يو8: 12 …أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة…

 

“ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلاً:«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ».” (يو8: 12)

+++

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

 

ثم كلمهم يسوع أيضًا قائلاَ:

أنا هو نور العالم،

من يتبعني فلا يمشي في الظلمة،

بل يكون له نور الحياة”. (12)

إذ انسحب المشتكون الذين أرادوا أن يسببوا اضطرابًا وبلبلة وسط الجمع ثم انسحبت المرأة أكمل السيد المسيح تعليمه للشعب، وغالبًا ما لخص حديثه بالعبارة: “أنا هو نور العالم…” (١٢). بدونه يبقى الكل في الظلمة والبؤس والموت. لقد أدرك الفريسيون أن ما يعنيه بهذا أنه المسيا المنتظر، إذ رمز إليه الأنبياء بالنور (إش ٦٠: ١؛ ٤٩: ٧؛ ٩: ٩). جاء في Bamidbar Rabba: “قال الإسرائيليون لله يا رب المسكونة، أنت أمرت أن توقد أسرجة لك، أنت هو نور العالم. وبك يسكن النور”.

لا يسلك في الظلمة“، أي يخلص من الجهل والخيانة والخطية.

يرى البعض أن الحديث هنا يشير إلى عادة كان يمارسها اليهود حيث يضيفون إلى عيد المظال يومًا تاسعًا فيه يُخرجون كل الكتب المقدسة من الصناديق المودعة فيها ويضعون مكانها مشاعل منيرة إشارة إلى ما جاء في أم ٦: ٢٣ “لأن الوصية مصباح، والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة”.

يرى كثير من الدارسين أن من أهم الذكريات لعيد المظال هو سكب الماء بيد رئيس الكهنة كما رأينا في الأصحاح السابق، وممارسة طقس “النور” تذكارًا لعمود النور الذي كان يتقدم الشعب في البرية ليقودهم وسط ظلمة الليل (خر ١٣: ٢١) حتى يعبروا إلى كنعان حسب الوعد الإلهي.

كانوا يستخدمون في هذا العيد شمعدانًا ضخمًا ذا فروع. كانت تستخدم أربعة أسرجة تُملأ بالزيت، كانوا يصعدون إليها بواسطة سلم. وقد جاء في التلمود أن ارتفاعها خمسون ذراعًا. وكان النور بهيًا جدًا، فجاء في المشناة Mishah: “لا توجد ساحة دار في أورشليم لا ينعكس عليها النور”. هذا المنظر البرَّاق كان نادرًا جدًا في المدن القديمة.

يرى بعض الدارسين أن هذا الشمعدان يُطفأ بعد العيد، وقد وقف السيد هناك حيث انطفأ النور الذي أبهر القادمين للعيد، وحلت الظلمة عوض النور، ليعلن عن الحاجة إلى النور الإلهي، إلى المسيا عبد الرب بكونه نورًا جاء للأمم.

جاء في إشعياء النبي: “أنا الرب قد دعوتك للبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة” (إش ٤٢: ٦-٧). “قد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض” (إش ٤٩: ٦). “حقي أثبته نورًا للشعوب” (إش ٥١: ٤).

إذ فسَّر الربيون قول المرتل: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف” (مز ٢٧: ١)، بأن الناموس هو النور، أعلن السيد أنه هو الكلمة الإلهي، نور العالم، الذي يضيء لكل إنسانٍ آت إلى العالم.

وإذ قالوا أن الهيكل هو “النور” سألهم السيد أن ينقضوا الهيكل ليبنيه في ثلاثة أيام (يو ٢: ٢٠)، معلنًا عن هيكل جسده القائم من الأموات، بكونه الهيكل الذي يضم الخليقة الجديدة المستنيرة بنور قيامته.

وعندما تحدث الإنجيلي يوحنا عن الهيكل السماوي قال: “الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها… لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها” (رؤ ٢١: ٢٣، ٢٤).

يشبه السيد المسيح حياة الإنسان برحلة وسط عالمٍ مظلمٍ، يحتاج إلى شمس البرّ، تشرق عليه وترافقه فلا يتعثر في الطريق. يليق بالمؤمن أن يتبعه ويسترشد به في كل أمور حياته. إنه النور الحقيقي الذي نجد سلامنا في التطلع إليه ومصاحبته والإيمان به والسير فيه، ليكون سراجًا ليس لعيوننا فقط بل ولأرجلنا، سراج لكل كياننا. يقودنا في هذا العالم ويرفعنا بروحه القدوس إلى السماء فنتمتع بعربون الأبدية.

v أوضح أنه ليس هو أحد الأنبياء، لكنه سيد العالم، وليس هو نور الجليل ولا فلسطين ولا اليهودية، بل “نور العالم“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إن كنا أساقفة الله والمسيح لا أجد أن أحدًا ما يُلزمنا أن نتبعه أكثر من الله والمسيح، إذ هو نفسه في إنجيله

 

يؤكد قائلاً: “أنا نور العالم، من يتبعني لا يسلك في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (١٢).

الشهيد كبريانوس

v أظن ما يقوله الرب: “أنا هو نور العالم” [12] واضح لمن لهم أعين يشاركون بها هذا النور، أما الذين ليس لهم أعين سوى الأعين التي في الجسد وحدها فيندهشون لقول الرب يسوع المسيح“أنا هو نور العالم“.

v يوجد نور هو خالق لنور الشمس. لنحب هذا النور، ونشتاق أن ندركه، ونعطش إليه، حتى يقودنا ويبلغ بنا إليه، وهكذا نعيش فيه فلن نموت…

الذي يشرق عليك لكي تنظره، هو بعينه (الينبوع) الذي يفيض عليك فترتوي…

حتى عندما لا يُعلن ربنا يسوع المسيح للكل خلال سحابة جسده، لكنه هو كما هو ممسك بكل الأشياء بقوة حكمته…

إلهك حال بكامله في كل موضع، إن كنت لا تتركه لن يتركك”.

القديس أغسطينوس

v لنتبعه الآن فننال فيما بعد. نتبعه الآن بالإيمان فننال فيما بعد بالعيان. يقول الرسول: “فإذًا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (2 كو 5: 6-7).

متى نسلك بالعيان؟ عندما يكون لنا نور الحياة، عندما نبلغ تلك الرؤيا، عندما يعبر الليل.

عن هذا اليوم حيث نقوم قيل: “في الصباح اقترب إليك وأتأملك” (مز 5: 4). ماذا يعني “في الصباح”؟ عندما يعبر ليل هذا العالم، عندما تنتهي مخاوف التجارب، عندما ينهزم ذاك الأسد الذي يجول في الليل يطلب من يفترسه.

“في الصباح أقف أمامك وأتأمل”. الآن ماذا تظنّون أيها الاخوة ما هو واجبنا نحو الحياة الحاضرة، إلا ما يقوله المزمور مرة أخرى: “أعوّم كل ليلة سريري بدموعي…” (مز 6: 6)

يقول كل ليلة أبكي، والتهب شوقًا نحو النور. فيتطلع الرب إلى رغبتي، إذ يقول مزمور آخر: “أمامك كل شوقي وتنهدي ليس بمستورٍ عنك” (مز 38: 10).

هل تشتاق إلى الذهب؟ لا يمكنك أن لا تُرى، لأنك إذ تطلب الذهب تُعلن ذلك للبشر…

أتشتاق إلى اللَّه”؟ من يرى ذلك إلا اللَّه؟ ممن تطلب اللَّه… إلا من اللَّه؟ فإنه يُطلب من ذاته الذي يعد بإعطاء ذاته.

لتبسط النفس شوقها، وبحضنها المتسع تطلب وتدرك ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لا يخطر على قلب إنسان (1 كو 2: 9).

يمكننا أن نشتهي ذلك ونتوق إليه ونركض وراءه، لكننا لا نقدر أن نستحق إدراكه ونعلنه بكلمات.

القديس أغسطينوس

فاصل

تفسير الأب متى المسكين 

 

12:8- ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ».

نحن لا نزال فى عيد المظالة

عود على ذي بدء:

لقد توقف حديث المسيح الذي قدمه في الهيكل للشعب وهو في الخزانة عند قوله: «وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسرع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي» (يو37:7-38). توقف الحديث لشرح القديس يوحنا عن معنى هذه الآية بالنسبة لانسكاب الروح القدس, ثم تلا ذلك وصف انقسام الشعب بين مؤيد ومعارض, ثم أتت حملة الضباط التي أرسلها رؤساء الكهنة والفريسيون للقبض عليه, ثم التحقيق مع أعضاء الحملة بسبب عدم القبض عليه. وينتهي الأصحاح السابع بانقسام أعضاء السنهدريم على أنفسهم, ثم انفضاض السنهدريم، وذهاب كل واحد إلى بيته.
‏ثم يبتدىء الأصحاح الثامن بحضور المسيح مبكراً من جبل الزيتون، واستئناف التعليم في الهيكل بحضور الشعب, ثم محاولة الكتبة والفريسيين الشوشرة على التعليم بإحضار المرأة الخاطئة، وتنتهي قصتها أيضاً بخروج الكتبة والفريسيين منهزمين واحدا فوحدا, وتخرج الخاطئة منتصرة.
ثم يستأنف المسيح تعليمه من بعد «الماء الحي» إلى «نور العالم».
«ثم كلمهم يسوع أيضاً…»: هنا يرتبط الحديث بالآية: «من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي.» (38:7)
‏ونحن هنا, من جهة مجرى الحوادث المترادفة، أمام حقيقة طقس آخر هو طقس «النور» في عيد المظال الذي كان يجري بإيقاد أربع منارات مرتفعة جداً داخل الهيكل، كل منها لها أربعة صحون على الظهر، يصلون إليها لإشعالها بواسطة سلم، وفي كل صحن فتيلة مشتعلة مصنوعة من القماش الذي يستخدمه الكهنة كأحزمة لربط الوسط. وكانت توضع في بيت النساء في رواق النساء، حيث كان المسيح يعلم. كذلك نحن الآن أيضاً في آخر أيام العيد وهو اليوم الثامن.
‏والإحتفال الطقسي بإيقاد النور في رواق النساء, في الخزانة التي في الهيكل، وفي كل المظال التي كانوا يعيشون فيها في هذه الأيام, كان تذكاراً لعمود النور الذي أرسله الله لهم، يقودهم في برية التيه أثناى الليل (خر21:13). وهنا أيضاً يرى المسيح المناسبة لكي يستعلن لهم نفسه أنه هو النور الحقيقي الذي جاء لينير العالم.
«أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة»: أما عمود النور الذي قادهم في البرية في ليل تيههم وقتياً فكان قد انقطع لعدم الحاجة إليه، وأما المسيح فهو النور الذي جاء لينير العالم دائمأ والى الأبد.
‏وحينما يعلن المسيح أنه «نور العالم‏»، فهذا تعبير عن روح رسالته وفعلها: إنه «الكاشف والمعلن عن الله في العالم المظلم»؛ إنه إعلان عن تحقيق كل مواعيد الله السابقة متركزة فيه شخصياً. كما أنه دعوة عامة لليهود والعالم كله أن ينتبه إلى هذا الشروق الإلهي. إنها دعوة موازية لدعوته السابقة في الأصحاح السابع: «إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب: (يو37:7). أما هنا فهي: «إن أعوز العالم معرفة الله في ما سبق، فها الآن المعرفة تغطى كل الأرض؛ المعرفة التي تشرح كل وجود كان ما كان، في حضرة وجود الله!!
‏فحينما يقول المسيح: «أنا هو نور العالم»، فهو يعني، بحسب اللغة اليونانية: «أنا هو النور للعالم»، الذي شرحه المسيح بعدها مباشرة في آية موازية: «بل يكون له نور الحياة»، فهو النور للعالم، النور المعطي للحياة!! والتي لخصها القديس يوحنا شارحاً بقوله في مقدمة إنجيله: «فيه كانت الحياة, والحياة كانت نور الناس» (يو4:1)، حيث الحياة في المسيح تكون بعينها هي نور الناس، أو نور العالم!! «فالنور» بالمعنى الإلهي هو «الحياة في عالم الله». ودخول النور إلى عالم الإنسان حوله إلى عالم الله, ليحيا فيه الإنسان.
‏ثم لينتبه القارىء جدا, فقول المسيح: «أنا هو نور العالم» لا يعني به النور المختص بمشاكل الإنسان تجاه العالم، بل النور المختص بالإنسان نفسه تجاه الله!! لأن مشكلة الإنسان العظمى في العالم هي نفسه، هي معرفته لذاته على ضوء معرفته لله. وحينما يقول المسيح: «أنا هو نور العالم»، فهو يكشف بصورة مفاجئة وقوية مدى اقتحام الذات الإلهية للعالم، هذه القوة التي لا يشرحها إلا بالتجسد. فهو وحده الذي يرفع الغموض منها، لأن قائلها هو الإنسان يسوع المسيح بحسب الفكر البشري.
‏لذلك لكي يرفع المسيح مفهوم «أنا هو نور العالم» من المستوى الرمزي أو التصوري، الذي قد يقع فيه السامع أوالقارىء، دعمه في الحال بالفعل العملي والإختباري الذي يعلن مدى الحق الإلهي فيه، فيقول: «من يتبعني فلا يمشي في الظمة، بل يكون له نور الحياة»، حيث يتحول «النور» إلى «حياة»، أي إلى عمل وسلوك يشهد بمدى الحق في هذا النور!! هنا النور يصير «كخبز الحياة» الذي كل من يأكله يحيا به إلى الأبد، أي يحيا بالمسيح، والماء الحي الذي كل من يشربه تخرج من بطنه أنهار ماء الحياة، أي يكرز بالمسيح الذي يحيا فيه؛ هكذا النور كل من يقبله، أي يؤمن به، يصير له «نور الحياة، أي المسيح نفسه يحيا فيه.
‏هكذا ، فالخبز الحي والماء الحي ونور الحياة هو هو شخص المسيح، عدما يؤمن به الإنسان يصير خبزه الجديد وماءه الجديد ونوره الجديد في حياته الجديدة.
‏والمسيح هو الخبز الحي ومعطي هذا الخبز، والماء الحي ومعطي هذا الماء، ونور الحياة ومعطي هذا النور. هنا لينتبه القارىء، لأن معنى هذا أن كل استعلانات المسيح يستحيل فهمها أو قبولها أو الإيمان بها أو الحياة فيها بدون المسيح نفسه. فهي ليست مدركات يمكن أن تُفهم وتُنسى، بل هي واقع حياة في حياة. فبقدر ما نؤمن بالمسيح، نأخذ، وبقدر ما نأخذ، نقترب، وبقدر ما نقترب، نفهم وندرك ونستعلن ونكرز!!
لقد دخل النور «الحقيقي» إلى العالم ملتحفاً جسد إنسان، وهو أصلاً «اللابس (الملتحف) النور كثوب» (مز2:104‏)، جاء لينير البشرية من داخل كيانها، فصارت حياة الإنسان نوراً بعد أن كان يتخبط في ظلمة العالم. لقد استنارت حياة الانسان بالنور الإلهي, فأنارت ، وصارت أنواراً في العالم: «أنتم نور العالم» (مت14:5). ولا يزال المسيح هو هو عمود النور الذي يسير بالبشرية المستنيرة به وبالله، في طريقها الضيق الحرج، داخل ليل برية العالم المظلم، يقودنا خطوة بعد خطوة. والذي يتبع النور لا يشعر بليل العالم, ولن تدركه الظلمة، هذه حقيقة يدركها كل من استنار بالمسيح والتصق به: «الرب نوري وخلاصي ممن أخاف» (مز1:27)، هذا نشيد داود الذي سار وراء الرب وتسبحته في فمه، وتهليل الخلاص في قلبه.
‏وحينما نطرق هذا الفكر من الوجهة اللاهوتية يتضح لنا عمقه، فالطبيعة البشرية بالنسبة للنور الإلهي مظلمة, خاطئة، ضيقة, يدب فيها الموت, وشعاع الله لم يكن ينفذ إليها, ولكن حينما استعلن لنا الرب الطبيعة الإلهية التي فيه، وصيرنا شركاء فيها، نفذ النور الإلهي إلى أعماقنا, فأدركنا طبيعة الله وأسراره، واستنارت عقولنا وقلوبنا بفكره ومشيئته وكلماته. لأن طبيعتنا العمياء الخرساء، بالنسبة لشخص ذات الله, اُستهدفت لعمل روح الله القدوس، فدخلها النوره ودخلتها الحياة الإلهية، فتغيرت وتجددت, وصار لها أُذن تسمع ما لم يكن يُسمع، وعين ترى ما لم يكن يُرى، وقلب يستطلع بالروح حتى أعماق الله: «ورأينا مجده» (يو14:1)، وروح تحيا مع الله: «من التصق بالرب فهو روح واحد.» (اكو17:6)

«أنا هو نور العالم»:
هذا القول يستحيل أن ينطقه إلا الله وحده: «وقال لى أكتب، فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة. ثم قال لى قد تم. أنا هو الألف والياء, البداية والنهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا … والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها, لأن مجد الله قد أنارها, والخروف سراجها. وتمشي شعوب المخلصين بنورها … لأن ليلاً لا يكون هناك» (رؤ5:21و23و24و25)
‏ويلزم أن نرجع إلى مقدمة إنجيل يرحنا، لنرى كيف قدم الإنجيل المسيح باعتباره «الكلمة» و«النور الحقيقي» و«الحياة الأبدية», ثم كيف شهد القديس يوحنا ضمن شهادة التلاميذ: و(نحن) رأينا مجده».
‏فالكلمة، وهو بهاء ونور مجد الآب والحامل للحياة اللأبدية, تجسد, فاستُعلن فيه نور الآب, واستعلنت الحياة الأبدية التي كانت عند الآب مخفية عن حياة هذا العالم. والنور لما أضاء في قلوب التلاميذ، كان هو التجلي بعينه حيث رأوا مجده, فالنور والمجد معاً لا يفترقان. والمجد هو التعبير البشري لرؤية الحضور الإلهي أو الكيان الإلهي في المسيح: «أنا هو». لذلك، فالنور الإلهي في المسيح: «أنا هو نورالعالم» الذي صار بتجسده، هوتعبير عن طبيعة الله التي استعلنت للإنسان في تجسد الكلمة, خصيصاً لإعلان عهد الخلاص للإنسان. وبمعنى آخر يكون النور الإلهي المُعلن في المسيح والذي يشهد له المسيح «أنا هو نور العالم»، هو تعبير عن حقيقة فعل الخلاص الذي يُفهم أنه انعتاق ‏من ظلمة هذا الدهر وتفاهة مجده. وإشعياء النبي يصف هذا الاشراق العجيب في ملء الزمن بالنسبة لكنيسة الله هكذا: «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض (الؤثنية)، والظلام الدامث الأمم (الخطية). أما عليك فيشرق الرب (أنا هو نور العالم) ومجده عليك يٌرى. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك.» (إش1:60-3)
‏‏ثم انظر كيف يرى إشعياء النور الإلهي المتجلي بالمجد في كنيسته يلتحم بالخلاص التحاماً, وباعتباره الغاية العظمى في خطته الإلهية، يقول إشعياء: «تسمين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً. لا تكون لك بعد الشمس نوراً في النهار ولا القمر ينير لك مضيئاً، بل الرب يكون لك نوراً أبدياً وإلهك زينتك (أنا هو نور العالم). لا تغيب بعد شمسك وقمرك لا ينقص، لأن الرب يكون لك نوراً أبدياً، وتكمل أيام نوحك، وشعبك كلهم أبرار.» (إش18:60-21)
‏ويطيب لهذا النبي القديس أن يمزج النوم بالخلاص بالتسبيح بزينة النفس، أي التجلي الروحي.
لقد أشار إليه إشعياء النبي: «أنا الرب, قد دعوتك بالبر، فامسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب، ونوراً للأمم, لتفتح عيون العمي, لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن، الجالسين في الظمة.» (إش6:42-7)
‏وليلاحظ القارىء أن المسيح بعد أن قال: «أنا هو نور العالم»، فتح عيني الأعمى بالفعل!… كذلك يقول إشعياء، وكأنه يحكي ما يرى من وراء الزمان، كيف أُهين النور وحاولت الظلمة عبثاً إطفاءه، ولكنه انتصر، وصار خلاصاً لأقصى الأرض, واستنارت به الشعوب، وتحررت من سلطان الظلمة، وصارت الكلمة غذاء للروح وماء للحياة كينبوع أبدي: «قد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاص إلى أقصى الأرض. هكذا قال الرب فادي إسرائيل، قدوسه للمهان النفس, لمكروه الأمة, لعبد المتسلطين … قائلاً للأسرى: اخرجوا، للذين في الظلام. اظهروا … لا يجوعون ولا يعطشون، ولا يضربهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم، والى ينابيع المياه يوردهم ..» (إش 6:49-10)
‏وهنا يجمع إشعياء النبي النور, وتفتيح العيون, وخبز الحياة, والماء الحى, والينابيع.
‏«نور الحياة» : وكذلك ملاخي النبي: «ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها.» ‏(مل2:4)
‏وما يهمنا هنا في هذه النبوة الأخيرة: أن الله سيعطي اسمه مقروناً بإشراق النور, وبالحياة التي فيه, التي بلا أسقام، كناية عن الخليقة الجديدة التي تتنفس بالروح، وسوف يرى القارىء أن الرب سيكشف عن اسم الله الذي يتكلم به، بعد أن قال: «أنا هو نور العالم»، وكيف أعطى الشفاء بالفعل للمولود أعمى، فأصبح له «نور الحياة» على المستوى المحسوس. ونبوة ملاخي تعطي المقارنة صحيحة وعملية؛ كما أن الشمس هي للعالم لحياة الجسد وتجديده وشفائه، كذلك الرب هو شمس الروح وبرها ونورها وطهارتها.
‏وقد حاول الربيون تفسير النور كما جاء في العهد القديم، كما في المزامير: «الرب نوري… ممن أخاف» (مز1:27)، بأنه هو الناموس، لأن الناموس يوضح السلوك في الحياة كالنور في الظلمة. وهذا لم يغب عن سماع الرب وفكره، فهو يصحح ويعلن نفسه أنه «نورالحياة», و«الطريق» أيضاً، و«الباب» وأن من يتبعه، لا تدركه الظمة ولا يدركه ليل.
وحينما يوضع الناموس في مواجهة المسيح، يكون المسيح هو كمال الناموس. وكما قال الربيون إن «الهيكل» هو «النور» قال المسيح انقضوه وأنا أُقيمه في ثلاثة أيام، هيكلاً يملأ لا الأرض فقط، بل والماء، نوراً ومجداً، كناية عن الخليقة الجديدة بجسده.
‏والقديس يوحنا في رؤياه رأى منظر هذا الهيكل الجديد بالفعل، والرب سراجه، وشعوب المخلصين تمشي في نوره (رؤ23:21-24).
‏إن استعلان الطبيعة الإلهية في المسيح كان بقصد أساسي، وهو أن تمتد قوى هذه الطبيعة وتتخلل الإنسان ككيان مخلوق أصلاً على صورة الله. وتعاليم المسيح وكلماته كانت انبعاثاً وامتداداً لهذه القوى الإلهية التي في طبيعة المسيح: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6)، ونور أيضاً بالضرورة، وخاصة حينما كان يتكلم المسيح عن نفسه وعن طبيعته «أنا هو نور العالم». هذه ‏هي انبعاثات الطبيعة الإلهية في كلمات، وكأن الكلمات شعاع هذا النور، إذا أصاب قلبا مفتوحاً تخلله وأضاءه. هذا هو قول المسيح: «من يتبعني فلا يمشي في الظمة بل يكون له نو والحياة». وهكذا فإن نور العالم يتضح أنه «نور الحياة».
‏وما معنى «يكون له نور الحياة»؟ أليس أن نور الحياة يكون قد استقر فيه, «المسيح يحيا فيّ» (غل20:2)، وصار ملكا له؟ ثم ما معنى أن نمتلك نور الحياة الذي في المسيح؟ أليست هذه هي الشركة في أعلى وأعمق معناها، حيث يجمعنا فيه وإليه شعاع نوره وقوة حياته المنبعثة من تعاليمه وكلماته وروحه؟ وأليس هذا هو بعينه الذي يقوله المسيح في صلاته للآب: «أنا فيهم وأنت فىّ» (يو23:17)؟ هذا هو منبع النور ومصبه. أما قوته فقد أوضحها المسيح على المستوى العملي: «أنتم الأن أنقياء (مضيئون) لسبب الكلام الذي أكلمكم به. اثبتوا في وأنا فيكم» (يو3:15-4). «إن حفظتم وصاياي (نور). تثبتون في محبتي, كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته» (يو10:15). أما رفع هذا المستوى العملي إلى المستوى الرؤيوي فقد هتف به داود: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36). فنور المسيح واسطة لمعاينة نور الآب، أي واسطة لرؤيا واتحاد. لذلك فنور المسيح أو المسيح كنور، هو شاهد للمسيح، سواء كان بالكلمة أو العمل.
‏فالنور أصلاً كطبيعة بحد ذاتها لا يحتاج إلى شاهد, أي إلى من يشهد له, بل يحتاج إلى مُشاهد، أي إلى من يرى ويفرح، لأن النور يكون دائمأ شاهداً لنفسه.

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

 

آية (12): “ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.”

هنا نجد بقية الحديث الذي جاء في (37:7،38). فكان المسيح قد قال هناك “من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي..” ووجدنا نتيجة لهذا هجوم الفريسيين عليه ثم محاولة إحراجه في موضوع المرأة الزانية. وهنا ينقل المسيح تعليمه بعد أن خرج الفريسيين وإنتقل من الماء إلى النور.

أنا هو نور العالم= وكان ذلك بمناسبة المنارات المضاءة في هذا العيد تذكاراً لعمود النور الذي قادهم في البرية أثناء الليل. المسيح ينتهز فرصة إستخدام الطقس (النور والماء) ليستعلن الحقائق الإيمانية من وراء الطقس، فهو الماء والنور الحقيقيين (هذا يشير لأهمية الطقوس في الكنيسة فوراءها عقائد). والمسيح هو النور الذي يبدد ظلمة القلب وبه نعرف الآب ونرى السماويات وهو الذي يقودنا في برية هذا العالم للأبدية. ونلاحظ أن اليهود كانوا يقولون أن الناموس هو النور والمسيح بهذا يعلن أنه كمال الناموس. وهو قال نور العالم أي ليس لليهود فقط. والنور يشير للمعرفة والقداسة، والظلمة ترمز للجهل والخطية. فالمسيح هو الذي يكشف ويعلن الله لنا في محبته وهو النور الذي يقودنا للحياة مع الله وهو يبدد طبيعة الظلمة الشريرة وهو نور لمن هو في حيرة وهو يعطي الإدراك والمعرفة والإستعلان وإدراك حقيقة الأشياء. قال فيلسوف ملحد (نحن نخرج من ظلمة الرحم إلى ظلمة القبر مروراً بظلمة الحياة) لكن المسيح هو الذي يعطي معنى للحياة وتفسيراً لأحداثها، ويلقي نوراً على نهاية حياتنا في مجد. هو يستعلن لنا أمجاد الأبدية. فمن يتبع المسيح يكون في نور وينجو من الظلمة ومن يرفضه يبقى في الظلمة وبدون إرشاد وبدون تمييز للحق. فلا يمشى في الظلمة= الظلمة هي الإبتعاد عن الله، وعدم الإيمان والخطية. هي التخبط في طريق الشر بعيداً عن الله. إذاً من يؤمن بالمسيح يصير له المسيح خبز للحياة (من يأكله يحيا به للأبد) ومصدر للماء الحي (فيفيض من المؤمن أنهار ماء حي) أي يكرز بالمسيح الذي يحيا فيه (غل20:2). ويكون له المسيح نور (يصير له المسيح نور الحياة أي يحيا فيه) النور مرتبط بالحياة، فإذا وجد النور يكون هناك حياة والعكس فالظلمة معها موت. ونور المسيح ينير الطريق فأحيا بسلوك ناتج عن حياة المسيح فيّ. فالمسيح ليس نور خارجي بل ينير من الداخل. والمسيح هو نور الأبدية أيضاً (رؤ5:22). ويكون له المسيحنور الحياة أي يتحول المسيح فيه إلى عمل وسلوك وحياة يشهد بمدى الحق في هذا النور. ويكون له المسيح نور الخلاص والرجاء والثقة والفرح والتهليل. ويصير المؤمن هو أيضاً نوراً للعالم (مت14:5) ونور المؤمن هو إنعكاس لنور المسيح. لذلك يقام للكنيسة منارة فهي جسد المسيح نور العالم حاملة النور. من يتبعني= كما تبع الشعب عمود النور في البرية فقادهم إلى أرض الميعاد. هكذا من يتبع المسيح يصل إلى أورشليم السماوية وهناك يكون المسيح هو نور الأبدية (رؤ5:21،23-25) وقارن مع (أش1:60-3+ 18-21+ أش6:42،7+ أش1:9،2+ أش6:49،7+ ملا2:4). وتثبيتاً لأن المسيح هو نور للعالم نجده في الإصحاح التالي مباشرة يفتح عيني الأعمى. وفي (ملا2:4) نجد المسيح شمس البر، فكما أن الشمس تعطي الصحة والشفاء والضوء هكذا المسيح هو شمس الروح وبرها ونورها وطهارتها.

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى