بدء حكم أنطيوخس إبيفانس الرابع وبوادر الثورة المكابية

(١٧٥-١٦٦ق.م)

الأسباب الأُولى والأساسية التي أدَّت إلى الثورة اليهودية هي النراع القائم بـين شـيعة الأتقيــاء “حــسيديم” المستقيمي الرأي والمتمسكين بالدين والتقاليد(وهم جماعة معتزلة كانوا مدقِّقين جداً في اتباع الوصايا)، والشيعة المثقَّفة اليونانيـة والتي اصطبغت بصبغة تختلف تماماً عن باقي اليهود في الفكر والـدين والسياسة، والتي أرادت أن تفرض الرقي المدني اليوناني في الـبلاد .
وإن كانت مظاهر الثورة لا تشير إلى وجود العنصر الديني واضحاً، إلاَّ أن الدوافع الأصيلة العميقة كانت التعصب للتقاليد الموروثة. كذلك كـان النراع القديم الموروث بين بيت “أونياس” أي رؤساء الكهنة، وبيت “طوبيا” أي رؤساء الضرائب، من العوامل الفعَّالة التي زكَّت الثورة وإنما بطريق غير مباشر.
كما أن انقسام بيت “أونياس” وبيت “طوبيا” إلى سـلالات سـورية ومصرية متنافرة()٦( من تأثير حكم البطالسة وحكم السلوقيين وتوطُّن اليهود في مصر وسوريا ) كان من الأسباب التي زادت من حدة الثورة .

كان السبب الأول للثورة هو رفض جماعة “الأتقياء” – حسيديم – حـق الحكام اليونان، أي أنطيوخس إبيفانس (١٧٥-١٦٤ق.م)، في تعيين رؤساء الكهنة حتى ولو كان من الوجهة السياسية المحضة بصفتهم رؤساء مـسئولين أمام الولاة عن أحوال الشعب السياسية. وكان العمل الإيجابي الذي قاموا بـه للتحدي هو رفضهم “منلاوس” من أن يكون رئيساً للكهنة بعـد أن عيَّنـه أنطيوخس خلفاً لرئيس الكهنة “ياسون ” (الذي كان مُعيَّنـاً أيـضاً سـابقاً بواسطة أنطيوخس، والذي هرب إلى بلاد العمونيين وأقام هناك )، باعتبـار أن رئيس الكهنة يتحتَّم أن يكون ويتعيَّن ويُمسح من قِبَل االله لا من قِبَل الناس.

ومما زاد من إثارة “الأتقياء” هو أن منلاوس لم يكن مـن بيـت رئـيس الكهنة، وكان قد اشترك في مقتل أونياس رئيس الكهنة القانوني السابق . وهذه الحادثة يشير إليها دانيال النبي (٢٢:١١،٢٦:٩). كما أنهم اتهموه بـسرقة أواني الهيكل (٢مك٣٩:٤-٤٢).

وهنا تدخلت الشيعة – اليهودية اليونانية – لمناصرة أنطيوخس في إعطائه الحق، محاولة منهم لكسب هذه الفرصة للانتصار إلى التجديد اليوناني ضـد التعـصب والضيق الفكري التقليدي الذي انتقل من الأمور الدينية إلى الأمور المدنية، مما كان  يهدَّد في نظرهم رقي الأُمة اليهودية .

وبدخول الشيعة اليهودية اليونانية في شبه محالفة مع أنطيوخس بهذه الـصورة الفعَّالة، بلغ الاحتكاك الفعلي بين الشيعتين أقصاه فاندلعت نار الثورة.

أمَّا أنطيوخس إبيفانس، فبسبب هذه المـساندة مـن جانـب “اليهـود اليونانيين” بدأ يتدخل بأقصى قدرته ونشاطه لجعل اليهود كباقي الشعوب التي تخضع له من حيث أوضاعها وعلاقاتها الداخلية سواء كانت دينية أو سياسـية ( ١مك١: ٤١، ٤٢ ). لأنه من جهته هو الآخر كان يشعر بسلطان وشـرعية ملوكيته على مستوى التقديس الإلهي كما يشعر اليهود تماماً من جهة رئاسـة كهنوتهم وعلى نفس المستوى . وإن كان لابد من التحدي فلابد من استخدام القوة حتى الإبادة (١مك ١ :٣٠-٣٢).

وأول من أعلن المقاومة لرد هذه المحاولة من جانب أنطيـوخس إبيفـانس وشيعة اليهود اليونان الموالية له هو متتياس الذي من قرية مودين بجوار اللـد، وهو رئيس عائلة تسمَّى “هاسمون” ( وتنطق بالعبرية “حشمون”) التي اشتق منها كلمة “هـاسمونيين ” الذين دُعوا بالمكابيين. وقد بدأ المقاومة بأن ذبح رسول الملك الذي كان يأمر بتقديم ذبيحة للوثن على مذبح للوثنيين، ونادى الشعب، لكي كل من كان فيه أمانة للناموس أن يتبعه إلى الجبل والمناطق المحيطة لتنظيم المقاومة (١ مـك٢ :١٩ –٢٢ )، وقد استجاب الشعب لندائه بصورة غامرة ( ١مك ٢ :٢٣ -٢٨).

ولكن بسبب شيخوخة متتياس أن تسلَّم منه ابنه يهوذا مقاليد القيادة، وهو الذي سُمَّي “المكابي” أي “المطرقة”

 وفي سفري المكابين الأول والثاني شرح للأسباب التي دعت إلى الثورة. كما أن المؤرَّخ يوسيفوس يعلن عنها بدقة ( Antiq. xii,V.).

أمَّا وصف العنف الذي استخدمه أنطيوخس في إخضاع الثائرين في البداية، حيث أشعل النار في المدينة وهدم بيوتها وسبى جزءاً كبيراً من شعبها، فيـصفه سفر المكابيين الأول١( :٣٠ -٣٢).

وهنا استظهرت الشيعة اليهودية اليونانية التي صارت مكروهة جـداً مـن “الأتقياء”، وقد وصفوهم كأنهم غرباء وأعداء؛ بل كأنهم من أُمة أخرى غير أمتهم: «أمة خاطئة متعدية للشريعة.» ( ١مك ٣٤:١ ).

وهذه الشيعة اليهودية اليونانية استخدمت أيضاً العنـف لحمايـة نفـسها فأراقت الدماء حول الهيكل وداخله، فتعطَّلت مراسيم العبادة، وهرب كثير من اليهود إلى الجبال (١ مك١ :٢٥-٤٠ ).

ولكن كان طابع الثورة حتى الآن يخلو من الصدام الديني بين أنطيـوخس واليهود، أو بين اليهود الأتقياء واليهود اليونانيين . غـير أن انحـراف اليهـود الأتقياء ضد الأوضاع السياسية التي لليهود اليونـانيين إلى الوضـع الـديني الصرف، وإعلان العصيان على أساس ديني، جعل أنطيوخس إبيفانس يتحدَّى الديانة اليهودية علناً . فمنع إقامة الذبائح داخل الهيكل، وألغى نظام الـسبت، ومنع الأعياد، وأوقف مراسيم الختان، وإمعاناً في التحدي أقام هيكلاً للأوثـان ومذابح للأصنام وقدَّم عليها حيوانات من المحسوبة نجسة عند اليهـود، وأمـر بإعدام الأسفار المقدَّسة، وعقوبة الموت للمخالفة .

وختم هذه الفظائع بأن أقام مذبحاً للإله “زيوس” فوق المذبح النحـاس في الهيكل نفسه (وذلك في سنة ١٦٧ق.م )، فكان هذا إشارة إلى أول رجـسة الخراب التي أشار إليها دانيال ( ١١: ٣١و٣٢)، وهـي غـير “رجـسة الخراب” التي أشار إليها السيد المسيح في (مت ١٥:٢٤) كعلامة للقـضاء الـذي سيحل بأُورشليم واليهود، هذا الذي تمَّ في سنة ٧٠ بعد الميلاد، أي بعد صعود المسيح بحوالي ٣٧ سنة تقريباً .

وهنا يبلغ أنطيوخس إبيفانس إلى أقصى اعتزازه وتعظمه كمحطِّم للديانـة اليهودية وعدو لإلهها، ويصفه دانيال في نبوته بدقة: «ويفعل الملك كإرادتـه ويرتفع ويتعظَّم على كل إله ويتكلَّم بأمور عجيبة على إله الآلهة (يهوه) وينجح إلى إتمام الغضب لأن المقضي به يُجرى.» ( دا٣٦:١١ ).

 وقد خضع له كثير من اليهود، ولكن كثيرين قاوموا وماتوا ( ١مـك١ :٤١-٦٤). وقد اشتد لهيب الثورة ودارت الدائرة على اليهود اليونـانيين فقُتل منهم كثيرون، وهربوا إلى البلاد المجاورة وكثيرون هـاجروا إلى الأُمـم البعيدة.( ١مك٤٤:٢  ).

أمَّا “الحسيديم” الأتقياء فظلوا يتقوون جداً من يوم إلى يوم، وقد ذكـرهم دانيال ووصفهم في نبوته: «الشعب الذين يعرفون إلههم» وميَّزهم عن الشيعة اليهودية اليونانية التي وصفها بأنها “المتعدون على العهد”:
+ «والمتعدُّون على العهد يغويهم بالتملقات، أمَّا الشعب الذين يعرفـون إلههم فيقوون ويعملون، والفاهمون من الشعب يعلِّمون كثيرين، ويعثـرون بالسيف وباللهيب وبالسبي وبالنهب أياماً.»  ( دا١١: ٣٢و٣٣).

واسترد “الأتقياء” وبقية اليهود الأمناء للشريعة والنـاموس قـوتهم، وحطَّموا الهياكل الوثنية، وختنوا الأطفال بـالقوة، واسـتردوا سـلطان الناموس.(١مك ٢: ٤٣ -٤٨).

وسلَّم متتياس قيادة الثورة لأولاده، وهم “: سمعان” وجعله المشير العـام، “و يهوذا” المدعو بالمكابي أي المطرقة وجعله القائد . وتوفِّي متتياس في قريـة مودين التي بجوار اللد سنة ١٦٦ق.م(١مك ٢ :٤٩ -٧٠).

فاصل

كما يمكنك أن تقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى