كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

تجلي المسيح وتجلي التلاميذ

بينما كان الرب يسوع بصحبة تلاميذه في نواحي مدينة قيصرية فيلبس، وهي مدينة بانياس الحديثة الواقعة عند سفح جبل حرمون، سأل تلاميذه: «من يقول الناس إني أنا». وبعد أن أجابوه بما يفيد حيرة الثشعب وباختلاف آرائهم، سألهم هم مباشرة: «وأنتم، من تقولون إني أنا؟» وهنا اعترف التلاميذ عل لسان بطرس الرسول: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت ١٦: ١٦).

بعد ذلك أعلمهم أن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وأن بعضاً منهم لن يذوقوا الموت حقق يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته. وكان بعد هذا الحديث بستة أيام أن اصطحب معه تلاميذه الثلاثة المقربين: بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بهم إلى جبل عالي منفردين، وهناك تغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. ثم ظهر لهم موسى وإيليا وكانا يتكلمان مع الرب. أما التلاميذ فلم يستطيعوا أن يحتملوا هذا المنظر وسقطوا عل وجوههم خائفين (مت ١٧: ١ -٨).

وقد عبر الإنجيليون عن مفهوم التجلي بالفعل اليوناني (ميتامورفوأوماي). وهذه الكلمة تتكون من مقطعين: المقطع الأول (ميتا)، وهو يحمل معنى التحول أو التغير أو التبدل. والمقطع الثاني مشتق من كلمة  (مورفي)، ومعناه “الصورة أو الشكل أو الهيئة الخارجية التي تعبر عن، وتنبع من الطبيعة الداخلية”. من ثم يكون معنى هذا الفعل: “يتغير في صورته الخارجية، حيث تصير هيئته الخارجية نابعة من طبيعته الداخلية، وتمثلها تماما”
لذلك ترجمت هذه الكلمة في العربية إلى “تغيرت هيئته.

لقد كان الرب يسوع في حياته عل الأرض في صورة العبد، الذي ليس له صورة ولا منظر فنشتهيه، ومحتقر ومخذول من الشعب. فقد جاء ليس لكي يُخدم بل لكي يخدم، ولكي يبذل نفسه فدية عن كثيرين (مر ١٠: ٤٥). لكن هنا على جبل التجلي حدث تغير في هيئته أو شكله الخارجي، فقد ظهر في صورة مجد لاهوته. وهذا هو ما يحمله معنى الفعل اليوناني، فقد تغيرت صورة الرب الخارجية، وهي صورة العبد التي اتخذها لنفسه، وأصبحت صورته الخارجية تعبر تماماً عن حقيقته الداخلية أي تعبر عن مجد اللاهوت الذي ظهر في الجسد.

ولكي نفهم أكثر مفهوم التغيير الذي حدث، نقارن هذا الفعل اليوناني الذي يعبر عن التغيير، بفعل آخر تُرجم أيضا إلى “يتغير”.
ففي الرسالة الثانية لأهل كورنثوس (١١: ١٣-١٥) يقول القديس بولس: “لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون، مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب. لأن الشيطان نفسه يغير شكله (ميتاسخيماتيزو) إلى شبه ملاك نور!”.

الفعل اليوناني الذي ورد في هذه الآية يتكون أيضا من مقطعين: الأول (ميتا) وهو نفس المقطع في الكلمة الأولى والذي يحمل معنى التغيير أو التحول. أما المقطع الثاني فهو مشتق من كلمة (سخيما)، وهي تحمل أيضا معنى الشكل أو الهيئة. ولكن معنى الفعل هنا يضاد تماماً معنى الفعل السابق؛ فهذا الفعل يمكن ترجمته إلى: “يغير هيئته أو صورته الخارجية بأن يتخذ لنفسه شكلاً أو صورة خارجية لاتنبع من، ولا تعبر عن، طبيعته الداخلية”.

ويمكن ترجمة هذا الفعل في كلمة واحدة وهي: “يتنكر”، أي يلبس وجهاً أو قناعاً تنكرياً يخفي به هيئته. فطبيعة الشيطان مظلمة، وعندما يظهر في شبه ملاك نور، فإن منظره الخارجي فقط هو الذي يتغير، وتبقى طبيعته مظلمة كما هي دون أي تغيير. هكذا أيضا خدامه فهم يغيَّرون شكلهم الخارجي ليصيروا على هيئة رسل المسيح، وهم في طبيعتهم الداخلية كما هم، فعلة ماكرون، وذلك لكي يخدعوا قلوب البسطاء. فالفعل الأول يعبر عن التغيير الداخلي، والفعل الثاني يعبر عن التغيير الخارجي.

إن تجلي الرب يسوع على جبل التجلي وظهوره في صورة مجده، يمكن أن يُفهم من التسبحة التي أوردها القديس بولس في رسالته لأهل فيلي، والتي يشرح فيها كيف أن الرب يسوع الذي هو في صورة الله، اتخذ لنفسه صورة العبد، حتى يفدي ذلك العبد. ونتيجة لطاعته المطلقة لله، رفعه الله واعاده إلى صورة مجده:

“فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.” (في ٢: ٥-١١).

تجلي القديسين:

يتكلم القديس بطرس الرسول عن تجلي الرب يسوع على الجبل، وظهوره في صورة مجده الحقيقي، ويصف هذا المجد بالعظمة: «إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ.» (٢ بط ١: ١٦-١٨).

أما القديس بولس الرسول فإنه يوصي جميع المؤمنين أن يتغيروا، أي أن يصيروا في حالة تجلًّ كما حدث للرب يسوع. ففي رسالته إلى أهل رومية (١٢: ٢) يطلب إلى المؤمنين قائلاً: «ولا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة».

في هذه الآية يستعمل القديس بولس الفعلين السابق الحديث عنهما. فالفعل الأول: “لا تشاكلوا” هو نفس الفعل الذي ورد في (٢ كو ١١: ١٥) عن الشيطان الذي يغير شكله إلى شبه ملاك نور. هنا يستحث القديس بولس المؤمنين أن لا يشاكلوا هذا الدهر، أي أن لا يكونوا على شاكلته. بمعنى أن لا يتغيروا عن شكلهم الخارجي بصورة لا تنم ولا تنبع من طبيعتهم الداخلية. فهو ينهاهم عن التنكر في صورة خارجية تماثل أبناء هذا الدهر، ولكنها لا تعبر عن «الإنسان الجديد المخلوق حسب الله في البر وقداسة الحق» (أف ٤: ٢٤).

وفي باقي الآية يأمرهم أن يتغيروا عن شكلهم، وهو هنا يستعمل نفس الفعل الذي ورد في حادثة التجلي. أي أنه يأمر المؤمنين أن يصيروا في حالة تجلًّ، أو أن يظهروا بمظهرهم الخارجي الذي يعبر عن الطبيعة الجديدة الحقيقية التي يعيشونها، هذا المظهر الذي يظهر صورة المسيح المنطبعة عل قلوبهم: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم» (١ كو ١٤: ٢٥).

إن وصية بولس الرسول للقديسين بأن يتغيروا عن شكلهم، أي أن يتجلوا، تسندها حقيقة هامة، وهي أنه فى القيامة العتيدة سيحدث تجلًّ للقديسين، وسيصير منظرهم الخارجي معبراً عن طبيعتهم الجديدة التي سينالونها، وذلك عندما تتغير أجسادهم لتصبح عل صورة جسد مجده.

ففي (٢ كو ٣: ١٨) يقول بولس الرسول: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد كما من الرب الروح». وهنا يستعمل القديس بولس نفس الفعل الذي يعبر عن التجلي، ولكن التجلى هنا سيكون في صورته الكاملة عندما تنطبع صورة الله على وجوهنا، فيحدث تغيير أو تجلًّ لطبيعتنا، ولكن في حركة ديناميكية مستمرة لا تنقطع: «من مجد إلى مجد» بقوة عمل الرب الروح في داخلنا.

رئيس المجمع كتب أنبا إبيفانيوس أوصنَّا لابن داود
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى