كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

آية يونان النبي

تمتلئ أسفار العهد القديم بالنبوءات عن الرب يسوع منذ ميلاده حتى صعوده إلى السماء، ثم مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات. ولا يخلو كلام أي نبي من أنبياء بني إسرائيل من نبوة أو أكثر تلقي الضوء على مرحلة من مراحل حياة الرب يسوع. حتى بلعام النبي الاممي الغريب عن شعب إسرائيل تنبأ عن مجيء الرب يسوع بالجسد، فقال: «أراه ولكن ليس الآن. ابصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل…» (عدد ٢٤: ١٧). وهكذا يشترك جميع الأنبياء في التنبؤ عن شخص الرب يسوع.

أما يونان النبي فقد تميز على كثير من الأنبياء، فهو لم يتكلم متنبئاً عن مجيء الرب فقط، بل صار هو نفسه رمزاً يشير إلى موت الرب وقيامته. هذا ما أوضحه الرب يسوع عندما طلب قوم من الكتبة والفريسيين أن يريهم آية من السماء، فرد عليهم قائلاً: «جيل شرير
وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى له أية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال … لأنه كما كان يونان آية لأهل يينوى، كذلك يكون ابن الإنسان أيضا لهذا الجيل، (مت ١٢: ٣٩ و٤٠ ، لو ١١: ٣٠)

لمحة تاريخية:

ولد يونان بن أمتاي، ومعنى اسمه حمامة، في قرية جت حافر التي تقع عل حدود زبولون ونفتالي (يش ١٩: ١٣)، وهي تبعد حوالي خمسة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مدينة الناصرة. وتقع مكانها الآن “خربة الزورة” بالقرب من “قرية مشهد” حيث يوجد الآن “قبر النبي يونس” الذي يعتقد أن الني مدفون فيه، ويذكر القديس جيروم (من القرن الرابع)، أنه قام بزيارة هذا القبر. ولا يرد في كتاب العهد القديم أية إشارة عن هذا النبي خارج سفر يونان إلا في سفر الملوك الثاني (٢مل ١٤: ٢٥)، حيث يُذكر أنه تنبا في أيام الملك يربعام بن يواش ملك إسرائيل (793- 753 ق.م).

تنبأ يونان النبي في فترة من أصعب الفترات التي مرت على أمَّته. فجميع الملوك المعاصرين الذين حكموا إسرائيل كانوا أشراراً جداً في عيني الرب، وكان عقاب الرب وشيكاً أن يحل بهم. وقد استخدم الله يونان النبي لينذر الشعب لعلهم يتوبون، فيعود الله ويرحمهم ويخلَّصهم من أعدائهم. ويبدو أن تدخل الله ورحمته عل هذا الشعب كأن نتيجة كرازة النبي يونان بينهم: “لأَنَّ الرَّبَّ رَأَى ضِيقَ إِسْرَائِيلَ مُرًّا جِدًّا، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحْجُوزٌ وَلاَ مُطْلَقٌ(حُر) وَلَيْسَ مُعِينٌ لإِسْرَائِيلَ. وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الرَّبُّ بِمَحْوِ اسْمِ إِسْرَائِيلَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ، فَخَلَّصَهُمْ بِيَدِ يَرُبْعَامَ ابْنِ يُوآشَ.” (٢ مل ١٤: ٣٦و٢٧).

إن سبب الخلاص من الأعداء الذي تم على يد الملك لا يرجع إلى توبة الشعب والملك، بقدر ما يعود إلى مراحم الله على شعبه. لأنه بالرغم من مناداة يونان لهم بالتوبة إلا أن الملك لم يرجع عن شره ولم يقدم توبة للرب: «ملك يريعام بن يوآش ملك إسرائيل في السامرة إحدى وأربعين سنة. وعمل الشر في عيني الرب … هو رد تخم إسرائيل من مدخل حماة إلى بجر العربة، حسب كلام الرب إله إسرائيل الذي تكلم به عن يد
عبده يونان بن امتاي التي الذي من جت حافر» (٢ مل ١٤: ٢٣-٢٥).

أما ملوك دولة أشور، المعاصرون لهذا الملك، والذين تاب أحدهم بمناداة يونان النبي، فهم أداد نيراري الثالث (٨١٠-٧٨٢ ق.م.)، وشلمناصر الرابع (٧٨٢-٧٧٢ ق.م.)، وأشور دان الثالث (٧٧٢-٧٥٤ ق.م.)، واشور نيراري الخامس (٧٥٤ -٧٤٦ ق.م.). وهناك بعض الشواهد التاريخية التي تثبت أنه في أيام الملك أداد نيراري الثالث حدثت ثورة دينية تبعها نوع من الإيمان بإله واحد، أو على الأقل بإله أكبر، ويربط بعض المؤرخين بين
هذه الثورة التوحيدية وبين مناداة يونان النبي لأهل نينوى”.

ويبدو أن أهل نينوى كانوا أشراراً جداً في عيني الرب، إذ تنبأ عليهم بالهلاك أكثر من نبي. فيقول ناحوم النبي في نبوءته: «ويل لمدينة الدماء. كها ملآنة كذباً وخطفاً. لا يزول (منها) الإفتراس … ليس جبر لانكسارك. جرحك عديم الشفاء» (نا ٣: ١ و١٩). كما يتنبأ عليها
صفنيا النبي قائلاً: «ويجعل نينوى خراباً يابسة كالقفر … هذه هي المدينة
المبتهجة الساكتة مطمنئة، القائلة في قلبها: أنا وليس غيري» (صف٢ :١٣ و١٥).

رسالة يونان الني:

لكي نعرف رسالة هذا النبي، ينبغي الرجوع إلى الكتاب الذي يحمل اسمه، وهو سفر يونان النبي، لأن هذا السفر يقدم لنا واحداً من أهم الأسرار اللاهوتية، وهو السر الذي نادى به بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس:
+ “إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ. أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ. الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ، تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ.” (أف ٣: ٢-٦).

واضح أن سر المسيح هنا هو أن الله ليس لليهود فقط، بل للأمم أيضاً. لقد أراد يونان النبي أن ينقل هذه الأفكار إلى شعبه إسرائيل، وقد كان يعلم تماماً أنه من العسير عليهم قبول هذا الفكر، لأنه هو نفسه كان يرفض هذا المفهوم تماماً. لماذا؟

فكلما أخطأ شعب إسرائيل وحاد عن طريق الله، كان الله ينذرهم أنه سوف يؤدبهم بواسطة الأمم. لذلك نظر بنو إسرائيل إلى الأمم نظرة عداء شديدة وتمنوا لهم العقاب المستمر، ولم يخطر عل بالهم أبداً إمكانية خلاص هذه الشعوب. وحاولوا أن يفتشوا في أقوال الأنبياء عن النبوءات التي تتنبأ عليهم بالخراب والدمار، وما أكثرها. أما إذا وجدوا أي تلميح في كلام الأنبياء عن إمكانية خلاص هذه الشعوب حاولوا تفسيره تفسيراً رمزياً غير صحيح حتى يبعدوا عن فكرهم أية إمكانية لخلاصهم.

ومن التلميحات القليلة التي تشـير إلى قبول الله للأمم، والتي ذكرها الأنبياء بصورة عرضية، قول إشعياء النبي في نبوءته عن يوحنا المعمدان:”صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ أي بين الشعوب التي لم تعرف الله) سَبِيلاً لإِلَهِنَا. (إش ٤٠: ٣). كما يتكلم إشعياء أيضاً عن عودة كل الأمم إلى حظيرة الرب: «ويكون في أخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري
اليه كل الأمم» (إش٢:٢). ومن الواضح أن هذه النبوءات كانت تُشير إلى عصر مجيء المسيا الرب يسوع.

هكذا كانت تلميحات الأنبياء. أما يونان النبي فبدلاً من أن يقدم تعاليم وأقوالاً نظرية حول قبول الله لتوبة الامم، اضطر لأن يقص عليهم قصة تعامل الله معه هو شخصياً في الإرسالية التي أرسله فيها الله للامم ليدعوهم للتوبة. كما أوضح لهم أنه كان في البداية رافضاً لفكرة توبة الامم ورجوعهم إلى الله. وكيف حاول الهروب من وجه الرب حتى لا يذهب ويبشر الامم فتتوب وترجع ويصفح عنها الله. وأثناء هروبه إلى ترشيش (التي ربما تكون أحد موانى بلاد أسبانيا الحالية)، أهاج الله عليه البحر، وكادت السفينة أن تغرق، فاضطر البحارة إلى القائه في اليم، حيث أعد الله له حوتاً ابتلعه وحفظه سالماً ثم لفظه على البر. فرضخ يونان لأمر الله وذهب ليكرز لأهل نينوى، الذين حالما سمعوا صوت النذير، تابوا إلى الله، مقدمين صوماً نقياً استدر مراحم الله فصفح عن إثمهم.

لقد لقَّن الله يونان درساً لن ينساه، وهو يريد الآن من إخوته اليهود أن يعوا هذا الدرس. وها هي كنيسة العهد الجديد، وقد استفادت هي أيضاً من هذا الدرس، تقنن صوماً خاصاً على غرار صوم أهل نينوى حتى تغرس في نفوس أولادها دائماً أن الله لا يفرح فقط بتوبة ورجوع الخاطئ إليه، بل إنه أيضاً ليس إله كنيسة بعينها ولا شعب بعينه، بل هو إله الخليقة كلها «الذي يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون» ( ١تي ٢: ٤)، وأنه: «في كل أمة، الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده» (أع ١٠: ٣٥).

وبالإضافة إلى هذا السر الذي يعلنه النبي، وهو سر قبول الله للامم، يؤكد أيضا على حياة التوبة. فهو يخبرنا عن توبة البحارة الوثنيين وإيمانهم بإله السماء والأرض والبحر، وفي توبتهم نذروا لله نذوراً وذبجوا ذبيحة (يون ١: ١٦). كما يقص علينا توبة أهل نينوى من كبيرهم إلى صغيرهم وعودتهم إلى الله نادمين وجالسين في المسوح والرماد (يون ٣: ٥-٩). كما يخبرنا أيضاً – ولو بإشارة خفية – عن توبته هو نفسه. فإن كان النبي لم
يذكر لنا صراحة أنه تاب، لكنه في كتابته لهذا السفر اعتراف صريح منه بالطريق الخطا الذي سلكه.

وأخيراً يخبرنا عن ندم الله عن الشر الذي أراد أن يوقعه بأهل نينوى، وان توبة هذا الشعب جعلت الله يرجع عن تهديده بفناء هذا البلد:

«فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه» (يون ٣: ١٠).

لقد أراد الله قديماً أن يجد في سدوم وعمورة عشرة أتقياء فقط يردون غضبه ليصفح عنها، فلم يجد (تك ١٨: ٣٢). بل أكثر من ذلك أراد أن يصفح عن أورشليم إن وجد فيها باراً واحداً: «طوفوا في شوارع اورشليم وانظروا، واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنساناً أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق، فأصفح عنها؟» (إر ه: ١).

أما مدينة نينوى الوثنية فقد تابت ورجعت إلى لله عن بكرة أبيها، فنالت خلاصا، واستحقت – كما شهد لها المسيح – أن تقف أمام كرسي الله لتدين المدن التي لم تتب وتقبل كلمة الله: “رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان» (مت ٤١:١٢).

آية يونان الني

كيف صار يونان آية؟ يجيب إنجيل القديس متى قائلاً: “كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (مت ١٢: ٤٠). ويضيف إنجيل القديس لوقا قائلا: «كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل» (لو ١١: ٣٠).

قد طلب الفريسيون من الرب أن يريهم آية من السماء، متناسين كل الآيات والمعجزات التي عملها بينهم. فأظهر لهم الرب بأن هذا الجيل الشرير، الذي فاق في شره أهل نينوى، يحتاج إلى نوع آخر من الآيات، لأن أهل نينوى تابوا بمناداة يونان دون أن يطلبوا منه آية تثبت صدق كلامه. لذلك رأى الرب يسوع أنهم في احتياج إلى الآية التي من أجلها
تجسد ونرل إلى أرضنا، آية موته ودفنه في القبر ثلاثة أيام ثم قيامته من بين الأموات، مقيماً معه كل الذين يؤمنون به في ذلك الجيل وفي كل الأجيال: «أقامنا معه، واجلسنا معه في السماويات» (أف 2 :6).

لقد تألب البحارة عل يونان وألقوه في اليم، وصار له بطن الحوت بمثابة “جوف الهاوية” (يون 6: 6). هكذا تألب اليهود عل الرب وصلبوه ودفن في “باطن الأرض”. وكما حفظ الله يونان في بطن الحوت سالماً وكان يعيش عل رجاء أن ينظر هيكل الله مرة أخرى: “ولكني أعود أنظر إلى هيكل قدسك» (يون 2: 5). هكذا قالت النبوة عن الرب يسوع إنه دفن على رجاء: «حتى جسدي أيضاً سيسكن عل رجاء. لأئك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً» (أع 1: 26و27 ، مز16: 9و10).

وكما خرج يونان من بطن الحوت بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال، وذهب وكرز لأهل نينوى، هكذا قام الرب من بين الأموات في اليوم الثالث وأعلن بشرى الخلاص للخليقة كلها. والمقصود بـ “ثلاثة أيام وثلاث ليال” ليس ثلاثة أيام كاملة، لأنه في لغة الكتاب المقدس، وفي الأدب اليهودي القديم عامة، يطلق على الجزء من اليوم يوماً كاملاً (مثل ملوك
الأول 29:20 أستير4: 16 ، 5 :1 ، لو 21:2).

لقد كان نزول يونان إلى بطن الحوت وخروجه سالماً آية لأهل نينوى، أعطتهم حياة بعد أن كان قد صدر حكم الموت عليهم “بعد اربعين يوماً تنقلب نينوى” (يون3: 4)، هكذا صار موت الرب وقيامته سبب حياة أبدية لجميع الذين يؤمنون به، بعد أن كنا جميعاً تحت حكم الموت بسبب الحكم الذي صار على آدم ونسله: “لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيج سيحيا الجميع، فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان، ايضا قيامة الأموات» (1كو 15: 21و22).

اطلبوا الرب كتب أنبا إبيفانيوس رئيس المجمع
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى