الختان

“بين يهود الشتات حتى زمن المسيح

“وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ.“( لو2: 21)

يُعتبر الختان علامة مميزة لليهود منذ أيام إبراهيم أبي الآباء. وهي علامة العهد الذي تم بين الله وإبراهيم عندما طلب الله منه أن يختتن هو وجميع الذكور من عائلته. وكان إبراهيم وقت ختانته يبلغ من العمر تسعة وتسعين عاماً، وإسماعيل ابنه كان في الثالثة عشرة ( تك 9:17-27). وبالرغم من ارتباط الختان بالشعب اليهودي ، فلم يكن هو الشعب الوحيد الذي مارس هذه الفريضة ، فشعوب كثيرة من المحيطة بأرض فلسطين كانت تحافظ على ختان الذكور. وهناك نقش بارز على إحدى المقابر الفرعونية من الأسرة السادسة ( حوالي عام 2300 ق.م. ) يمثل عملية ختان تجرى لفتي يبلغ من العمر حوالي ثلاث عشرة سنة[1]. أما القصد من اختيار الله لعملية الختان بالذات لتكون علامة عهد بينه وبين إبراهيم ، فربما يرجع إلى عدة أسباب . فأولاً، غالبية العهود المتبادلة التي كانت تتم قديماً كانت مرتبطة بسفك الدم. وثانياً ، لم يكن إبراهيم قد أنجب بعد أولاداً من سارة ، فأراد الله أن يوضح له بصورة رمزية أن مقدرة إبراهيم على إنجاب نسل ، إنما تعتمد على الله ، وبالتالي كل مستقبل حياته . وثالثاً ، لأن ممارسة الجنس كانت تبدو وكأنها علامة على الخطية ، صار الختان في لحم الغرلة رمزاً للطهارة وللتكريس أساساً من أجل الله.

ومهما كانت الأسباب ، فإن الختان صار رمزاً للعهد مع الله . فكان على موسى النبي أن يختتن هو وولداه قبل عودته إلى مصر ( خر 4 : 24-26 ) . وقد أمر يشوع بختان كل شعب إسرائيل كاستعداد لدخولهم أرض الميعاد (یش 5 : 2-7). وصارت هذه العلامة الخارجية رمزاً للعلاقة الداخلية العميقة مع الله : «وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا.» ( تث 6:30).

وقد زادت أهمية الختان بين اليهود بعد تشتتهم خارج فلسطين. فبعد أن تبنى يهود الشتات ثقافة وعادات الشعوب التي عاشوا بينها ، صار الختان علامة مميزة لهم. بل إن في فلسطين نفسها حدث تصادم من أجل هذه الفريضة . ففي عام 332 ق.م. غزا اليونان ، بقيادة الإسكندر الأكبر ، أرض فلسطين ، وحكموها حتى عام 142 ق.م. ( كان الحكام من أسرة السلوقيين التي حكمت سوريا في ذلك الوقت ) . وفي هذه الفترة كانت الديانة اليهودية عامة ، وممارسة الختان خاصة ، تواجه ضغوطاً شديدة . وكانت الضغوط مباشرة وغير مباشرة.

وقد أتى الضغط المباشر على ممارسة الختان أولاً عن طريق أنطيوخس إبيفانس الذي حكم من عام 175ق.م. حتى عام 163ق.م. فقد أرسل أنطيوخس تعلیمات بمنع اليهود من ممارسة كثير من طقوسهم الدينية. وقد نص صراحة على أنه يجب “أن يتركوا بنيهم دون ختان” ( 1مكابيين 1 :48). وقد تم توقيع العقوبات الرادعة على من لم يمتثل لهذه الأوامر ومن ذلك أن أحدهم وشی بامرأتين ختنتا أولادهما ، فعلقوا أطفالهما على أثدائهما ، وطافوا بهما في المدينة علانية ، ثم رموا بهما عن السور (2مكابيين 6 : 10).

وبالرغم من أن هذا الضغط المباشر لم يدم طوال الحكم اليوناني ، فإن الضغط غير المباشر بسبب تغلغل الثقافة اليونانية استمر فعالاً. فهذه الثقافة المسماة الهللينية أحضرت معها لغة جديدة وفلسفات جديدة وانحرافات جديدة. وكان من هذه الانحرافات دخول بعض الألعاب الرياضية التي كانت تتم في الساحات العامة وفي صالات الجمنازيوم. ولأن معظم هذه الرياضات كان يمارسها الرياضيون وهم عراة ( فكلمة جمنازيوم مشتقة من الكلمة اليونانية جيمنوز التي تعني عريان ) ، لذلك أصاب اليهود الذين مارسوا هذه الألعاب الحرج لأنهم كانوا مختونين . لذلك حاول بعض الرياضيين اليهود إخفاء علامة الختان بعملية جراحية : “فبنوا ملعباً في أورشليم على حسب تقاليد تلك الأمم وحاولوا ستر ختانتهم . فخانوا بذلك العهد المقدس مع الرب إلههم واندمجوا بتلك الأمم وقاموا بأعمال حرمتها شريعة الله ” (1مکابين 1: 14و15).

لم يندفع عامة اليهود في فلسطين وراء هذه الانحرافات الجديدة ، بيد أن عدداً ليس بقليل منهم أهمل عادة ختان الأولاد . وقد قام اليهود بثورة ضد القهر اليوناني عام 167ق.م. بزعامة المكابيين . وكما يخبرنا سفر المكابيين ( وهو من الأسفار القانونية الثانية ) أن متثيا المكابي وأصحابه جالوا في أرض إسرائيل « وختنوا بالقوة كل من وجدوه فيها غير مختون من الأطفال . ختنوا بعزيمة صادقة » ( 1مك 2 : 46).

أثرت تلك الأحداث التي تمت زمن المكابيين تأثيراً فعالاً في حياة اليهود. فالضغط اليوناني على اليهود دفعهم أن يفكروا ويهتموا بكل ما هو يهودي ، لذلك نظروا للختان على أنه علامة مميزة لإيمانهم . وعلمتهم الخبرة أن يحافظوا على هذه الممارسة في الأمم التي تشتتوا فيها ، وإن كانت قد جرت عليهم متاعب كثيرة.

ترجع بداية تشتت اليهود من فلسطين إلى زمن السبي البابلي الذي بدأ عام 587 ق.م ، ولكن عاد الكثير منهم إلى فلسطين فيما بعد. غير أنه في القرن الثاني قبل الميلاد زاد عدد اليهود خارج فلسطين زيادة مضطردة . ويرجع سبب هذه الزيادة في العدد إلى عدة أسباب ؛ منها أن بعض اليهود الذين أُخذوا كأسرى خارج بلادهم ( كما في السبي البابلي ) لم يعودوا إلى فلسطين وهناك تناسلوا وزاد عددهم ؛ كما أن انتشار الفقر في منطقة فلسطين وزيادة الضرائب على الشعب دفع كثيرة منهم إلى الهجرة والاستيطان في بلاد أخرى . كذلك كان هناك عملية تبشير واسعة بالديانة اليهودية بين الأمم مما أدى إلى إيمان البعض – الذين سموا دخلاء – وانضموا إلى الشعب اليهودي ، وقد أشار الرب يسوع إلى ذلك في حديثه مع الفريسيين عندما قال لهم : “تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِدًا” ( مت 23 : 15).

وقد تركز تشتت اليهود في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. وفي زمن أغسطس قيصر ( 30 ق.م. – 14 ق.م. ) بلغ عدد اليهود داخل الإمبراطورية الرومانية حوالي أربعة ملايين ونصف ، منهم حوالي نصف مليون فقط يعيشون في فلسطين وحوالي مليون شخص يعيشون في مصر ( حسب رواية فيلو اليهودي )[2] ، وقد ذكر سفر أعمال الرسل مدن كثيرة وبلدانا متعددة أتي منها اليهود للاحتفال بعيد الخمسين ، مما يظهر مدى تشتت اليهود خارج فلسطين ( أع 2 : 9-11)[3].

لم يكن هناك أي انفصال بين يهود فلسطين ويهود الشتات ، فقد كانت هناك روابط وصلات وشيجة بينهما ، كانت من الأهمية بمكان حتى إنها حافظت على عدم انصهار اليهود في شعوب الأرض. فيهود فلسطين ويهود الشتات كانا يخضعان معاً لتأثير الحضارة اليونانية . وكان يهود فلسطين على اتصال دائم بجميع أجزاء العالم الهلليني من خلال التجارة والرحلات . وكان يربط اليهود في العالم كله بهيكل أورشلیم ضريبة نصف الشاقل المفروضة على كل يهودي . وكان يهود الشتات يزورون أورشلیم بأعداد كبيرة كل عام في الأعياد اليهودية كما تنص على ذلك الشريعة”ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ يَحْضُرُ جَمِيعُ ذُكُورِكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ،” ( تث 16 : 16 ) . كما كان هناك مجامع يهودية في جميع مدن الإمبراطورية التي كان يسكنها يهود. هذه الأمور ساعدت على وحدة اليهود داخل وخارج فلسطين [4].

وبدراسة كتاب العهد الجديد يتضح لنا كيف حافظ الشتات على الممارسات اليهودية وخاصة على شريعة الختان ، فبولس الرسول المولود في إحدى مدن الشتات وهي مدينة طرسوس في كيليكية (جنوب شرق آسيا الصغرى) قد خُتن في اليوم الثامن من ولادته (في 3: 5)، تماماً مثلما خُتن الطفل يسوع وهو من مواليد بيت لحم اليهودية في اليوم الثامن لولادته (لو 2: 21). وقصة تقابل بولس الرسول مع تيموثاوس تظهر لنا تمسك يهود الشتات بشريعة الختان. فتيموثاوس وهو من يهود الشتات، إذ أنه وُلد في مدينة لسترة جنوب آسيا الصغرى، لم يكن مختوناً لأن أباه كان يونانياً، أما أمه فكانت يهودية، وربما يكون أبوه قد عارض في أمر ختانه، لذلك عندما أراد بولس أن يصطحبه معه في الكرازة: «أخذه وختنه من أجل اليهود الذين في تلك الأماكن، لأن الجميع كانوا يعرفون أباه أنه يوناني، (أع 16: 3). مما يثبت أن اليهود الساكنين في تلك النواحي كانوا يحافظون على شريعة الختان، وربما كانوا يشعرون بالضيق بسبب تواجد أحد اليهود بينهم غير مختون.

وفي مدن الشتات بشر اليهود بالدين اليهودي بين الأمم. فالاعتقاد بوجود إله واحد، والأخلاق التي تحتمها الشريعة، والوعد بميراث الحياة الأبدية، فتحت الباب أمام بعض الأتقياء من الأمم للدخول إلى حظيرة الإيمان اليهودي. ولكن شرط المرور من بوابة الختان جعلت الكثيرين يحجمون عن أن يصيروا يهوداً كاملين، أي دخلاء. وهكذا سُمح لكل من يحفظ ناموس موسی ولكنه لا يخضع لشريعة الختان بالصلاة داخل المجمع اليهودي ، وكان يطلق على هذه الفئة اسم ” خائفي الله”.

وبسبب عدم مناداة المسيحية بممارسة الختان ، كان خائفو الله من أكثر المستجيبين للإيمان بالإنجيل ، كما في إيمان کرنیلیوس على يد بطرس الرسول ( أع 10 ) . وقد واجهت المسيحية في بدء انتشارها مشكلة صعبة وهي إصرار بعض المسيحيين الذين كانوا من أصل يهودي على ممارسة الأمم لشريعة الختان قبل إيمانهم بالمسيح . وقد دفع هذا الرسل إلى عقد مجمع في أورشليم لحل هذه المشكلة ( أع 15 ) . وكان من أهم قرارات المجمع عدم إلزام الأمم الداخلين إلى الإيمان بممارسة الختان.

وقد عبر بولس الرسول عن مفهوم الختان في العهد الجديد قائلا : «وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ،» ( کو 11:2و 12) . أي أن الختان الذي كان علامة عهد بين الله وإبراهيم في القديم ، كان رمزاً لختان العهد الجديد ، أي المعمودية . وكما أن الختان كان هو الباب لدخول أي إنسان إلى الإيمان اليهودي ، صارت المعمودية – أي الولادة من الماء والروح ، وخلع جسم خطايا البشرية – هي الطريق للمسيحية ولنوال الحياة الأبدية : “أجاب يصوع : « الحق الحق أقول لك : إن كان أحد لا يول من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله » ( يو 3 : 5 ) . وصارت وصية الرب الأخيرة لتلاميذه : «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. » ( مت 28 : 19 ) .

ويشرح القديس كيرلس الكبير هذا الأمر قائلا

[لأنه فيما يتعلق بطبيعة هذا الأمر ، أعني ذلك الذي يجري في الجسد ، فإنه لا يفيد شيئاً البتة . ولكنه يحمل في طياته الرمز لسر ممتلئ نعمة ، أو بالحري يتضمن الاستعلان لحقيقة مختفية . لأنه في اليوم الثامن ( أي يوم الأحد ) قام المسيح من بين الأموات وأعطانا الختان الروحي ، وذلك بمقتضى ما أمر به الرسل القديسين : « اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس ( مت 28 : 19 ) . ونحن نؤكد هنا أن الختان الروحي يتم أساساً في المعمودية المقدسة ، حيث يجعلنا المسيح شرکاء أيضا في الروح القدس
لقد أُلغي طقس الختان بعد ختانة المسيح ، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان رمزاً لها . لذلك فنحن لا نختتن بعد ، لأن الختان – حسب ما يبدو لي – كان يخدم ثلاثة أغراض :
ففي المقام الأول : خص ذرية إبراهيم بنوع من العلامة أو الختم لتمييزهم عن بقية الشعوب الأخرى
وثانياً : كان الختان في ذاته رمزاً سابقاً لنعمة المعمودية الإلهية وفاعليتها ، لأنه كما كان كل من يُختن في القديم يحسب ضمن شعب الله بهذا الختم ، هكذا أيضا من يعتمد الأن يكون قد حصل في نفسه على المسيح الختم ، فيدرج بذلك ضمن بيت أهل الله المتبنين .
وثالثاً : فإنه يرمز للمؤمن الذي تأسس في النعمة ، قاطعاً عنه بل ومميتاً لكل ثورات الملذات الجسدية والشهوات الجامحة بجراحة الإيمان القاطع ، وليس بقطع اللحم ، وإنما بالممارسات النسكية وتطهير القلب ، بختان الروح لا الحرف ، الذي مدحه لا يحتاج ، كما يقول بولس الرسول ، إلى حكم بشري ولكنه يعتمد على شهادة من فوق ( رو 2 : 29 ) ] [5] .

  1. 16 Jones Lynn , Circumcision Among Jews of the Dispersion , in Biblical illustrator , Spring 1986 , p . 24
  2. 17 Philo . In Flaccum 43. cited by A. F. Walls , Dispersion , in New Bible Dictionary , Inter – Varsity Press , second edition , ( 1982 ) , p . 286 
  3. .18 Lohse , Eduard , The New Testament Environment , Nashville , Abingdon ( 1976 ) p . 122 . 
  4. William D. Davies , Paul and Rabbinic Judaism : Some Rabbinic Elements in Pauline Theology , Fortress Press , Minneapolis ( 1980 ) , p . 5-7
  5. 20 St. Cyril of Alex . On Luke , 2 : 27 .

    تقديم الطفل يسوع إلى الهيكل كتب أنبا إبيفانيوس برية التجربة
    كتاب مفاهيم إنجيلية
    المكتبة المسيحية

     

زر الذهاب إلى الأعلى