ، وطيرانه في وسط السماء ليكون ظهوره أعلى والبشرى التي معه تختص بالبشر ، وهي بشارة الإنجيل بالخلاص ، وكونها أبدية يريد بذلك دوام سرور الأبرار المجاهدين في سيرة الفضيلة ، لسماع هذه البشرى الدائمة . أما وهم في أجسادهم ، ففرحهم بالراحة والأمانة . وأما بعد ذلك ، ففيما ينالونه من خیرات الملكوت الدائمة.
قوله : « يبشر السكان على الأرض» قد صرح فيه بأن البشرى تختص بهم.
قوله : « وكل شعب وكل قبيلة وكل لسان وكل لغة» ، الواو من قوله وكل شعب زائدة في اللغة القبطية لا عاطفة ، وما بعدها تفسير لسكان الأرض ، فيكون التقدير : لسكان الأرض ، كل شعب وكل قبيلة وكل لسان وكل لغة ، والفرق بين الشعب والقبيلة ، واللسان واللغة قد مضى تفسيره في الفص الرابع والعشرين.
قوله : « ويقول بصوت عظيم خافوا الله ومجدوه فقد أتت ساعة حكمه » ، هذه هي البشري التي بشر بها الملاك ، وكونها بصوت عظيم ليعظم ظهورها وكيف وكونها بصوت عظيم ليعظم ظهورها ، وكيف تجتمع البشرى والتمجيد وهما علامة الفرح ، مع الأمر بالخوف وذكر إتيان ساعة الحكم وهما علامة الحزن ؟ والجواب : أن هذه البشرى للأبرار كما تقدم . وكل الذي قيل فيها يسرهم ويفرحهم . أما خوف الله فان داود النبي يقول : «يفرح قلبي حين أخشى اسمك» (مز86: 11) ، فالبار يفرح بخوفه من الله لأن الخوف رأس الحكمة، وسبب طاعته وصلاح أحواله . وأما إتيان ساعة الحكم فلوجهين أحدهما : راحة أصحاب هذه السيرة من أتعاب الجسد وهموم العالم ومعاندة الأرواح الشريرة والآخر : نيلهم الملكوت جزاء أفعالهم الصالحة وسيرتهم الفاضلة.
قوله : « واسجدوا للذي صنع السماء والأرض والبحر والمياه » ، في هذا إشعار أن الكلام موجه للأبرار الذين في أيام الدجال ، وكأنه بهذا الأمر نهاهم عن الوقوع في السجود لغير الله وأما كون الأمر بشيء يلزمه النهي عن نقیضه فمسألة مثبتة في علم الأصول الحكمية ، أما علة السجود لله فهي لأنه صنع السماء والأرض ؛ والبحر والمياه على مجرى التفسير المذكور داخلان في الأرض ، فلم أفـرزا منها وعطفا عليها ؟ ذلك لأن طائفة عظيمة من الحكماء الصابئين ، والحنفاء الوثنيين ، يذهبون إلى أن العالم قديم ، وأن الأرض من الماء ، بل وبقية العناصر ، وأن الماء قديم غير مخلوق ؛ ولهذا السبب عبد القبط عنصر الماء قديما . وربما تعلل من انتحل كون الماء غير مخلوق بأن التوراة لم يذكر فيها خلقته . وليس هذا بصحيح ، فإن هذا القول بعينه قد ذكر في السفر الثاني عندما أمر بحفظ السبت فقال : «لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام ، والبحور ومافيها ، واستراح في اليوم السابع» وهذا الرأى أن الماء غير مخلوق يظهر أيضا في الدولة الدجالية ، فكان هذا القول (خر20: 11) إعلاما ببطلان هذا الرأى الرديء الذي أهلك عالم الطوفان ومن تابعه ، وسيهلك عالم الدجال ومن يصير معه ، هكذا ذكر القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية ، حين قال أن قوما مستهزئين يأتون في آخر الزمان ، ويقولون أن السماء والأرض كانتا في القديم والأرض من الماء ، ومن الماء قامت بكلمة الله ، وبه غرق ذلك العالم فهلك فأما الآن فالسموات والأرض مخزونة بتلك الكلمة الى يوم الدين وهلاك القوم الكافرين.
67- (8) وملاكا ثانيا تبعه قائلا سقطت سقطت بابل العظمي التي سقت جميع الأمم من خمر غضب زناها.
وكما ظهر الملاك الأول قبل هذا مبشرا للأبرار ، ظهر هذا منذرا مبكتا للأشرار بما سيأتي . وأما بابل هذه فمراد بها أورشليم الأرضية مدينة مملكة الدجال ، ولذلك وصفها بالعظمي وسماها بابل تشبيها ببابل في عبادة أهلها صورة الدجال . كما عبد أهل بابل الحقيقية الصورة الذهب التي اقامها بختنصر وسقوطها على ظاهره بالزلزلة العظيمة التي من آثار الجام السابع . وذكر أنها سقطت بصيغة الفعل الماضي ، وإن كانت لا تسقط إلا في الفعل المستقبل ، أي أن الله حكم عليها بذلك.
قوله : «التي سقت جميع الأمم من خمر غضب زناها » ، إضافة الخمر إلى الغضب إضافة الصفة إلى موصوفها ، كما يقال : حمرة الخجل ، وصفرة الوجل. والزنا يريد به عبادة الأوثان كما أطلقه كثير من الأنبياء وخاصة أشعياء ، واستعمل ذلك لما بينهما من التشبيه البليغ ، وهو : كما أن الزانية تترك بعلها وتصير مع غيره ، كذلك عباد الأوثان يتركون خالقهم ورازقهم ويتعبدون للأوثان ، ولذلك سيتجرعون كأس خمر الغضب الإلهى ، ودلنا على ذلك قول الملاك الثالث في الفص الثامن والستين : «من يسجد للوحش وصورته وختمه على جبهته ويده فهو يشرب من خمر غضب الله» حتى صار التقدير : «سقطت بابل من ثورة غضب الله على زناها .
رؤ14: 9-12
68- (9) وملاكا ثالثا تبعه قائلا من يسجد للوحش وصورته وختمه على جبهته ويده (10) فهو يشرب من خمر غضب الله الممزوج بخمر صرف من كأس غضبه ويعذبهم بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الحمل (11) ودخان عذابهم يصعد إلى أبد الأبد وليست لهم راحة هناك النهار والليل للذين يسجدون للوحش ولصورته ومن يوسم باسمه (12) هنا صبر القديسين الحافظين وصايا الله وإيمان يسوع المسيح .
الملاك الأول بشر الأبرار ، والثاني أنذر الفجار بهلاك مدنهم ، وهذا الثالث منذر لهم أيضا بهلك أنفسهم لسجودهم للوحش وصورته ؛ وإنما كان المبشر ملاكا واحدا ، والمنذر ملاكين لأن الأبرار طائعون تكفيهم أدنى إشارة فيصدقون ويطيعون ، وأما الفجار فعلى خلاف ذلك.
قوله : « وملاكا ثالثا تبعه قائلا» ، الهاء من تبعه تعود على الملاك الثاني.
قوله : «من يسجد للوحش وصورته وختمه على جبهته ويده فهو يشرب من خمر غضب الله» ، قد جعل لهذا الشرط جزاءين أحدهما السجود للوحش وصورته . والآخر : أن يكون ختمه على جبهة الساجد ويده والجزاء عن ذلك شربه من خمر غضب الله . واستعارة الخمر لغضب الله قد فسرناها بذكر الوصف المشترك بينهما وهو الثورة المسكرة فعبر عنها بموصوفها وهو الخمر ، حتى يكون التقدير : تحل عليه ثورة غضب الله
قوله : «الممزوج بخمر صرف من كأس غضبه» ، يريد بالخمر هنا الانتقام ، للوصف المشترك بينهما ، وهو الحدة اللاذعة . ووصفها بأنها صرف لأن الصرف هو الخالي من الشوائب، أي أن هذا الانتقام لا تشوبه رأفة ولا تخالطه شـفقة. والمزج الخلط ، وكأنه قال : غضب الله المتصل بانتقامه الذي لا يخالطه إشفاق . والكأس في اللغة الروحانية يراد بها الموت الطبيعي تارة والبلوى العظيمة تارة . فالأول كقول الإنجيل : «إن كان يستطاع أن تعبر عنى هذه الكأس» ، وأراد بها الموت الطبيعي أو بلوى [آلام] الصلب وقوله لابني زبدي : «أما كأسى فتشربانها »، ودل بها على الموت الطبيعي لأن ابنى زبدي لم يصلبا . والعرب أيضا قد استعملوا الكأس في ذلك فقالوا : كأس الموت وكأس الفراق وغيره . والمراد بالكأس هنا البلوى العظيمة وإضافتها إلى غضبه إضافة إضافة التعريف المخصص ، فالانتقام مسبب عن الغضب ممزوج به ، وتقدير القول فيه : غضب الله الممزوج بانتقام خالص من الرأفة نافذ من بلوى غضبه . فيا لهذه الفصاحة والبلاغة التي لهذا الرسول قوله : « ويعذبهم بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الحمل» فيا لشدته من عذاب جامع بين الألم المبرح والاشتهار المفضح ، وأشد منهما دوامه ، فنسأل الله العفو بلطفه ورحمته .
قوله : « ودخان عذابهم يصعد إلى أبد الأبد» ، المراد بصعود الدخان معنيان : أولهما : أنه دليل على أنهم لا يفنون ولا يعدمون بالإحراق ، لأن الدخان الصاعد دليل على بقاء بقية من المحترق والثاني : أن ألمهم يدوم بدوام بقائه ، ولهذا قال : « يصعد إلى أبد الأبد».
قوله : «وليست لهم راحة هناك النهار والليل» يريد أن هذا الألم ليس هو من وقت دون وقت ، ولا تتخلله فترات فيكون ببعضها راحة ، بل هو دائم ، فلا رحمة لهم راحة هناك في النهار ولا في الليل . وفي الحقيقة إنه لا ليل هناك ولا نهار ، ولكنه لفظ خطابی مشهور معتاد ، يدل السامع علي دوام الاستمرار .
قوله : «للذين يسجدون للوحش ولصورته ومن بوسم باسمه » ، أعاد ذكر المعاقبين ووصفهم وفعلهم المؤكد للمعنى ، وتخصيصهم بهذا العذاب کی لا يرتاب بذلك مرتاب أو يتأول فيه متأول . ومع هذا الاتفاق والتكرار المؤكد فإن كثيرا من الناس باغترارهم يرتابون في دوام العقاب قوله : «هنا صبر القديسين الحافظين وصايا الله وإيمان يسوع المسيح » هذا القول على ظاهره ، وهنا شرط وقد حذف جوابه وهو : فطوباه ، ودل عليه ما ذكره في الفص التاسع والستين : «طوباهم الأموات بالرب ».
69- (13) وسمعت صوتا عظيما من السماء يقول اكتب طوباهم الأموات بالرب إذا ماتوا من الآن قال الروح لكي يكون لهم راحة من الآن من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم .
هذا أول إنباء في الإنذار بقيامة الصديقين ومجازاتهم بالصالحات قوله : « وسمعت صوتا عظيما من السماء يقول» ، عظم الصوت كثرة ظهوره ، والصوت موجه نحو الرسول الرائي السامع ، وقد ذكر المكان المدرك منه وهو السماء . فأما الصوت فيجوز أن يكون ملاكا ، ويجوز أن الملائكة من يكون وحيا أوحى به للسامع ، والأول أولى لأن الوحي بالروح وهي التي أجابته ، والمجيب غير القائل.
قوله : «اكتب طوباهم الأموات بالرب» ، قد مضى في تفسير الفص الثاني أن لفظة الطوبى سريانية تفسيرها السعادة . وقوله اكتب يريد اكتب ذلك ودونه في جملة الرؤيا . والأموات في الرب يريد بهم شيئين ، أولهما أن يموتوا من أجل إيمانه وطاعته كالشهداء والمعترفين والذين نالتهم ضيقات من أجله . وثانيهما : أن يموتوا على إيمانه وطاعته كالأنبياء والصديقين والعباد والأبرار ومن يجرى مجراهم.
قوله : «إذا ماتوا من الآن» ، ليت شعري : أي أن يريده ؟ هل هو قبل الدولة الدجالية حتى يستريحوا ولا يروا عثرتها ، أو هو فيها حتى يعظم أجرهم بجهادهم ، أو هو بعدها حتى يكونوا قد تعبوا وصبروا إلى المنتهى واستراحوا من أتعابهم ؟ ويظهر أن هذا القسم الأخير هو مراده بثلاثة دلائل أولها : إنه القسم الأقوى والثاني : أن مدة موتهم لا تطول ، بل تدركهم قيامة الصديقين والثالث : وهو الأقوى ، لأنه قال هذا القول بعد بشرى الملائكة وإنذارهم بانتهاء الدولة الدجالية وقرب المجازاة . ولفظة الآن تحتمل أن تكون متعلقة بموتهم ، وتقدير القول : طوبى لمن يموت الآن ، وهذا أرجح .
قوله : «قال الروح لكي يكون لهم راحة من الآن من أتعابهم» ، يريد بالروح الروح القدس له المجد ، والقول منه إجابة للقائل بأن العلة في ذلك هي راحتهم من أتعابهم ، وفيه دل على أن القائل الأول هو ملاك وأن الروح القدس أجابه . والقول والجواب لإعلام الرسول ، وفيه دليل أن «الآن» متعلقة براحتهم.
قوله : « وأعمالهم تتبعهم» ، ذلك لأن أعمال القديسين ترافقهم ليظهروا بها أمام ربهم وهم بشرف عظيم
70- (14) ورأيت سحابة بيضاء وواحدا جلس على السحابة يشبه ابن البشر وكان على رأسه إكليل ذهب وسيف يضرب بيده.
إن غوامض هذه الرؤيا لتخطف البصائر ، وتذر(تترك) المتأمل كالباهت الحائر ومن جملتها ما نحن فيه الآن ، وهو قوله : « ورأيت سحابة بيضاء وواحدا جلس على السحابة يشبه ابن البشر» ، وهذا يوهم أنه ليس هو السيد المسيح ، لأنه له المجد ابن البشر حقيقة . فكيف يشبه الشيء بنفسه ؟ ثم قوله في الفص الآتي إن ملاكا آخر قال للجالس على السحابة : « أرسل محصدك» ، وهذه صيغة أمر من الملاك على هذا المتوج ، ثم قوله : «لأن ساعة حصاد الأرض أتت» ، وهذا مشعر بأنه لم يعلم حضور الساعة المشار | إليها حتى أعلمه بها الملاك ، فهذه التي قوت هذا الوهم ، وإن قلنا إنه ملاك ، لأن الملائكة تتراءى بشبه البشر وعليها ملابس الملوك ، فإن دانيال النبي يقول في رؤياه : «فإذا بإزائي واقف كمنظر رجل وسمعت صوت إنسان وقال أنا جبرائيل » ، وكذلك رأى حزقيال ، فقال في الإصحاح الرابع إنه رأى رجلا مطقسا وهو لابس فرفير ومنطقة مشدود بها ظهره . لكن هذا المجموع الذي ذكر في الرؤيا لا يجتمع لملاك ، وهو كونه على سحابة بيضاء وإكليل على رأسه وبيده سيف . ثم القول عليه في الفص الثاني والسبعين بأنه حصد عنقود عنب الأرض وداس المعصرة(3) ، وهذا مذكور في النبوات على سيدنا المسيح له المجد ، فثبت أن الإشارة بهذا الفص إليه والنص بها عليه فلنكشف عن رموزه لنصل إلى العلة التي وراءها ، فنقول :
إن السحابة البيضاء يرمز بها كالرمز بالفرس الأبيض ، وذلك على الملك والعدل. أما الركوب على ذلك الفرس فهو كالجلوس على السحابة ، وأما كون الجالس عليها يشبه ابن البشر ، وليس هو بابن البشر حقيقة ، فلأن هذه رؤيا عقلية روحانية رمز بها على ما سيكون في الوجود الخارجي على جهة التمثيل ، فلو كان المرئي هو ابن البشر حقيقية ، وكذلك السحابة والسيف وما يتصل بذلك ، لصار المثل هو الممثول وقد خرج إلى الفعل ، وبطل المثل والنبوة ، وهذا سر قوله : « يشبه ابن البشر » . وعلى هذه الصورة بعينها قال دانيال في رؤياه : «كنت أرى على سحاب السماء مثل ابن البشر» . وكذلك كل مثل ، وإن لم يصرح فيه بالتشبيه ، فإنه في نفسه كذلك ، وإنما حذف منه ما يدل على التشبيه لاستقرار العلم به أن أصل وضعه كذلك.
قوله : « وكان على رأسه إكليل ذهب وسيف يضرب بيده » الإكليل هنا رمز إلى السلطان والحكم ، وكونه ذهبا يدل على الشرف والبقاء كما بينا أقسام رموزه في الفص الثامن . وكذلك الرمز بالسيف وكونه يضرب قد بيناهما في الفص المذكور . لكنه قال هناك إن سيفا بفمين يخرج من فيه ، وقال هنا إنه بيده ، ولكل منهما معنى رمز به عليه . أما كونه في فمه ، فقد بيناه هناك [فص 8] بأنه يدل على مضاء الحكم بمجرد القول والإرادة وأما كونه بيده في هذا الفص فرمز على بلوغ الانتقام أن يخرج إلى الفعـل كمن يتناول آلة ويهيئها في يده للعمل بها . أما كونه لم يذكر هنا أنه ذو فمين كما ذكر هناك ، فلأن السيف المذكور في الفصين واحد بالشخص ، والإشـارة به إلى قوة واحدة بعينها ، فاستغنى بصفته في الفص الثامن عن تكرارها في هذا الفص وما سوى ذلك مما أشرنا إليه سيأتي بيانه في مکانه.
71- (15) وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم للجالس على السحابة أرسل محصدك واحصد لأن ساعة حصاد الأرض أتت (16) والجالس على السحابة محصده على الأرض فحصدت الأرض .
الخروج من الهيكل يريد به الخروج من المكان الذي فيه الهيكل . وهذا الملاك هو رابع ملاك خرج . لكنه أول خارج من الهيكل . وقد عرفت من تفسير الفص الثالث والخمسين أن الهيكل هو مذبح البخور وهو المذبح الذهب ، وأن الصراخ والصوت مدركان عقليان ، وأن الصوت العظيم هو إعلان الأمر وإظهاره.
قوله : « للجالس على السحابة» ، اللام حرف يوصل معنى الفعل إلى الاسم ، أي الصراخ للجالس على السحابة المقدم ذكره .
أما قوله : «أرسل محصدك واحصد » ، في هذا اللفظ ، وإن كانت صيغته صيغة فعل الأمر ، فإن لهذه الصيغة ثلاث اعتبارات ، أولها : أن تكون صادرة من الأعلى إلى الأدنى ، كما يأمر الملك غلامه فيقول له افعل . وتسمى بهذا الاعتبار أمرا وثانيها : أن تكون صادرة من الأدنى إلى الأعلى ، كما يقول العبد : ارحمني يا الله وتسمى بهذا الاعتبار ضراعة وسؤالا ودعاء وثالثها : أن تكون صادرة من المماثل إلى مماثله كما يقول إنسان لرفيقه : امش معى . وتسمى بهذا الاعتبار طلبا والتماسا فالملاك إذن إنما قال لسيد الكل : «أرسل محصدك واحصد » بالاعتبار الثاني الذي هو الضراعة والسؤال . وأما عظم الصوت فإعلان لصاحب الرؤيا لكي يفهم ، لا للمخاطب جل عن ذلك.
وقوله : «لأن ساعة حصاد الأرض أتت» ، الحصاد بالقول العام المجازي یراد به الموت على اختلاف أنواعه طبيعيا كان أو قتلا وقد ورد في تفسير سيدنا لمثل الزوان أن الحصاد هو منتهى الدهر ، والمنتهى في الواقع هو الوقت الذي يكمل فيه موت البشر . وكأنه يريد بالحصاد معنى . خاصا ، هو هلاك التابعن للدجال بالقتل وإراقة الدماء كما سيأتي ذلك . وقد أعطى العلة في الحصاد وهي إتيان ساعة وبلوغ الأمد ، وهو في الحقيقة من لوازم ما قضى به الله تعالى وقدره في ذلك الأمد ، فقد عبر أيضا عن الملزوم بلازمه. ومراده بحصاد الأرض حصاد أهل الأرض ، فحذف المضاف للعلم به . ولم يقل هذا الملاك شيئا من هذا القول للجالس على السحابة لكي يعلم ما لا يعلمه بل ليظهر بذلك للرسول صاحب الرؤيا فيعلم بلوغ الأمر وأمده وقد انحل ما كان موهما أن الجالس على السحابة ليس هو سيد الكل.
قوله : «والجالس على السحابة محصده » ، أي أطلق الفعل في حينه . والمحصد هو الآلة التي يحصد بها الزرع كالمنجل ، وفيها دليل على أن موت تلك الأمة يكون أكثره بالسيف المرموز عليه بالمحصد لما بينهما من بليغ المشابهة والمناسبة.
رؤ14: 17-20
72- (17) وخرج ملاك آخر من السماء وبيده سيف يضرب (18) وخرج أيضا ملاك من المذبح وله سلطان النار فدعا بصوت عظيم الذي بيده السيف الضارب قائلا ارسل سيفك الضارب واقطف عنقـود عنـب الأرض لأن عنبها قد نضج (19) وضرب سيفه على الأرض وقطف عنب الأرض وألقاه في معصرة غضب الله العظيمة (20) وداس المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة إلى لجم الخيل ألفا وستمائة غلوة .
هذا خامس ملاك يخرج.
قوله : « وبيده سيف يضرب» ، يدل على أنه الملاك المتولى الانتقام من آل الدولة الدجالية ، وقد مضى بيان ما يرمز عليه بالسيف وما يرمز عليه بكونه يضرب.
قوله : « وخرج أيضا ملاك من المذبح» ، فهذا سادس ملاك يخرج وثاني ملاك خارج من المذبح الذي هو الهيكل.
قوله : «وله سلطان النار» ، يريد أن عنصر النار تحت سلطانه وتصرفه ودل على أن ذلك القول على سبيل التعريف به والوصف له لكونه لم يذكر فعلا سوى إبلاغ الأمر للملاك الذي يرسل سيفه الضارب ، ولهذا قال : «فدعا بصوت عظيم الذي بيده السيف الضارب قائلا : ارسل سيفك الضارب واقطف عنقود عنب الأرض» ، فإن كان هو السيد الجالس على السحابة كما ذهب إيبوليطس في تفسيره فما الحاجة إلى الرمز على سيد الكل بهذا الملاك وقد علم القصد في هذا المثل ، وما المرجح لهذا التأويل ؟ وإن كان غيره فهل هو شريك له أو ناسخ لفعل ذاك بفعله ؟ كل ذلك بعيد عن الصواب والصحيح أن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بغير واسطة ، كما يأكل الإنسان الخبز ويشرب الماء وقد يصدر عنه الفعل بواسطة ، كما يضرب الملك عنق مذنب بواسطة السياف ، أو يقطع يد آخر بواسطة نائبه ، أو ينعم على آخر بواسطة من يعطيه إنعامه . هذه الأفعال بلا شك أو ريب صادرة عن الملاك ، لأنا لو قدرنا عدمه لبطلت الأفعال ، ولو قدرنا عدم الواسطة أو الوسائط المذكورة لصدرت هذه الأفعال عنه بغيرهم أو بذاته ، فالفعل له وبهم . إذا عرفت ذلك ، فالفاعـل هو سيد الكل الجالس على السحابة ، والملاك الذي له سلطان النار هو الواسطة المنفذ لهذا الأمر من قبل سيد الكل ، والملاك الضارب بسيفه هو المنفذ للأمر من قبل ملاك النار وبالجملة ، فإن العلل والمعلولات تنتهى متصاعدة إلى أولها وتنتهى متنازلة إلى آخرها في كل ما فيه ذلك والمعنى بالقطف كامعنى بالحصاد والعنقود رمز على جموع الناس التي تجتمع في يوم الحرب العظيمة ، والعنب رمز على الناس الذين يقتلون والأرض على ظاهرها .
قوله : « وضرب سيفه على الأرض وقطف عنب الأرض وألقاه في معصرة غضب الله العظيمة» أي نفذ الفعل المأمور به ، وقام بتنفيذ الأمر بإفناء الخلق التابعين الدجال بالقتل في آخر دولته عندما يحشدهم ليوم الحرب العظيمة والمعصرة هي الحرب نفسها ، ولذلك قال إنها عظيمة ، وأضافها إلى الغضب إضافة المسبب إلى السبب ، أي أن غضب الله هو سبب هذا الفعل الماحي لتلك الدولة المظلمة.
قوله : « وداس المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة إلى لجم الخيل ألفا وستمائة غلوة» ، الدوس رمز على إقامة الحرب وتشديدها . وكونه خارج المدينة إشارة إلى مكان الحرب العظيمة ، وبقية الفص على ظاهره والغلوة مسافة رمية سهم . والمراد أن دماء القتلى من تابعي الدجال في يوم الحرب العظيمة تكون جارية كنهر طوله ألفا وستمائة غلوة ، وعمقه إذا خاضت الخيل فيه وصل إلى مكان لجمها ، وهذه دماء عظيمة تفوق الوصف بل التصور ، فجريانها كذلك لأن أكثر أهل الأرض وملوكها يجمعهم الدجال لهذه الحرب العظيمة مع سيد الكل راكب ومن معه على ما سيأتي ذكره.
وقد تنبأ على هذه الواقعة بعينها أشعياء النبي ، فقال مشيرا إلى سيد الكل عندما رأه بعين النبوة : « ممن هذا الآتي من أدوم وثيابه حمر من بوص ، بھی بلباسه ، عزيز بقوته ؟ أنا المتكلم بالبر المكثر الخلاص ما بال ثيابك حمر وقماشك كالذي صعد من المعصرة ؟ إنى دستها وحدى ولم يكن أحد من الشعوب معي . عصرتهم بغضبي ووطئتهم بسخطى فامتلأ من دمائهم لباسی وجميع ثيابي ترملت بالدم من أجل أن يوم النقمة المطلوب في قلبي وقد حضرت شبه الخلاص ، نظرت وليس معين وتعجبت وليس من يسند وذراعي خلصنى ، وأسندنی غضبی ، وبرجزی دست الشعوب ، وأبدت ذكرهم بسخطي وأحدرت غيرهم إلى الأرض» (إش63: 1-7) . واعلم أن أدوم يريد بها بلاد أدوم وهو العيص «صيراثا » جبل ساعير ، وهذه الجهة تقع غربي أورشليم وتميل إلى الجنوب كما ذكر في سفر يشوع بن نون . وكان النبي تارة يتكلم عن نفسه کالسائل ، وتارة عن سيد الكل كالمجيب .
وتنبأ عنها أيضا يوئيل النبي في آخر سفره ، فقال : «صبوا المناجل لأن القطاف قد حضر . ادخلوا ودوسوا الآن لأن الجباب قد امتلأت وفاضت المعصرة »(يؤ3: 13) ، وقد شرحنا الواقعة بصورتها ، فسبحان علام الغيوب المفيض روحه على أنبيائه الطاهرين.
تفسير سفر الرؤيا – 13 | سفر الرؤيا – 14 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 15 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 14 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |