تفسير رسالة رومية أصحاح 9 للأنبا أثناسيوس مطران بني سويف

اليهود والإيمان
1:9-36:11

الاصحاح التاسع

أما وقد اتضح أن التبرير بالإيمان مقدم لجميع الشعوب ، فأنه يتحتم أن يدرس مـوقف هذا الإيمان من اليهود الذين كان لهم العـهـد السابق . وتعالج هذه الأصحاحات الثلاثة هذه القضية . ففي الاصحاح التاسع عرض موقف اليهود ، وفي العـاشـر فـتح الباب لجـميع الناس أمما ويـهـود ، وفي الحادي عشر أن الأمل أن يعود اليهود فيؤمنون.

أما الاصحاح التاسع فنقسمه إلى ثلاثة أجزاء:

 ما فات اليهود 9: 1 – 5

قضية الاختيار 9: 6 –21

ما لحقه الأمم 9: 22-33

1- ما فات اليهود رو9: 1 – 5

هذا هو بولس الذي كان شديد التحمس لليهودية معتبراً المسيحية بدعة ، وكان يتمنى ويسعى أن يمحوها وتابعيها من الوجود . إنه هنا يفصح عن حزنه الشديد أن غالبية بقية اليهود لم يدخلوا إلى هذا الإيمان ويخلصوا مكملين أيمانهم بالأله الواحد بأيمانهم بالفادي المنتظ .

يستشهد بضميـره على مايقـول . ولقد كان منذ طفولته يتصرف بضمير أمين ، فيقول لأهل كورنثوس “لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا أننا في بساطة وأخلاص الله …. تصرفنا في العالم ” (2کو1: 12) ويقول للكهنة في جلسة محاكمته “أني بكل ضمير صالح قد عشت لله إلى هذا اليوم .. ” (أع23: 1).

وكان التعليم اليهودى يركز على سماع صوت الضمير . فـيـقـول الرسول بطرس ” قدسوا الرب الاله . مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم …. ولكم ضـمـيـر صـالح…. ” (1بط3: 15 – 16) . والذين آمنوا منهم كانوا يهتمون بأن الروح القدس ينير الضمير ويزيده صلاحاً. فيقول معلمنا بطرس عن الفلك “الذي مثاله يخلصنا نحن الآن أي المعمودية لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح” (1بط3: 21) وأما عدم الإيمان فيزيد الضـمـيـر فساداً ” كل شئ طاهر للطاهرين . وأما للنجـسين وغـيـر المؤمنين فليس شئ طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضـاً وضميرهم” (تي1: 15). بينما يقول للعبرانيين “دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي” (عب9: 14).

 قلب الرسول يحترق من أجل خلاص أهله و الآية التالية هنا لا تعنى أنه يمكن أن يتنازل عن إيمانه بالمسيح ، مثلما قال قبلها بقليل أنه لا شئ يفصلنا عن محبة المسيح .. ( 8 : 35 ) ولكنها تعنى أن بعدهم عن المسيح يقتل نفسه . مثلما سبق النبي موسى وقال للرب أن يغفر للشعب خطيتهـم ” وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ” ( خر32: 32 ) وبمعنى آخر أن يشارك المسيح تضحيته مثلما يقول لأهل كولوسي “الان أفرح في آلامی لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمى لأجل جسده الذي هو الكنيسة” ( كو1: 24)

ولقـد عدد الوحى على لسان بولس هنا تسع امتيازات لليـهـود هي أنهم اسرائيليون ( جنس خالص ) ، ولهم التبنى “تقول لفرعون هكذا يقول الرب . اسرائیل ابني البكر . فقلت لك اطلق ابنى لیعبدنی” (خر4: 23)، والمجد ( كم مرة تراءى الرب للشعب عند الخيمة وفوق الجبل عند تسليم الشريعة لموسى وعند تدشين الهيكل ) والعهـود [فليس عهداً واحداً بل عهد الختان تك17 ، وعهد الذبائح “وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب …. وأخذ الدم ورش على الشعب وقال هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال” (خر24: 7- 8) وكان ذلك العهد رمزاً للعهد الجديد بدم المسيح]، والاشتراع ( أي الشريعة ) ، والعبادة ، والمواعيد كوعده لإبراهيم أن يقيم من نسله المسيح “لابل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه اسحق وأقيم عهـدى معه عهداً أبدياً لنسله من بعده” (تك17: 19)، وكرر الوعد لداود . « أقسم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه ، من ثمرة بطنك اجعل على كرسيك …. بنوهم إلى الأبد يجلسون على كـرسـيك » (مـز132: 11 – 12ولهم الآباء ( ابراهيم واسحق ويعـقـوب ) “ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركاً إلى الأبد آمين ” (رو9: 5).

قضية الاختيار رو9: 6-21

 كثيرا ما إقتضى هذا الإصحاح أن يتعمق الدارس فيه كى يخرج بمعناه الحـقـيـقى وعـلاقـتـه بموضوع الاخـتـيـار. يجب  أن ندرك أن هذا الأصحاح لا يتعلق بقضية الاختيار أي قضية القضاء والقدر عموماً ، إنما هو يختص باختيار اليهود أو بنى ابراهيم واسحق ويعقوب ليتجسد منهم . فأن الخروج بهذا الموضوع الخاص إلى قضية عامة هو الذي يسبب سوء الفهم. وحتى لو كان هناك نقاط نريد أن نعممها فأن التعمق في دراسة الاصحاح تظهر معناها المختص بموضوع الاصحاح الذي لا يقصدها أصلاً.

 

1- لا شك أن الله يعرف الأمور قبل أن تحدث . ويمكنه أن يسجل الحوادث قبل أن تحدث . فالعادة عند البشر هي تسجيل الجوادث بعد حدوثها أما عند الله فهو عالم بكل شئ قبل أن يوجد العالم . ألا يقـول في النهاية “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم . ” (مت25: 34). ولكنه لا يتدخل في حرية الإنسان فـآدم وحـواء أخطأ باختيارهما ، وهكذا كل انسان . ومعرفة الله السابقة لا تتدخل في حرية الإنسان . وقد قال الاصحاح السابق “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم .” (رو8: 29) فالمعرفة نتيجة لسلوك الإنسان وإن كانت سبقته.

 2- نحن نعلم أنه ليس كل اليهود قد رفضوا المسيح . فهناك التلاميذ وهناك ثلاثة آلاف آمنوا يوم الخمسين وكثيرون وكثيرون . ولذلك يقول هنا ” ليس جميع الذين من اسرائيل ( من شعب اسرائيل أي بنی اسرائیل) هم اسرائيليون . فمن بنى ابراهيم نفسه ثمان قبائل اسماعيل واسحق ثم ستة من قطورة ( تك25: 1– 2) هم زمـران ويقـشـان ومـدان ومـديا ويشباق وشوحا . وكان لابد أن يسير خط النسل من واحد فقط ، وكان هو اسحق . ولا يختلف الكتاب في تميز سلوك اسحق الإيماني على أخوته.

 3- ثم هناك موضوع اختيار يعقوب . وهنا يلزم التعمق في النظر فنجد ثلاثة عناصر مختلفة ، الأول أنه لا شك أن سلوك يعـقـوب كـان إيمانا بينما عيسو كان رجلا عالميا لا يفهم البركة أو الإيمان ولا يهتم بهما فلقد كان يعتبر بركة البكورية حديثا لا طائل وراءه ، ولا يساوى طبق عدس (تك25: 29). مسكين هذا الإنسان الذي قال عنه الكتاب في سياق تحذيره للمؤمنين “لئلا يكون أحد زانياً أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحـدة باع بكوريتـه” (عب12: 14). ثم لما رأى أن زوجاته و شريرات في عيني اسحق أبيه » ظن أن السبب أن اسحق ورفقة . يريدانه أن يتزوج من قـريـبـاتـهـمـا جسدياً بينما الحقيقة أن الزوجتين الاوليين « كانتا مرارة نفس لاسحق ورفقة » (تك26: 35)  فبعد أن عدد الزوجات من الحثيات والكنعانيات ، يقول عنه الكتاب « رأى عيسو أن بنات كنعان شريرات في عيني اسحق أبيه ، فذهب عيسو إلى اسماعيل واخذ محلة بنت اسماعيل زوجة له على نسائه » (تك28: 8 – 9) فبدلا من أن يدرك أن والديه يريدان مؤمنة ، ظن الأمـر قـرابة جـسـدية . مسكين لأنه لم يفهم الإيمان ولا البركة . ولا شك أن التاريخ يثبت وقوع الأجيال التالية من بني إسماعيل في عقائد تعدد الآلهة.

والعنصر الثـاني قطعا أن يعقـوب كان مؤمنا حتى ان الرب كان يقوده في الطريـق . فـرأى الرب مـرة على رأس سلم من السـمـاء إلى الأرض (تك28: 10 – 15) . والرب هو الذي قـال له أن يرجع إلى أرضه من عند خاله لابان ( تك31: 3) وظهر له ملائكة في الطريق(تك32: 1-2)، ثم ظهر له وصـارعـه (تك32: 22 -30) وأما الرد على موضوعى دخوله على أبيه وأخذ البركة ، فلقد كانت حقه بعلم أمه ووضعه العيدان في الماء لتوحم الغنم فلا نظن أنها حيلة نافعة ، بل كانت البركة من الله . والثالث أن فهم الآيتين رو9: 12– 13 قد يغمض على بعض الدارسين . فالآية الأولى لا تتعلق بالبركة ، بل تتعلق بأمر مادى أرضى “شعب يقوى على شعب وكبير يستعبد لصغير” هذا أمر أرضى ، وهو على أي حال نبوة عن حالهما وليس تدخلا فيه . على أنه علينا أن نلتفـت لأن الآيتين رو 9: 12– 13لیستا متتاليتين في سفر التكوين ، بل الأولى من سفر التكوين 25 والثانية من ملاخی1: 2- 3 . والفـرق الزمني بين الاثنين لا يقل عن ۱۷۰۰ سنة فمحبة الله ليعقوب تسجلت بعد سلوكه وليست قبله . وأوردها الوحى بعد هذه القرون الطويلة !!!

4- رو9: 14 – 19 .

يمسك البعض بهذه الآيات ويخرجون منها بأن اللـه يصنع الإنسان شريراً أو صالحاً . ولو كان الأمر كذلك لبطلت حجة محاسبة الله للبشر . فلنتـصـور مدرباً رياضياً رأى أمام تلاميذه مصارعاً قوياً ، فاختار له شابا فتيا شديد القوة والبأس وقدمه للحلبة ألا يكون اختياره هذا الاختيار الصحيح ! وإذا كان الله قد رأى أنه يريد اخراج شعبه من مصر. وكان ملك مصر رجلاً ضعيف الشخصية ما أن دخل إليه موسى حتى سلم بخروجهم فهل كان خروجهم يبين قوة الله على آلهة المصريين ، ونعمته التي في عبده موسى كيف فاقت حكماء وسحرة مصر ! بل كان فرعون قاسياً . ولما دخل إليه أمر أن يشدد النير على الشعب ويسددوا الكمية المطلوبة من الطوب دون أن يمدهم بالتبن. ومن الطبيعي أن المشرفين على عمل الشعب استعملوا معهم القسوة حتى سماهم الكتاب “مسخريهم” خر5: 6 . فتعب الشعب جدا وحينئذ “قال الرب لموسى الآن تنظر ما أنا أفعل بفرعون ، فأنه بيد قوية يطلقهم وبيـد قـوية يطردهم من أرضه” (حز6: 1) “لأنه يقـول الكتاب لـفـرعـون أني لـهـذا بعينه أقمتك لكى أظهر فيك قوتى ولكى ينادي باسمى في كل الأرض” (رو9: 17). ولو درسنا قـصـة الضـربات التي نزلت على مصر لوجدنا كيف كان المصريون وفرعون يضعفون أثناء الضيقة ثم يعودون فيتجبرون بعد انتهائها . ولا شك أنهم لم يكونوا يصدقون موسى إلى آخر لحظة حتى غرقوا في البحر .

رو9: 19-21

وفي انتقال الوحى من حجة إلى حجة في حديثه على لسان بولس ، ينتقل كل خطوة إلى الحجة الأصعب . حتى نقترب النهاية . تقـول هذه الآيات « من يقاوم مشيئته . من أنت أيها الإنسان الذي يجاوب الله . ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتنى هكذا . أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحـدة أناء للكرامة وآخر الله وان . و هنا نعود إلى بداية القضية وهي اختيار الرب لبنى ابراهيم واسحق ويعقوب . أنه اختارهم ووالاهم بالتعليم والمعلمين والعبادة والنبوات عن مجيئة ، فماذا كان يعمل ؟ هل كان ممكناً أن يمكث في بطن عذراء شهرا ثم ينتقل في الشهر الثاني إلى واحدة من شعب آخر كالمصريين مثلا ثم في الثالث إلى بطن كلدانيه وهكذا !! الأمر يقتضى تعليم شعب وتكوين بيئة ورعاية نفوس واختيار افراد قديسين كأم مثلا !! وحينئذ ليس من حق باقى بنات الشعب أن يقلن له لماذا لم تتجسد في واحدة أخرى . أو بنات الشعوب الأخرى لماذا تركتنا.

وهذا يشبه اختيار قطعة من الأرض وتنظيفها وزراعة نوع من القمح مثلا بها ومعالجة هذا النوع حتى الوصول إلى أفضل سلالة ممكنة يأتى التوسع في زراعتها في كل الحقول . هكذا فعل الله وبعد ذلك بشعب معين إلى أن حدث الفداء فـقـدم للجميع . ولو زرع المهندس حقلا صغيرا بنوع من الورد وعالجه حتى وصل إلى وردة شديدة الجمال فأنه يأخذها ويقدمها للملك . هكذا كانت السيدة العذراء .  

التجسد اقتضى اختيارا ورعاية وتعليما ومعالجات وسار الخط في مراحل وظروف مختلفة إلى أن جاء ملء الزمان وحدث التجسد ، الفائق الطبيعة ، فائق المجد ، فائق تصور البشر ، فكيف يجوز للشعوب أن تقول له لماذا لم تتجسد منا . أنه الصانع الخالق الذي يتجسد بذاته ، الحكيم صاحب الاختيار ، فـتـحـمـل مـسـئـولـيـة الأعداد ثم الخلاص . قالـت العـذراء « تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصى لأنه نظر إلى   اتضاع أمتة … القدير صنع بی عجائب واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الاجيال للذين يتقونه » ( لو1: 46 – 50 ) « لانه كما علت السموات عن الارض هكــذا عـلـت طرقـه عـن طرقنـا وأفكاره عن أفكارنا» ( إش55: 9 ) .

6- وماذا كان هذا الاختيار . كان اختيارا مرحليا وليس أبدياً . اختيار لفترة ولهـدف مـحـدد فلما وصل الهـدف انتهت الفـتـرة . ظن اليـهـود أن اختيارهم دون الشعوب اختياراً أبدياً وأنه وليس عند الله غيرهم . وهذا فهم غريب . أما الآن فالكل مدعوون « يا امرأة صدقيني أنه تأتى ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسـجـدون للآب . أنتم تسـجـدون لما لستم تعلمون ، أما نحن فنسجد لما نعلم . لأن الخلاص هو من اليهود ولكن تأتى ساعة وهي الآن . حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق . الله روح . والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا » ( يو4: 21-24 ) وانتهت المرحلة

7- تعويض الأمم عما فاتهم . في دعوته الخلاصية سوى بين اليهود والأمم ” احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيئة للهلاك ( الأمم ) .. يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد ( اليهود ) التي دعانا نحن اياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضا”. ، كما قال هوشع وأشعـيـاء رو9: 22-29 . إذن قد عوض الرب الأمم بأنه احتملهم بأناة كـثـيـرة ( آية 22) ثم يقـول و الأمم الذين لم يسـعـوا في أثر البـر أدركوا البر ، البر الذي بالإيمان . ولكن اسرائيل لم يدرك البر … لأنه كأنه بأعمال الناموس فأنهم اصطدموا رو بحجر الصدمة فعل ذلك من يؤمن به لا يخزى … ، 30 – 33 إذن قد كان الاختيار ضروريا : …

 وبناء على فضائل الشخص وأن سبقه علم الله ، وكان مرحلياً ، وليس لغير من تجسد منهم أن يعترضوا ، لأن التجسد لا يكون من عدة قبائل ، وبعد الفداء قدم الخلاص للجميع ، وعومل الأمم باهتمام عوضهم عما فاتهم من الناموس.

تفسير رومية – 8 رسالة رومية – 9 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية – 10
 الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف
تفاسير رومية – 9 تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى