نوح البار
لقد وصل فجور المدينة المتزايد في أيام نوح إلى مرحلة خطيرة. وندم الله – الذي خلق الإنسان – لأجل تلك الحضارة السائدة؛ ولم يرض الله على الزواج بين أبناء الله وبنات الناس. وإزداد الفساد والشر والعنف لدرجة أن كل خطط الإنسان وتدابيره كانت شريرة؛ ويظهر أسف الله على خلقة الجنس البشري في خطته التي أعدها لسحب روحه من الإنسان؛ وقد سبق حكم الدينونة على الجنس البشري، فترة إنذار بلغت مائة وعشرين سنة.
لم يكن ممكنًا لله القدوس أن يطيق الشر الذي كثر على الأرض، ولا يتحمل الإلتقاء مع النفس التي خلقها كمسكن له أن يرى تصورها شريرًا كل يوم، لهذا حزن أنه صنع الإنسان في الأرض.
وحينما يقول الكتاب: ” حزن ” أو ” تأسف قلبه ” أو ” ندم” لا نفهم هذه التعبيرات كإنفعالات غضب: إنما هي لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكى نفهم وندرك مرارة الخطية في ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنساني.
العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التي أعلنها الله من جهة البشر لا يتجاهل إنسانًا واحدًا يسلك بالبر وسط جيل شرير، إذ يقول الكتاب: “وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ.” (تك 6 :8) . لقد وجد نوح نعمة في عيني الرب الذي شهد له :” كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارًّا كَامِلاً فِي أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ.” (تك 6 :9). أما قوله :”في أجياله” فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين؛ إنما لو قورنا بما يقدمه أجياله من فساد : فالإنسان بره نسبي.
“وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلاَثَةَ بَنِينَ: سَامًا، وَحَامًا، وَيَافَثَ. وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ.” (تك 6: 10-12).
وأمر الرب نوح قائلاً له: “اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ، وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ بِالْقَارِ” (تك 6 :14).
وتتشابه القصة التي نحن بصددها مع ملحمة جلجامش : ” وحسب هذه الملحمة فإن جلجامش انطلق في رحلته للبحث عن الخلود ؛ وقابل اوتنباشتيم (اتراحسيس في النسخة البابلية) الذي منحته الالهة الخلود ؛ فروى أوتتنباشتيم قصة الطوفان لجلجامش وجاء في القصة أن الآلهة غضبت من البشر وآثامهم؛ (وفي رواية أخرى أن الآلهة غضبت من ضجيجهم) فقررت إفناءهم؛ وأثناء نوم أوتنباشتيم؛ أوحت له الآلهة بأن يبني سفينة ويضع فيها من كل صنف من المخلوقات زوجين اثنين لكي تستبدل الآلهة الخلق بخلق جديد. فامتثل اوتنباشتيم للأمر؛ ثم أرسلت الآلهة جميع أنواع العواصف وآفنت جميع المخلوقات وفي اليوم السابع نظر أوتنباشتيم حوله فرأى الشمس وقد نجا هو ومن معه من العواصف؛ ثم آرسل حمامة للبحث عن اليابسة وعادت الحمامة ثم أرسل سنونو فطار ثم عاد ؛ ثم أرسل غراباً فطار ولم يعد.
من حادثة قايين إلى الطوفان مازالت أمواج الخطية تزداد وتقوى إلى أن غمرت البشرية التي رفضت وصايا الله وأبت أن تستمع لكلامه (تك6: 5-13)، نفهم من هذه الكلمات أن الخطية التي بدأت فأدخلت شوكتها في قايين تفسد جميع الناس العائشين في زمن الطوفان.
فالطوفان؛ هو آهم حدث في تاريخ الكون بعد حادث الخلق وسقطة الإنسان الأولى. الطوفان نهاية عهد قد زال وبداية تاريخ جديد؛ فيه ماتت بشرية قديمة وماتت معها خطيئتها؛ وفيه عاشت ونمت بشرية جديدة أقام الله معها عهدًا جديدًا يثبت مدى الدهر. .في الطوفان تتجلى عدالة الله الذي يجازي البشر عن شرهم وفيه يظهر صلاح الله الذي يجازي نوحًا الأمين على عهده فيحميه من الموت.
ولذلك؛ لم يكن الطوفان كارثة عشوائية لكنه حدث نتيجة الفساد الأخلاقي الذي ساد المجتمع البشري وتماديه في الإنحطاط بسبب التزاوج الفاسد بين أبناء الله (نسل شيث) وبنات الناس (نسل قايين) فأنتج هذا الإختلاط؛ أجيال فاسدة وصلت إلى نقطة اللاعودة .. لولا أن الرب نظر إلى هذا الرجل الوحيد ” نوح” = نياح – راحة .. فكان البار الوحيد وسط هذا الفساد. فأعطاه وعدًا بنجاته وصمم له الفلك الذي يحمله هو وأسرته الصغيرة.
ويذكر الكتاب كمقدمة لحادثة الطوفان أنه “دَخَلَ بُنُو الله عَلَى بَنَاتٍ النَّاسٍ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادَا” وهنا تساءل هام: من هم بنو الله… ومن هن بنات الناس؟
تداولت أسفار اليهود المنحولة الحديث عن خطيئة جسدية بين الملائكة والبشر ولد على أثرها الجبابرة (على غرار زواج الآلهة بالبشر في الميثولوجيا اليونانية). وتلمح رسالة يهوذا (6-8) إلى خطيئة الملائكة الجسدية دون أن تذكرها بوضوح. ونسى الجميع ما قاله الرب يسوع ” لأَنهُمْ فِي الْقِيَامَةٍ لآ يُزوجُونَ ولا يَتزوَجُونَ ؛ بَلْ يَكونُونَ كملائِكة الله في السَمَاء” (مت 30:22).
تحدث ترتليانوس إلى نساء عصره فقال : “لستن في حاجة إلى التبرج والتزين لإرضاء الرجال إذ إن نساء أميات فظات قد وضعن البلبلة بين الملائكة”. ورآى القديس آمبروسيوس في هذه العلاقة بين أبناء الله وبنات الناس سببًا تخفيفيًا للزنى الذي وقع فيه داود (2صم 2:11) وقال: “هؤلاء الملائكة أبناء الله؛ قد أخطأوا فقيدهم الله في الظلمة وعاقبهم عندما أهلكهم في الطوفان.[1]
وهناك نظرية أخرى في هذه القضية تقول: إن أبناء الله هم الأمراء والنبلاء الذين اتخذوا من بنات الناس كل ما شاءوا لاستمتاعهم وإشباع رغباتهم. إنها خطية تعدد الزوجات والظلم الاجتماعي وسيطرة القوي على الضعيف واستغلاله الجنسي.” ويستند أصحاب هذه النظرية على الأدلة التالية:
- إن ثقافات الشرق الآدنى القديم وكذلك الثقافة المصرية كانت تؤمن بأن النبلاء والأمراء والحكام هم أبناء الآلهة؛ ففرعون هو ابن رع وكل من أتى منه له نفس الصفات.
- ” تُستخدم كلمة “إلوهيم” في الكتاب المقدس للإشارة إلى القضاة (خر 21 :6 ؛ مز82: 1 ،6): ولهذا فمن الممكن أن يكون أبناء إلوهيم” هم البشر الذين في موقع سلطة. وترجوم أونكلوس ترجم عبارة “أبناء إلوهيم” إلى “أولاد النبلاء”.
ولكن رفض الآباء هذه الآراء الغريبة؛. كما رفضوا الحديث عن خطية جسدية عند الملائكة: “أبناء الله هم أبناء شيث؛ وبنات الله هن بنات قايين”؛ ويعطي مار أفرام السرياني تفسير هنا فيقول: “كان آبناء شيث رجالاً أشداء لقربهم من الفردوس الأرضي وخيراته فأخذوا بجمال بنات قايين ولما اجتمعت القوة بالرذيلة امتلات الأرض فسادًا.”2]
وبمعنى آخر المقصود هنا الزواج المختلط بين مؤمنين وغير مؤمنين؛ النسل المبارك والنسل الشرير.
ويتحدث القديس أغسطينوس في كتابه “مدينة الله’ عن مدينتين إحداهما أرضية وأخري سماوية؛ الأولي تمثل جماعة الأشرار المرتبطين بالأرضيات؛ والأخرى جماعة المؤمنين المرتبطين بالسماويات؛ لذلك عندما تعرض للعبادة التي بين أيدينا رأي في زواج أبناء الله ببنات الناس الخلطة بين المدينتين؛ الأمر الذي يفسد مواطني المدينة السماوية. هذا الأمر حذرنا منه الرسول بولس بقوله: “لا تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟” ( 2كو6: 14، 15).
جاء تعبير”أبناء الله” الترجمة السبعينية “الملائكة”؛ بينما الترجمة الحرفية للعبرية “أبناء الآلهة””… لهذا يتساءل القديس أغسطينوس وهو يعتمد بالأكثر علي الترجمة السبعينية: هل يتزوج الملائكة بنساء من البشرة وإذ أجاب علي السؤال بشيء من الإطالة اكتفى بعرض النقاط الرئيسية في شيء من الاختصار:
آولاً: إن كلمة “أنجيلوس” في اليونانية تعني (رسول)» وكأن تعبير “ملائكة” هنا يشير إلي خدام الله؛ وكأن أولاد الله أو خدامه قد انشغلوا بالزواج بشريرات عوض انشغالهم بخدمة الله.
ثانياً: يقول القديس أغسطينوس أن في عصره ظهرت خرافات كثيرة بين الوثنيين تدعي اعتداء بعض الشياطين علي النساء بطريقة جسدية دنسة؛ الأمر الذي لا يمكن قبوله خاصة بالنسبة لملائكة الله. لهذا فإن قول الرسول بطرس: “لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ قَدْ أَخْطَأُوا، بَلْ فِي سَلاَسِلِ الظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَسَلَّمَهُمْ مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ،”(2بط 4:2) لا يعني سقوطهم في شهوات جسدية مع نساء بشريات؛ إنما سقوطهم قبل خلق الإنسان في الكبرياء.
ثالثًا: جاء التعبير في ترجمة أكيلا “أبناء الآلهة” وهو ينطبق علي المؤمنين الذين قيل عنهم: ‘”أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ.” (مز 6:82). بمعني آخر أن ما قصده الكتاب سواء ملائكة أو أبناء الآلهة إنما يعني أبناء شيث الذين كان ينبغي أن يعيشوا كملائكة الله وخدامه المشتعلين بنار الحب الإلهي؛ أو كآلهة؛ فإذا بهم ينجذبون إلي بنات قايين الشريرات لجمالهن الجسدي. بهذا اختلط الأبرار بالأشرار؛ وفسد الكل؛ فصارت الحاجة إلي تجديد عام لكل الخليقة خلال مياه الطوفان. لقد أعلن الرب عدم رضاه بقوله: “أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ”(تك 6: 7).
فالقديس أغسطينوس يتكلم عن نسخه سبعينيه في أيدي الوثنيين غيروا بها بعض الأشياء ولكن السبعينيه الأصليه وترجمة أكيلا أيضًا التي تتشابه مع السبعينيه كتبت أبناء الآلهة أو الإله وهو المقصود به نسل شيث وهذا يؤكد أن الرأي المستقيم عبر الأجيال أن كلمة أبناء الله هم نسل شيث ولكن بعض النسخ في أيدي الوثنيين غيروها لفكرهم الشرير إلى أبناء الملائكه.
“وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ.” (تك6 :5 ،6)؛ يقول القديس أغسطينوس عن حزن الله وتأسفه في قلبه فيقول: [إن غضب الله ليس
انفعالاً معكراً اصفاء العقل، ولكنه حكم بإيقاع العقوبة على الخطية. ففكر الله وإعادة تقديره للأمور هو أيضا منطقة غير المتغير الذي يغيّر الأشياء (ولا يتغير)؛ لأنه ليس؛ مثل الإنسان؛ يندم على أي شىء عمله؛ فصلابة قراره كل الأمور تتناسب مع علمه السابق والأكيد لكل الأشياء..].
عبّر الوحي هنا عن ندم الله وتأسفه لخلق الإنسان بصورة تشبيهيه؛ فجعل في الله عواطف البشر؛ وهو يعني بذلك أن الله لم يترك الخليقة وشأنها ؛ بل مازال يهتم بها؛ وهو إن غضب فلأن الخطية هي أكثر ما يؤذي ويضر الإنسان. ولكن الكتاب يذكر “لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ.” (عد 23 :19).
لقد ندم الله أنه عمل الإنسان؛ ولكن لم يُسمع قط أنه ندم لأنه خلّص الإنسان, وفداه بالصليب؛ مما يدل على أن ندامة الله لم تكن رفضًا للإنسان ولكن كرهًا للخطية الدخيلة عليه والتي شوهتٌ صورة الله فيه.
“فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ».” (تك 7:6). لاشك أن قرار الله بمحو الإنسان عن سطح الأرض؛ مع البهائم والدبابات وطيور السماء؛ لم يكن بالأمر الهين البسيط الذي يمكن أن يمر مرورًا عابراً دون آن يكون له صداه القوي في تاريخ البشرية ومغزاه العميق في مجرى حياة الإنسان.
فالطوفان هو أعظم كارثة عمومية شملت الأرض كلها ولا يمكن مقارنته بأي كارثة أخرى من كوارث الطبيعة وثوراتها مثل الزلازل والبراكين والأوبئة والفيضانات مهما عظمت؛ فهو يفوقها جميعا. بما لا يقاس إذ هو فناء كامل لكل الخليقة فيما عدا أسرة واحدة وأزواج معدودة من الطيور والحيوانات.
وكلمة ” فلك” في العبرية هي ” تبت” أي “تابوت” في العربية. وهو نفس الكلمة التي تُرجمت “سفط” (خر2 :5،3). ولم يكن الذلك سفينة بالمعنى المعروف. فلم تكن له جوانب مائلة ولا سارية؛ ولا قلوع؛ بل كان أشبه ببرج ضخم يطفو فوق سطح الماء؛ ويقاوم صدمات الأمواج. وبهذا الشكل كانت سعته تعادل مرة وثلث سعة سفينة بنفس الطول والعرض. كما لم يكن معرضًا للانقلاب. وكانت طوابقه الثلاثة مقسمة إلى حجرات. وكانت هناك كوى أسفل السقف مباشرة حول كل الفلك للتهوية والإضاءة. وكان له باب في إحدى جهاته (تك 6 :14-16).
وحتى متتصف القرن التاسع عشر لم تُبنَ سفينة تزيد أبعادها عن فُلك نوح. والأرجح أن نوحًا وأولاده استأجروا عددًا ضخمًا من العمال لمعاونتهم في بناء الفلك. وبطبيعة الحال لابد أن هذا المشروع استرعى انتباه العالم؛ وكان رفض العالم لإيمان نوح وتحذيراته؛ في أثناء المئة والعشرين سنة؛ التي أمهل الله فيها العالم. كان هذا الرفض هو
الأساس الذي عليه دان الله العالم (عب11: 7).
انتهى الطوفان ونجا منه فقط نوح وامرآته وبنيه الثلاثة ونساء بنيه؛ وعددهم جميعاً ثمانية أنفس.. نجا فقط الذين آمنوا بكلام الرب ودخلوا الفلك.
“”وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قَائِلاً: «اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. وَكُلَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَكَ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ: الطُّيُورِ، وَالْبَهَائِمِ، وَكُلَّ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، أَخْرِجْهَا مَعَكَ. وَلْتَتَوَالَدْ فِي الأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى الأَرْضِ». (تك8: 15-17). أعطى الله بركة لنوح و بنيه ليتناسلوا فيملأوا الارض لأن نوح هو بدء البشرية الجديدة بعد الطوفان…
يؤكد الله أن الإنسان رأس الخليقة وكان طعامه في ذلك الوقت هو النباتات لكن سمح له الله أن يأكل لحوم الحيوانات و الطيور أي أن الإنسان كان نباتيًا حتى الطوفان و لذا كان عمره طويلاً.
هبط نوح من الفلك على أرض خالية من البشر ولكن الله أعطاه وعدًا مطمئنًا؛ وهذا الوعد آو العهد يتضمن أربعة أجزاء:
- لن يحدث مرة أخرى طوفان مدمر مثل هذا.
- لن تُلعن الأرض مرة أخرى. إذَا ستسيرمسيرتها بحسب شرائع الطبيعة ولن تعرف الطوفان مرة أخرى.
- طالما بقيت الأرض؛ ستتعاقب فصول السنة حسب المنتظر.
- سيظهر قوس قزح عندما تمطر علامة للجميع على أن الله سيحفظ وعده.
ولقد حفظ الله وعوده حتى الآن؛ فمازال نظام الأرض والفصول قائمًَا؛ ومازال قوس قزح يظهر في السماء ليذكرنا بآمانة الله لكلمته.. “وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ مَعهُ قَائِلاً: 9«وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ،” (تك 9: 8، 9).
الكلمات التي قالها الله لنوح بعد الطوفان هي ترديد لما قاله لآدم في الفردوس. يقول الكتاب: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ.” (تك 1:9) فكما كان آدم أباً للبشرية الأولى حتى الطوفان؛ صار نوح أبَّا للبشرية الثانية بعد الطوفان… بسبب آدم حل الخراب الروحي بالبشرية؛ وبسبب نوح لاح فجر علاقات جديدة من الصداقة بين الله
والبشر.
كان الناس قد شوهوا بخطاياهم العلاقة القائمة بين الله وخليقته فاستحقوا الطوفان عقابًا لهم على أفعالهم الشريرة. وها هو الله يدعوهم إلى إعادة بناء هذه العلاقة؛ ويقترح عليهم ما يجب آن يغيروه في حياتهم وسلوكهم ليستعدوا لإقامة العهد معه.
ولكن للأسف؛ بعد الطوفان؛ انحدر مستوى المعيشة للبشرية بشكل مأسوي. معظم التقنية المتقدمة قد ضاعت وكان على الإنسان أن يجاهد بأدوات بسيطة من معادن سهلة اذ لم يعد الحديد موجودًا حينها. ستمر ألف سنة بعدها قبل أن يُعاد اختراع واستخدام الحديد.
بعد الطوفان استقرت عائلة نوح في منطقة إستوائية عرفت باسم بابل. التي اصبحت فيما بعد مهد الحضارات الاولى. كانت أرضًا خصبة تغطيها الغابات وآلاف البحيرات العذبة النقية. الحيوانات التي نجت في الفلك تكاثرت بشكل وهمي هناك. كان المكان المناسب لبدء حضارة جديدة.
بعد أن هدآ الطوفان وخرج نوح وأبنائه من الفلك كانت الأرض خالية من أيّ كائنٍ بشري حي سواهم؛ فكانت الأرض كلها لساناً واحدًا ولغة واحدة (تك 11: 1) وبعدها اتجهوا إلى الشّرق؛ ويذكر التوزيع الجغرافي لنسل نوح في بيان مختصر في( تك 10: 1-32) وتشيرسلسلة الأنساب هذه والتي تمثل حقبة طويلة من الزمن إلى المناطق التي هاجرت إليها العشائر المختلفة؛ فاستقر يافث وأبناؤه في منطقة البحر الأسود وبحر قزوين الممتدة غربًا إلى إسبانيا (تك 2:10-5)؛ ومن المرجح أن الشعب اليوناني والآلماني؛ جماعات أخرى مرتبطة بهم؛ قد جاءت من نسل يافث.
وانحدر ثلاثة من أبناء حام إلى أفريقيا (تك 10 :6-14) ثم انتشروا شمالاً حتى أرض شنعار وأشور؛ وبنوا مدنا مثل نينوى؛ وكالح؛ وبابل وأكاد ؛ وغيرهما؛ واستقر كنعان ابن حام الرابع بالقرب من البحر الأبيض المتوسط؛ ممتدًا من صيدون إلى غزة؛ وإلى الشرق أيضًا ومع أن الكنعانيين أصلاً من نسل حام؛ إلا أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة جدًا من اللغة السامية.
وأقام سام ونساءه في منطقة شمال الخليج الفارسي (تك 10: 21-31)؛ وارتبطت عيلام؛ وأشور؛ وآرام؛ وأسماء أخرى بنسل سام.
وقبل أن تتفرق البشرية هنا وهناك: وطدوا العزم على الإستقرار في مدينة شنعار؛ وخوفًا من حدوث طوفان آخر يهلكهم قاموا ببناء مدينة وبرج لئلا يتبدّدوا على وجه الأرض. و حتى يجدون لأنفسهم ملجاً من تأديبات الله القاسية. ولكي يعرقل الله خطّتهم بلبل السنتهم؛ بحيث عجزوا عن فهم لغة بعضهم؛ وهذا يفسّر وجود لغاتٍ عديدة في العالم اليوم.
- سفر التكوين أو تاريخ الكون والإنسان – الخوري بولس الفغالي.
- المرجع السابق
من كتاب تاريخ بني إسرائيل – الراهب أولوجيوس البرموسي
أخنوخ | تاريخ العهد القديم | الطوفان |