مت5: 43-45 …وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم…

 

“43«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، 45لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. (مت5: 43-45)

فاصل

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك،

وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم،

باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،

وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم،

لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات…” [43-45].

لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلا بُد أن تحلّ معه (خر 23: 5). وقيل أيضًا: لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلًا في أرضه (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم.

هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم.

لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا:

الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه.

الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي).

الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ.

الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا.

الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلًا يسير معه ميلين.

الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم.

الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب… “أحبّوا أعداءكم”.

الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير “أحسنوا إلى مبغضيكم”، فنقابل الشرّ بعمل خير.

الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه.

هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا[244].]

ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله “لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” [45].

إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:[هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه[245].]

فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء:

*     لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!

*     كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق.

*     عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لو 23: 34) [246].

القديس أغسطينوس

*     لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء…! فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر.

*     يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته… وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة[247].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آيات (43-48):-

سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم احبوا أعداءكم باركوا لأعنيكم احسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه أن أحببتم الذين يحبونكم فأى اجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وأن سلمتم على اخوتكم فقط فأى فضل تصنعون أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا. فكونوا انتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل.

الله محبة، وفى العهد الجديد عهد النعمة يسكب الله روح المحبة فى قلوبنا، ومن ثماره المحبة (رو 5:5 + غل 22:5). وكمال الإنسان المسيحى أن يمتلئ محبة لله أولاً ولكل الناس حتى لمن هم يعادونه، فى العهد الجديد يتصور المسيح فينا ( غل 19:4) فلا نستطيع سوى أن نحب الجميع تحب قريبك وتبغض عدوك = الناموس لم يأمرهم أن يبغضوا أعداءهم ولكن تحب قريبك هذه وصية الناموس، أماّ تبغض عدوك فهى تعليم الكتبة. فوصية الناموس الأولى والعظمى هى المحبة. فالقريب فى نظرهم هو اليهودى. أما تفسير المسيح فنرى فيه أن السامرى هو قريبى. ونلمس فى الناموس بعض الوصايا التى تشير لمحبة العدو (خر 4:23،5 + تث 7:23،8) وقد نجد بعض الأيات التى قد تفهم على أنها كراهية للأعداء مثل
(تث 6:23) وغيرها ولكن حتى نفهم هذه الأيات يجب أن نعلم أن الشعب اليهودى فى هذه المرحلة ما كان يميز بين الخطية والخاطئ، فحين يطلب منهم الله أن يكرهوا خاطئاً فكان هذا ليكرهوا الخطية التى يعملونها فلا يعملونها هم أيضاً أحبوا أعدائكم = هذه ليست فى قدرة الإنسان العادى فكيف ننفذها ؟

1. فى عهد النعمة، يعطينا الروح القدس هذه الإمكانية، وهى ليست بإمكانيات بشرية ؟ بل هى عطية إلهية.

ولكن النعمة لا تعطى إلاّ لمن يجاهد فى سبيلها لذلك فالسيد حدد شروط الجهاد حتى نحصل على هذه النعمة باركوا… أحسنوا… صلوا لأجل…

باركوا لا عنيكم = تكلموا عنهم وأمامهم بكل ما هو صالح (بالغصب طبعاً) أحسنوا إلى مبغضيكم = قدموا لهم ما أمكن خدمات وأعمال محبة ومجاملات صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم = أطلبوا بركة الله لهم ولذويهم فى صلواتكم وربما يتساءل البعض.. هل أصلى وأقدم خدمة وأبارك شخص أساء لى، وقلبى مملوء غضباً عليه ؟ نقول نعم فهذا هو الجهاد، فالجهاد هو أن تغصب نفسك على شئ حسن صالح، لا رغبة لك أن تعمله، وفى مقابل جهادك تنسكب النعمة فيك. فتجد نفسك قادراً على حب عدوك، بل ستجد نفسك غير قادر أن تكرهه. وهذه الآية تثبت صحة وجهة نظر الأرثوذكسية فى أنه لا نعمة بدون جهاد. فالمحبة هى عطية من الله أى نعمة، وهذه لا تنسكب فينا بدون الجهاد الذى ذكره السيد المسيح.

لكى تكونوا أبناء أبيكم= حتى تستطيعوا أن تستمروا وتظهروا هكذا أمام الناس والملائكة، وتكونوا مشابهين فى المحبة لله أبيكم. هذا هو الكمال المسيحى. فالله يعطى من بركاته للجميع حتى الأشرار = يشرق شمسه على الأشرار. والسيد يعطينا أن يكون المثل الذى نقيس عليه هو كمال الآب السماوى، ومن يفعل يفرح الله.

أحببتم الذين يحبونكم = فهذه يصنعها حتى الأشرار، هذه تنتمى للإنسان العتيق، إنسان العهد القديم، الذى هو بدون نعمة.

العشارون= كانوا يجمعون الجزية، ولكنهم استغلوا وظيفتهم فى إبتزاز الناس لذلك صار إسم عشار يرادف أحط الأشياء وأحقرها.

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى