يو12: 27 الآن نفسي قد اضطربت، وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة…
“اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ؟. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ ” (يو12: 27)
+++
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (27): “الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول أيها الآب نجني من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.”
النفس هي قاعدة المشاعر الإنسانية. أمّا الروح فهي أداة الاتصال بالله بها يتحدث مع الله وينعكس هذا في تعبيراته وتعاليمه. لذلك فالإنسان الروحي هو الذي يقوده الروح القدس، والروح القدس يتصل بروح هذا الإنسان، فالروح يتعامل مع روح. وروح الإنسان الخاضع للروح القدس هو الذي يقود الجسد والنفس أي كل الإنسان. وإضطراب المسيح هنا يشير لأنه إنسان كامل وهو الآن يتصوَّر الثمن الذي عليه أن يدفعه وهو الموت وحمل خطايا كل البشرية حتى يراه اليونانيين بل كل إنسان ويؤمنوا به، فيخلصوا. الإضطراب لا يعني الخوف فالمسيح لا يخاف من الموت فما يجعلنا نخاف من الموت هو الخطية والمسيح بلا خطية. ونخاف من الموت فما بعد الموت مجهول لنا، أما المسيح فيعرف المجد السماوي. إذاً هو ليس خوف بل هو إنفعال عاطفي شديد داخل النفس. ليس من أجل آلام الصليب ولكن [1] من أجل الخطايا التي سيحملها وهو القدوس البار. والخطية بالنسبة له شيء مكروه جدًاً. [2] من أجل الموت الذي سيتذوقه وهو الحي المحيي. القيامة والحياة. والموت ليس من طبيعته ، بل كان الموت في العهد القديم نجاسة ومن يتلامس مع ميت يتنجس (عد5 : 2 ، 19 : 11). [3] حجب وجه الآب عنه، وهذا فوق مستوى إدراكنا.[4 ] خيانة الناس الذين أحبهم وكراهيتهم له، وهذا ضد طبيعته (المحبة فالله محبة). ولكن لاتصاله الروحي بالآب كان له قرار حاسم هو التوجه إلى الصليب مهما كان الثمن= ولكن لأجل هذا أتيت= الابن أتى متجسدا لأجل خلاص البشر وذلك :- [1] لمحبته للبشر. [2] طاعته للآب.
ولاحظ أن إرادة الآب هي نفسها إرادة الابن، وهذه الإرادة هي خلاص البشر ونجاتهم من الموت، فالله يحب البشر. وبهذا تكون طاعة الابن معناها تسليم الإرادة الإنسانية وقبول المسيح كإنسان كامل لألام لا نستطيع نحن أن نتصورها، حتى تتم الإرادة الإلهية في خلاص البشر. وكان قراره موجهاً بكل قوة نحو إتمام المشيئة الربانية وبكل حسم أيضاً.
ماذا أقول= المسيح لا يسأل، بل هو يلفت النظر لإضطرابه وإنفعاله نتيجة المعركة مع الموت والتي في نهايتها يموت الموت. وهو كان يصلي ويصرخ (عب7:5) ليخرج منتصراً من هذه المعركة ويضاف إنتصاره لحساب الإنسان ويكون للإنسان حياة عوضاً عن الموت.
نجني من هذه الساعة= أعطني الإنتصار على الموت بالقيامة. وقبول الآب وإستجابة الآب أعلنها بقيامة الابن.
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“الآن نفسي قد اضطربت،
وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة،
ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة”. (27)
إذ تحدث عن ضرورة آلامه وموته، كابن الإنسان رفع قلبه للآب وهو يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (٢٧). حقًا إنها كلمات غريبة ينطق بها يسوع المسيح، خاصة وأن التلاميذ رأوا أناسًا من الأمم يطلبون أن يروه، وسمعوه يقول: “لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان“. لكنه إذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لابد لنفسه أن تضطرب أمام سحابة الآلام التي تحيط به. ولعله رأى خلال هذه السحابة خطايا البشرية كلها قد ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مقدمًا نفسه ذبيحة عن خطايانا.
بينما يقول لتلاميذه: “لا تضطرب قلوبكم” (يو ١٤: ١). يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (27). اضطراب نفسه ينزع اضطراب نفوسنا؛ آلامه هي سرّ راحتنا الأبدية. لقد انطلق السيد المسيح بإرادته ومسرته ليحمل خطايانا، وكان لزامًا وسط مسرته أن تضطرب نفسه بسبب هول خطايانا. لقد حمل ضعفاتنا فيه ليهبنا روح القوة.
اضطراب نفسه هو حزن مقدس يولد فرحًا في قلوب البشرية المؤمنة، ومسرة للآب من أجل مصالحته مع البشرية، وتهليلاً للسمائيين. اضطربت نفسه وهو يدخل طريق الصليب الضيق حتى نشاركه آلامه وندخل معه إلى أمجاده السماوية. آلامه هي مجرد ساعة قد حلت وستعبر، لتحتل الأبدية التي لا يحدها زمن ما. يرى البعض أن الفعل هنا في اليونانية يحمل معنى الاضطراب أكثر منه الخوف.
جاء حديثه مع الآب يكشف عن مسرته بالصليب، إذ يقول: “لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة” (٢٧)، ولكي يحملنا إلى حياة التسليم والتواضع يصرخ: “أيها الآب نجني من هذه الساعة” (٢٧).
v هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانية التي لا تشاء أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانية، لأنه كما أن الجوع ليس زللاً ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد.
v لقد أخذ ضعف الإنسان لكي يعلمه عندما يكون في حزنٍ أو اضطرابٍ، فيقول: “يا أبتاه ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت ٢٦: ٣٩). فإنه هكذا يتحول الإنسان مما هو بشري إلى ما هو إلهي حينما يفضل إرادة الله عن إرادته هو.
تفسير القمص متى المسكين
27:12 اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ.
الحديث عن الموت والحياة حديث، والمذاقة مرعبة. والمبادىء العامة يعبر عليها العقل بخفة، ولكن الإختبار الشخصي محنة.
وما أبهج الحديث عن الخلاص والمجد هللويا!! ولكن لا يأتي الخلاص إلا بمرارة النفس وذوق الحنظل. ويكفي يا قارئي العزيز، أن تسمع من فم المسيح, الذي أقام لعازر بكلمة, وهو يئن هكذا: «نفسي قد اضطربت»، «أيها الآب نجني». فالخلاص لم يكسبه لنا المسيح سهلاً: «لأنه لاق بذاك … أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
«نفسي» = ( ) وباللاتينية anima: نفس المسيح هي المركز الذي يجمع فيه ملء الحياة البشرية, وقاعدة المشاعر الإنسانية. أما الروح ( ) وباللاتينية spiritus. فهي، في المسيح ، قاعدة التأثرات الروحية، استقبالا وانعكاسا؛ استقبالاً بالحديث مع الله، وانعكاساً للتعبير والتأثير.
والنفس في المسيح جاءت بهذه الصور:
+ «الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
+ «ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.» (مت28:20)
+ «نفسي حزينة جداً حتى الموت.» (مت38:26)
+ «لأنك لن تترك نفسى في الهاوية.» (مز10:16 و أع27:2)
أما الروح فجاءت في:
+ «ونكس راسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
+ «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.» (لو46:23)
والموت في المسيح تم هكذا:
1- بانفصال النفس عن الجسد، ولكن اللاهوت بقوة القيامة التي له لم ينفصل قط، لا عن النفس التى باشرت نزولها إلى عالم الأرواح المحبوسة, ولا عن الجسد الذى بقى مسجى فى القبر ميتاً ينتظر عودة النفس.
2- وبتسليم الروح ليد الآب.
وموقع هذه الآية: «الآن نفسي قد اضطربت» بالنسبة للآيات السابقة مهم للغاية. لأن المسيح، رداً على طلب اليونانيين، طرح ثلاثة افتراضات يتحتم أن تتم أولاً، حتى يستطيع لا اليونانيون فقط بل وكل الناس أن يروه ويتعرفوا عليه ويقبلوه ويتحدوا به!
أولاً: أن يموت هو، هنا أعطى لصورة موته وقيامته المثل من الطبيعة في حبة الحنطة.
ثانيا: أن يموت الإنسان بإرادته (الإماتة) عن الذات ومتعلقاتها المادية والدنيوية.
ثالثاً: أن يكون الإنسان مستعدأ لأن يخدم المسيح بأن يتبعه أينما سار، للآلام، ثم الموت، وبالتالي القيامة والمجد.
وأخيراً جاءت هذه الآية لتنزل بهذه النظرية كلها، بفروضها الثلاثة، إلى مستوى التجربة العملية الواقعة حالاً «الآن», لكي يكشف المسيح لتلاميذه واليونانيين وكل العالم, أن الموت الذي جازه لم يكن سهلاً, ولا كأنه بدون مجاهدة، فكشف عن رعدة الموت التي بدأت تداهم نفسه البشرية, عندما قرر, وانتهى من قراره, قبول الموت، وجاءت ساعته فعلاً.
وهذا أوضحه القديس يوحنا من عنده، بصورة تكشف عن قدرة هذا القديس في فهم حركات النفس داخل المجال الإلهي بصورة مبدعة: «قال هذا مشيراً إلى اية ميتة كان مزمعاً أن يموت» (يو33:12). القديس يوحنا هنا يرى أن كلام المسيح مهو كشف عن حقيقة وعنف وطريقة الموت الذي سيواجهه. فالنفس البشرية, وهي قاعدة المشاعر ومجتمع ملء الحياة البشرية فيه, بدأت تنوء تحت ثقل قبوله الدخول في تجربة الموت. وهذه هي غصة الموت!! التي هي بعينها المعروضة علينا دائماً حيننا نقرر ونباشر عملية الإماتة عن العالم, بقمع النفس, وبغضة ميولها وشهواتها التي تبدو لها كأنها حيوية بنوع من خداع البصر.
«نفسي قد اضطربت»: «اضطربت» باليونانية ( ), وباللاتينية Turbata، والاضطراب لا يعني الخوف (وقد جاءت أيضأ في يو33:11 و21:13)، بل هو انفعال عاطفي شديد داخل النفس.
القديس يوحنا هنا يقدم نفس الوصف الذي قدمه الإنجيليون الثلاثة عن المجاهدة التى عاناها الرب في جثسيماني. ولكن لاهوت المسيح عند القديس يوحنا يستحيل أن يتداعى أمام سطوة الموت، حتى وان تداعت النفس البشرية فيه نحو الاضطراب، بل يقدم القديس يوحنا لاهوت المسيح دائماً دائماً منتصراً وساحقاً للعدو. لذلك يسجل القديس يوحنا القول المقابل لهذا الاضطراب النفسي من الموت من جهة الرب, بالرعبة والانحدار اللذين أصابا الشيطان بالمقابل: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يٌطرح رئيس هذا العالم خارجاً.» (يو31:12)
«وماذا أقول؟»: يعتقد بعض الشراح أنه سؤال استنكاري، الرد عليه جاء بكلمة «لا» في الكلمة «ولكن». ولكن الحقيقة أن المسيح هنا لا يسأل أحداً, ولكنه ينبه السامع ليدرك معنى الانفعال الناتج عن اضطراب النفس إزاء التجربة. فهو ليس موتاً عادياً، بل أعنف موت ماته إنسان في الوجود. فهو ليس حكم موت واقع عليه، بل صراع مع الموت ذاته ومع من له سلطان الموت (عب14:2)، والذي سينتهي بموت الموت ذاته، واستعلان الغلبة على الموت بالقيامة التي ستضاف إلى حقوق الإنسان. نعم، سيموت المسيح بكل معنى الموت، ولكن في المقابل سيندحر الشيطان, وتنكسر شوكة أو سيف الخطية في يده. علماً بأن ما جاء بعد سؤال: «وماذا أقول», لم يكن بالسلب بل بالايجاب، فهو يطلب، والطلب اسُتجيب بالفعل.
«أيها الآب نجني من هذه الساعة»: والجواب جاء من الآب بعد ذلك: «مجدتُ وأُمجد أيضاً». هذه صلاة وتوسل لدى الآب، ليس لإلغاء هذه الساعة من حياة المسيح، لأنه من أجلها جاء, ولكنه يطلب النجاة من التجربة الآتية عليه فيها, بمعنى أن يخرجه منها سالماً ومنتصراً.
والتعبير اليوناني أكثر توضيحاً؛ فهو يطلب الخروج خارج هذه السامة سالماً وهنا ( ) تفيد خارجاً، وباللاتينية تجيء بأكثر وضوح أيضاً، فتعنى الخلاص خارج، أو الخروج من، وليس الخلاص من.
والقديس يوحنا يهتم بأقصة اهتمام أن لا يجرح اللاهوت من أي جانب. فالموضع الذي جاء في الأناجيل الأخرى عن هذه الصلاة بصورة مسترسلة مثل: «أيا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس» (مر36:14)، يدقق فيها القديس يوحنا ليشرحها على مستوى «النجاة منها», أي الخروج من التجربة بصورة تمجد الآب: «أيها الآب مجد اسمك»، وليس إلغا،ها بأي حال من الأحوال. ثم يؤكد المسيح طاعتة للآب بقبوله التجربة: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». فليست السامة بحد ذاتها التي يطلب المسيح الخلاص منها بل التجربة، وهي تجربة الصراع الرهيب مع الموت «لأجل هذا». فهو جاء «لأجل هذا الصراع» وهو يطلب أن يخرج من هذا الصراع سالماً بصورة تمجد اسم الآب.
هذا واضح في قول سفر العبرانيين: «الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات (في جثسيماني) للقادر أن يخلصه من الموت, وسمع له من أجل تقواه.» (عب7:5)
إذا، فالمسيح كان محقاً في توسله: «نجني من هذه الساعة» أي نجني من تجربة الصراع مع الموت, بأن أخرج منها منتصراً. التي جاءت هنا في سفر العبرانيين «أن يخلصه من الموت» والنتيجة جاءت كما توقع المسيح وكما كلب, «وسُمع له»!!