فرصة المغفرة للقريب، وكون النفس كنيسة الله

‏العظة السابعة والثلاثون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

 [عن الفردوس ، والناموس الروحي]

 [أ] المغفرة هي تكميل الناموس

1 – إن « محبة العالم » – كما هو مكتوب – « هي عداوة لله » ( یع 4 : 4 ) ، لذلك تأمر الكتب المقدسة بأنه بكل تحظ يحفظ كل واحد قلبه[1] لكي إذا ما حفظ الإنسان الكلمة في قلبه كفردوس تمتع بالنعمة ، غير منصت للحية التي تزحف بالداخل مُوسوسة بما يبعث على اللذة – تلك اللذة التي يُولد بواسطتها الغضب الذي يقتل الأخ بينما تموت النفس التي ولدته[2] – بل منصتاً للرب القائل :”اصرف عنايتك إلى الإيمان والرجاء اللذين بهما تُولد محبة الله ومحبة البشر ، المحبة التي تمنح الحياة الأبدية . إلى هذا الفردوس دخل نوح، حافظاً الوصية وعاملاً بها ، وبواسطة المحبة افتُدي من الغضب[3] . هذه الكلمة لما حفظها إبراهيم سمع صوت الله[4] ، ولما حفظها موسی اقتبل المجد في وجهه[5] ، وبالمثل لما حفظها داود وجعل يعمل بها بسط بسبب ذلك سيادته على أعدائه ، بل حتى شاول الملك طالما كان حافظاً قلبه كان يفلح ، لكن لما خالف أخيراً تُرك نهائياً. لأن كلمة الله تسعي وراء كل واحد بقدر ووفقا لمعيار : فبقدر ما يُمسك بها الإنسان يُمسك منها ، وبقدر ما يحفظها يُحفظ منها.

۲ – لأجل هذا فكل خورس الأنبياء القديسين والرسل والشهداء كانوا يحفظون الكلمة في قلوبكم ، غير مبالين بشيء آخر بل [غاضين الطرف عن الأرضيات وثابتين في وصية الروح القدس][6] ، مُفضلين على الكل محبة الله والصلاح النابعين من الروح القدس[7] ، وهذا ليس فقط بالقول أو بمجرد المعرفة ، بل بالقول والفعل وبواسطة الأعمال ذاتها ؛ فعوضاً عن الغنى آثروا الفقر ، وعوضاً عن المجد الهوان ، وعوضا عن الراحة الشقاء ، وعوضاً عن السخط المحبة . فإنهم لما أبغضوا لذات الحياة ، باتوا يحبون بالحري الذين ينزعون عنهم هذه اللذات کشركاء لهم في سعيهم نحو غايتهم متجنبين معرفة الخير والشر، فإنهم ما كانوا يستنكرون الصالحين ولا كانوا يلومون الطالحين ، بل يحسبون الجميع مُنفذين لتدبير السيد ، لذلك فقد صار لهم من نحو الجميع مودة متأصلة . فإنهم لما سمعوا الرب قائلا : “اغفروا ويغفر لكم ” ( لو 6: 37) ، حينئذ راحوا يحسبون الأثمة محسنين ، مغتنمين منهم الفرصة لنيل المغفرة . ولما سمعوا أيضا : « وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم هكذا » ( لو 6: 31) ، حينئذ أخذوا يحبون حتي الصالحين في ضمائرهم[8]، لأنهم هم أنفسهم حين تركوا برهم الذاتي والتمسوا بر الله ، وجدوا تبعاً لذلك المحبة المكنونة طبيعياً في بر الله.

3 – فإن الرب بعدما أوصی مرارا كثيرة بالمحبة ، أمر بطلب بر الله[9] لأنه يعلم أن هذا هو أبو[10] المحبة ، فما من سبيل آخر للخلاص إلا بواسطة القريب[11] ، كما أوصی : « اغفروا وسيُغفر لكم » ( لو 6 : 37) . فهذا هو الناموس الروحي المكتوب في القلوب المؤمنة وهو تكميل الناموس الأول[12] ، لأنه يقول : « ما جئت لأنقض الناموس بن لأكمل » ( مت 5: 17) ، لكن فلتتعلم كيف يُكمل ؟ فالناموس الأول – متخذاً فرصة مؤاتية من الذي أخطأ – حكم بالأكثر على المُذنب إليه ، إذ يقول : « لأنك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك » ( رو ۲ : ۱ ) ، وأما إذا ما غفر هو فسيُغفر له ، لأنه هكذا يقول الناموس : « في وسط الدينونة دينونة ، وفي وسط المغفرة مغفرة [13]» ( تث ۱۷ : ۸ س ) .

4 – فالمغفرة إنما هي تکمیل الناموس ، وقد دعوناه الناموس الأول ، ليس لأن الله قدم ناموسين للبشر بل ناموساً واحدا روحيا بحسب طبيعته[14] ، أما بحسب قضائه فهو ناموسن يجلب مجازاة عادلة على كل أحد : يغفر لمن يغفر، ويشتد على من يشتد، لأنه يقول : « مع المختار ستكون مختاراً، ومع الأعوج ستُعوج » ( مز 18 : 26س ) . من أجل هذا فالذين قد أكملوه روحياً واشتركوا على قدر ذلك في العمة كانوا يحبون ليس فقط المحسنين إليهم بل أيضا مُعيريهم ومضطهديهم ، منتظرين المحبة الروحية كمكافأة لأعمالهم الصالحة . أقول أعمالهم الصالحة ، ليس لأنهم صفحوا عن المظالم ، بل لأنهم ، فضلاً عن ذلك ، أحسنوا إلى نفوس ظالميهم . فإنهم هكذا قدموهم إلى الله كمن بواسطتهم قد نالوا الطوبى ، كما يقول : « طوبي لكم إذا عیروكم وطردوكم » ( مت 5 : 11 ) .

5- فإنهم من الناموس الروحي تعلموا أن يتفكروا هكذا ، فلقد صبروا وحفظوا وداعتهم الروحية، ولما أبصر الرب صبر قلوبهم إزاء الحروب ومحبتهم التي لا تتبدل ، مزق « حائط السياج المتوسط » [15]، فطرحوا العداوة بالتمام وما عادوا بعد يقتنون المحبة بتغصب بل بمعونة . ذلك لأن الرب أبطل كذلك السيف المُتقلب»[16] الذي يُحرك الأفكار ، فدخلوا إلى ما داخل الحجاب ، حيث دخل الرب كسابق من أجلنا »[17] ، وطفقوا يتنعمون بثمار الروح. وحيث إنهم شاهدوا الخيرات العتيدة بثبات قلب وليس بعدُ كقول الرسول « في مرآة ، وفي لغز» ( 1کو 12:13 ) ، فإنهم أخذوا يتحدثون عن “ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب إنسان : ما أعده الله للذين يجونه”[18].

[ب] الروح القدس يعلن لنا الخيرات المنتظرة

6 – سؤال : لكني أسأل عن هذا الأمر العجيب : إن كان « لم يخطر على قلب إنسان» ، فكيف تعرفون هذه الأشياء ؟ سيما وأنتم تعترفون في سفر الأعمال أنكم « بشر تحت آلام مثلنا »[19] ؟

الجواب : بل اسمعوا ما يجيب به بولس على هذا : « فأعلنه الله لنا نحن بروحه ، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله » ( اکو ۲ : ۱۰ ) . لكن لئلا يقول أحد إنه لهم کرسل قد أُعطي الروح أما لنا بحسب طبيعتنا فلا سبيل لنيله ، فإنه يقول في موضع آخر مصلياً: « لگي يُعطيكم الله قوة لتتشددوا ( بروحه ) في الإنسان الباطن ليحل المسيح في قلوبكم » ( أف 3 : 16 ، 17 – حسب النص ) ، وأيضاً: « وأما الرب فهو الروح ، وحيث روح الرب هناك حرية » (2 کو 3 : 17) ، وأيضاً: « إن كان أحد ليس له روح المسيح ، فذلك ( الإنسان) ليس له ( أي ليس للمسيح ) » ( رو ۸ : ۹ ) .

۷ – فلتصل إذا نحن أيضاً في يقين وتبصر لكي نشترك في الروح القدس ، وندخل إلى حيث كنا قد خرجنا ، وتُقصي عنا. الآن فصاعداً الحية والدة الغضب والحاضَّه على العجب ، التي هي روح الهموم والسُّكر . حتى إذا ما آمنا بثبات ، حفظنا وصايا الرب ونمونا فيه « إلى رجل كامل ، إلى قياس قامته »[20] ، كي لا يعود يتسلط علينا خداع هذا الدهر ، بل نكون في يقين الروح لا يخامرنا الشك في أن نعمة الله تسر أيضا بالخطأة التائبين . لأن ما يوهب على سبيل نعمة لا يُقاس بعد ولا يقارن بسالف الضعف ، « وإلا فليست النعمة بعد نعمة »[21] . لكن ، ونحن مؤمنون بالله القادر على كل شيء ، فلنتقدم ببساطة وسلامة قلب إلى ذاك الذي يمن علينا بشركة الروح القدس بالإيمان لا بما يتناسب وأعمالنا الطبيعية ، لأنه يقول : « لا بأعمال الناموس أخذتم الروح بل بخبر الإيمان» ( غل ۳ : ۲- حسب النص ).

[ج] النفس المزدانة بالفضائل هي كنيسة

8 – سؤال : وما معنى « أريد أن أتكلم في كنيسة خمس كلمات بذهني » ( ۱ کو 19:14 – حسب النص)؟

الجواب : الكنيسة تُفهم من وجهتين : جماعة المؤمنين ، وقوام النفس[22] ؛ فحينما تؤخذ روحياً على الإنسان ، فالكنيسة هي قوامه كله ، أما الكلمات الخمس فهي الفضائل الحاوية لغيرها التي تبني الإنسان كله ، مُوزعة بطرق شتی. لأنه كما أن الذي يتكلم في الرب قد حاز كل الحكمة بالكلمات الخمس، هكذا الذي يتبع الرب يبني وافر التقوى بالفضائل الخمس . فبكونها خمساً فهي تحوي الجميع ، فالأولى : الصلاة[23] ، ثم ضبط النفس ، والصدقة ، والمسكنة ، وطول الأناة . فهذه ، إذا ما أُكملت عن شوق واختبار تكون كلمات للنفس ، مقُولة من الرب ومسموعة من القلب ، لأن الرب يعملها والروح القدس حينئذ يتكلم بها روحياً[24] ، والقلب بقدر ما يشتاق إليها يُكملها علانية.

۹- أما هذه الفضائل فبقدر ما إنها حاوية للكل تكون أساسية إحداها للأخرى ، فعند غياب الأولى ( أي الصلاة ) ينتفي الجميع ، بالمثل عن طريق الثانية ( أي ضبط النفس ) تكون التي تعقبها ، وهكذا دواليك . لأنه كيف سيصلي أحد دون أن يفعل فيه الروح القدس ، وها الكتب المقدسة تشهد لي قائلة : « ليس أحد يقدر أن يقول : ’ يسوع رب ‘  إلا بالروح القدس » ( 1 كو ۱۲ : ۳ ) ؟ وكيف يثابر الذي يضبط نفسه دون صلاة ومعونة ؟ والذي لا يضبط نفسه في كل شيء كيف سيرحم الجائع أو الأثيم ؟ والذي لا يرحم لا يقبل كذلك أن يفتقر باختياره. وأيضا الغضب هو قرین شهوة المقتنيات ، سواء أكان يمتلك أو لا يمتلك . أما النفس ذات الفضائل فهكذا تُبنى ككنيسة ليس لكونها عملت بل لكونها اشتاقت ، لأن عمل الإنساني الذاتي لا يخلصه ، بل الله الذي يهب القدرة . فإن كان أحد يحتمل سمات السيد فلا يفتخر بشيء – أيا كان ما عمل من أعمال – إلا فقط بمحبته وبسعيه في إثر الأعمال . فلا تتوهم قط أنك سبقت الرب في فضيلتك ، بل تفكر حسب القائل إنه « هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسيرة » ( في ۲ : ۱۳ ) .

۱۰ – سؤال : فبماذا توصي الكتب المقدسة الإنسان بأن يعمل ؟

الجواب : قلنا آنفا إن الإنسان بحسب الطبيعة له شغف للسعي وهذا يطلبه الله ، لذلك توصية الكتب المقدسة أولا بأن يفهم وإذا ما فهم يحب ويسعى بإرادته . أما أث يتأثر ذهنه أو يتحمل العب أو يتم العمل ، فهذا تمنحه نعمة الرب الذي يريد ويؤمن . فإرادة الإنسان إذا هي أشبه بخدمة لا غنى عنها ، فإذا لم تتوفر الإرادة ، ولا الله نفسه يصنع شيئا – مع أنه قادر – بسبب حرية الإرادة . لذلك فتتميم عمل الله مرهون بإراد الإنسان . وأيضا إن كنا نعطيه كل إرادتنا فإنه يعزو لنا كل العمل ، فعجيب هو الله في كل شيء ولا يسبر غوره البتة. أما نحن البشر فنحاول أن نتكلم عن جزء من عجائبه مستندين على الكتب المقدسة ، بل بالأحرى متعلمين منها ، لأنها تقول : « من عرف فكر الرب؟» (رو 34:11 ؛ 1کو 2 : 16 ) . فإنه هو نفسه يقول : « كم مرة أردت أن أجمع أولادك ولم تُریدوا » ( مت 23 :37 ؛ لو 13: 34 ) ، فنؤمن من هذا أنه نفسه يجمعنا ، أما منا نحن فيلتمس الإرادة لا غير ، لكن ما هو تبيان إرادتنا سوى التعب طواعية؟

۱۱ – فكما أن الحديد حينما يُنشر ويُقطع به أو يُفلح ويُغرس به يكل هو نفسه جراء الضغط عليه ، إلا أن هناك آخر يُحركه ويُسيره وحين ينكسر يُحميه بالنار ويجدده ؛ هكذا أيضا الإنسان وإن كان يتجشم الضيق والتعب فيما يعمل الصلاح ، لكن الرب يعمل فيه سراً وحين ينال منه الگلال وينكسر قلبه يعزيه ويجدده ، كما يقول النبي أيضاً: « هل تتمجد الفأس بدون القاطع بها؟ أو يتعالى المنشار بدون جاذبه ؟ » ( إش ۱۰ : ۱۰ س ) . لكن هكذا أيضا يكون الحال في الشر : فحينما يطيعه الإنسان ويُهيئ نفسه له ، يحركه الشيطان ويشحذه شخذ اللص للسيف . ولقد شبهنا القلب بالحديد لانعدام حسه بالأمور وكثرة صلابته. لكننا ما كان ينبغي أن جهل ، کالحديد العادم الحس، ذاك الذي يُمسكنا – وإذ ذاك فما كنا ننتقل هكذاً سريعاً من الكلمة (اللوغوس ) الذي يُفلحنا إلى أفكار عدونا – بل بالأحرى كان ينبغي أن نعرف ، كالثور والحمار ، ذاك الذي يقودنا ويرشدنا بحسب قصده ، لأنه يقول : « الثور عرف قانيه ، والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلم يعرفني » ( إش ۱ : ۳ س ) ! فلنُصل إذا لكي نقبل معرفة الله ونتأدب بالناموس الروحي لخدمة وصاياه المقدسة ، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمین .


  1. انظر : أم 4 : 23س.
  2. انظر : 1يو 3 :15« كُل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس» ، ويُفهم من قول أنبا مقار “بينما تموت النفس التي ولدته”( أي التي ولدت الغضب ) أن من يغضب أو يبغض أخاه يقتل نفسه روحياً قبل أن يقتل أخاه جسدياً۔
  3.  انظر : تك 7 . 
  4. انظر : تك 1:12. 
  5. انظر : خر 34 : 29، 30. 
  6. هذه الجملة وردت فقط في ال PG 34 , 152 A ) PG  )
  7. ” مفضلين على الكل محبة الله ، هذا يُحضر إلى ذاكرتنا جملة مضيئة مشابهة للأنبا أنطونيوس استخدم فيها ذات الفعل عينه ، كان يوجهها للجميع بعد أول خروج له من وحدته : [ وكان ( أنطونيوس ) يناشد الجميع على الا يفضلوا  شيئاً مما في العالم على محبة المسيح ] ( سيرة ق. أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس – فصل 14 ( PG 26 – 865A )  
  8. أي الممسوكين بالبر الذاتي
  9. انظر : مت 16 : 33. 
  10. في الأصل اليوناني : ” أم” ، حيث إن كلمة بر في اليونانية مؤنثة.
  11.  يقول أنبا أنطونيوس في رسالته السادسة : ” إن حياتنا هي من بعضنا البعض ( الرسالة 6: 6 ).
  12. انظر : رو 10:13 .
  13. نص هذه الآية في السبعينية : « في وسط الدينونة دينونة ، وفي وسط الضربة ضربة » . فمن الراجح أن الشبه في الحروف بين كلمتي αφεσις = مغفرة ؛ و αφεη = ضربة هو ما حدا بأنبا مقار للاستشهاد بهذه الآية هنا . 
  14. انظر : رو 7: 14 .
  15. أف 2: 14 . 
  16. تك 3: 24. 
  17. عب 6: 19، 20- حسب النص .
  18.  1کو 2: 9. 
  19. أع 14 : 15 – حسب النص.
  20. أف 13: 4.
  21. رو 11 :6.
  22.  انظر : العظة 15:12
  23.  يؤكد أنبا مقار هذا أيضا في موضع آخر قائلاً: ” إن الذي يلازم الصلاة يقتني أفضل الأعمال ( بستان الرهبان – قول 54) ، انظر أيضا : العظة ، 40: 2
  24.  أي بمنأى عن الحواس.

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى