تفسير رسالة رومية اصحاح 8 للأنبا أثناسيوس

الأصحاح الثامن
التزام وقوة 

بعد أن عرضت الرسالة لموضوع التبرير بعمل الخلاص الذي عمله الرب ، تختم العرض هنا في هذا الأصحاح بوصف حياة المتبررين في خمس مراحل متوالية

سلوك المؤمن 8: 1-8
الروح الساكن فيه 8: 9- 14
البنوية الجديدة 8 : 15-17
استمرار العملية 8 : 18-31
الالتزام المتبادل 8: 32-39

الرب قد نفذ عملية الخلاص بمراحلها كاملة ، والمؤمن ينال فعلها فماذا بعد ذلك .

سـلـوك المـؤمـن 8: 1-8

خطايا البـشـر تجلب عليـهـم الغـضب الأبدى . وأما الرب فقدم خلاصاً مجانياً ونعما جزيلة تتبعه دون أن يعطى لها الانسان ثمناً وحين أرسل الرب التلاميذ قال لهم “أكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات . اشفوا مرضى . طهروا برصا . أقيموا موتى مجانا أخذتم مجانا اعطوا ” (مت10: 8) . ولما تكلم الرسول هنا عن تبرير المؤمنين بالإيمان بالخلاص قال ” بر الله (  بر الله ذاته الكامل الذي لا تنفذ إليه خطية ) بالايمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون… متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح .” (رو3: 22– 24) لم يدفع مخلوق شيئا ، ولم ينقص آدم أيا من المواهب التي أعطاه أياها الله في طبيعته . نحن الذين أكلنا الخطية وابتلعناها وحرمنا أنفسنا . من شجرة الحياة التي لم نكن ممنوعين عنها . تهنا وضللنا وتعبنا ، وها هو يعيد لنا النعمة مجاناً. انتهى الاصحاح الخامس بالآية « لأن أجرة الخطية هي موت . وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا. 

وما بدأ به الكتاب المقدس بخروج الإنسان من الجنة وحرمانه من شجرة الحياة التي كان يأكل منها جاء في أواخر سفر الرؤيا « وقال قد تم أنا هو الألف والياء ، البداية والنهاية أنا أعطى العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا » (رؤ21: 5) وفى الاصحاح الأخير « وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعا كبلور خارجاً من عرش الله والحمل ( الفادي ) في وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة شجرة وتعطى كل شهر ثمرها . وورق الشجرة لشفاء الأمم » (رؤ22: 2). هـذا العمل يفوق العقول . وهذا الكتاب سجل الخلاص

قال أشعياء النبي “ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلا اطلب لنفسك آية من الرب إلهك . عمق طلبك أو رفعه إلى فوق ( أطلب ما تشاء ولو من أعماق الأرض أو أقصاء السموات . لا تخف وتخيل واطلب ) فقال آحاز لا أطلب ولا أجرب الرب . فـقـال ( الرب ) اسمعـوا يا بيت داود . هل قليل عليكم أن تضجروا إلهى أيضاً . ولكن يعطيكم السيد نفسه آية . ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل . زبدأ وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشـر ويـخـتـار الـخـيـر  …. ” (إش7: 10-16) هذه هي الآية التي تجمع أطراف الكون من أقصاء السموات إلى أعماق الأرض . هي اجتماع طبيعة العلى القدوس في طبيعة البشر الأرضيين.

ومــاذا على سلوك المؤمن أن يكون الآن ، أن يسلك ليس حسب الجسد بل حسب الروح ، لأن ناموس روح الحياة ( الأبدية والمعطاة جديداً للبشر ) في المسيح يسوع قد أعتقه من ناموس الخطية والموت . ولنقل مع هوشـع النبي « هلم نرجع إلى الرب لأنه افـتـرس فـيـشـفـينا ، ضـرب فيجبرنا . يحيينا بعد يومين . في اليوم الثالث يقيمنا ، فنحيا أمامه . لنعرف ( لنفهم ) ، فلنتتبع لنعرف الرب . خروجه يقين كالفجر ( يقودنا حتما ) يأتى الينا كالمطر . كمطر متأخر يسقى الأرض » . (هو6: 1-3).

الروح الساكن في المؤمن 8: 9-14

من بداية الأصـحـاح إلى هذه الآية 14 وردت كلمة الروح وروح الله وروح المسيح والمسيح 14 مرة وكلها تعنى أن الروح الذي سكن في المؤمنين هو روح الله وروح القداسة وروح المسيح الفادي !! هيا بنا أيها القارئ ، بل هيا أيها المؤمنون ، نتمتع بفعل الروح الساكن فينا ، روح النصرة على الخطية ، روح القيامة ، وفعل البر لأننا صرنا مسكناً له ، ولا يجوز أن نجعل أعضاءنا التي يسكنها الروح فاعلة للشر . 

روح التبنى = البنوية الجديدة 8: 15 – 17

كـان التبنى نظاماً مسموحاً به عند الرومان ، وكان له طقس خاص إذ كان ولى امر الابن يتفق مع الأب الذي يريد تبنى هذا الابن أمام شهود . ويتبادلان نقوداً مرتين على سبيل الرمز ، ثم يتقدمون إلى القاضي ويثبتون الأجراء ، ويصدر حكم بأن هذا الابن منذ تلك اللحظة صار ابناً للأب الجديد . وحينئذ له حق الميراث وجميع الحقوق الشرعية ويذكر التاريخ أن الامبراطور كلوديوس لم يكن له ولد يخلفه على العرش فتبنى نيرون تبنياً رسمياً وخلفه على العرش . ولما كان نيرون رسميا ابنا لكلوديوس ، فلم يتمكن من زواج ابنته أوكتافيا التي اعتبرت أختا له ، فأصدر المجلس الأعلى ( مجلس الشيوخ ) قراره بالتصريح بذلك . والمسيح أعـاد بنوتنا له وصار لنا حق الدخول إلى الأبدية والميراث هنا صار لنا إلها وأبا وجعل نفسه أخا . كما يقول الرسول السماوى . ومن بولس عن موقف المسيح من المؤمن ومن اليهود و الذين هم إسرائيليون ولهم التبنى والمجد والعـهـود والاشتراع ( الشريعة التي أعطيت لهم ) والعبـادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهنا مباركاً إلى الأبد آمين » (رو9: 4-5) وقوله ” ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين” (رو8: 29)

 العملية المستمرة 8: 17-31

لو كـان للانسـان الذي آمن بالخلاص أن يعتبر نفسه خالياً من الواجبات لما امتلأ الكتاب بالتوصيات على واجبات المؤمن أن يحرص على الثبات في الحياة الجديدة بما في ذلك هذا الاصحاح الذي يبدأ بقوله « …. السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ، ويكرر الكلام عن طاعة الروح مـرات عديدة ، ويحذر بشدة « إن عشتم حسب الجسد فستموتون ، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون » ( 13 ) لأن كلمة الخلاص تؤدى معان مختلفة . الأول عمل اللـه من أجـلنا ، كـمـا قـال المـلاك ليـوسـف « وتدعو اسمه يسوع ( مخلص ) لأنه يخلص شعبه من خطاياهم » (مت1: 21) وقالها سابقاً للسيدة العذراء …. “تلدين ابنا وتسمينه يسوع ( مخلص )” (لو1: 31). ويقول في العبرانيين « كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصا هذا مقداره » (عب2: 3) . والمعنى الثاني انتفاع الانسان بهذا الفعل أي خلاص الانسان . وهذا وارد كثيراً و لست أستحى بأنجيل المسيح لأنه قوة الخلاص لكل من …. « (رو1: 16) والثالث جهاد الخلاص » تمموا خلاصكم بخوف ورعـدة . « (في3 : 12) والرابع تمام الخلاص عند الدخول إلى الملكوت » لأننا بالرجاء خلصنا . ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء » . (رو8: 24)

فالخلاص عمل عمله الرب كاملا ولا ينقـصـه شئ . يدخل إليه المؤمن فينال البر والخلاص لاشك في ذلك . ولكن الدخول يقتضى حرصاً ويقظة وجهادا ليستمر الفعل ويزداد ويتـقـدم المؤمن في النعمة . ولما كان الانسان العتيق يحارب المؤمن طالما هو في الجسد فأن دخول المؤمن إلى السماء هو تمام فعل الخلاص فيه . ولذا يقول الرسول بطرس « إن قدرته الألهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتـقـوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة … هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهـوة … وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في أيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة وفي المعرفة تعففا … تقوى .. مودة أخـويه … محبـة …. لأن الذي ليس عنده هذه ( الفضائل والاجتهادات ) هو أعمى قصير البصر قد نسى تطهير خطاياه (السالفة ) (2بط1: 3-9)  ومعلمنا بولس يقول هنا لأهل رومية « لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله ( أعلانهم في الأبدية ) لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله . فأننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً . ( ولئلا يقال أن المقصود بالخليقة التي تئن هي غير المؤمنين بالخلاص ، قال ) .. بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبنى فداءأجسادنا » (8: 19-23). فالجـهـاد مطلوب بالأحرى من المؤمنين لكي يكمل فعل الفـداء فيهم يوم الدينونة . وهم بنعمته يصلون « فأن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة » رو 6 : 14 . كما أن الروح يعين ضعفاتنا ، حتى أنه في الصلاة « لأننا لسنا نعلم ما نصلى لأجله كما ينبغى . ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها » ( 26) لأنه يعلم أيضاً ما في النيات وقد نعجز عن التعبير عنها ( آية 27) لأنه تبنانا لنعود لصورتنا الأصلية التي هي صورة ابنه التي خلقنا عليها . . وان كان الله معنا فمن علينا ، 31. هكذا يقول المتكلون عليه الثابتـون فيه . جعلنا الله جميعاً هكذا.

الالتزام المتبادل 8: 32-39

أما وقد عرف الناس خلاص الرب ومقدار عمله من أجله فأنه يلتزم بتبعيته مهما كانت الظروف . وهذا لسانه ” من سيفصلنا عن محبة المسيح ( محبتنا للمسيح ) أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف…. يعظم انتصارنا بالذي أحبنا” (35 – 37) . ولقد قالها الرسول لأهل قيصرية حين طلبوا إليه ألا يصعد إلى أورشليم لأن النبوات قد توالت بأن اليهود يقبضون عليه « ماذا تفعلون ، تبكون وتكسرون قلبي لأني مستعد ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع »  (اع21: 13) . والرب نفسه قال للاثنى عشر حين رسمهم « سيسلمونكم إلى مجالس وفى مجامعهم يجلدونكم وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلى هادة لهم … وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي . ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص » (مت10: 17-22). ( أنظر أيضاً 2كو11: 21-33)

وهذا الالتزام من ناحية الانسان هو شئ من الواجب أمام ما التزم به الرب لخلاصنا « لا مـوت ( صلب ) ولا حـيـاة ، ولا ملائكة ( يعـبـدونه ويطيعونه ) ولا رؤساء ولا قوات ( أنواع من الملائكة ) ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله ( محبة الله لنا ) التي في المسيح يسوع ربنا . (38-39) .

تفسير رومية – 7 رسالة رومية – 8 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية – 9
 الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف
تفاسير رومية – 8 تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى