الاحتشام والسلوك في المسيح

للقمص تادرس يعقوب ملطي

يتساءل البعض: كيف يلتهب قلبي بالحب الناري لله ولخلاص البشرية مثلما كان عليه الرسول بولس؟ إن أردنا أن نختبر الحياة الايمانية المنطلقة نحو السماء بلا توقف يليق بنا أن نقتفي أثر خطوات الرسول كما اقتفى هو بإثر خطوات السيد المسيح، إذ يقول: «كونوا متمثلين بي، كما أنا أيضاً بالمسيح» (١ كو ١١: ١).

أولا: رجل الإيمان الدائم النمو

يقول الرسول: «نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح» (٢ كو ١٨:٣). «لتسلكوا كما يحق للرب في كل رضى، مثمرين في كل عمل صالح، ونامين في معرفة الله» (كو ١: ١٠). «ننمو في كل شيء، إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح» (أف ٤: ١٥). فمن يختبر الإيمان العامل بالمحبة (غل ٦:٥)، يقول بروح الرجاء المفرح: «أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني» (في ٤: ١٣).

ثانيا: السلوك في المسيح

يقول الرسول: «كما قبلتم المسيح يسوع الرب، اسلكوا فيه» (كو ٢: ٦). غاية سلوك المؤمن ليس دماثة الخلق، وإنما العمل بالمسيح ولمجد اسمه ولنمو ملكوته على الدوام. يُلخص بعض اللاهوتيين منهج الرسول بولس اللاهوتي في كلمتين، وهما «في المسيح» إذ وردت الكلمتان معاً في رسائله ٧٨ مرة بجانب ما يعادلهما مثل «في المحبوب» (أف ١: ٦)، وفيه كقوله: «إنكم في كل شيء استغنيتم فيه، في كل كلمة وكل علم» (١ كو ١: ٥)، وقوله: «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (٢ كو ٥: ٣١). «الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً للرب» (أف ٢: ٢٢). «فكما قبلتم المسيح يسوع اسلكوا فيه، متاصلين ومبنيين فيه» (كو ٢: ٦-٧).


ثالثا: الاقتداء بأناس الله المؤمنين بالمسيح

والسالكين فيه، مثل الرسل وآباء الكنيسة الأولى القديسين. هنا إذ أتحدث عن «السلوك في المسيح والاحتشام»، أضع أمام عيني شخصين، الرسول بطرس، القديس إكليمنضس السكندري عميد مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني.

بطرس الرسول وحياة الاحتشام

تقدم لنا الكنيسة في إنجيل باكر من الأحد الأول بعد عيد القيامة المجيد، أي في بدء فترة الخماسين المقدسة، إنجيل يوحنا ٢١: ١ -٧. وكأن هذا النص وضع بترتيب روحي عجيب إذ تقام الكثير من احتفالات سر الزواج طوال فترة الخماسين.

يليق بنا ف شركتنا في سر الزواج المقدس وفي الاحتفالات التي تقدم للمتزوجين حديثاً أن نقتدي بالرسول بطرس. فعندما ظهر السيد المسيح القائم من الأموات لتلاميذه، على شاطئ بحيرة طبرية لم يعلموا أنه يسوع (يو ٤:٢١). وإذ بدأ يتحدث معهم قال القديس يوحنا للقديس بطرس: هو الرب. فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب اتزر بثوبه لأنه كان عرياناً، وألقى بنفسه في البحر (يو ٧:٢١). اعتاد الصيادون القدامى أن يخلعوا الثوب الخارجي عندما يتصيدون حتى لا يبل الثوب من المياه ويعوق عن الصيد.

لم يستطع بطرس أن يبقى بملابسه الداخلية أمام السيد المسيح، بل شعر أنه عريان. لهذا اتزر بثوبه وانطلق نحو مخلصه وهو محتشم في ملابسه كما في سلوكه وفي أعماق قلبه، مع أن من عادة الصيادين أن يرتدوا ثيابهم بعد الوصول إلى الشاطئ.
يقدم لنا الكتاب المقدس اهتمام الرسول بطرس بالاحتشام، لكي يعلن أن الاحتشام لا يخص النساء والفتيات وحدهن، بل والرجال. ويلتزم الرسل ورجال الكهنوت أيضا مع الشعب بالاحتشام.

الملائكة والاحتشام

جاء في القداس الغريغوري: [أنت هو القيام حولك الشاروبيم والسرافيم، ستة أجنحة للواحد، وستة أجنحة للآخر، فبجناحين يغطون وجوههم، وباثنين يغطون أرجلهم ويطيرون باثنين”، ويصرخون واحد قبالة واحد منهم.]

السرافيم هم خدام العرش الإلهي، يحملون الرب بفرح وتهليل، يُسبحونه بلا انقطاع. وكأن عمل كل خادم أو نبي في الكنيسة هو جذب كل نفس إلي الرب كعرش له يسكنه، ويقيم ملكوته داخله، فيصير أشبه بالسروف الناري السماوي. لكل سروف ستة أجنحة، باثنين يغطي وجهه علامة اتسامه بالمخافة الإلهية، لا يقدر أن يدرك كل البهاء الإلهي، وباثنين يغطي رجليه علامة الحياء – إن صح هذا التعبير- وباثنين يطير محلقاً في السماويات. هكذا يليق بنا أن نتشبه بالسروف، ننعم بالمخافة الالهية في احتشام مع نمو دائم وارتفاع مستمر نحو السماويات. بينما يحمل الكروبيم العرش الإلهي، إذا بالسرافيم يرفرفون حول العرش، يصرخون واحد قبالة الآخر يعلنون أن الله قدوس، قدوس، قدوس، وأن مجده يملأ كل الأرض (إش ٣:٦)
يعلق العلامة أوريجينوس على ما ورد في (١ كو ١١: ١٠)، قائلا: [حيث أن الملائكة متواجدون في الكنيسة، أي في الكنيسة التي تستحق وجودهم، فمن واجب النساء المصليات أن يكون لهن ما يغطي رؤوسهن من أجل الملائكة (١ كو ١١: ١٠)]

كان من عادة البابا كيرلس السادس متى رأى طفلاً صغيراً يرتدي ثياب أكمامها قصيرة يقول للطفل: «خلي بابا وماما يطولوا الأكمام. بهذا يتربى الطفل بروح الاحتشام.
المؤمن الملتزم بالاحتشام يشارك السرافيم الذين يغطون أرجلهم بجناحين ويغطون أعينهم بإثنين، ويطيرون بجناحين متهللين ومسبحين الله.

أمثلة عملية لحياة الاحتشام

١. لا أنسى أحد الشبان الأحباء بالولايات المتحدة الأمريكية قال لي إنه يحب أخته الوحيدة وبذل الكثير من طاقته في خدمتها وهي تستعد لسر الزيجة. في اليوم التالي من زواجها ذهب يهنئها هي وعريسها على زواجهما. شكرته على مجهوده في مساهمته في الإعداد لزواجها بفرح وبهجة. بعد ذلك قالت له: «بعد الإكليل لم تحضر الحفل الخاص بإكليلي». أجابها بأنه كان في غاية السعادة وهو في الكنيسة يشاركهما فرحهما، وأنه كان يصلي لهما لكي يتجلى العريس السماوي في حياتهما. وبعد انتهاء طقس الزواج لم يرجع إلى بيته وإنما دخل كنيسة مفتوحة حتى بالليل، وأخذ يصلي من أجل الكنيسة التي في بيت أخته إلى حوالي منتصف الليل. وإذ سمعت أخته منه هذا فرحت جداً وشكرته على هذه الهدية الرائعة.
صلاته أعظم بكثير من كل ما قدمه لها الأقرباء والأصدقاء من هدايا. هذا الشاب وأمثاله أدركوا حضور الله نفسه في الإكليل، فتشبهوا بالسرافيم الحاضرين هذا السر، يسبحون الله الذي يتمجد في الأكاليل المقدسة.


٢. أيضا كان في الولايات المتحدة الأمريكية خطيبان يستعدان للإكليل. تحدثت المخطوبة مع خطيبها عن فستان الفرح. قالت له أنها تريد أن تكون محتشمة في ملابسها من أجل حضور الرب نفسه إكليلها، فسر العريس بذلك.

٣. وفي الإسكندرية في إكليل احدى الخادمات بكنيسة الشهيد مار جرجس بسبورتنج، اتفقت العروس مع صديقاتها اللواتي سيحضرن إكليلها والحفل، أن يلتزم الكل بملابس محتشمة، وأن يقدموا في الحفل سلسلة من الترانيم المبهجة. أقيم الحفل في صالة أفراح خاصة بشخص مسيحي. قال لي هذا الشاب أنه بعد الفرح قال له أحد العمال الذين يخدمون في الفرح وهو غير مسيحي، أن هذا الحفل أجمل وأروع حفل حضره في حياته، بالرغم أنه لم يوجد فيه رقص ولا مُسكر.


مفهوم الاحتشام في المسيح يسوع

كتب القديس القديس إكليمنضس الإسكندري ثلاثة كتب، أحدهما موجه للوثنيين والثاني للمؤمنين والثالث للفلاسفة. أبرز في الثلاثة كتب عمل السيد المسيح في حياة البشرية، كتب لكل فئة بما يناسب ثقافتها وما تحتاج إليه، ليكون الإنسان أيقونة للسيد المسيح تتضح خلال إيمان الشخص ونموه الدائم بكونه عضواً في الكنيسة عروس المسيح المقدسة والطاهرة والمتهيئة للانضمام إلى طغمات السماويين. لقد قدم لنا مفهوماً عملياً بمفهوم متسع لحياة الاحتشام في المسيح دون أن يذكر «كلمة الاحتشام». هذا وقد عالج القديس جوانب كثيرة من حياتنا في المسيح، أذكر على سبيل المثال النقاط التالية.
أ. الاحتشام بمعنى الاعتدال في كل سلوك:
دعوة المسيحية للحياة المعتدلة في كل شيء خاصة الأكل والشرب والملبس والمرح، تسحب الإنسان من الاستعباد لهذه الأمور، ليدرك سمو رسالته، سواء في عمله الزمني أو دراساته وأبحاثه وتقدمه التكنولوجي وخلاصه الأبدي. فيتفزغ فكره وقلبه للعمل، ليس في أنانية وحب للظهور والبهرجة، فتتحطم نفسه، وإنما في اعتزاز بالعمل لحساب البشرية كلها، ولأجل المجد المنتظر في السماء! يقول القديس إكليمنضس السكندري: [كما أن الاعتدال والبعد عن الإسراف هما ابنا القناعة عادة، فإذا اعتاده إنسان، استغنى عن كل ما هو كمالي وغير ضروري، وحتى لا يوجد انحراف أو سقوط في الإغراءات، مكتفياً بما هو ضروري ولازم للصحة وللحياة المباركة حسب تعليم الكلمة السماوي له المجد. وليكن لبس النساء بسيطا مهندماً حسن الشكل، ولا جناح على استخدام الأقمشة الرقيقة، تلك التي لا تليق بالرجال، ولكن بما لا يجرح حياءهن، ويحملهن إلى الإسراف. كما يجب أن تتناسب الملابس مع السن والشخص والقوام والطبيعة والسلوكيات، لأن الرسول الإلهي ينصحنا بقوله: «بل البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات» (رو ١٣: ١٤)”.]

ب. الملبس والتجميل والرفاهيات:
يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه يليق أن نستخدم الملبس لتغطية الجسم لا لتزيينه.
فهو وسيلة لا غاية. غايته هو حفظ الجسم من البرد والحر، وتغطية أعضاء معينة فيه”. كما أن النفس أثمن من الجسم، فإن الجسم أثمن من الملبس. إنه يقول: ارتداء المصنوعات الذهبية والثياب الناعمة ليست ممنوعة تماماً، فان ما هو أهم هو ضبط الدوافع البهيمية التي للذهن، حتى لا تسحبنا خلال الانحلال المبالغ فيه إلى سلوك ضعيف خليع”.

ج. الولائم والموسيقى:
يقول القديس إكليمنضس السكندري: [يلزمنا أن نتعلم الموسيقى لتعطي عذوبة وتنقية لسلوكنا… لكن الامتناع عن الموسيقى أمر باطل.]

د. الفرح والضحك:
قيل عن السيد المسيح إنه كان دائم الابتسامة ولكنه ما وجد ضاحكاً قط.
جاء في رسالة بيلاطس بنطس للإمبراطور: أيها الملك بما أنني فهمت أنك ترغب معرفة ما أخبرك به الآن أنه في وقتنا هذا وجد رجل عائش عيشة فاضلة يدعونه رسول الفضيلة، وتلاميذه يقولون إنه ابن الله خالق السماوات والأرض وكل ما يوجد فيهما. فبالحقيقة أنه كل يوم نسمع أموراً عجيبة عن يسوع هذا. فيقيم الموتى ويشفي السقماء بكلمة واحدة وهو معتدل القامة وجميل المنظر جداً ووجهه ذوهيبة بهية حتى آن الذين ينظرون إليه يشعرون بالاشتياق أن يحبوه ويخافوه وشعر رأسه نازل لغاية أذنيه ومن أذنيه منسدل على كتفيه وهو بلون التراب، إنما يفوق عليه ضياء، وف جبينه غرة كعادة الناصريين. أما جبينه فمبسوط كثير الصفاء ووجهه ليس فيه تجعد البتة. وفخذاه في غاية الاعتدال وأنفه معتدل وفمه بلا عيب ومنظره يفيض خشوعاً وفرحاً وعيناه كأشعة الشمس ولا أحد يقدر أن يحدق بنظره إليه من كثرة الضياء. وإذا وبخ أرهب، وإذا نصح أبكى، ويجعل الجميع يحبونه، لأنه ذو سماحة وهيبة، ويقولون إنه لم ينظر ضاحكا قط بل باكيا. وذراعاه ويداه هي بغاية الجمال.
أما في الاجتماعات فيرضي كثيرين ولكن ينظر لهم نادرا وعند وجوده بينهم يجلس بغاية التهذيب ففي رؤيته وشكله هو أجمل إنسان يمكن تخيله ومشابهته بمقدار عظيم لأمه التي هي أجمل فتاة يمكن مشاهدتها أو تشاهد قط بهذه الجماعات.
فيا أيها الملك إن رغبت جلالتك أن تراه فأخبرني، لكيلا أتقاعد عن توجهه إليك سريعاً”.]

سمَّر خوفك في لحمي
واملا قلبي بحبك!
سمَّر خوفك في لحمي، فأتأهل للوقوف مع السمائيين وأسبحك بلا توقف!
املأ قلبي بحبك، فأحمل أيقونتك في داخلي!
أستتر ببرك يا مخلصي! وأتأهل للقيام أمامك في المجد!
بصليبك ترفعني إلى الأمجاد، فلا يجد العدو فرصة ليعيرني.
تعرى جسدك على الصليب بسبب خطاياي،
ووهبتني أن أتمتع بالحياة المقامة، فلا أحتاج أن أستتر بثياب العالم.
في جنة عدن احتاج آدم وحواء إلى أوراق التين ليستترا،
وفي الفردوس لن يتسلل الخزي إلى مؤمنيك!


اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى