حديث خاص مع أبناء النور

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس

المزمـور: «16أَمَّـا أَنَـا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. 17مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي» (مز 55: 17،16).

الإنجيل: «1وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:”كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ“» (لو 16: 1-9).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

حديث اليوم، حديث المسيح الخاص مع أبناء النور، ولكنه يتكلَّم بحزم: «أَعطِ حساب وكالتك»، «وأنـا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلْم، حتى إذا فَنيتُم يقبلونكم في المظال الأبديَّـة».

ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا المَثَل جيِّداً إلاَّ إذا تَم ضمُّه لمجموعة الأَمثلة التي على شاكلته، فتكون أربعة أمثلة:

المثل الأول: الغَني ولعازر (لو 16: 19-31):

معيار هذا المثل: ارتباط الحياة بعد الموت بالحياة الأبدية ارتباطاً شديداً، على أساس الفعل، فقد أَورد المثل، الفعل ونتيجة الفعل. فما نعمله على الأرض، تَظهر نتيجته في الحياة الأخرى، هذا ما يُوضِّحه مَثَل الغَني ولعازر. فالغَني كان مُتنعِّماً، وكان يلبس الأَرْجُوان والبَزَّ. الأرجوان هو القطيفة الحمراء، وهو يُلبَس في الشتاء؛ والبَزُّ هو الحرير، ويُلبَس في الصيف. فالغَني كان يتنعَّم كل يوم مُترفِّهاً، والتنعُّم والتَّرفُّه هو فوق طاقة الإنسان العادي أو المتوسط.

وأمام باب دار الغَني طُرِحَ مسكين اسمه لعازر، «مضروباً بالقُرُوح، ويشتهي أن يشبع من الفُتات الساقط من مائدة الغَني». هنا المسيح يرفع الحجاب مرةً واحدة، ويُظهِر هذين الوضعَيْن في السماء: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغَني أيضاً ودُفِنَ (وهو يتعذَّب في اللهيب)». طبعاً اللهيب هنا هو لهيب الضمير. وكان الغَني يتوسَّل لأبينا إبراهيم أن يُرسِل لعازر ليَبُلَّ طَرَف إصبعه بماءٍ ويُبرِّد لسانه، وهو نفس الإصبع الذي كان لعازر في حياته البائسة ينبش به القمامة ليعثر على كِسْرة خُبز.

المثل الثاني: الغَني الغَبي (لو 12: 16-21):

معيار هذا المثل: إمَّا أن تكن‍ز في الأرض، أو تكن‍ز في السماء. فهذا الغَني قال: «أَهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نَفْسُ لكِ خيراتٌ كثيرة، موضوعةٌ لسنين كثيرة. استريحي وكُـلي واشربي وافرحي». فقـد عَمِلَ لحساب الأرض، ولم يعمل لحساب ما هو فوق، أي السماء. وفي أيامنا هذه، مِثْل إنسانٍٍ وجد أنَّ أسهمه في شركةٍ ما لم تَعُد تربح كثيراً، فسحب هذه الأسهم ووضعها في شركةٍ أخرى تُعطي أرباحاً أكثر، حتى لو كان القائمون على هذه الشركة هم من النَّصَّابين. ولكننا نسمع المسيح يُعقِّب على هذا المثل بقوله: «هكذا الذي يَكْنِزُ لنفسه وليس هو غنيّاً لله» (لو 12: 21).

المثل الثالث: الابن الضال (لو 15: 11-32):

معيار هذا المثل: إنسانٌ قادرٌ أن يُعوِّض عن الخسارة المُريعة التي لحقت به وأتلفت حياته في آخر لحظة، بأن يتوب ويرجع إلى أبيه، إلى الله. ونقرأ في المثل أن الأب عندما رأى ابنه آتياً وهو لم يَزَل بعيداً، «تحنَّن وركض ووقع على عُنقه وقبَّله»، وأعاده مرَّةً أخرى إلى رُتبة البنوَّة، وفَرِح به وصنع له وليمة، كما فرحت به السماء أيضاً، لأن هذا الابن «كان ميِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 24).

+ هذا المثل يسند المثَلَيْن السابقَيْن. فهذا الابن «بذَّر ماله بعيشٍ مُسرف». فهو قد أَخَذَ الميراث الذي لأبيه وهو ما يزال حيّاً، وبَذَّره. ونحن عندما نُحوِّل هذه المفهومات إلى الحياة الروحية، نفهم أن هذا الميراث هو لله. فهذا الابن بَذَّر هذه الأموال وأتلفها، وكما قال الابن الأكبر لأبيه: «لَمَّا جاء ابنك هذا الذي أَكَلَ معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العِجْل المُسمَّن». فهذا الإتلاف هو إتلافٌ للجسد والروح. ولكن عندما انحطَّ هذا الابن إلى الحضيض، حتى أنه كان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله»، ولم يُعطِه أحد، وانحدر إلى مستوى الخنازير وهي في نظر اليهود ”نجسة“؛ قام من سقطته، ورجع إلى نفسه، وعاد إلى أبيه منكسراً نادماً. ففرِحَ به أبوه، كما فرحت به السماء. وكانت توبته أثمن من كل مقتنيات أبيه.

+ وإذا وضعنا هذه الأمثلة الثلاثة بجانب بعضها البعض، نجد أنَّ هذا التعليم الذي علَّمه المسيح بأمثالٍ كان ردّاً على كلام بطرس الرسول الذي قال للرب: «ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟» (لو 19: 27). هنا المقارنة بين ما للأرض وما للسماء! ولذلك كان ردُّ المسيح على بطرس الرسول: «كلُّ مَن ترك… يأخذ مئة ضعف (هنا على الأرض) ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29).

+ كما يمكن أن نضع هذه الأمثلة بجانب مَثَل الوزنات والمتاجرة الذي قاله الرب يسوع (مت 25: 14-30). فهذا، إذن، هو قانون ملكوت السموات: القانون الذي يربط الأرض بالسماء، الذي يربط الحياة الحاضرة بالحياة المستقبلة، الذي يربط المال بالروح، الذي يربط الحياة حسب الجسد بالحياة حسب الروح (انظر رو 8: 12-17). المقارنة بين محبة العالم ومحبة الله، ظهرت بوضوح في مَثَل الوزنات، إذ أُعطِيَت وزنات لكل واحد على قَدْر طاقته. فكل مَن تاجر بهذه الوزنات وربح، قال له سيِّده: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. اُدْخُل إلى فرح سيِّدك». أمَّا العبد البطَّال الذي لم يُتاجر بالوزنة، فقال سيِّده: «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان».

+ وأيضاً لو أضفنا إلى هذه الأمثلة، مَثَل: اللؤلوة الكثيرة الثمن، الذي باع التاجر كل ما كان له واشتراها (مت 13: 46،45)؛ فنجد أن هذه مُقايضة جميلة جداً. فكل هذه الأمثلة هامة جداً في حياتنا المسيحية بحسب القانون الذي سيُحاسب به المسيح كل واحد مِنَّا.

المثل الرابع: وكيل الظلم (لو 16: 1-9):

معيار هذا المثل: الله يُعطينا الحياة التي فيها فُرص. الحياة فيها فُرص، فلابد لنا أن ننتهز هذه الفُرَص ونعمل المقايضة: نبيع الفاني الذي نقتنيه هنا، على أساس الأمثلة التي أوردناها سالفاً؛ ونقتني ما لا يَفْنَى والباقي إلى الأبد. فهذا المَثَل هو عملية مُقايضة، مُقايضة الفاني بالباقي. فالسيِّد «مَدَحَ وكيل الظُّلم إذ بحكمةٍ فعل»، وهي حكمة أهل العالم، حكمة مال الظُّلم، حكمة السلوك حسب الجسد. فالمسيح وضع نفسه في هذا المَثَل أنه هو السيِّد القدوس، وأنَّ كل ما وهبه لنا من مال وصحة وعافية وعينين وأُذنين وجسد ووقت وعقل ومعرفة للمواهب – جسدية وروحية – هذه كلها تُعتَبَر أمانات أودعها فينا ولنا؛ وهو صاحب هذه الأمانات كلها. أمَّا كل واحد مِنَّا، فهو وكيل على هذه الأمانات.

فوكيل الظلم – في المَثَل الذي قاله الرب – بدَّد وبذَّر أموال سيِّده، مع أنها ليست مِلْكاً له، لأن هذا الوكيل عَلِمَ أن سيِّده سيأخذ منه الوكالة، وهو ”لا يستطيع أن ينقب (يسرق) ويستحي أن يستعطي (يتسوَّل)“؛ فكيف – بمفهومه – يستطيع الحياة والأَكل والشُّرب، وهو لا يملك شيئاً؟ فهذا الوكيل اختلس أموال هذا السيِّد، على الورق فقط، «ودعا كل واحد من مَديوني سيِّده، وقال للأول: كم عليك لسيِّدي؟ فقـال: مئـة بثِّ زيت (معيار للسوائل). فقال له: خُـذ صكَّك واجلس عاجلاً واكتُب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كُرِّ قمح (مكيال للحبوب). فقال له: خُذْ صكَّك واكتُب ثمانين» (لو 16: 5-7).

+ «فمدح السيِّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل». المسيح هنا يُريد أن يقول: ”أنا أُريدكم أن تحوزوا هذه الذهنية، سواء في المال أو الصحة أو كل ما تمتلكونه. فهذه كلها في الأصل ليست مِِلْككم، وأنا صاحب كل هذه الأمانات التي سلَّمتها لكم. فقدِّم أموالك للخير، وأنا أُعوِّضها لك مائة ضعف. ابذل صحَّتك من أجل الآخرين، وأنا أُعيدها لك أقوى وأفضل مما كانت“، كما يقول بولس الرسول: «أمَّا أنـا فبكل سرورٍ أُنْفِقُ وأُنْفَقُ لأجل أنفسكم» (2كو 12: 15). ”أُنفِق“ أي ”أُقدِّم ما عندي“؛ و”أُنفَق“ أي ”أموت من أجلكم“.

+ وهكذا كـأنَّ المسيح يقول لك: ”ابذل صحَّتك من أجل راحة الآخرين، ولا تخف، فإنني سأُعطيك هنا أجمل وأحسن منها مائة ضعف، ومعها هناك الحياة الأبدية. فكل ما تبذله لحسابي هنا، سأُضيفه أنا لحسابك هناك في الأبدية. أمَّا إن بدَّدتها لحسابك هنا، فقد أضعتها منك هناك إلى الأبد“.

هذا المثل دقيقٌ جداً، وهو يُحيِّر النفس، ولا يمكن فهمه إلاَّ على هذا الأساس: إنَّ كل ما عندك من مال وصحة وأب وأُم وأخ وأُخت وامرأة وأولاد… إلخ، كل هذه ليست مِلْكاً لك، وإنما هي مِلْكٌ للمسيح، وهو الذي يهبها لك. فإن ترك الإنسان كل هذه من أجل المسيح، يُعطيه هنا مائة ضعف، وهناك يهبه الحياة الأبدية في السماء. وإذا قدَّم الإنسان عواطفه، تلك التي تربطه بأهله وبالعالم، حُبّاً في المسيح؛ سيهبه المسيح ما هو أقوى منها، سيهبه عواطف أرقى بكثير مما قدَّمه، تنطلق إلى العواطف الروحية.

في الحقيقة، فإنَّ مَثَل وكيل الظلم قائمٌ على هذه الفكرة: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم»، لأن «أبناء هذا الدَّهر أَحْكَم من أبناء النور في جيلهم». وذلك لأن أبناء الظلمة، يأخذون المال التافه الذي مآله إلى الفناء ويتمتَّعون به، ويعملون لهم به أصدقاء؛ بينما أنتم أولاد النور يُمكنكم أن تستغلوا هذا المال وتكسبوا به أصدقاء، ومن خلاله تفوزون بالحياة الأبدية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَوْصِ الأغنياء في الدَّهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنَى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتَّمتُّع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياءَ في العطاء، كُرماءَ في التوزيع، مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 6: 17-19).

+ مـا معنى ”أسخياء في العطاء“؟ أي أن يُعطي الإنسان للآخرين بلا حدود، وعند الاقتصاديين هذا ”تبديد“؛ ولكن المسيح يُحرِّض على هذا طالما للخير ولمساعدة الآخرين: «المُعطي فبسخاء» (رو 12: 18)، «المُعطي المسرور يُحِبُّه الله» (2كو 9: 7). فمَن يكون هذا الإنسان الذي يُعطي وبسرور؟ هو الإنسان الذي يشعر أن هذا المال ليس مِلْكه، بل هو أمينٌ عليه فقط. ولذلك نجد أنَّ الإنسان الذي بلغ هذا الإحساس لا يُبالي أبداً بالأرقام؛ بل يَحسِب هذه الأموال أنها مِلكٌ للربِّ، وهو عندما يهبها للمحتاجين، فهو يردُّها إلى صاحبها، أي إلى المسيح. وبالرغم من أن الآخرين يحسبون ذلك الإنسان الذي يُبدِّد أمواله معتوهاً، وينال منهم السخرية؛ إلاَّ أنه يَعتَبِر هذه الأموال مِلْكاً للمسيح، وهو المسئول عنها، وهو الذي يقول له: ”بِعْ، واعطِ بسخاء وبسرور“، هـذه هي ذهنية وكيل الظلم. ومـن أروع الأمثلة للحياة المسيحية: التصرُّف في كلِّ ما في الحياة على مستوى أنها ليست مِلْكاً لنا.

مال الظلم:

”مـال الظلم“: ”الظلم“ بـاللغة اليونـانية ++++++، يعني: ”غير صالح“، ”غير بـار“؛ أمَّا +++++++ فتعني: ”صالح“، ”بار“. وهـذا يعني أنَّ ”مال الظلم“ هو ”مالٌ لا يَمُتُّ للبرِّ بِصِلَة“. ومعروفٌ أنَّ «محبة المال أصل لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10). ولكن مال الظلم هذا، المال البطَّال، عندما نُبدِّده ونوزِّعه لحساب المسيح يتحوَّل إلى مالِ برٍّ، ينتقل إلى الحياة الأبدية. ونحن نعلم أنَّ «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، وأنَّ «الوقت (الزمن) منذ الآن مُقصَّر» (1كو 7: 29)، فهو زمنٌ شرير، وأيام شريرة. ولكن عندما نأخذ هذه الأيام التي تُعتَبَر شريرة، ونستغلها في الصلاة والسجود؛ عندئذ يتحوَّل هذا الزمن المُقصَّر الشرير إلى خلود داخلك، يتحوَّل هذا الزمن الرديء فيك إلى حياةٍ أبدية، وإلى خلود لروحك. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أُعطِيَ له حق تحويل الزمن إلى خلود.

فالدقيقة التي تُصلِّيها تتحوَّل فيك إلى خلود، وإلى حياة أبدية في داخلك. إذا صلَّيتَ كل يوم، لا يبقى هذا اليوم كما هو في هذا الزمان الرديء، وإنما يتحوَّل لحساب الله، فيصير ألف سنة في الحياة الأبدية. أمَّا إذا صلَّيتَ سنة في حساب هذا الزمان، فستكون هذه السنة هي الأبدية بعينها بالنسبة لك، بالرغم أنَّ الأبدية ليس فيها أرقام أو أعداد. كلُّ شيء في هذا العالم فانٍ، ولكن المُقايضة تُحوِّل هذا الفاني إلى خالد، إلى حياةٍ أبدية. وهكذا فإنَّ الرب يسوع استطاع أن يُحوِّل هذا العالم المُتغيِّر إلى عالم أبدي. وهو قادرٌ أن يُحوِّل كل ما فيك، مِمَّا لا تتصوَّره، إلى مجدٍ، وإلى حياةٍ أبدية. وأنت نفسك تحوز صداقة مع الملائكة وأرواح الأبرار المُقدَّسين في السماء.

«اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم»:

مَن هم أصدقاؤنا؟ هم الأرواح المُبرَّرة في السماء. فعندما تنتقل من هذا العالم، فسوف تستقبلك الملائكة والأرواح البارَّة بالأحضان؛ لماذا؟ لأنك بذلتَ صحتك من أجل الآخرين، وقدَّمت المال للمحتاجين، وكل ذلك لحساب المسيح؛ فتكون النتيجة أنَّ أولئك الذين خدمتهم هنا على الأرض، يستقبلونك هناك في الأبدية بالفرح والتهليل. وهـذا هـو قانـون المقايضة: ترابٌ بمجدٍ، ملاليم بجواهرَ سمائية.

مقدار السعادة والغبطة التي يذوقها الإنسان حينما يبتدئ في التبديد والبَذْل لحساب الله، يحوزها من هنا في هذا العالم. فمهما حصلتَ على تكريمات ومُجاملات وأموال وأرباح وأشياء خاصة لك، فكل هذه لا يمكن أن تُقارَن بالإحساس الداخلي الرائع عندما توزِّع وتبذل كـل ما عندك لحساب المسيح ولخدمة الآخريـن. هنا يتحقَّق قانون المقايضة الذي تكلَّمتُ عنه: تحويل المُتغيِّر إلى ثابت؛ تحويل الفاني إلى باقٍ، إلى حياةٍ أبدية. وهذا هو ما يشعر به الإنسان الذي يُقدِّم ويوزِّع بلا حساب!

إحساس الإنسان المُعطي بسخاء بالحياة الأبدية:

تصوَّروا شخصاً يحسُّ بالخلود وهو على هذه الأرض، يشعر بالمجد الإلهي الذي سيشترك فيه وهو في هذه الحياة الفانية؛ وذلك أثناء ما يُقدِّمه من عطاءٍ بسخاء، أثناء بَذْله ليس فقط المال ولكن أيضاً الصحة: بَذْل العافية، بَذْل العينين، بَذْل العمل، بَذْل الوقت، بَذْل العقل… إلخ.

فالإنسان في أثناء بَذْله وعطائه يُشرق في داخله إحساسٌ بالانتقال من الفاني إلى الباقي. وكلما يزداد في العطاء والبَذْل، يزداد في داخله هذا الإحساس الرائع بالأبدية. فيُعطي ويبذل بلا حساب، كما لو أنَّ فكره الجسدي الذي يَحسِب الحسابات يتوقَّف، فهو يُعطي ويبذل الليل والنهار بلا حدود وهو في سعادةٍ غامرة. فقد تضعف صحته وهو يجول في الأسواق والشوارع بحثاً عن مُحتاج ليُعطيه، ويخدم في طول البلاد وعرضها إلى درجة الإعياء؛ ولكن ما يحوزه من فرحة وسعادة داخله لا يمكن أن يتصوَّرها إنسان. هذه السعادة يحوزها هذا الإنسان منذ الآن، وهنا على الأرض، كعربون؛ ولكنها تكتمل هناك في الأبدية.

فإن استطعتَ أن توزِّع وأن تبذل كل ما عندك من أجل المسيح، فإنك ستشعر بهذا الإحساس الخالد، ستشعر بسعادة لا يمكن أن تتصوَّرها، ستتحوَّل فيك إلى طاقة فرح وتسبيح وتهليل، وكذلك إلى تقديس للحياة والجسد والفكر. فإن ابتدأتَ تُبدِّد وتوزِّع ما في حوزتك من صحة ووقت وعافية ومال وتسلِّمه في يد المسيح، فلا يمكن لإنسانٍ أن يوقفك عن هذا البذل والعطاء؛ بل يتجدَّد فيك هذا الإحساس القوي، بأن يتحوَّل المائت فيك إلى حياة أبدية، والفاني إلى خلود. ولذلك قال الرب يسوع: «مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأَخْذ» (أع 20: 35). وهذه الآية بالذات فيها سرٌّ عجيب: فإنَّ العطاء عند المسيح دائماً على مستوى البَذْل والسخاء.

المسيح هو أعظم باذل يمكن أن يسمع عنه إنسان أو عقل بشري، «فليس بكيلٍ يُعطي اللهُ الروحَ» (يو 3: 34). فربُّ البيت الذي خرج منذ الصباح ليستأجر فَعَلة لكَرمِه، بدأ يُحاسب أصحاب الساعة الحادية عشرة الذين وثقوا فيه مثل أصحاب الساعة الأولى الذين اتَّكلوا على أنفسهم وقوَّتهم. وعندما تذمَّر أصحاب الساعة الأولى، كـان ردُّ ربِّ البيت لواحد منهم: «يـا صاحبُ، مـا ظلمْتُك! أَمَا اتَّفقتَ معي على دينار؟ فخُـذ الذي لك واذهب، فإني أُريـد أن أُعطي هـذا الأخير مثلك. أَوَ مَا يَحِلُّ لي أن أفعل ما أُريـد بما لي؟ أَم عينك شريرة لأني أنا صالحٌ؟» (مت 20: 1-15). وهكذا يفعل المسيح بعطاياه وهِباته يوزِّعها كيفما يشاء، ليس عن استحقاق الأشخاص، ولكن عن جُوده وصلاحه هو. فهو أعظم مُعطي ومُوزِّع للهبات لخير الإنسان وسعادته.

وفي سِفْر ملاخي، يقول الرب: «هاتوا جميع العشور إلى الخَزْنة، ليكون في بيتي طعام، وجرِّبوني، بهذا قال ربُّ الجنود، إنْ كنتُ لا أَفتح كُوى السموات وأُفيض عليكم بركةً حتى لا تُوسَع» (ملا 3: 10). هذا معناه عطاء وسخاء من قِبَل الرب بلا حدود وغير معقول!

نرى هذا أيضاً في معجزة الخمسة الأرغفة والسمكتين، فبعدما أَكل الجميع وشبعوا، «رفعوا من الكِسَر اثنتَي عشرة قُفة مملُوَّة، ومن السمك. وكـان الذين أكلوا مـن الأرغفة نحو خمسة آلاف رَجُل» (مر 6: 44،43). وهكذا صنع الرب في معجزة تحويـل الماء إلى خمرٍ جيِّد في عُرْس قانـا الجليل: «وكانت ستة أجرانٍ مـن حجارة موضوعة هناك… قال لهم يسوع (للخُدَّام): ”املأوا الأجران ماء“. فملأوهـا إلى فوق. ثم قـال لهم: ”استقوا الآن وقدِّموا إلى رئيس المُتَّكأ“. فقدَّمـوا» (يو 2: 1-10). ستة أجران بمقدار 40 جالونـاً، والجالون = 4.54 لتراً، أي حوالي 180 لتر خمرٍ، وهي خمر جيِّدة غير مُسْكِرة. أمَّا الخمر الدُّون فهي خمر تُعطَى للسُّكْر. فأعطاهم الرب هذه الخمر الجيِّدة غير المُسْكرة لكي يفرحوا فرحاً ليس أرضياً، ولكن فرح سماوي. وهذا الفرح السماوي بمفهوم الخير الذي للعهد الجديد. وهكذا أيضاً قال الرب لسمعان بطرس: «ابْعُدْ إلى العمق وألقوا شباككم للصيد»، وعندما قال له سمعان: «على كلمتك أُلقي الشبكة»، وألقوا الشبكة، «أمسكوا سمكاً كثيراً جداً، فصارت شبكتهم تتخرَّق» (لو 5: 1-11). ما هذا الخير الوفير الذي وهبته لنا يا رب؟! وهكذا قال الرب: «أَعطُوا تُعْطَوْا، كيلاً جيِّداً مُلبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعْطُون في أحضانكم. لأنه بنفس الكَيْل الذي به تَكيلون يُكالُ لكم» (لو 6: 38).

+ ففي هذا المَثَل الذي قرأناه في إنجيل هذا الصباح، كأنَّ الربَّ يُخاطِب أبناء النور قائلاً: ”يا أبناء النور، تعلَّموا من أبناء الظلمة، كيف يُبدِّدون الأموال على الباطل والبطَّال، المال الذي هو في الأصل مالي وأنا استودعته عندكم. الصحة أنا الذي أُعطيها وأزيد عليها. إنْ حجزتموها لحسابكم، تُن‍زَع منكم وتَفْنَى ولا عائد يعود لكم منها؛ أمَّا إنْ بذلتموها لحسابي، تبقى لكم وتزيد، ويُحفَظ عائدها لكم في السموات“.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى