المسيح يجمع شتات أفكار النفس

العظة الحادية والثلاثون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[ الذي يؤمن يجب عليه أن يتغير بذهنه ويجمع في الله كل افكاره،
ففي هذين الأمرين تقوم حقاً كل عبادة لله ]

[أ] المسيح يجمع إليه أفكار النفس
[ب] فلنضع رجاءنا دواماُ على الرب وحده

                                   + + + + +

[ أ ] المسيح يجمع إليه أفكار النفس  

1- إن الذي يؤمن يجب عليه أن يسأل الله أن يتغير في نزعته ، بتغيير قلبه، فينتقل من المرارة إلى الحلاوة ؛ وأن يتذكر كيف أن الأعمى شُفي[1]، ونازفة الدم بالمثل حالما مسَّت هدبه نالت البُرء[2] ، وطبيعة الأسود رُوّضت[3]، وطبيعة النار تلاشت[4]، وعين الماء المرّة حليت[5]. لأن الله هو الخير – مُنتهى الخير ، ذاك الذي نحوه ينبغي لك أن تجمع ذهنك وأفكارك ولا تعتبر أمراً آخر سوى أن تعمل فكرك في انتظاره .

 ۲ – فلتكن النفس إذا مثل من تجمع أولادها الهائمين وتنصح لأفكارها الطائشة : بفعل الخطيئة ، ولتدخل بها إلى بيت جسدها ، منتظرة الرب في كل حين بصوم ومحبة ، متي يأتي ليجمعها بالحق[6]. وحيث إن ما سيكون هو غير واضح ، فلتضع رجاءها بالأكثر على رُبّانها ، متكلة عليه حسناً. ولتتذكر كيف أن راحاب أيضا رغم أنها كانت مع الغرباء صدقت الإسرائيليين وحُسبت مستحقة أن تكون معهم[7] بينما تحوّل بنو إسرائيل بمحبتهم إلى مصر . فكما أن سکنی راحاب مع الغرباء لم تضرها شيئاً، بل لقد جعلها ايمانها جديرة بنصيب بني إسرائيل ؛ هكذا لا تضر الخطيئة شيئاً أولئك الذين في رجاء وإيمان ينتظرون الفادي ، الذي متى جاء ينقل أفكار النفس ويجعلها إلهية سمائية صالحة ، ويُعلم النفس الصلاة الحقًة التي لا شرود فيها ولا طيش . فإنه يقول : « لا تخف ، أنا أسير قدامك ، والجبال أُمهد ، والأبواب النحاس أحطم ، والمغاليق الحديد أُگسر » ( إش 45 : 2 س ) . وأيضا : « احترز لنفسك أن لا يكون في قلبك كلمة خفية أثيمة ، أن لا تقول في قلبك : ” هذه الأمه كثيرة وقوية » ( تث 9:15 ؛ 7: 17 س – حسب النص ) .

 ٣- فإن كنا نحن لا نرتخي ولا نُسلم مراعينا لأفكار الشر التي بلا ترتیب ، بل بإرادتنا نجتذب ذهننا غاصبين أفكارنا نحو الرب ، فبلا مراءٍ سوف يأتي الرب إلينا عن رضى ويجمعنا بالحق إلى نفسه ، لأن كل مرضاته وعبادته إنما تكون في الأفكار . لذلك اجتهد أن ترضي الرب ، منتظراً إياه على الدوام في داخلك ، وملتمساً إياه في أفكارك ، وغاصبا إرادتك ونيتك وملزماً إياها حتى تسمو إليه في كل حين . وانظر كيف أنه يأتي إليك ويصنع عندك منزلا[8] ، لأنك على قدر ما تجمع ذهنك في طلبه ، يكون هو ملزماً أكثر كثيراً – من قبل أحشائه وصلاحه – أن يأتي إليك ويهبك الرّاحة ، إذ إنه يقف ناظراً إلى ذهنك وأفكارك وخواطرك ومراقبا من علٍ كيف تطلبه ، أمن كل نفسك وبلا کسل ولا تراخ .

 [ب] فلنضع رجاءنا دواما على الرب وحده

 4 – فإذا ما رأي اجتهادك في طلبه ، حينئذ يتجلی ويظهر لك ويمنحك معونته ويهبك الغلبة ، منقذّا إيّاك من أعدائك . لأنه لا ينظر أولًا طلبك إياه وكيف أن كل انتظارك هو له بلا انقطاع ، يعلمك هكذا ويعطيك الصلاة الحقيقية ، والمحبة الحقيقية التي هي هو نفسه صائراً فيك كل شيء : الفردوس و « شجرة الحياة »[9]، الجوهرة والإكليل ، البناء والفلّاح ، المتألم[10] والمنزة عن الألم ، الإنسان والإله ، الخمر والماء الحي »[11] ، الحمل والعريس ، رجل الحرب والسلاح ، المسيح « الكل في الكل »[12]. وعلى غرار الطفل لا يعرف أن يخدم نفسه أو يتولى رعايتها ، بل فقط يرنو إلى أبيه باكيّا ، متى تتحرك أحشاؤها نحوه وتحمله ؛ هكذا النفوس المؤمنة تضع رجاءها أبداً على الرب وحده ، ناسبة إليه كل برها . فكما أنه بدون الكرمة يجف الغصن ، هكذا أيضا الذي يريد أن يتبرر بدون المسيح . فكمثل اللص والسارق الذي « لا يدخل من المدخل بل يطلع من موضع آخر »[13]، هكذا الذي يبرر ذاته بدون ذاك الذي يبرر[14].

 ه – فلنأخذ هذا الجسد ولنجعل منه مذبحاً ونضع فوقه جميع مشوراتنا، ولنضرع إلى الرب لكي يرسل من السماء النار العظيمة غير المرئية فتلتهم المذبح وكل ما عليه ، ويسقط كل كهنة البعل ، الذين هم القوات المضادة . وحينذاك نبصر المطر الروحاني آتيا إلى النفس مثل أثر إنسان[15]، حتى يتم فينا موعد الله ، كما قيل في النبي : « سأقيم خيمة داود الساقطة وأعيد بناءها وأعيد بناء ردمها » ( عا ۹ : ۱۱ س ؛ أع 15 : 16 ) . وذلك لكي يُشرق الرب، بصلاحه هو ، على النفس التي تتخبط في ظلمة وعتمة وقد أسكرها جهلها ، حتى إذا ما استفاقت سلگت حينئذ بلا عثرة مُكملة أعمال النهار وأعمال الحياة . لأنه حيثما تغتذي النفس فهناك تأكل ، إمَّا من هذا الدهر أو من روح الله ، والله هناك يغتذي ويحيا ويستريح ويسكن .

 6 – أخيرا فليمتحن كل واحد نفسه – إن يشأ- من أين يغتذي وأين يحيا وفي أية سيرة هو ، لكي بهذا ، إذ يعي ويقتني التمييز بتدقيق ، يسلم نفسه ، بالتمام إلى الوجهة المُفضية إلى الصلاح . فانتبه لذاتك في صلاتك حين تصلي ، مستقصا أفكارك ونزعاتك من أين هي : من الله أم من المضاد ؛ ومن الذي يجمد قلبك بغذائه : الرب أم « ؤلاة العالم على هذا الدهر»[16]. فحين تمتحنين ذاتك ، أيتها النفس ، وتعرفينها عن گثب ، اطلبي من الرب بوجع وشوق القوت السماوي والنمو وعمل المسيح ، بحسب المكتوب : وأما موطننا[17] نحن فهو في السماوات » ( في ۳ : ۲۰ ) ، لكن ليس بالشكل والمظهر كما يظن قوم . فها هم الذين لهم فقط صورة التقوى[18]، ها أفكارهم وأذهانم تشابه العالم ، ها هو تزعزع نياتهم واضطرابها وآراؤهم المتقلبة وجُبنهم[19] وخوفهم ، بحسب المكتوب : « سوف تكون مُتنهداً ومُرتعداً في الأرض » ( تك 4 : 12 س ) . فبحسب عدم إيمانهم واضطراب أفكارهم التي لا تهدأ ، يوجدون في كل ساعة منزعجين مثل باقي جميع البشر . فإنه بالشكل وحده وبما يدعونه من أفكار وبما يتممونه من أعمال جسدية تخصّ الإنسان الظاهر يختلف أمثال هؤلاء عن العالم ، أما بقلوبهم وبأذهاهم فإنهم ينجرفون في العالم ويطوقون تماما بأغلاٍل أرضية واهتمامات لا غناء فيها ، غير حائزين في قلوبهم على السلام الذي من السماء ، كما يقول الرسول : « فليملك سلام الله في قلوبكم » ( کو 3 : 15 – حسب النص ) – ذلك السلام الذي يملك على أذهان المؤمنين ويجددها ثانية في محبة الله ومحبة جميع الإخوة . والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمين .


  1. انظر : مر 46:10
  2. انظر : مر 5: 25. 
  3. انظر : دا 6 : 22
  4. انظر : دا 3 : 24. 
  5. انظر : خر 15: 25.
  6. يسوق أنبا مقار نفس هذا التشبيه في قول آخر : ” … مثل أم تجمع صغارها في بيتها لكي تُربيهمهم وتهذبهم ، هكذا النفس عليها أن تجمع من كل جهة أفكارها الشاردة وكانها أطفالها هي … ولا تكف عن ذلك بقدر إمكانها . ( فردوس الآباء ج 1 – الطبعة الأولى 2005 ص 186)
  7. انظر : يش 2
  8.  انظر : يو 14 : 23.
  9. رؤ 2: 7 ، 14:22 .
  10.  وردت هذه الكلمة مرة وحيدة في الكتاب المقدس ، كصفة للمسيح في أع 26: 23.
  11. يو 10:4 .
  12. أف 1 :23.
  13. یو 10 :1- حسب النص.
  14. داء الفريسيين أنهم كانوا يطلبون أن يُثبتوا بر أنفسهم » ( رو 3:10) ، ولا يقرون بأن الله هو الذي يبررنا ( انظر مثلاً : رو 3: 29 ؛ 4 :5 ؛ 8:33) . 
  15.  انظر : 1مل 18: 38- 40 س . ولنعجبن أيضاً من مدى تطابق هذا القول مع قول للأنبا أنطونيوس أبي أنبا مقار : [ اجعلوا هذا الجسد الذي أنتم لابسوه مجمرة ترفعون فيها جميع أفكاركم ومشوراتكم الرديئة وتضعوها أمام الرب ليرفع قلوبكم إليه . اطلبوا منه بكل قوة العقل أن يُنعم عليكم بإتيان ناره غير الهيولانية من العلاء إليكم ، لتُحرق كل ما في تلك المجمرة وتطهيرها . فيخاف کهنه البعل المضادون ويهربون من أمامكم كهروبهم أمام إيليا النبي ، وحينئذ تنظرون أثر إنسان طالعاً بالماء من الينبوع الإلهي ويمطر لكم المطر الروحاني الذي لروح البارقلیط ) ( الرسالة السادسة – الفقرة الثامنة ) .
  16.  أف 12:6 – حسب النص .
  17. انظر : حاشية ۱ – العظة 5 .
  18. انظر : 2تي 3: 5 . 
  19. =الجبن ، الجبانة . وتجدر الإشارة هنا إلى أنها وردت مرة واحدة في العهد الجديد ، في 2تي 7:1 ، وجانب التوفيق مترجم النسخة البيروتية ، فترجمها “روح الفشل” ، بدلاً من روح الجبن .

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى