العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

اشتياق النفس الجارف نحو الرب

‏ العظة العاشرة من العظات الخمسون

[في أنه بالتواضع والحمية تُصان مواهب النعمة الإلهية وتزداد ، بينما تزول بالكبرياء والرخاوة ] 

[ أ ] محبة النفس للرب بلا شبع

1- إن النفوس التي تحب الحق وتحب الله وتشتاق بعِظم رجاء وإيمان أن تلبس المسيح بالتمام، لا حاجه بها إلى تذكير كثير من الآخرين ، لا ولا تحتمل أن توجد محرومة ، ولو قليلاً ، من شوقها السماوي ومن عشقها للرب ، بل إنها تكون بكل كيانها مُسمرة على صليب المسيح[1]، وتدرك في ذاتها ، يوماً بعد يوم ، الإحساس بارتقائها الروحي نحو العريس الروحاني . فلكونها مجروحة بالشوق السماوي وجائعة لبر الفضائل[انظر مت5: 6] ، فإنما تقتني استنارة الروح القدس في توق شدید بلا شبع . بل وحتى إذا ما صارت أهلاً – بواسطة بإيمانها – لأن تنال معرفة الأسرار الإلهية، أو‏ أضحت شريكة لبهجة النعمة السماوية ، فإنها لا تضع ثقتها في ذاتها حاسبة أنها قد صارت شيئاً، بل كلما أُهلت للمواهب الروحية اقتنت الشوق السماوي بلا شبع وفتشت عليه باجتهاد ، وكلما أدرگت في ذاتها تقدمها الروحي أضحت أكثر جوعاً وعطشاً للاشتراك في النعمة والنمو فيها[2] ، وكلما اغتنت روحياً أصبحت بالأحرى مسكينة عند ذاتها ، إذ تقتني شوقاً روحانیاً نحو العريس السماوي بلا شبع ، كما هو مكتوب في الأسفار : « الذين يأكلونني يجوعون أيضاً ( إلىَّ ) ، والذين يشربونني يعطشون أيضاً » ( سي24: 21 – حسب النص ) .

2- مثل هذه النفوس التي اقتنت حباً نارياً للرب بلا شبع تصبح جديرة بالحياة الأبدية ، ولهذا أيضا فإنها تُحسب أهلاً للتحرر من الأهواء ، وتحظى بالتمام باستنارة الروح القدس الفائق الوصف وبالشركة السرية معه ، في ملء النعمة. أما كل الفوس المائعة الرخوة ، فلكونها لا تزال في الجسد ، فإنها لا تطلب منذ الآن ، بالصبر وطول الأناة ، أن تقبل تقدیس القلب ، لا جزئياً فقط بل كُلياً ، ولا ترجو أن تشترك بالتمام في الروح المُعزي بكل فهم ويقين ، ولا تنتظر أن تتحرر من أهواء الشر بواسطة الروح القدس ؛ ولهذا فحتَّى وإن كانت تُؤهل للنعمة الإلهية ، فلكونها مسروقة من الشر ، تُسلم ذاتها إلى اللامبالاة والاسترخاء.

٣- ذلك لأنها لما نالت نعمة الروح القدس واقتنت عزاء النعمة في راحة وشوق وحلاوة روحانية ثم اتكلت على هذا ، استغلت وتهاونت ، غير منكسرة القلب ولا متواضعة اللب ، رغم أنها ما بلغت بعد قامة انعدام الأوجاع بالكمال ولا هي ترجَّت بكل اجتهاد وأمانة امتلاءها بالتمام بالنعمة ، بل إنها اكتفت بالنزر اليسير من تعزية النعمة وركنت إليه وقنعت به ، فبات تقدّمها إلى الكبرياء أكثر منه إلى الاتّضاع. مثل هذه النفوس تتعرى في النهاية من أية موهبة أُهلت لها ، وذلك بسبب استهانتها وإهمالها وتشامخها الباطل في مخيلتها.

4- فإن النفس التي بالحق تحب الله وتحث المسيح ، حتى وإن كانت تعمل عشرة آلاف من أعمال البر ، فإنها عند ذاتها كأنها ما عملت شيئاً بالمرة ، وذلك من أجل شوقها الذي لا يشبع نحو الرب. وإن كانت تُضني جسدها بأصوام وأسهار، تحسب وكأنها ما بدأت بعد في السعي لأجل الفضائل . وإن هي صارت أهلاً لأن تنال مواهب الروح القدس المتنوعة أو تحظى باستعلانات وأسرار سماوية ، فكائها ما ظفرت بشيء في ذاتها حتى الآن ، من أجل محبتها التي بلا قياس وبلا شبع نحو الرب. بل إنها طوال اليوم ، بالإيمان والمحبة والدَّأب على الصلاة ، يتملكها الجوع والعطش ، بلا شبع ، لأسرار النعمة ولاقتناء كل فضيلة ؛ وتكون مجروحة بالعشق السماوي الذي للروح القدس، ومدفوعة في ذاتها كل حين – بشوق ناري ، بفعل النعمة – إلى العريس السماوي ، وتواقة لأن تُؤهل للشركة معه بالتمام ، تلك الشركة السرية التي لا يُعبر عنها ، في تقديس الروح[انظر 2تس2: 13] . وتشخص النفس بوجه مكشوف[انظر 2كو3: 18] إلى العريس السماوي ، وجهاً لوجه[انظر 1كو13: 12] ، في نور روحاني لا يُنطق به ، ممتزجة به بكل يقين ، متشبهة بموته[انظر في3: 10] ، ومنتظره كل حين ، في توق شديد ، أن تموت لأجل المسيح ، ومؤمنة بيقين أن تنال بالروح القدس الفداء الكامل من الخطيئة ومن ظلمة الأهواء ، حتى إذا ما تطهرت بالروح القدس ، وتقدست نفساً وجسداً ، تؤهل لتغدو إناء طاهرا لتقبل الدهن[3] السماوي ، ومنزلاً[4] للمسیح الملك الحقيقي ، وحينذاك تُعين مستحقة للحياة السماوية ، إذ‏ قد صارت منذ الآن مسكناً طاهراً للروح القدس[.

[ب] جهاد النفس وصبرها على التجارب

5- غير أن النفس لا يمكنها أن تبلغ هذه القامات في الحال ولا من دون امتحانات ، بل إنها تُحقق النمو والارتقاء الروحي عبر أوجاع كثيرة وجهادات وأزمنة واجتهاد مع اختبارات وتجارب شتَّى ، إلى أن تبلغ قامة انعدام الأوجاع الكاملة ، حتَّى إذا ما صرت بعزم وشجاعة على كل تجربة يجلبها عليها الشر ، تُوهل حينئذ للكرامات العظيمة والمواهب الروحية والغنى السماوي ، وهكذا تصير وارثة للملكوت السماوي في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى الدهور ، آمین . 

  1.  يُلمح الأنبا مقار – مجدداً – إلى خبرته الشخصية حين صلبه الشاروبيم في بدء حياته 
  2. “النمو في النعمة” نجده في الدعاء الذي ختم به ق . بطرس الرسول رسالته الثانية : « .. أتموا في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح.. » ( 2بط3: 18)
  3.  حرفياً : μύρου = الميرون ، وقد ترجمت هذه الكلمة في العهد الجديد ب “الطيب “، ونجدها مثلاً في حوادث سكب الطيب على رأس المسيح له المجد وعلى قدميه ( انظر : مت 7:26 ؛ مر 3:14 ؛ لو 7 : 37 ؛ یو 3:12 ) ، وواضح هنا بلا مُرية أنها تشير إلى الروح القدس.
  4. μονὴν وهي ذات الكلمة المستخدمة في يو 23:14 « وعنده نصنع منزلاً»

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى