البابا مرقس السادس

 حق الحرية

من الأمور ما يستوجب التريث ومحاولة استشفاف النتائج المترتبة عليها. واهم امر من هذه الأمور انتخاب البابا المرقسى لأن عليه ستقع اعباء جسام، وعليه يتوقف إلى حد كبير استقرار الشعب القبطى . فهو الراعي الأول الذي بحكمته يملأ القلوب إيمانا وطمأنينة، وهو الذي بسوء تصرفه يملأ النفوس شعور بالخيبة. والانتخاب هو القاعدة المتمشية مع احكام الله . لأنه تعالى قد منح الانسان عقلاً يفكر وقلباً يشعر وروحاً تتأمل في بدائعه . ثم ترك الحرية للانسان في استعمال هذه القوى . ومعنى هذا أنه وضع امام الانسان الحق في أن يختار طريق الخير أو طريق الشر . والانتخاب ممارسة فعلية لهذه المنحة الإلهية ، ولو أن المسئولين في الكنيسة في فترة الانتخاب خلوا إلى عقولهم وقلوبهم وأرواحهم واستلهموا الروح القدس قبل التشاور وبعده وخلال البحث عن الراهب الصالح، لكان تاريخ كنيستنا كله طريقاً صاعد ممتداً من قمة إلى قمة . ولكن من المؤلم ان الانفعالات الساخنة والأغراض الشخصية تطغى احياناً على هذه القوى الواعية فتفقدها وعيها ، واحياناً تلعب السذاجة وتصديق الآخرين بلا تمحيص دورها. وفي الحالتين تكون النتيجة موجعة للكنيسة كلها، ولو أن الوجع الناتج عن الحالة الأولى هو ثمرة النزاعات الخاطئة في حين أنه ناجم عن نزعات طيبة في الحالة الثانية.

والمسئولون في الكنيسة ليسوا الناخبين وحدهم بل ان الموضوع يمتد ليشمل المرشحين فيتناسى البعض منهم فضائل الايثار والتواضع ووجوب تقدمة الآخرين تبعاً لوصية رب المجد إذ يخلبهم بريق الكرامة الملازمة للكرسي المرقسي . على أنه من مراحم الله أن مثل هذه النزوات الانتخابية كانت أقل عدداً من الانتخابات التي تمت في تعقل واتزان . ها در استا دی را به اتار د یا

تصديق ساذج

ولقد كان الانتخاب الذي جرى بعد نیاحة الانبا متاوس الثالت نتيجة لتصديق ساذج . فقد سمع بعض الأساقفة والأراخنة أن هناك راهباً بهجوری المولد انطوني الدير اسمه مرقس قضى سنی رهبنته في الدرس والمطالعة حتى تمكن من العلوم الدينية والتاريخ الكنسي ، و كان بين أراخنة الشعب آنذاك رجل اسمه بشارة ذا كلمة مسموعة لدى الجميع فتلاقي مع زملائه الأراخنة وتشاوروا معاً ورأوا أن يختاروا مرقس البهجورى فذهبوا إلى دير العظيم انبا أنطوني واحضروه إلى القاهرة . ولما وصلوا وافقهم الأساقفة مباشرة على اختيارهم. وأقاموا صلوات الرسامة في أيام الخمسين المباركة وبعد انقضاء تسعة عشر يوما فقط على نياحة البابا الراحل. وقد رأس الاحتفال بالرسامة أنبا خریستودولو اسقف بيت المقدس  باسمه الرهباني مرقس . فأصبح البابا الواحد بعد المئة .

مسلك شاذ

 ومن الغرابة بمكان أن قامت خصومة عنيفة بين الأنبا مرقس السادس وبين المعلم بشارة في مستهل بابويته . ومع أن هذا المعلم هو الذي رأس وفد الأراخنة الذين تكبدوا مشقة السفر إلى برية الأنبا أنطوني وقت الرغبة في انتخاب مرقس الانطوني – بل انه هو الذي دعا إلى انتخابه قبل ذلك ونتج عن هذه الخصومة مقاطعة كل منها للأخرا على أنه من نعمة الله أن أدرك الإثنان وجوب التصالح فتفاهما ونسيا خصومتهما وعادت المودة تربطها .

بذل وتضحية

 كذالك حدث في السنة الأولى لبابوية البابا مرقس السادس أن نزل سیل جارف على مكة هدم جدران الكعبة . ولما كان عمال مصر لهم الشهرة الواسعة في الشرق كله فقد ذهبوا لترميم الكعبة بجهدهم وعرقهم . ويقول المؤرخون أن مصر لم ترسل عمالها فقط بل أنفقت مالها ايضا في سبيل هذا الترميم . وهذه ظاهرة أخرى جديرة بأن نقف عندها لنتأملها قليلاً. فمصر في ذلك العهد كانت فقيرة يعيش فلاحوها على الكفاف رغم كدحهم النهار كله ، ولا يستطيعون حتى التعبير عن الامهم إذ لم  يكن من ينصت إليهم ولا من يهمه انصافهم . وكان عمالها  يتقاضون الأجور الهزيلة التي بالكاد تسد حاجياتهم ورغم هذا كله فقد انصرف من مال هؤلاء الكادحين العائشين في شظف وضنك الكثير من الجنيهات ؛ ومثل هذا العمل يستثير النقد الساخر اللاذع من البعض الذين يرون فيه اهدار حق شعب مستكين ، بينما هو يستثير الاعجاب من البعض الآخر لانهم يرون فيه صورة رائعة من النزعة إلى الروحيات و من التضحية والأيثار .

رهبان متمردون

ولم يكد الأنبا مرقس يشعر بالراحة لتصالحه مع المعلم بشارة حتى تمرد عليه بعض الرهبان بزعامة راهب اسمه قدسی ،  فقد اصدر البابا أوامره للرهبان بوجوب إقامتهم في أديرتهم وعدم خروجهم منها اطلاقا إلا للضرورة القصوى. ومثل هذا الأمر يتفق مع القواعد الرهبانية والقوانين الكنسية . ولكن هؤلاء الرهبان الذين تمردوا على باباهم اندفعوا وراء رغبتهم في الخروج متناسين تلك القواعد.. ولم يكتفوا بالعصيان بل ذهبوا إلى الوالى وادعوا أمامه بأن البابا يضربهم ضرباً مبرحاً إلى حد أن البعض منهم يموت من جرائه ! وطبعاً وجد الوالي الفرصة مواتية لأن يزج بالبابا في السجن . على أن الآب السماری تدارك كنيسته فأيقظ ضمير الراهب قدسی ودفعه إلى أن يذهب إلى الوالي ويقر امامه بأن التهم التي وجهها هو واعوانه إلى البابا المرقسي لا أساس لها من الصحة لذلك يرجو الافراج عنه . ولقد قبل الوالى أن يفرج عن البابا المظلوم ولكنه فرض مقابل ذلك مبالغ ضخمة غرامة على أكابر القبط .

تعسف من البابا

 وكان من المنتظر من البابا مرقس الذي عرف معنى الظلم أن يعمل في نزاهة وانصاف فيجنب أولاده الشعور بمرارة التحيزات الظالمة . ولكنه سلك مسلكاً مضاداً وكأنما استثار فيه الظلم قوى الشر الكامنة في أعماق النفس . فقد قصد إلى الصعيد بعد خروجه من السجن مباشرة وقضى أربع سنوات متنقلاً في ربوعه . ولو ان تنقله كان افتقاداً ورعاية لكان سبباً في الفرح و الطمأنينة . ولكنه إنما تنقل ليفرض على كل من ينزل عليهم مبالغ من المال يحتم عليهم دفعها . وكان في تشدده معهم لا يتورع عن تعنيفهم بكلام غير لائق و بخاصة لخروجه من فم الراعي الأول الذي يحمل للشعب صورة المسيح . فضج الجميع منه : اساقفة وكهنة وشعباً. ورغم ما رآه و أحس به من تضجر عام فقد أمعن في تعسفه وفي اصراره على أخذ المال الذي يريده . 

الظلم يشمل الموتى أيضاً

 وإلى جانب هذا الضنك الذي ملأ قلوب القبط من با باهم فقد صدرت الأوامر المشددة من الوالي بانه منوع على أي قبطي أن يركب الخيل ، ولا حق لای منهم أن يلبس طاقية حمراء ولا مراکیب حمراء، ولا أحزمة حمراء، بل تكون هذه كلها زرقاء اللون . ثم أمعن الوالى في التثقيل على القبط بابطاله حقوق الوراثة واقامته نفسه وريثاً لمن يموت فيستولى بذلك على أموال اليتامى والأرامل والثكالى . ولكي يتسني له أن يستولى على اكبر مقدار من الارث كان يقتل رجلا أو اثنين يومياً حتى لقد قيل بأن عدد ضحاياه بلغ ألفا ومائتي رجل.

اعطاء ما لله لقيصر

 وبعد انقضاء السنوات الأربع عاد الأنبا مرقس السادس من الصعيد دون أن يحاول اصلاح الجفوة التي أحدثها تصرفه بينه و بين اولاده ، ولكنه حين علم أن المعلم بشارة انضم إلى المتضجرین سعى إلى مصالحته شخصيا. ومع أنه كان قد جمع اموالا طائلة من اهل الصعيد إلا أنه لم ينفع بها شعبه إلا بمقدار هزيل للغاية ، فقد اكتفي بناء قاعة الصلاة والاجتماعات فوق بيعة السيدة العذراء بحارة زويلة . وقد طلب الأرمن الأرثوذكس من الانبا مرقس أن يسمح لهم بتكريسها وإقامة الشعائر الروحية فيها ريثما ينتهون من بناء بيعتهم في شارع بين السورين . فأذن لهم بذلك. 

نياحة البابا

ولقد تنيح الأنبا مرقس في يوم الجمعة العظيمة من سنة 1652 واحتفل الأساقفة بالصلاة عليه في كنيسة الشهيد العظيم مرقور يوس (ابي السيفين ) بمصر العتيقة حيث دفنوه إلى جانب بعض من أسلافه في المقبرة الخاصة بهم.

فاصل

البابا متاؤس الثالث  القرن السابع عشر العصور الوسطى البابا متاؤس الرابع
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى