شرح المعمودية قيمتها ومعناها
شرح المعمودية قيمتها ومعناها
من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية
للأب متى المسكين
الفصل الأول
الجزء النظري
1 – مقدِّمة تفسيرية
شرح المعمودية، قيمتها ومعناها:
كانت المعمودية في عصور الكنيسة الأُولى ذات هيبة فائقة ووقار، وكانت لها صلوات تشرح بحد ذاتها قيمة هذا السر في الكنيسة، وتنبِّه أذهان الناس – سواء الذين سيتعمَّدون أو الذين يحتفلون بعمادهم – بأهمية العماد والمعمَّدين في الكنيسة، إذ كانوا يحتفلون بهم احتفالاً كبيراً يلتحق بالاحتفال بأسبوع البصخة المقدَّس وعيد القيامة المجيد. وقد التقطنا صلوات الكنيسة التي كانت تجريها على ماء المعمودية ومسحتها والمعمَّدين، وجعلناها موضوع شرح مطوَّل عن المعمودية. وقد وُضِعت هذه الصلوات حوالي سنة 350م في قرية صغيرة خاملة الذكر في شمال الدلتا تُدعى تمويس (وهي حالياً تميّ الأمديد بمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية)، ولكن كان قد أسعدها النصيب الفاخر بتنصيب أحد الأساقفة الأجلاء الذين أضاءوا تاريخ مصر الليتورجي وهو القديس سيرابيون المدعو بالمدرسي لغزارة علمه، وهو مؤلِّف قداس سيرابيون المشهور، وهو الذي وضع صلوات المعمودية والإفخارستيا للكنيسة آنئذ، وهو صديق القديس أثناسيوس الحميم جدًّا ومن سن عمره تقريباً. وكان وهو راهب صديق القديس أنطونيوس الناسك المعروف وزميله في الرهبنة، وقد وهبه ق. أنطونيوس عباءته (جلد خروف) الخاصة، والثانية أهداها للقديس أثناسيوس. وقد اختاره ق. أثناسيوس لإرسالية هامة للإمبراطور قسطنطيوس. وسيرابيون قديس كنسي تُعيِّد له الكنيسة في يوم 21 مارس من كل سنة.
وطبعاً ونحن نروي ما كانت عليه المعمودية بمستواها الفاخر جدًّا في سنة 350م، يأخذنا الحزن والأسى على ما صارت إليه في أيامنا – ولكن قصدنا من ذلك أن نوقظ في إحساس القارئ الشعور بضرورة عودة الكنيسة إلى تراثها المجيد ومستوى إدراكها العالي لطقوسها وأسرارها وعلمها ولاهوتها – كدراسة بحد ذاتها خلواً من تعميد الذي سبق ونلناه في طفولتنا.
ويظهر من هذا الطقس علاقة المعمودية بالاحتفال بالبصخة المقدَّسة، وهي الأسبوع الأخير بعد الصوم وقبل الاحتفال بعيد القيامة، الأمر الذي كان يهلِّل له الشعب جميعه بفرح وتحية وزفَّة كبرى
لا تزال بقاياها موجودة دون أن يُعرف سببها. حتى أن الشعب كان حينما تبدأ الكنيسة احتفالها بطقس المعمودية السنوي، كان يتبادر إلى إحساسه قرب البصخة المقدَّسة وعيد القيامة لارتباطهما الشديد معاً كما سيرى القارئ.
بل وسيرى القارئ بلا مبالغة أن الكنيسة ذاتها باحتفالها السنوي بطقس سر العماد، تتعرَّف على نفسها وقيمتها كأُم تلد بنينَ جدداً كل سنة، تستقبلهم بالألحان الخاصة والطقوس الخاصة مع شرحها للمعمدين بواسطة الأسقف نفسه. فكان طقس المعمودية هو إحياء لليتورجية القيامة وطقس الكنيسة كأُم، حتى أن غياب طقس المعمودية الآن من الكنيسة باقتصارها على عماد الأطفال أعطاها إحساس العقم وسلبها فرحتها الكبرى السنوية.
تقديس ماء المعمودية:
وأول خطوات طقس المعمودية هو تقديس الماء: فكان الأسقف يقف أمام جرن المعمودية لابساً ثياب التعميد البيضاء الخاصة ويقول:
الصلاة: صلاة الأسقف سيرابيون لمدينة تمويس (تمي الأمديد):([1])
+ [يا ملك ورب كل شيء صانع المسكونة، الذي أعطى الخلاص مجاناً لكل الطبيعة المخلوقة بواسطة نزول ابنك الوحيد يسوع المسيح، أنت الذي فديت الخليقة التي خلقتَ بمجيء الكلمة – الآن ومن السماء انظر إلى هذه المياه واملأها بالروح القدس، ليت كلمتك الفائق يأتي فيها ويحوِّل طاقتها ويجعلها ولودة بملئها بنعمتك، لكي لا يكون السر الذي نقيمه باطلاً في هؤلاء الذين سيولدون منه ثانية، بل ليتك تملأ كل هؤلاء الذين ينزلون ويعتمدون بالنعمة الإلهية. أيها المحسن المحبوب، أبقِ على صنعة يديك، وخلِّص المخلوق الذي صنعته يمينك. وكل هؤلاء الذين يولدون ثانية غيِّر شكلهم إلى شكلك الإلهي غير المنطوق به، حتى أنهم بعد أن يتشكَّلوا بك ويولدوا ثانية يقبلوا الخلاص ويُحسبوا أهلاً لملكوتك. وكما أن ابنك الوحيد الكلمة لما نزل في مياه الأُردن جعلها مياهاً مقدَّسة، هكذا أيضاً الآن، ليته ينزل على هؤلاء ويقدِّسهم ويجعلهم روحانيين إلى النهاية. حتى أن الذين يعتمدون لا يكونون بعد لحماً ودماً ولكن روحانيين قادرين أن يعبدوك أنت أيها الآب غير المخلوق بابنك يسوع وفي الروح القدس، الذي به لك المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين].
وكون المعمودية تبدأ بتقديس الماء فهذا له عمق روحي ولاهوتي سنعرضه حالاً. ولكن وللحزن
نجد أن بعض الكنائس لعدم فهمها لقيمة وأهمية تقديس الماء ومعناه اللاهوتي، استثقلوا الطقس فوجدوا أنه من العبث تضييع الوقت بالنسبة لهم وللشعب، فلجأوا إلى الاختصار المُخلّ الذي ضيَّع معنى الطقس بل وقوَّته وقيمته ولاهوته بآن واحد – فاكتفوا بقليل من الماء السابق تقديسه ووضعوه على الماء الجديد بلا صلاة إرضاء لأنفسهم وللشعب الذي يرغب في الاختصار، بل ووصل الأمر في بعض الكنائس أنهم حذفوا جرن المعمودية بكامله لاستثقالهم إجراء هذا الطقس، فبقيت الكنيسة بلا جرن معمودية كإمرأة استؤصل رحمها! هذا نتيجة الجهل بقداسة هذا السر وأهميته وقيمته، وبسبب انقطاع التسليم من الكنيسة الأُولى الصاحية، فاختزلوا العماد حتى صار في عشر دقائق يُصنع الإنسان مسيحياً وعضواً في جسد المسيح ووعاءً مقدَّساً لحمْل الاسم الرهيب وللروح القدس وللبس المسيح! فكل المطلوب هو استخراج شهادة عماد. فلا عجب إذن إن كان قد انحط الطقس واستُهزئ به في أعين الناس. ولكن ليس الطقس فقط الذي استُهزئ به بل والكنيسة التي فقدت قيمتها ولزومها وأسرارها غير المفهومة. وضاع من الإنسان المسيحي معنى كلمة “الإنسان الجديد” و“الخلقة الجديدة” و“الحياة الجديدة” أو“جدَّة الحياة”. وصارت كلمات الوعظ غير مفهومة وثقيلة.
والذي ضاع على الكاهن أن يقوله للشعب أن تقديس ماء المعمودية هو بعينه كتقديس الخبز والخمر ليتحوَّلا إلى طعام الحق الروحي الذي يغذِّي الروح لا الجسد. هكذا ماء المعمودية، فبالصلاة وهي نفس صلاة الإفخارستيا أي الشكر للتقديس، يتحوَّل الماء عن طبيعته الميتة إلى طبيعة حيَّة والدة تهب الحياة الروحية الجديدة غير المنظورة. وهذه هي أول عملية تقديس تقوم بها الكنيسة بسلطان المسيح الذي اعتمد في ماء الأُردن ليحوِّله إلى ماءٍ لحياة جديدة » هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بر «(مت 15:3). هذا تبدأ به الكنيسة ليصبح فيها أول عمل سرِّي لاهوتي غير منظور، وبالتالي يكون بداية بديعة لليتورجية العماد في الكنيسة.
والماء: هو من أقدم الرموز الدينية المسئولة عن الخلق الأول، حينما كان قبل كل خلقة يرف الروح على وجه المياه في سفر التكوين في الأصحاح الأول. وهكذا فُهم أن الماء والروح مصدرٌ للحياة.
ولكن عاد نفس الماء ليرمز إلى الموت في قصة نوح والفلك، حيث اللجج التي أودت بحياة كل البشر وخَلُص ثمانية أنفس في الفلك، وهم عائلة نوح الذي يقول عنه ق. بطرس: » الذي مِثَالُهُ يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ، لا إزالةُ وسخِ الجسدِ، بل سؤالُ ضميرٍ صالحٍ عن الله، بقيامة يسوع المسيح. «(1بط 21:3)
وكذلك كانت لجج الماء وأعماقه تشير إلى سكنى الأرواح الشريرة وتهديد الموت الذي ملأ سفر المزامير. وكان الماء هو الكيان غير المفهوم أو غير المنضبط في أركان عالم الظلمة. وكما كان الماء مبدأ الحياة فإنه مهبط الموت والهلاك، هذه كانت صورة الماء في العهد القديم – كما كان أيضاً عنصر تطهير. لذلك اختاره المسيح ليكون أصلاً ومبدأً لغسل الخطايا والميلاد الجديد، وذلك في حوار المسيح مع نيقوديموس، ولكن ليس من طبيعة الماء ولكن بعد تقديسه وحلول الروح فيه » يولد من الماء والروح «(يو 5:3). فبالروح القدس والماء المتحوِّل عن طبيعته تُوهب الحياة الجديدة، وهذا هو كشف أو إظهار طبيعة الماء الجديدة بالصلاة والروح القدس.
فكما حُسب الماء والروح الذي كان يرف عليه مبدأ الخليقة الأُولى المادية، كذلك حُسب أيضاً الماء نفسه والروح القدس – وقد نزله بالصلاة والتقديس – ليكون مبدأ الخليقة الثانية الروحية في العالم الجديد الذي أحبَّه الله وبذل ابنه من أجل خلاصه. فأصبح ماء المعمودية بعد تقديسه يعكس صورة الله بالخلق الجديد الروحي المنبثق منه.
فانظر الآن يا قارئي العزيز موقف الكاهن وهو واقف أمام جرن المعمودية يُقدِّس الماء، ليجعل منه رحماً إلهياً سماوياً لخلقة جديدة روحية بشبه خالقها في المجد والقداسة، ولا تستكثر ذلك، بل اذكر نزول المسيح في الأُردن ليحوِّل ماءه إلى مبدأ المعمودية الجديدة بالروح والماء! الماء هنا صار أكثر من ماء! لقد أُظهرت طبيعة جديدة لماء المعمودية، فقد صيَّره المسيح قاعدة للخلق الجديد: » فاذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. «(مت 19:28)
فالآن تأمَّل معي ما صار إليه الماء وما صار منه وفيه: مبدأ الخلق الأول المادي ومبدأ الغضب الإلهي والموت الجماعي، أي مبدأ الحياة والموت. على هذه الصورة استخدمته الكنيسة في سر المعمودية إذ جعلته بواسطة دفن المعمَّد تحت سطح الماء ثلاث مرَّات مثالاً لموت المسيح والدفن في القبر ثلاثة أيام – بمعنى توثيق الإيمان الذي آمن به المعمَّد – ولكن هنا أصبح تمثيل الإيمان عملياً يشير إلى مشاركة المسيح عملياً في موته. ثمَّ بقيامته من تحت الماء يقوم المُعمَّد وقد شكَّله الروح القدس على صورة قيامة المسيح من القبر لحياة جديدة، وأيضاً ليُمثِّل حالة شركة أيضاً في قيامته – وهكذا أصبح الماء وسيط موت وقيامة مع المسيح. والذي يحوِّل هذا الفعل إلى حقيقة روحية مطابقة للحقيقة الإيمانية هو الروح القدس، الذي إحدى وظائفه كقول المسيح أن » يأخذ مما لي ويستعلنه لكم «(يو 14:16) (ترجمة “ويخبركم” لا توفي المعنى). أي أن أعمال المسيح غير المدركة يجعلها لنا وفينا مدركة.
وهكذا نرى أن صلاة تقديس الماء قد أعطته المحتوى والهدف، أمَّا المحتوى فهو إعطاء الحياة الجديدة بالروح المحيي، أمَّا الهدف فالمعمودية من أول أهدافها المعلنة هي نعمة الدخول إلى ملكوت الله كهدف الحياة الجديدة المباشر. لذلك نجد أن مَنْ ينال الانغمار تحت الماء لثلاث مرَّات مع الاعتراف بالثالوث يبدأ في الحال يشتاق إلى هذا الهدف الذي تشكَّل في أعماقه ويسعى إليه، وتبتدئ الكنيسة تُعلِّمه كيف يبلغه بالنعمة وبالسلوك الأخلاقي والمحبة وبساطة القلب. فالنعمة المنحدرة من الملكوت على المعمَّد هي التي تُلهب قلبه بحب الملكوت والسعي إليه. كما يسمعها أيضاً من شرح الأسقف في الإنجيل وكهدف لهذا السر المقدَّس. علماً بأن النعمة التي سترافق المعمَّد في طريقه الطويل للعبور الصعب اللذيذ (وقد أتقنت الكنيسة ترتيب طقس المعمودية حتى تكتمل خطواته بالاشتراك – أول اشتراك – في الإفخارستيا المقدَّسة ليلة عيد القيامة بمفهومها أنها زاد الطريق إلى الملكوت) والانتقال السرِّي غير المنظور من هذا العالم الزائل إلى عالم الروح ومسرَّات الدهر الآتي، وتمدَّه المعمودية بالاستنارة ليدرك حقيقة الزائل وحقيقة الباقي.
بهذا نكون قد أدركنا قيمة تقديس الماء في المعمودية، الذي يهيئ الماء لأن يكون مع الروح القدس واسطة للميلاد الجديد حسب وصف المسيح لنيقوديموس. وبمعنى روحي عميق يحرِّر مادة الماء من طبيعتها الأُولى الميتة والمميتة الموافقة لسكنى الأرواح النجسة، إلى طبيعة جديدة حيَّة محيية بالروح الذي فيها، صالحة لسُكنى الروح القدس لميلاد الإنسان الجديد. وبذلك يتهيَّأ الماء للحضور الإلهي، وكأن الماء المتقدِّس في المعمودية يصير المبتدأ لتجلِّي المادة في العالم، وكأن العالم يبدأ أن يُخلق جديداً بخلقة الإنسان الجديد.
وإن كنَّا سنرث من الولادة الجديدة من الماء والروح ميراث الحياة الجديدة فهو حتماً ميراث النور: » فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس «(يو 4:1)، فمن الاستنارة في المعمودية إلى حياة النور في الإفخارستيا.
انظر أيها القارئ العزيز أهمية معرفة هذا عن المعمودية، فإن أهملناه ألا نكون غير أمناء فيما أخذنا وفيما ورثنا، وفيما نحياه؟!
صلاة من أجل المعمَّدين:
– يقول الأسقف سيرابيون([2]):
+ [نحن نتوسَّل إليك يا إله الحق من أجل عبدك هذا – الذي يتعمَّد – ونصلِّي حتى تحسبه مستحقاً للسر الإلهي، من أجل الولادة الثانية الفائقة الوصف، لأن لك يا محب البشر نقدِّم هذا ونكرِّسه لك. امنحه أن يكون شريكاً لهذا الميلاد الجديد السماوي إلى النهاية، حتى لا يُساق في ما بعد بأي أمر شرير أو رديء. ولكن ليخدمك باستمرار ويحفظ وصاياك. وأيضاً ليت ابنك الوحيد، الكلمة، يقوده، لأن به لك المجد والقوة في الروح القدس الآن وكل أوان وإلى كل الدهور آمين].
+ [يا محب البشر مخلِّص كل الذين لجأوا إليك للإغاثة، كن منعماً على عبدك هذا، قُده إلى الميلاد الثاني بيمينك، وليت ابنك الوحيد الكلمة، يقوده إلى الاغتسال، واجعل ميلاده الثاني مكرَّماً بموافقتك، ولا تجعله فارغاً من نعمتك، وليت كلمتك المقدَّسة ترافقه وروحك القدوس يكون معه طارداً بعيداً عنه كل تجربة، لأنه بابنك الوحيد يسوع المسيح لك المجد والقوة الآن وكل الدهور آمين].
+ [يا الله إله الحق صانع كل شيء رب كل خليقة، بارك عبدك هذا ببركتك، واجعله طاهراً في الميلاد الجديد، واجعل له أُلفة مع قوَّاتك الملائكية، حتى لا يُدعى في ما بعد جسدانياً بل روحانياً باشتراكه في عطيتك الإلهية النافعة. ليته يُحفظ إلى النهاية لك، لك أنت يا صانع المسكونة بابنك الوحيد يسوع المسيح، الذي به لك المجد والقوة الآن وكل الدهور آمين].
انظر وتأمَّل هذه الصلوات، وتعجَّب من قول بعض الناس الجهلاء الذين يقولون إن المعمودية نوع من السحر يقترفه الكهنة لذلك أسموه سرًّا. والكنيسة مسئولة عن هذا لأنها لا تُعلِّم الشعب عن ماذا يُجرى في معموديتها من البدء. فهذه صلوات منذ ما قبل سنة 350م. إنه الطقس السائد في كل كنيسة وكل أسقف يُسجِّل ما وهبه الله. فضياع هذا التراث والميراث خسارة عظيمة على الكنيسة وعلى الشعب جميعاً. وصلوات تقديس الماء والمعمَّد هذه، وتكريسهما، لحساب العالم الجديد والرعية السماوية للراعي الصالح، يقف فيها الأسقف نائباً عن العالم والخليقة العتيقة، يُصلِّي ويتوسَّل من أجل فداء المادة والإنسان معاً اللذان أسقطهما آدم بخطيته وورَّث طبيعته الساقطة لكل إنسان ولكل العالم. يقف الأسقف يجاهد مع الله باسم ابنه الوحيد المحبوب من أجل خلقة جديدة، هو الذي أخرجها إلى الوجود بمعموديته في الأُردن أول ما استُعلنت، وعلى الصليب والقبر والقيامة
آخر ما استُعلنت، كعناصر جديدة دخلت العالم لتجدِّده وتخلقه جديداً في اسمه واسم أبيه الصالح والروح القدس. والأسقف حينما يقف يقدِّم الصلوات والتشكرات لله خالق الجميع بيسوع المسيح ابنه، يقف بنفسه كخليقة حرَّة، حرَّره المسيح الحق بالحق، فصار حرًّا يتشفَّع عن ما ومن لا يزال عبداً مسخَّراً للعالم والشيطان. لتصير المادة ويصير الإنسان حرًّا بالمسيح وفي المسيح، ويصير الماء والإنسان معاً على طبيعة فائقة ذات صلة مباشرة بالله في المسيح والروح القدس. وكأنما يُدخلنا الأسقف بصلاته وهو يُقدِّس الماء والإنسان إلى الفردوس، حيث تُستعلن الطبائع على أصلها الأزلي يوم خلقها الله في جوهرها الطاهر المقدَّس الخارج من يد الله.
والأسقف يذكر في صلاته كل أعمال الله الخلاصية، مِن تجسُّد وفداء وقيامة وحياة جديدة أبدية مخلوقة بنفخته من الماء والروح، وتوسُّله هذا ذو فاعلية محبوبة في عين الله والمسيح، لأنه اعتراف بالفضل والشكر وذكر مراحم ونعم استعاد بها الله طبيعة الإنسان التي فسدت وانحطَّت وقاومت الله وأهانت الاسم وجدَّفت عليه. وها هو الأسقف يذكر كيف أعلن الله رحمته واستعاد ملكوته بعد أن رفض الإنسان الحياة الأُولى والمكرَّمة جدًّا مع الله، وانحدر بها إلى الخطية فأوقع نفسه والخليقة معه عن اضطرار تحت عبودية الشيطان للتخريب والهلاك، وكيف استعاد الله الطبائع الأُولى إن في الإنسان أو في الخليقة، الأمر الذي صار يوم أن تجسَّد الابن الوحيد مرسَلاً من الله الآب، وفدى الإنسان بصليبه وذبيحة نفسه وأقامه معه لحياة جديدة أبدية، يحياها بحضرة الآب والابن وبنعمة الروح القدس. والماء بعد أن كان للموت والهلاك وعبودية الشيطان استُعلن بطبيعته الجديدة أول ما استُعلن في الأُردن بمسحة الروح القدس، ثمَّ من الجنب المثقوب على الصليب والجسد قد مات ليُعلن انبثاق الحياة في الماء بعد موت. ثمَّ نزول الروح القدس على الماء في جرن المعمودية بصلاة استدعاء الأسقف ليمسحه الله بالقوة ليأخذ الإنسان شركته الجديدة مع الخالق. ويرشم الأسقف الماء بالزيت بعلامة الصليب ليكون مرعباً للأرواح الشريرة، ومن هنا جاء اسم الاكسورسزم في الطقس، أي صلاة إخراج الأرواح النجسة من المادة والإنسان، بعد أن كانت المادة وخاصة الماء مأوى للأرواح الشريرة، وكان الإنسان نهباً هو الآخر للأرواح الشريرة. والآن بفداء الإنسان فُديت المادة بعربون الروح القدس إعداداً لفداءٍ كامل في يوم الفداء.
وبعد أن تقدَّس الماء برسم الصليب ومسحة الزيت صار رمزاً لمجد الله وحضوره وبدء الشركة معه كما حقَّقها المسيح بتجسُّده وصليبه وقيامته، وكما حقَّقها المسيح في حضوره في خبز الإفخارستيا وكأس الخمر، وصار فيها وبها شركة حقيقية في المسيح والله: » مَنْ يأكل جسدي
ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه «(يو 56:6). وكما كان نزول الروح القدس على المسيح إيذاناً بافتتاح زمن الخلاص في شخص المسيح، كان نزول الروح القدس على التلاميذ والماء في معمودية يوم الخمسين إيذاناً بافتتاح زمن الخلاص في أشخاص الرسل باسم المسيح، كما هو الآن في استدعاء الأسقف للروح القدس على الماء في جرن المعمودية باسم المسيح لبدء زمن الخلاص لشخص المعمَّد. والشعب كله شهود لهذا، يؤازرون بالصلاة. فكان طقس مسحة الزيت في الماء وفي المعمَّد أقوى ما عبَّرت عنه الكنيسة لعمل الفداء والخلاص الذي أكمله المسيح على الصليب وبالقيامة، الذي كان قد حفظه المعمَّد بتلقين الأسقف عن ظهر قلب وآمن وعلى إيمانه اعتمد فعُمِّد. فكما يأكل الإنسان الخبز والخمر المتحوِّل فيأكل جسداً ويشرب دماً للمسيح، هكذا وبالبدء اعتمد فعُمِّد بماء المعمودية والروح القدس فقبل الشركة والعضوية في جسد المسيح. ولكن هذا وذاك بالسر وليس بالاستعلان، أي على مستوى عمل الروح القدس الخفي غير المنظور. ولهذا كانت المعمودية هي السر الأول في الكنيسة، أمَّا الاستعلان فهو مؤجَّل إلى يوم الفداء هناك في نهاية زمن العالم وكل ما فيه، عندما تفنى الطبيعة المادية وتستعلن حقيقتها في الله!
زيت الاكسورسزم:
بعد تقديس الماء يدهن الماء ويدهن المعمَّد أيضاً بزيت الزيتون الساذج – مسحة زيت الاكسورسزم – ثمَّ يقول هذه الصلاة:
– صلاة سيرابيون أسقف تمي من أجل مسحة الزيت للذين يرغبون أن يعتمدوا([3]):
(دهن الزيت للجسد بأعضائه قبل المعمودية).
+ [يا سيِّدي محب البشر ومحب النفوس (حكمة 26:11) العطوف وكثير الشفقة الإله الحق. نحن ندعوك تبعاً وطاعة لوصاياك التي لابنك الوحيد القائل: مَنْ غفرتم خطاياه تُغفر له (يو 23:20). ونحن نمسح بمسحة الزيت هذه أُولئك المتقدِّمين لهذا الميلاد الجديد الإلهي، متوسِّلين إليك أن يعمل فيهم ربنا يسوع المسيح للشفاء ولقوة تمنحهم العافية، ولكي يستعلن لهم نفسه بمسحة هذا الزيت، ليعافي نفوسهم وأجسادهم وأرواحهم من كل أثر للخطية والأخطاء والانحرافات التي من الشيطان، وبنعمته يوفِّر لهم الغفران حتى يموتوا عن الخطية فيحيوا للبر (1بط 24:2)، ويُخلقوا من جديد بهذه المسحة ويتطهَّروا بهذا الاغتسال ويتجدَّدوا بالروح القدس (أف 23:4)، ليكونوا من الآن نائلين النصرة ضد كل قوى المضاد والغش الذي في هذا العالم الذي يطغي عليهم، حتى يرتبطوا ويتحدوا مع الرعية التي لربنا ومخلِّصنا
يسوع المسيح، لأن به لك المجد والقوة في الروح القدس إلى جميع دهر الدهور آمين].
الروح القدس والحُلَّة البيضاء:
بعد دهن البدن كله بكل أعضائه بزيت الزيتون، فإن المعمَّد يغطس في الماء ثلاث مرَّات ويقوم ليكتسي الروح القدس لمَّا يكتسي الحُلَّة البيضاء التي تُدعى عند الآباء بثياب البر والحُلَّة المضيئة وحُلَّة العُرس الملكي كما يقول ذهبي الفم([4]).
ويقول علماء الليتورجية([5]) إن هذا الطقس من أكثر الطقوس قدماً، وهو يحتل مكانة هامة في شرح طقس المعمودية عند الآباء القدامى – فهو الذي يعطي المعمودية تأثيرها وقوتها وفاعليتها. فالحُلَّة البيضاء رمز النقاوة الروحية، فهي » رداء البر «(إش 10:61). فالاكتساء بالروح ليس هو رمزاً ولكنه جوهر ليتورجية التعميد، والحُلَّة تستعلن البر الأبدي. فحالة الانحلال المسيحي الآن والانقسامات والمحنة الأخلاقية ذلك كله هو بسبب غياب الروح القدس. فالكنيسة الأُولى كانت تعيش في ظل عمل الروح القدس لجمع الأعضاء الواحدة في الكنيسة، والحُلَّة البيضاء بمثابة الأفود البيضاء الكتَّانية التي كان يلبسها داود للتكلُّم مع الرب واستشارته (2صم 14:6؛ 1صم 7:30). فهي تُدعى الحُلَّة الملوكية والكهنوتية والنبوية، وهو تحقيق لقول ق. بطرس: » وأمَّا أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أُمَّة مقدَّسة شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب «(1بط 9:2). فهنا إشارة واضحة لسرّ المعمودية. كذلك قال سفر الرؤيا: » وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه «(رؤ 6:1)، كما يُدعى أيضاً ثوب النبوَّة: » وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام «(يؤ 29:2)، » وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أسكب من روحي فيتنبَّأ بنوكم «(أع 18:2). ليس نبوَّة رؤية المستقبل بل استعلان الإنجيل في الحاضر الزمني.
ختم الروح القدس:([6]) sfrag…j
صلاة من أجل المسحة (الميرون) التي يُمسح بها الذين اعتمدوا: (دهن الميرون المقدَّس):
+ [يا إله القوات معين كل نفس تلتجئ إليك تحت يد ابنك الوحيد القوية، ندعوك أن تعمل في هذه المسحة
بطاقة إلهية سمائية، بالقوة الإلهية غير المنظورة التي لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، حتى أن الذين اعتمدوا يمسحون بها بعلامة الختم التي للصليب المقدَّس الذي لابنك الوحيد، ذلك الصليب الذي يهرب وينهزم أمامه الشيطان وكل قوة مضادة، حتى أن هؤلاء الذين وُلدوا ثانيةً وتجدَّدوا بغسل الميلاد الثاني (تي 5:3) يصيروا شركاء عطية الروح القدس، مصونين بهذا الختم، راسخين غير متزعزعين (1كو 58:15)، غير مصابين ولا مطغي عليهم، خاليين من كل عنف أو مكيدة في صدق الإيمان وملء معرفة الحق، منتظرين الرجاء السماوي الموعود به للحياة الأبدية التي لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، الذي به لك المجد والقوة الآن وإلى كل الدهور آمين.]([7])
ويقول بولس الرسول: » ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله «(2كو 21:1). هذه الآية هي في الحقيقة تعقيب على طقس التثبيت الذي أخذوه في سر المعمودية لمَّا اعتمدوا بعد أن آمنوا. فبعد دهن الزيت العادي والتغطيس في الماء والخروج من الماء ولبس الحلَّة البيضاء، فالمولود جديداً يُمسح بالميرون، وهو جزء هام من سر المعمودية وله قيمة هامة في الإيمان كما رآه بولس الرسول عاليه (2كو 1: 21و22، أف 13:1) وعند الآباء الأوائل، وهو يُدعى cr‹sma أي مسحة (1يو 2: 20و27). ومنها جاء اسمنا كمسيحيين أي ممسوحين بالروح القدس. فهي نعمة ملازمة للحياة وهي تحقيق لفعل المعمودية. ولكن ليس هناك أي فصل بين المعمودية والحلَّة البيضاء ودهن الميرون المقدَّس للختم. فإذا كانت المعمودية هي عطية وهبة غفران الخطايا والتجديد الخلقي أي الميلاد الثاني بواسطة فعل الروح القدس، ففي التثبيت تستلم النفس من الداخل الموهبة الشخصية للروح القدس للسكنى الدائمة في حياة المؤمن.
لذلك فسرّ التثبيت هو الذي يعطي للمعمودية فاعليتها في الحياة الداخلية للانفتاح على الإيمان المسيحي. والروح القدس هنا له أثر اسخاتولوجي أي له فعله المستقبلي في حياة الإنسان. والتثبيت هو نفسه كان بوضع اليد الرسولية، وهو واضح جدًّا في معمودية أهل السامرة الذين لم يُمنحوا الروح القدس، إلى أن وصل القديسان بطرس ويوحنا ووضعا عليهم الأيادي (الرسولية). والميرون الذي هو مسحة الزيت والعطور الموروثة في الكنيسة من أيام الرسل بل والمسيح (أطياب التكفين) صار هو عوض اليد الرسولية بل يد المسيح! فالتثبيت ملازم للمعمودية، ويُقال إن المعمودية تهب الروح القدس وهذا خطأ، ولكن في الحقيقة هو وضع اليد أي التثبيت. وفلسفة المعمودية تقول إن
الموعوظ يُعمَّد بالماء ليُمسح بختم الميرون. كما يُدعى سر التثبيت – الذي يهب الروح القدس شخصياً وليس عطية منه – بأنه تجديد يوم الخمسين. فالذي نزل على المسيح في الأُردن نزل على التلاميذ يوم الخمسين وهو الآن ينزل على المعمَّدين. فكما أن الروح القدس كائن في المسيح، هكذا يكون كائناً في المسيحي، لأن المسيح يوصي وينبِّه أن الروح القدس » يأخذ مما لي ويستعلنه لكم (يخبركم) «والقول: “يخبركم” ترجمة قاصرة لا توفي المعنى (يو 16: 14و15).
وحينما ينال المعمَّد ختم ميراث الملكوت يشتهي في الحال الملكوت ويتطلَّع إليه بكل قواه، لأن الختم يوصِّله سرًّا بالملكوت، لأن الروح القدس الذي نناله في الختم هو عربون يوم الفداء (أف 30:4)، وعربون الميراث المقتنى لمجد الله (أف 14:1). لذلك فهو من الناحية الداخلية يُحسب القوة السريَّة التي تدفعنا للتوبة والعودة السريعة إلى الله والمسيح، وهو ينبوع التقديس فينا، والنعمة التي نحن فيها مقيمون كقول بولس الرسول (رو 2:5)، وهو استعلان الثالوث الذي نحيا في شركته كقول ق. يوحنا في رسالته الأُولى (1يو 3:1)، وهذا هو الروح الساكن في هياكلنا (1كو 19:6) المحسوبة أنها هيكل الله (2كو 16:6) غير المصنوع بيد. لذلك يرتاح المسيح فينا ويحيا ويهبنا سلطان ملوكيته وكرامة كهنوته ونعمة بنوَّته، وقد ختمنا المسيح بالروح لنكون ذبائح لحسابه، ذبائح هيكلية معدَّة للذبح على مذبحه الناطق السمائي.
دخول الملكوت والباب المغلق:
وبعد ختم المعمَّدين وهم متسربلين بالحلل البيضاء، والشموع مضاءة في أيديهم، يقودهم الأسقف ومعه الكهنة الذين خدموا المعمودية – حيث يقف الشعب كله خارج باب الكنيسة المدعو بالباب الملكي أي الرئيسي وهو مقفل بانتظار وصول زفَّة المعمَّدين اللابسين الحلل البيضاء، ذلك قبل إقامة الإفخارستيا التي للقيامة – وكانت مسيرة المعمَّدين هامة لأنها قمة سر المعمودية، وكانت الزفَّة تبدأ من جرن المعمودية في شكل دائرة تدور حول بركة المعمودية وهم يرتِّلون ما قاله ق. بولس في (غل 27:3): » لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح « ثمَّ تتجه المسيرة بقيادة الأسقف تجاه باب الكنيسة الملكي المقفل والشعب متجمهر بانتظار زفة المعمَّدين، وبوصولهم يتركونهم هم الذين يفتحون الباب بهتاف الشعب الأنتيفونا التي تنتهي بصرخة “المسيح قام”. والشعب الآن في هذه الأيام يسير في الزفة دون أن يعرف معناها، بل ولا تزال بعض الكنائس تقيم صورة باهتة لذلك عند باب الهيكل. وبدخول المعمَّدين يشترك الشعب في زفتهم وهم يدورون داخل الكنيسة في دائرة. ولكن كانت زفَّة المعمَّدين هي الأهم التي تدخل كجزء حي في ليتورجية
عيد القيامة وبالتالي ملكوت الله! باعتبار الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض. وروح الزفة أصلاً هو بلوغ لحظة “المسيح قام” الذي يعني شركتهم في قيامة المسيح بعد كل طقوس المعمودية والبصخة المقدَّسة. أمَّا تناول المعمَّدين لأول مرَّة فكان هو التزوُّد بطعام الحق الذي لملكوت الله.
وقد توقَّف الطقس وضاعت معالمه وضاع معهما مفهوم ليتورجية القيامة وزفَّة الشعب والباب المغلق الذي كان يُمثِّل انغلاق باب الملكوت في وجه آدم وبنيه لحظة خروجه من فردوس الله. وكان دخول المعمَّدين لابسين الحلل البيضاء وممسكين بالشموع المضاءة إشارة إلى دخولهم العرس الملكي المعد بالحلل الرسمية للمدعوين، ذلك في ضياء نور العريس. وعند انفتاح باب الكنيسة كانت تبدأ ليتورجية القيامة بقداس العيد. وكما يقول ق. غريغوريوس النيسي عن هذه الليلة المبهجة إنها أكثر بهاءً من النهار بشمسه([8]). وعند تناول الإفخارستيا لأول مرَّة يُحسب هذا نهاية طقس سر المعمودية!
رأينا في هذا الطقس المهيب الدور الأساسي الذي كانت تقوم به المعمودية في ليتورجية عيد القيامة، وقد كان تحديد هذا الموعد التاريخي لإقامة المعمودية هاماً للغاية لأنه واقع في مفهوم “الزمن الجديد” بالنسبة للكنيسة وكل الشعب، الذي من أجله يُقام العيد باحتفاله العالمي في كل أنحاء العالم فيستوعب الشعب معنى العيد كاستعلان لسر الخلقة الجديد. وكان السر يُمارس ليلاً أي من وسط الزمن الميت المظلم ليكون معنى المعمودية واضحاً ومؤثِّراً في الانتقال من الزمن الميت إلى أنوار القيامة، حيث كانت تُضاء الكنيسة من أجل ذلك بأضواء فوق العادة. فكان يُدعى عيد القيامة بعيد الأنوار وفي حقيقته عيد الاستنارة وإعادة انفتاح الطريق الذي كرَّسه المسيح لنا حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده (عب 20:10) وبدم الأقداس للدخول إلى الملكوت وحياة الدهر الآتي! حيث كان يواجه المتعمِّد بإعلان “المسيح قام” الذي هو التفسير المتجِّدد للمعمودية.
والآن ابتعد فكر الشعب نهائياً عمَّا كان يجري في الطقس، والطقس كان جزءًا هاماً مشروحاً لمضمون القيامة وقوتها وما تحمله من المعاني كما رأينا في هذه المقدِّمة التفسيرية.
وهكذا قاست المعمودية وفلسفتها الروحية ومعها الكنيسة أيضاً والشعب من غياب هذا الطقس الذي يحوي مفردات الإيمان وتفسيره عملياً.
ولكن شكراً لله أنه لا تزال الكنيسة تحتفظ في كنوزها بكل ما كان يُجرى في هذا الطقس، ولا
شيء يمنعها بأن تقوم بتدريسه حتى يعيش المعمَّدون – الذين اعتمدوا في صغرهم – هذه الحقائق والمفهومات. لأن هذا يُحسب أمانة في عنق الكنيسة وأمانة في عنق كل مَنْ تعمَّد!
نستخلص من الإنجيل والآباء توصيفاً للمعمودية كالآتي:
1 – هي مثال الفلك – تخلِّصنا – بسؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح (1بط 21:3).
2 – هي ختم أو تذكرة شخصية أو شهادة ممنوحة لمواعيد رسمية.
3 – المعمودية لها وجهان: وجه هو النعمة المحسوسة ظاهرياً، ومنافع روحية داخلية.
4 – المعمودية وعد بمغفرة الخطايا (أع 16:22) كما تمَّ لبولس شخصياً. والمعمودية وعد بالميلاد الثاني (يو 5:3) وتجديد الروح القدس (تي 5:3) بالموت عن خطايا سالفة لحياة عتيقة خاطئة وابتداء لحياة جديدة ليس فيها خطية (رو 11:6).
5 – هي تطعيم في المسيح بشركة الاتحاد فيه (غل 27:3).
6 – هي اتحاد في المسيح: في موته ودفنه وقيامته (رو 6: 3-6). مع الدخول في علاقة جديدة مع الله: عهد بنوَّة (غل 3: 26و27). مع عطية الروح القدس (1كو 13:12) وعلاقة انتماء للكنيسة (أع 41:2) مع هبة الخلاص (مر 16:16، يو 5:3).
ومن هذه الشواهد الإنجيلية والمثيل لها استطاع اللاهوتيون أن يستخلصوا الآتي:
1 – المعمودية هي علامة وختم تطعيمنا في جسد المسيح واتحادنا فيه لمغفرة الخطايا وتجديد الخلقة بالميلاد الثاني ونوال التبني للحياة الأبدية. حتى أن الماء في المعمودية هو صورة تمثِّل دم المسيح الذي رفع عنا كل خطايانا وقدَّسنا بالروح القدس في مقابل أعدائنا الشياطين والخطية وفساد طبيعتنا البشرية.
2 – فالمعمودية تمثِّل غسل الخطايا بموت وقيامة المسيح.
3 – المعمودية تشير إلى غسل دم المسيح مع استحقاقات موت المسيح عند الآب من أجلنا، من جهة موت الخطية والإنسان العتيق وقيامة حياة جديدة. فكما يغسل الماء الجسد هكذا المسيح بدمه يغسل النفس من الخطايا بالروح القدس، حتى أننا نجد في رفعه للخطايا ليس فقط مسامحة ولكن إخلاءً حقيقياً من الفساد وسطوة الخطية وبداية حياة جديدة علينا أن نحياها.
4 – ولكن بدون إيمان عملي في الأقوال والسلوك تصير المعمودية بدون قوتها، فبدون إيمان لا
يحدث تجديد ولا يخلص أحد.
5 – المعمودية ختم عهد بين المسيح الذي قدَّمه للخطاة في موته وقيامته وبين الخطاة إذ قدَّموا حياتهم الماضية وعزمهم على حياة جديدة. فإذا تخلَّى الخطاة عن عهدهم داسوا ليس معموديتهم فقط بل وقيمة موت المسيح وقيامته وكأنها ليست لهم. إنها خيانة للمعمودية باسم المسيح وخيانة للإيمان بالمسيح في موته وقيامته.
6 – المعمودية علامة تبعيتنا للمسيح وشهادة عامة منطوقة بطاعتنا بشروط المعمودية وكل وعود التغيير فيها، وهي فعل انتماء للمسيح يتحقَّق بواسطة الشخص في حياته الخاصة والعلنية.
7 – الفرق بين الواقع والرمز في المعمودية يظهر في علاقتنا بالكنيسة المنظورة وغير المنظورة، أي الكنيسة كمجتمع قديسين في السماء.
8 – المعمودية عملية خضوع بإحناء الرأس، والمسيح قد أعطى المثال واعتبره تكميلاً لكل برٍّ. فالمعمودية هي طاعة علنية وشهادة.
9 – التجديد الذي يحدث في المعمودية يشهد له المعمَّد نفسه بتجديد الإيمان والسلوك. فالمعمودية تبدأ حيث يكمُل الإيمان، فإذا كمل الإيمان صحَّ الخلاص وعبَّرت المعمودية عنه.
([1]) E.C. Whitaker, Documents of the Baptismal Liturgy, p. 74.
([2]) Ibid., pp. 74,75.
([3]) Ibid., p. 76.
([4]) John Chrysostom, Baptismal Instructions, pp. 67,71,102,103, etc …
([5]) Bible Liturgy, ch. 2.
([6]) دُعي منذ أيام الرسل بالمسحة (1يو 20:2) cr‹sma وختم العهد الحامل لرائحة المسيح الذكية (2كو 15:2). وهناك صلاة للمعمودية في كتاب “المراسيم الرسولية” تربط مسحة الميرون برائحة المسيح الذكية Apostolic Constitutions, VII, 44. والذي دعاه “سر التثبيت” هم اللاتين (وهذا للعلم).
([7]) Whitaker, op. cit., p. 76.
([8]) Cited by A. Schmemann, of Water and the Spirit, p. 113.
أهمية المعمودية وعظم قيمتها | كتب الأب متى المسكين | سر المعمودية وسلطان المسيح |
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية | ||
المكتبة المسيحية |