كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

نعمـة التبني عند آباء الكنيسة

 

« الغاية النهائية من سر التجسد هي توصيل نعمة التبني للبشرية » ، جملة تكاد تـكـون مـشـتـركة لدي جميع الآباء.  وهي تعبر عن العقيدة الرئيسية في الكنيسة. أول من قالهـا هـو الـقـديـس إيـريـنيئوس ، ولكن وجدت ضمناً في تعبيرات القديس إغناطيوس الإنطاكي أيضاً.

1. القديس إغناطيوس : ( 35-107م)

محـور تـعـليـم الـقـديـس إغناطيوس هو « الإتحاد بالمسيح » . و بينما نجد القديس بولس الـرسـول يركز تعليمه العقيدي على المعمودية بصورة سرية، نجد القديس إغناطيوس يركز بنوع خاص على الإفخارستيا والإستشهاد . ولكن لا يفوت القديس إغناطيوس اعتبار المعمودية بدءاً حتمياً للإتحاد بالمسيح :

بعض أقواله :

+ المسيحيون يحصلون على المسيح داخل أنفسهم ، وهم حاملون للمسيح وهياكل للمسيح، والإفخارستيا واسطة الخلود، وهي الدواء الذي يلغي سلطان الموت ، والطعام الذي يجعلنا في اتحاد مع المسيح إلى الأبد.
والـذيـن اتحدوا بالمسيح صاروا واحداً مع الآب ! (بالتبني ). فالمسيحيون يـحـسـبـون حاملي الله Theophores وأجساد المسيحيين هي هياكل حية الله مملوءة من حضرة الله ، هم شركاء الله .

على أن الـوحـدة الكاملة مع يسوع المسيح والله الآب ستتحقق تماماً في الخلود في الحياة الأبدية .

( الرسالة إلى أفسس 2:4  ـ  مغنيسيا 12، 1:14 ، فيلادلفيا7: 2، بوليكارب 3:2)

2. القديس إيرينيئوس : (130-200م)

محـور تـعـلـيـم الـقـديس إير ينيئوس هو « سر التجسد الخلاصي» الذي صار خلاصاً للناس المغلوبين من الخطية والموت والشيطان .

+ المعيار الأعلى عند القديس إير ينيئوس جملته المشهورة التي كررها عدة مرات : [ كلمة الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان ابناً لله . ] (ضد الهرطقات3: 19: 1)

والـقـديـس إيـر يـنيئوس يوبخ الهراطقة ( الإبيونيين) باستعارة قول المزمور على لسان المسيح عـنـدمـا قـال « أنـا قـلـت أنـكـم آلهـة و بنو العلي كلكم، لكنكم مثل الناس تموتون » :

[إنه يخاطب هكذا الذين يرفضون نعمة التبني ويحتقرون تجسد كلمة الله ويحرمون الإنسان من الصعود نحو الله . ] (ضد الهراطقة 1:19:3)

أي أن الإضـافـة الأخـيـرة «مثل الناس تموتون» جعلها القديس إير ينيئوس تخص الهراطقة الذين رفضوا الحياة الأبدية برفضهم عقيدة التبني التي ترفع الإنسان نحو الله .

و يلاحظ القارىء أن جملة القديس إير ينيئوس عن عقيدة التبني الشهيرة : [ كلمة الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان ابناً لله ] هي الأصل الذي فسّره القديس إيـرينيئوس نـفـسـه و بـقـيـة الآباء العظام القديسون أثناسيوس وكيرلس و باسيليوس وغـريـغـوريـوس اللاهوتي وكافة « الآباء اليونان» أن التجسد أوصل الإنسان بالنهاية إلى «التأله»، وهي العقيدة الأبائية التي تبدو لنا الآن أنها صعبة الهضم وغير مستساغة على الأسماع، ولكن تفسيرها اللاهوتى في الحقيقة ينحصر في دائرة عقيدة التبني ، باعتبار أن عـطـيـة الـتـبني التي أعطيت للعبد المتبنى تشمل ضمناً التجنس بجنس السيد المتبني حيث يصبح له حق الميراث. فنحن أبناء الله في شخص يسوع المسيح و وارثون معه الله ، إذن فنحن قبلنا التجنس بالجنس الجديد.

فـالـتـأله عند الآباء لم يزد عن كونه امتداداً لمفهوم التبني، وكان في أيامهم مستساغاً لأنه كان متداولاً عند الوثنيين .

وعـقـيـدة الـتـبني بلورها القديس إيرينيئوس في شرح لاهوتي مختصر مبدع كرره عدة مرات هكذا:

[كلمة الله صار ابناً للإنسان حتى يدخل الإنسان في شركة مع كلمة الله ، فينال الإنسان التبني ويصير ابناً لله . ] (ضد الهراطقة 10:19:3)

فـالـتـجـسـد كان الوسيلة الوحيدة للحصول على التبني ومشابهة الله والتجديد بالروح القدس .

3. نعمة التبني عند القديس أثناسيوس : ( 296- 373م )

أساس عقيدة التبني عند القديس أثناسيوس هو أن الطبيعة البشرية خلقت (ككل شيء مخلوق ) قابلة للفساد ( ولكن غير فاسدة )، ومتباعدة تباعداً لانهائياً عن الله .

+ مشاركة « الـكـلـمـة»، الذي هو الصورة الوحيدة والكاملة للآب السماوي ، أعطيت لنا كنعمة مجانية . والإنسان خلق أصلاً بواسطة « الكلمة » لوغوس وكانت جبلة آدم على صورة « الكلمة» أي ناطقة ( لوغيكس). و بذلك خُلق قادراً أن يصير شريكاً للكلمة في المعرفة الفائقة للآب .

 هذه المعرفة الفائقة للآب هي هي نفسها الوجود في الحياة الأبدية « هذه الحياة هي الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الذي أرسلته » (يو17: 3). وهـذه في عـرف الـقـديـس أثناسيوس منتهى السعادة الأبدية . وسقوط آدم ( سقوط عن المعرفة الفائقة ) أنهى على سعادته وحياته الأبدية .

+ تجسد الكلمة = اللوغوس ، غايته أن يجدد و يكمل هذا التدبير الذي أوقفته خطية آدم. «فالكلمة» تجسد، لكي ينقل هذه المعرفة الإلهية الفائقة بالآب إلى الإنسان حسياً، فيحصل على الحياة الأبدية والسعادة مرة أخرى ، وكان على « الكلمة » أن يلغي الموت بموته وقيامته حتى يرفع سلطانه عن الإنسان ، و يسترد للإنسان خلوده وعدم فساده وسعادته الأبدية .

+ وفي كتب القديس أثناسيوس الدفاعية ، نجد هذه الخلاصة الجوهرية لعقيدة التبني قائمة على أساس الإتحاد بالله الذي يتم عن طريق المشاركة في الكلمة الذي هو الصورة الوحيدة الله . وقد صار ذلك ممكناً بما قام به « الكلمة» من تجسد وموت وقيامة . (ضد الوثنيين 2و8و34، تجسد الكلمة 3 و5 و7 ….)

وفي دفاعه ضد الآريوسيين يستكمل عقيدة التبني هكذا :

أولاً يركز على أنه لا يوجد إلا ابن وحيد للآب وهو الصورة الوحيدة والكاملة للإبن السماوي ، كامل في وحدته وفي مساواته للآب في الجوهر .

وهـو وحـده الـذي يـعـرف الآب والذي يشترك في أزليته ، و بالتالي صار هو وحده الـقـادر أن يشركنا في صورته وفي خيراته ، وإذ نحن الآن شركاء للكلمة بالنعمة ، فنحن أبناء الله في الإبن الوحيد، وجميعنا متحدون معاً في الكلمة كما أنه هو متحد بأبيه .

وهكذا صرنا نحن فيه متحدين بأبيه.

وهـو بـذلـك يـعـرفـنـا مـن هو الآب ، لأنه أبوه الشخصي ، ولأنه الوحيد الذي يعرف الآب .

هذا الإتحاد الذي بلغناه في التبني هو المقابل لكل تدبير التجسد .

فلأن الإبن اتّخذ لنفسه جسداً بشرياً حقيقياً، أصبحت النعمة المعطاة لنا متوافقة مع كياننا الجسدي!

فالجسد ( البشري بنوع عام) بسبب أن الكلمة قد حل فيه ، لذلك صار قادراً على قـبـول الـنـعـمـة. ولأن الـكـلـمـة قـد تفضل بأن يتحد بطبيعتنا و يصير مشابهاً لن الطبيعة، فقد صار لنا عن طريق هذه المشابهة الطبيعية أن نتحد نحن ببنوته للآب ، فنحن أبناء بفضل وجود الإبن فينا الذي تجسد ليكون حاضراً فينا و يوحدنا بالله .

و « الـكـلـمـة» الإبـن أرسـل لـنـا مـن عـنـد الآب الروح القدس الذي هو « روح التبني . » (غل4: 6)

والـروح إذ حـل فـينا يصرخ «يا أبا . الآب » شاهداً لأرواحنا أننا أبناء الله وأنه هو «روح التبني» (رو8). وهـذا الـروح عينه هو ختم الإبن الذي يطبعنا على صورته أي صورة الإبن!!

4 . نعمة التبني عند القديس كيرلس الكبير: (تنيح 444م)

[ نحـن أبـنـاء الله حسب الطبيعة ( في المسيح ) فيه وفيه وحده ! كذلك نحن أبناء الله بالمشاركة و بالنعمة في الروح القدس . ] 

القديس كيرلس الكبير

أي أن الـقـديـس كـيـرلس يرى بنوتنا قائمة في شخص المسيح نفسه بمفرده كمندوب عن البشرية كلها . فالبشرية كلها متبنّاه في شخص يسوع المسيح . وهذه حالة من البنوة فـريـدة وفـائـقـة نالتها البشرية بالتجسد في شخص المسيح وحده. لذلك سماها «بنوة حسب الطبيعة » .

كـذلـك يـرى لنا رباط بنوة أخرى لله فينا ، إنما باتحادنا نحن بالمسيح أي بالمشاركة، وذلك بواسطة الروح القدس ، وهذا هو التبني بالنعمة .

يعود القديس كيرلس و يكرر بشرح مقتضب جداً :

[ وفيه و به نحن أبناء الله ،
فيه وفيه وحده حسب الطبيعة نحن معتبرون أبناء،
أما بحسب النعمة فنحن أبناء به في الروح . ] 

القديس كيرلس الكبير

هذان الـنـصـان يـلـخـصان تعليم القديس كيرلس الخاص بنعمة التبني . فالتبني الله مـتـوقـف على ومـتـصـل بـالتجسد الخلاصي . فبواسطة التجسد، قد صار المسيح المساوي للآب في الجوهر مساء يأ لنا في طبيعتنا . والشيء الذي يجعله مساو يا لنا إنما هو الجسد .

[حيث أن الكلمة يحملنا في نفسه بسبب حمله للطبيعة البشرية ، فلهذا السبب يمكن أن يدعى جسده جسداً لنا نحن أيضاً.] 

لهذا يـرى الـقـديس كيرلس الكبير أن تجسد المسيح بحد ذاته منحنا في شخصه، وفي شخصه فقط ، بنوة الله اعتبرها بنوة أي حسب الطبيعة .

+ فمن واقع الـتـجـسـد، قد صار للمسيح علاقة كيانية ontological مع البشرية بأسرها. فالبشرية صار لها وجود فيه ، وجود فعلي حقيقي بالجسد .

غير أن هذا الوجود البشري المتداخل فيه هو وجود شخصي خاص بالمسيح فقط على مـسـتـوى «الطبيعة » الخاصة به هو. وهذا لا يكفي بحد ذاته أن يمنحنا التبني منحة فردية لـكـل واحد منا ، فهو تبني عام في صورة كامنة منحصرة في شخص المسيح فقط ، مع أنها جذرية وأساسية ، أي تشمل الطبيعة البشرية عامة .

لذلك لابد أن يستعلن التبني و ينتشر و يتوزع بالنعمة .

إذن ، لابد من عمل التقديس الذي يقوم به «جسد المسيح » المحيي في الأسرار . 

كذلك يتحتم تجاوب الإنسان مع النعمة (نعمة التقديس ) في الأسرار بحرية الإرادة بـواسـطـة الإيمان . فالقديس كيرلس يعتبر أن هناك قرابة مزدوجة بين البشرية وبين ابن الله .

قرابة طبيعية ( باتحاده هو بنا في التجسد ).
ـ قـرابـة مكتسبة بالنعمة والمشاركة (باتحادنا نحن به في الأسرار بالإيمان ) والنعمة التي تكسبنا حالة التبني الله تتم في سرين أساسيين :
ـ نعمة المعمودية ، حيث يقدسنا المسيح بواسطة إعطائنا من روحه ، 
-ونعمة الإفخارستيا ، حيث يقدسنا المسيح بواسطة اتحادنا بجسده المحيي .
ونحن بهذا نتحد بالمسيح بالروح القدس و بالجسد المحيي .

غير أن هذا الإتحاد ليس اتحاداً جوهرياً، بل هو اتحاد « نسبي» و « عرضي». ومع هـذا فـهـو اتحاد حـقـيقي ، لدرجة أنه يجعلنا بالحق شركاء في الطبيعة الإلهية. وبمشاركتنا للإبن في الروح وفي الجسد نصير إخوة له ، وبهذا ننال التبني ونصير أبناء للآب .

ولكن بنؤتنا للآب هي على مستوى النعمة .

عطايا النعمة الرئيسية كتب القمص متى المسكين كيف نقتني النعمة
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى