كتاب الصليب المقدس للأب متى المسكين

الصليب من الوجهة التاريخية

 

تعيَّد الكنيسة القبطية للصليب المقدس مرتين ، الأولى في 10 برمهات و يوافق 19 مارس والأخـرى في 17 توت و يوافق 27 سبتمبر، أما العيد الرسمي في كنيستنا حسب التقليد فهو الواقع في 10 برمهات ، بينما يوافق لدى الكنائس الأخرى في الغرب والشرق 14 سبتمبر كتذكار دائم لتمجيد الصليب والتعييد لظهوره .

وظـهـور الـصـلـيـب ـ حسب التقليد الذي تسلمته الكنيسة ـ كان على يد القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطينوس ، التي تكبدت أتعاب السفر إلى أورشليم وهي بالغة مـن الـعـمر أكثر من سبعين سنة، وذلك لتكتشف القبر المقدس وتبني كنيسة هناك . وقد تمم الله لها فعلاً كل ما اشتاقت نفسها إليه كما أوحي إليها ، وبنت كنيستين : إحداهما على القبر المقدس وأسمتها في الـبـدايـة أورشليم الجـديـدة، ولـكـن عُـرفـت فيا بعد بالأنـاسـتـاسـيـس أي كنيسة القيامة ( التي أكملها ولدا قسطنطين الملك )، والأخرى في بيت لحم .

والقديس أمبروسيوس أسقف ميلان ( 339 – 397م)، هو أول من أشار إلى حادثة اكتشاف الـصـلـيـب بواسطة الملكة هيلانة ، وقد ذكرها في إحدى عظاته : « انتقال ثيئوذوسيوس» التي عن ألقاها سنة 395م.

وقـد نـقـل قصة اكتشاف الصليب عن القديس أمبروسيوس كل من القديس يوحنا ذهبي الـفـم (347-407م)، والـقـديـس بـولـيـنـوس الأسـقـف الـذي مـن نـولا (353-431 م).

و يقول القديس يوحنا ذهبي الفم :

[لأنه منذ ذلك الحين اندفنت خشبة الصليب إذ لم يوجد من يعتني بها وقتئذاك بسبب الخـوف الـشـديـد المحيط بالمؤمنين واهتمامهم بما هو أكثر ضرورة. ولكن عـنـدما فتش عنها فيما بعد وجدت الصلبان الثلاثة ملقاة معاً ولكن لم يكن صليب الرب مجهولاً إذ وجد كما هو في الوسط وعليه العنوان]. 

أمـا بـولـينوس الأسقف الذي من نولا بفرنسا ، فقد عثر له على خطاب كان قد أرسله للـكـاتـب الكنسي والمؤرخ المشهور سالبيسيوس ساويرس يقول فيه إنه يرسل له قطعة من خـشـبـة الصليب المقدس ويخبره أنه بالرغم من أن قطعاً كثيرة أخذت من الخشبة إلا أن الخشبة لم تنقص قط . وقد ذاع بسبب ذلك القول إن خشبة الصليب تنمو من ذاتها .

ولكن الأسقف كيرلس الأورشليمي هو أكثر من استفاض في ذكر اكتشاف خشبة الـصـلـيـب المقدس في عظاته التي ألقاها سنة 348م، وكان يخاطب المؤمنين وهو داخل كنيسة القيامة مشيراً إلى التابوت الموضوع فيه الصليب . وكان قد مر على اكتشافه ما يقرب من خمس وعشرين سنة. و يقول الأسقف كيرلس الأورشليمي في إحدى عظاته :

[لقد صلب المسيح حقاً. ونحن إن كنا ننكر ذلك فهذه هي الجلجثة تناقضني التي نحـن مـجـتـمـعـون حولها الآن. وها هي خشبة الصليب أيضاً تناقضني التي وُزع منها على كل العالم.] 

و يقول أيضاً الأسقف كيرلس :

[وخـشـبـة الـصـلـيـب تشهد للمسيح، التي نراها حتى هذا اليوم بيننا الآن ، وقد ملأت كل العالم بواسطة المؤمنين الذين أخذوا قطعاً منها (إلى بلادهم).]

وقد ذكـر الـقـديس كيرلس الأورشليمي إن خشبة الصليب المقدس قد وجدت في زمان الملك قسطنطين ( ولم يذكر الملكة هيلانة)، وذلك أثناء عمل حفر الأساسات لكنيسة القيامة.

ويذكر أيـضـاً قـصـة اكتشاف خشبة الصليب المؤرخ الكنسي سقراط (380-450م)، قائلاً إن الملكة هيلانة كانت مدفوعة للذهاب إلى أورشليم بواسطة رؤيا ، وقد حزنت جداً لما رأت أورشليم خراباً . وقد بحثت كثيراً عن القبر المقدس وعثرت عليه بمعونة الله بعد جهد كثير. ويذكـر سـقـراط أن السبب في اختفاء المكان هو بسبب تغطيته بـالـتـراب على شبه هضبة أقيم فوقها هيكل وثني على أسم الإلهة فينوس منذ مدة طويلة ، إمعاناً في إخفاء مصدر عزاء وفرح وإيمان المسيحيين الذين كانوا يحجون إلى القبر و يوقرونه للغاية .

وقد أمرت المـلـكـة هيلانة بهدم الهيكل ورفع الأتربة، فوجدت ثلاثة صلبان على مسافة رمية حجر من مكان القبر المقدس ، وقد وجدت صليب الرب وعليه العنوان الذي كـتـبـه بـيـلاطـس . وقد تأكدوا من الصليب المقدس لما وضعوه على سيدة مريضة أمام القديس مكاريوس أسقف أورشليم فشُفيت .

وقد أقامت الملكة فوق القبر المقدس كنيسة فخمة أسمتها أورشليم الجديدة ، كما بنت كنيسة أخرى لا تقل عنها جمالاً فوق مغارة بيت لحم ، الموضع الذي ولد فيه المسيح ، كما بدأت في إقامة كنيسة أخرى في الموضع الذي صعد منه على جبل الزيتون.

والمؤرخ ثـيــودوريت (393- 458م) كتب أيضاً نفس القصة ، حيث يذكر أن الملكة التقية هيلانة تجشمت أتعاب السفر إلى أورشليم وهي تناهز من العمر ثمانين سنة تقريباً.

و يـقـول المؤرخ ستانلي في كـتـابـه إنها جازفت بهذه الرحلة وهي في هذا العمر لتعزية نفسها بسبب إعدام أبنها كرسبس .

و يـبـدأ ثيودوريت يصف نفس الظروف التي مرت بها الملكة هيلانة في اكتشاف مـكـان القبر، و يـتـفـق أيـضـاً مع المؤرخ سقراط أن الملكة وجدت في القبر المسامير التي شـمـرت بـهـا يـدا المخلص وأرسلتها إلى أبنها الذي ثبت مسماراً منها على الخوذة الملكية التي يخوض بها المعارك ـ وقـد صـار فيا بـعـد تـقـلـيـداً لدى الملوك أن يضعوا قطعة حديد في خـوذاتهـم وتـيـجـانـهـم ـ وقد وجد تاج الملكة ثيئودولينا في مونزا ( القرن السادس عشر) يحتوي على قطعة حديد على هيئة مسمار.

كما يـقـول أيـضـاً ـ مـتـفـقاً مع سقراط ـ إنها أرسلت قطعة من خشبة الصليب إلى القصر الإمبراطوري في القسطنطينية. وبقية الصليب وضع في تابوت من الفضة داخل كنيسة القيامة تحت حراسة الأسقف مكار يوس.

والمعروف أن الملك قسطنطين أمر بتوزيع قطع من خشبة الصليب المقدس إلى كافة كنائس العالم وقتئذ. وقد احتفظت كنيسة روما بقطعة كبيرة، وهذا هو سر التوقير الشديد الذي لا تزال الكنيسة هناك حتى اليوم تقدمه ـ حسب الطقس اللاتيني ـ أمام بقايا الصليب المقدس يوم الجمعة الكبيرة. وليس في روما فقط بل وكافة الكنائس التي احـتـفظت بقطعة من الصليب المقدس بدأ فيها طقس تكريم «خشبة الصليب المقدس » ، وظل الطقس سار يا كما هو حتى بعد فقدان هذه الذخيرة بمرور الزمن والحوادث .

وها هي كـنـيـسـتـنـا لا تزال تحتفظ بالتسابيح والتماجيد التي كانت تقدم « لخشبة الصليب المقدس»، ولكنها تقدمها الآن أمام أي صليب .

وقد عثر على خـطـابين لـلأسـقـف غـر يغور يوس الكبير أسقف روما بتاريخ 599 م نتحقق منها وجود خشبة الصليب المقدس في روما . يقول غريغور يوس الكبير في رسالته الأولى إلى ريتشارد ملك أسبانيا :

[ وقد أرسلنا لكم مفتاحاً حديدياً من السلسلة التي كان مربوطاً بها جسد بطرس الـرسـول الطاهر عندما كان مساقاً إلى الإستشهاد، لكي الذي ربط عنق بطرس الـرسـول يستطيع أن يحلكم من خطاياكم . وقد أرسلنا لكم مع حامل هذه الهدايا صليباً بداخله قطعة من خشب الصليب المقدس الذي صُلب عليه الرب ، و بعضاً من شعر يوحنا المعمدان.]

وفي رسالة أخرى للملكة ثيئودوليندا ملكة لمباردز يقول :

[وقـد اعـتـنـيـنـا أن نرسل إلى أبننا ملك أودولوفالد صليباً يحوي قطعة من خشب الـصـلـيـب المـقـدس الـذي صـلـب عـلـيـه الـرب وفـصـلاً من الإنجيل في جراب فارسي.]

ومما يحـقـق وجـود صـلـيـب الـرب في كنيسة القيامة قصة الحاجة إيثي يا سيلفيا ( إيجـيـريـا) الـراهـبـة الأسـبـانـيـة التي قامت برحلتها المشهورة في أواخر القرن الرابع إلى الأقطار المقدسة ، وقد وصفت فيها بدقة وذكاء مدهش كل البلاد التي عبرت عليها : آسيا الصغرى والـرهـا و بـراري الأردن وجـبـل سيناء ومصر، وقد اعتنت بوصف الخدمات الـطـقـسـيـة التي كانت تجرى في كنيسة القيامة أثناء وجودها هناك ، كما أتت على ذكر الـطـقـوس والـصـلـوات الخـاصـة بـعيد الصليب أثناء وجودها واشتراكها في الخدمة أمام الصليب المقدس.

وقـد ظـلـت خـشـبـة الـصـلـيـب المقدس موجودة بكنيسة القيامة إلى أن غزا الفرس الأراضي المـقـدسـة واسـتـولى خسرو الثاني ملك الفرس سنة 614م على التابوت الفضي الذي يحوي الصليب المقدس وحمله معه، ، وظـل هـنـاك إلى أن استرده الإمبراطور هيراكليوس سنة 629 م (زمن بطر يركية البابا بنيامين الأول في مصر).

 والكنيستان الغربية والشرقية تعيدان ليوم اكتشاف الصليب مع يوم تدشين كنيسة القيامة مع يوم ظهور الصليب المنير في السماء للملك قسطنطينوس الكبير، وتضم الحوادث الثلاث معاً في يوم 14 سبتمبر (۲۷ سبتمبر الموافق ليوم 17 توت حسب التقويم القبطي الذي لم يـتـأثـر بـالـتـعديل الغريغوري ). أما الكنيسة القبطية فلا تزال تحتفظ بيوم ظهور الصليب نفسه أي 10 برمهات بالإضافة إلى عيد تكريس كنيسة القيامة وظهور الصليب في السماء لقسطنطينوس الموافق 17 توت ـ 27 سبتمبر. غيراً أنه يوجد تقليد في الكنيسة الإنجليزية الأنجليكانية بدأ منذ القرن الثامن للتعييد للصليب في يوم 3 مايو، والمعتقد أنه يتبع تقليداً نابعاً من كتب الأبوكريفا .

ظهور الصليب في السماء:

يذكر لنا التاريخ عن ظهور علامة الصليب في السماء كعمود نور في ثلاث مرات:

المرة الأولى : ظهـور الصليب في السماء للإمبراطور قسطنطينوس الكبير قبل البدء في الحرب لتشجيعه .

ويذكر هذه الحـادثـة يـوسابيوس القيصري بدقة وحماس شديد. و ينقلها عنه بـاخـتـصـار كل من المؤرخ سقراط وسوزومين و يضيف سوزومين إن يوسابيوس يؤكد أنه سمع الإمبراطور يعلن بقسم أنه بينما كانت الشمس قد مالت قليلاً بعد الظهر، رأى في السماء ومعه الضباط والجنود أيضاً علامة الصليب من نور وتحيط بها كلمات تقول : « بهذا تغلب» . وقد كان من تأثير المنظر أن تشجع قسطنطينوس على قبول المسيحية ودخوله في الحرب ضد الطاغية مكسينتيوس .

المرة الثانية : ظهور الصليب في السماء للقيصر جاللوس .

حسب رواية سقراط ، إنه بعد أن أقام قسطنطينوس نسيبه جاللوس قيصراً وأعطاه أسمه ، أرسله إلى أنطاكية بسوريا لحماية الأقطار الشرقية . فعند دخول جاللوس أبواب مـديـنـة أنطاكية ظهر له في الشرق علامة المخلص كعمود نور على هيئة صليب أذهل جميع من رأوها.

المرة الثالثة : ظهور الصليب كعمود نور في سماء أورشليم لكل الناس سنة 351م.

هنا يسرد هذه الحادثة شاهد عيان هو أسقف قديس، هو كيرلس الأورشليمي في خطاب أرسـلـه لـلإمـبـراطـور يـصـف مـا حـدث بـالـتـفـصيل . يقول القديس كيرلس الأورشليمي :

[ وفي الأيام المقدسة لعيد الخمسين وبالتحديد في يوم 8 مايو ( الموافق 12 بشنس ) ونحـو الـسـاعـة الثالثة من النهار، ظهر في السماء صليب ضخم فوق الجلجثة وامتد حتى جـبـل الزيتون . ولم يره واحد أو أثنان ولكنه كان واضحاً جداً لكافة سكان المـديـنـة، ولم يخـتـف بـسـرعـة كما كنا نتوقع كأنه خيال ولكنه ظل مرئياً للنظر الطبيعي ممتداً فوق الأرض عدة ساعات مضيئاً بنور أكثر لمعاناً من أشعة الشمس . و بـالـتـأكيد إذا لم يكن لمعانه المنظور أكثر من قوة الشمس لكانت الشمس أخفته وضيعته . وقد تدافعت كل المدينة مرة واحدة إلى مكان المشهد مشدوهين خائفين إنما في فرح لرؤية هذا المنظر السماوي . وكل من في المدينة تدفق ، صغاراً مع كبار، رجالاً مع نساء من كل الأعمار، ليس المسيحيون فقط بل والوثنيون من كل موضع ، وجميعهم كانوا يسبحون للمسيح يسوع ربنا . ] 

وكـان تـعـلـيـق الـقديس كيرلس الأورشليمي على ظهور الصليب في السماء في تلك الأيام للإمبراطور هكذا :

[وهذا يعتبر تحقيقاً لـكـافـة ما أنبيء به عن مجيء المسيح حتى الآن ومزيداً للتحقيق فيما بعد.]

ولـعـل هـذه الـظـهـورات المجـيـدة والأكـيـدة تشهد وتمهد للظهور العتيد أن يتجلى به الصليب إعلاناً لنهاية عصر طغيان الشيطان إلى الأبد عندما تظهر علامة أبن الإنسان في السماء كبشير سابق لمجيء المسيح في مجده . وفي ذلك يقول القديس كيرلس الأورشليمي :

[ولكي لا تقوى أي قوة معادية على تزييف مجيئه الثاني ، قال إنه ستظهر « علامة أبـن الإنسان» في السماء، وما هي علامة المسيح الحقيقية إلا الصليب ؟ إذن فـظـهـور الـصـلـيـب مـنيراً سيكون العلامة التي تسبق أمامه لتعلن عن الذي سبق وصُلب.]

زر الذهاب إلى الأعلى